فتراه (عليه السلام) يجيب بهذا الجواب، يجيب بقرار غيبي من أعلى، وهذا القرار الغيبي الصادر من أعلى لا يمكن لأخلاقيّة الهزيمة أن تنكره مادام صاحب هذه الأخلاقيّة مؤمناً بالحسين، ومؤمناً برؤيا الحسين (عليه السلام).
طبعاً، هو لم يحدّث بهذه الرؤيا عبدالله بن الزبير الذي لم يكن مؤمناً برؤيا الحسين (عليه السلام)، بل حدّث بذلك محمّد بن الحنفيّة وأمثالمحمّد بن الحنفيّة(1).
فهذا شعار آخر كان يطرحه: شعار «حتميّة الموت من أعلى»، أنّ هناك قراراً من أعلى يفرض عليه أن يموت، أن يضحّي، أن يقدم على هذه السفرة التي قد تؤدّي إلى القتل، وهذا الشعار أيضاً كان ينسجم مع أخلاقيّة الهزيمة، وهو في نفس الوقت شعارٌ واقعي.
الشعار الثالث: ضرورة إجابة دعوات أهل الكوفة:
وكان في مرّة ثالثة يطرح شعاراً ثالثاً: كان يقول للأشخاص الذين يمرّ بهم في طريقه من مكّة إلى العراق، في منازله المتعدّدة حينما كانوا ينصحونه بعدم التوجّه إلى العراق، كان يقول لهم: «إنّي قد تلقّيت من
(1) حيث «قصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطّلب»، راجع: الفتوح 5:19 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
أهالي الكوفة دعوةً للذهاب إليهم، وقد تهيّأت الظروف الموضوعيّة في الكوفة لكي أذهب، ولكي اُقيم حقّاً واُزيل باطلاً»(1).
فكان يعكس ويفسّر سفرته على أساس أنّها استجابة وأنّها ردّ فعل، وأنّها تعبير عن إجابةِ طلب، عن أنّ الاُمّة تحرّكت وأرادت،وأنّه قد تمّت الحجّة عليه، ولابدّ له أن يتحرّك.
الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن في واقعه يقتصر في مرحلته الجهاديّة هذه على أن تطلب منه الاُمّة فيتحرّك، وإلّا لما راسل ابتداءً زعماء قواعده الشعبيّة بالبصرة ويطلب منهم التحرّك، ولكنّه في نفس الوقت كان يعكس هذا الجانب أكثر ممّا يعكس ذلك الجانب؛ لأنّ هذا الجانب أقرب انسجاماً مع أخلاقيّة الهزيمة.
ماذا تقول أخلاقيّة الهزيمة أمام شخص يقول لها: «إنّي قد تلقّيت دعوة، وإنّ ظروف هذه الدعوة ملائمة للجواب والتحرّك نحو الداعي»؟!
وبطبيعة الحال هناك فرقٌ كبيرٌ بين إنسان يتحرّك تحرّكاً ابتدائيّاً وبين إنسان آخر يتحرّك إجابةً لجماهير آمنت به وبقيادته وزعامته:
(1) من قبيل قوله (عليه السلام) للطرماح بن عدي الطائي: «إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الانصراف». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:406 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
فهناك تقولُ أخلاقيّة الهزيمة: إنّ هذا متسرّع، وإنّ هذا لا يفكّر في العواقب، وإنّه ألقى بنفسه في المخاطر.
أمّا حينما يكون العمل إجابةً لدعوة من جماهيرَ قد هيّأت كلَّ الأجواء اللازمة لهذه الدعوة، فهذه الأخلاقيّة المهزومة لا تقول عن هذا العمل وهذا التحرّك: إنّه عمل طائش، إنّه عمل صبياني، إنّه عمل غير مدروس.
هذه الشعارات التي طرحها الإمام الحسين (عليه السلام) كانت كلّها واقعيّة، وفي نفس الوقت كانت منسجمةً مع أخلاقيّة الاُمّة المهزومة روحيّاً وفكريّاً ونفسيّاً.
الشعار الرابع: ضرورة الثورة ضدّ السلطان الجائر:
وكان يطرح أيضاً إلى جانب كلّ هذه الشعارات الشعارَ الواقعيَّ حينما كان يؤكّد على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «من رأى سلطاناً جائراً يحكم بغير ما أنزل الله، فلم يغيّر من ذلك السلطان بفعل أو قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله»(1).
(1) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:403 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت، والفتوح 5:81 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
فكان إلى جانب تلك الشعارات التي يسبغ بها طابع المشروعيّة على عمله في مستوى أخلاقيّة الاُمّة، كان يعطي أيضاً باستمرار ودائماً الشعار الواقعيَّ الحيّ الذي لابدّ وأن يكون هو الأساس للأخلاقيّة الجديدة التي كان يبنيها في كيان هذه الاُمّة الإسلاميّة.
أساليب تحويل أخلاقيّة الهزيمة إلى أخلاقيّة الإرادة
دون استفزازها
الاُسلوب الأوّل: طرح الشعارات المنسجمة مع أخلاقيّة الهزيمة:
من جملة الأساليب التي اصطنعها (عليه أفضل الصلاة والسلام) للتوفيق بين الأخلاقيّتين، لمجاملة أخلاقيّة الهزيمة لكي يحوّلها بالتدريج إلى أخلاقيّة التضحية: أنّه طرح شعارَ «أن لا يبدأ الآخرين بقتال»(1).
هذا الشعار كان قد طرحه أميرالمؤمنين علي (عليه السلام)، ولكنّ هناك فرقاً كبيراً بين الشعار الذي طرحه الإمام علي (عليه السلام) وبين الشعار الذي طرحه الإمام الحسين (عليه السلام):
الإمام علي كان رئيس دولة، ورئيس الدولة من المفروض أن لا يبدأ أحداً من المواطنين بقتال إلّا إذا بدأه المواطن بشقّ عصا الطاعة والتمرّد عليه والقتال، فكان من المفروض أنّ الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) لا يبدأ عائشة مثلاً بقتال، لا يبدأ الزبير أو طلحة بقتال(2)؛ لأنّهم
(1) قال (عليه السلام): «فإنّي أكره أن أبدأهم بقتال حتّى يبدؤوا». الأخبار الطوال: 252 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.
(2) «فلمّا توافقوا للقتال، أمر عليٌّ منادياً ينادي من أصحابه: لا يرمينَّ أحدٌ سهماً ولا حجراً، ولا يطعن برمح حتّى أعذر إلى القوم، فأتّخذ عليهم الحجّة». الإمامة والسياسة 1:91 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
مواطنون في دولة هو رئيسها، ومن المفروض أن لا يبدأهم بقتال ما لميخرجوا عن الخطّ، يحاربوا الوضع الشرعي الحاكم في تلك الدولة، فكان شعار «أن لا يبدأ أحداً من المواطنين بقتال» مفهوماً وواضحاً.
أمّا على مستوى حركة الحسين (عليه السلام) ـ الذي خرج ثائراً على دولة قائمة وسلطان قائم ـ فليس من المنطقي أن يقال: إنّ شخصاً يثور على سلطان قائم لا يبدأ هذا السلطانَ القائمَ بقتال، ولكنّ هذا الشعار قد طرحه (عليه أفضل الصلاة والسلام) لكي يكون أيضاً منسجماً مع أخلاقيّة الهزيمة التي عاشتها الاُمّة الإسلاميّة، لكي يسبغ على عمله طابع المشروعيّة على مستوى هذه الأخلاقيّة:
أ ـ حينما التقى (عليه أفضل الصلاة والسلام) مع طليعة جيش عبيد الله بن زياد بقيادة الحُرّ ـ وكانت الطليعة عبارة عن ألف جندي(1) ـ اقترح عليه زهير بن القين ـ على ما أظنّ(2) ـ أن يبدأهم
(1) الأخبار الطوال: 249 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.
(2) وهو كذلك.
بقتال، وقال: «إنّ هؤلاء أوهن علينا ممّن يجيء بعدهم، فلنبدأ بقتال هؤلاء، ولنفتح الطريق إلى الكوفة»، قال (عليه السلام): «إنّي لا أبدأهم بقتال»(1).
ب ـ ومن مصاديق تطبيق هذا الشعار كان وضع مسلم بن عقيل؛ فإنّ مسلم بن عقيل قد ذهب إلى الكوفة رسولاً من قبل الإمام الحسين (عليه السلام)، إلّا أنّه ذهب في إطار هذا الشعار، وهذا هو الذي يفسّر لنا عدم قيام مسلم بن عقيل بأيّ عمل إيجابي سريع خلال الأحداث التي مرّت به في الكوفة.
قد يخطر على ذهن البعض أنّ مسلم بن عقيل لم يستطع أن يزن الأحداث وأن يقدّر الظروف تقديرها اللازم، وأنّ مسلم بن عقيلكان مدعوّاً إلى نوع من المبادرة لكي يستلم زمام الموقف.
إلّا أنّ هذا التصوّر إنّما ينتج عن تخيّل أنّ مسلم بن عقيل قد ذهب من قبل الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة والياً، حاكماً، سلطاناً. وليس في نصوص التاريخ أيّ دلالة على ذلك.
الإمام الحسين (عليه السلام) حينما أرسل مسلم بن عقيل وكتب معه كتاباً لم يكن هناك في الكتاب أدنى إشارة إلى إعطاء مسلم بن عقيل صفة الولاية والحاكميّة والسلطان، وإنّما قال لأهل الكوفة: «إنّي أرسلت
(1) الأخبار الطوال: 252 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.
ثقتي إليكم من أهل بيتي؛ لكي يستطلع أحوالكم ويتأكّد من إخلاصكم ويكتب إليّ بذلك، فإن كتب إليّ بما جاءت به كتبكم ورسلكم استجبت لدعوتكم وجئتكم»(1).
فمسلم بن عقيل كان مكلّفاً في نصِّ هذا الكتاب باستطلاع أحوال تلك القواعد الشعبيّة التي راسلت الإمام الحسين (عليه السلام)، ولم يكن مكلّفاً بأزيد من ذلك.
وبالفعل، لم يقم مسلم بأزيد من ذلك، دخل الكوفة، نزل ضيفاً في بيت المختار (رحمة الله عليه)، وبقي في بيت المختار مكشوف الحال يزوره الشيعة ويتجمّعون عنده(2)، فيتحدّث إليهم، ويؤكّد لهم أهداف الإمام الحسين (عليه السلام)، ويؤكّدون له إخلاصهم واستعدادهم للعمل في تلك الأهداف، حتّى يدخل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة(3)، حينئذ يتوتّر الجوّ ويُغَيَّرُ الموقفُ بشكل عامّ.
(1) الأخبار الطوال: 230 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم، والفتوح 5:30 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
(2) الأخبار الطوال: 231 بحسب الطبعة المشار إليها آنفاً، والفتوح 5:33 بحسب الطبعة المشار إليها.
(3) الأخبار الطوال: 232 بحسب الطبعة المشار إليها، والفتوح 5:38 بحسب الطبعة المشار إليها.
ثمّ يرى مسلم بن عقيل أنّ من المصلحة أن ينتقلَ إلى بيت آخر ويكونَ مكثه في الكوفة سرّيّاً؛ لأنّ عبيد الله بن زياد بدأ عمليّة التعقيب والتفتيش عن مسلم بن عقيل؛ فبينما الوالي السابق(1) كان سلبيّاً، أصبح عبيد الله بن زياد يفكّر في مجابهة هذا التجمّع وبذرة هذا التجمّع.
وحينئذ انتقل مسلم بن عقيل من بيت المختار إلى بيت هانئ بن عروة (رضوان الله عليه)(2) وبقي هناك متكتّماً بمكثه، وأخذ الشيعة يزورونه متكتّمين.
وكان ظهور مسلم بن عقيل في اليوم المشهود مع أربعة آلاف، وكان العمل ـ الذي مارسه حينما ذهب إلى قصر الإمارة مع هذا العدد من الشيعة، وحاول أن يحتلّ قصر الإمارة وأن يسيطر على مقاليد الموقف ـ خارجَ نطاق التخطيط المتّفق عليه بين مسلم والحسين (عليه السلام)(3).
كان هذا العمل بملاك الدفاع؛ لأنّ مسلم بن عقيل (رضوان الله عليه) وقع في موقع الدفاع. عبيد الله بن زياد بدأ بالهجوم، أخذ يحاول أن يتعقّب مسلم بن عقيل وأن يقضي على هذه البذرة، فكان مسلم بن
(1) وهو: النعمان بن بشير.
(2) انتقل مسلم إلى دار هانئ بن عروة المرادي، راجع: الأخبار الطوال: 233 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.
(3) الفتوح، 5:49 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
عقيل في حالة دفاع، ولم يكن حالة غزو أو هجوم.
يعني: إنّ الظروف اضطرّته إلى أن يقف موقف المدافع، ولو لم يبدأ بهذه العمليّة إذاً لهجم عليه عبيد الله بن زياد وهجم على شيعته وهم في البيوت. فحينما يحاول عبيد الله بن زياد أن يبدأ بالهجوم، كان على مسلم بن عقيل ـ لا بمنطق رسالته من قبل الحسين (عليه السلام)، لا بمنطق الحاكميّة والسلطان والولاية، بل بمنطق الدفاع ـ أن يبدأ بمثل هذه العمليّة كدفاع عن نفسه وعن قواعده التي التفّت حوله.
اقرؤوا رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) التي بعثها مع قيس بن مسهّر الصيداوي إلى الكوفة، هكذا كان يقول في الرسالة: «إنّي سوف أرد إليكم قريباً، فانكمشوا على أمركم حتّى آتي»(1).
الرسالة واضحة في أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن قد خطّط لمسلم بن عقيل أن يملك الكوفة، وأن يسيطر على الكوفة كحاكم ووال وسلطان، يقول: «انكمشوا في أمركم»، يعني حاولوا أن تحفظوا هذا التجمّع إلى أن آتي، فكان تحويلُ هذا التجمّع إلى مجتمع، إلى سلطان، إلى دولة، كان كلّ هذا موقوفاً على دخول الحسين (عليه السلام)، ولهذا أوصى بأن ينكمشوا في أمرهم.
(1) راجع: تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:395 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
إذاً، فرسالة مسلم بن عقيل لم تكن إلّا عبارةً عن استطلاع أحوال تلك القواعد الشعبيّة، وتزويد الإمام الحسين (عليه السلام) بالمعلومات الواضحة المؤكَّدة عن تلك القواعد الشعبيّة، ولم يكن مسلم بن عقيل مكلَّفاً بحرب، وإنّما قام بما قام به في اللحظة الأخيرة كدفاع عن النفس؛ حيث لم يكن هناك طريقٌ آخر للاستمراريّة غير أن يتّخذ هذا الموقف الدفاعي.
كلّ هذا يعبّر في الواقع عن شعار عدم الابتداء بالقتال، هذا الشعار الذي كان من المفروض على الإمام الحسين (عليه السلام) أن يطرحه لكي يشعر الناسُ جميعاً بأنّ العمليّة عمليّة فوق الشكّ، وأنّها مشروعة حتّى على مستوى تصوّرات الإنسان المسلم المهزوم روحيّاً وأخلاقيّاً.
ونحن إذا لاحظنا الإمام الحسين (عليه السلام) في مسيره من مكّة إلى العراق نرى أنّه كان باستمرار يؤكّد على ضرورة مواصلة السير والسفر؛ لأنّه مدعوّ، ولابدّ له أن يجيب هذه الدعوة.
بلغه في الطريق أنّ مسلم بن عقيل قُتل، ولم يغيّر من موقفه(1)، أي لم يسقط هذا الشعار، بل بقي هذا الشعار مرفوعاً، وهو شعار أنّه مدعوٌّ من قبل الكوفة، ولابدّ له أن يجيب.
(1) وكان (عليه السلام) قد مشى إلى الكوفة بعد أن ورده كتابُ مسلم: «فإنّ الرائد لا يكذب أهله، إنّ جمع أهل الكوفة معك». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:395 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
بالرغم من أنّه اطّلع على أنّ مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة قد قتلا(1)، بعد هذا اطّلع على أنّ قيس بن مسهّر الصيداوي قد قتل من قِبَل عبيد الله بن زياد(2)، مع هذا لم يغيّر هذا الشعار، بل بقي يؤكّد أنّه مدعوٌّ من قِبَل أهل الكوفة، ولابدّ له أن يجيب هذه الدعوة، حتّى التقى مع الحرّ بن يزيد الرياحي.
جاءه الطرمّاح قال له: «الحقْ بالجبل الفلاني(3)، وأنا أجمع لك عشرين ألف شخص من العشيرة الفلانيّة(4) يلتفّون حولك، والله يغنيك بذلك عن الكوفة»، قال (عليه السلام): «بيننا وبين القوم عهدٌ، ولابدّ لي أن أسير إليهم»(5).
(1) في المصدر السابق: 397: أنّه تلقّى خبر مقتل مسلم وهانئ في الثعلبيّة، ثمّ أكمل المسير.
(2) أنساب الأشراف 3:169 بحسب الطبعة الاُولى لدار التعارف للمطبوعات ببيروت.
(3) وهو جبل «أجأ»، وهو و«سلمى» جبلا طيء. راجع: معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع 1:109 بحسب الطبعة الثالثة لعالم الكتب ببيروت.
(4) وهي قبيلة طيء.
(5) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5: 406 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
بعد كلّ هذه الدلائل من أهل الكوفة على نكث العهد، مع هذا بقي الإمام الحسين (عليه السلام) يواصل تأكيده على هذا الشعار.
إذاً، القصّة في الواقع لم تكن قصّة أن يقتنع الحسين (عليه السلام)، ولم يكن تحرّكه (عليه السلام) بينه وبين نفسه نتيجةً لردّ فعل لطلب قواعده الشعبيّة في الكوفة؛ لأنّه اطّلع في أثناء الطريق على أنّ هذه القواعد الشعبيّة في الكوفة قد خانته، قد قتلت رسوله، قد قتلت ثقته من أهل بيته، ومع هذا كان يواصل السفر إليها.
كان هذا الشعار شعاراً منسجماً مع الأخلاقيّة التي تعيشها الاُمّة الإسلاميّة، وكان لابدّ له أن يطرح هذا الشعار لكي يسبغ على العمليّة طابع المشروعيّة في نظر اُولئك الذين يحبّون السلامة، اُولئك الذين يرون في التضحية لوناً من ألوان التهوّر واللامعقوليّة وقلّة الأناة.
الاُسلوب الثاني: حشد كلّ المثيرات العاطفيّة في المعركة:
وكان من الأساليب التي اتّخذها أيضاً (عليه أفضل الصلاة والسلام) لكسب هذه الأخلاقيّة ومجاملتها: أنّه حشد في المعركة كلَّ القوى والإمكانيّات.
لم يكتفِ (عليه أفضل الصلاة والسلام) بأن يعرّض نفسه للقتل؛ عسى أن تقول أخلاقيّة الهزيمة: إنّ شخصاً حاول أن يطلب سلطاناً
فقتل، بل أراد أن يعرّض أولاده وأهله للقتل، ونساءه للسبي، أراد أن يجمع على نفسه كلّ ما يمكن أن يجتمع على إنسان من مصائب وتضحيات وآلام؛ لأنّ أخلاقيّة الهزيمة مهما شكّكت في مشروعيّة أن يخرج إنسانٌ للقتل، فهي لا تشكّك في أنّ هذا العمل الفظيع الذي قامت به جيوش بني اُميّة، قامت به جيوش الانحراف ضدّ بقيّة النبوّة، لم يكن عملاً صحيحاً على كلّ المقاييس وبكلّ الاعتبارات.
كان لابدّ للإمام الحسين (عليه السلام) أن يُدخِل في المعركة دمه وأولاده وأطفاله ونساءه وحريمه وكلَّ الاعتبارات العاطفيّة وكلَّ الاعتبارات التاريخيّة، حتّى الآثار التي كانت قد تبقّت من عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتّى العمامة، حتّى السيف.. لبس عمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، تقلّد سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1)، أدخل كلّ هذه المثيرات التاريخيّة والعاطفيّة إلى المعركة؛ وذلك لكي يسدّ على أخلاقيّة الهزيمة كلَّ منفذ وكلَّ طريق إلى التعبير عن هزيمتها، وعن نوع من أنواع الاحتجاج على هذا العمل؛
(1) «فاُنشدكم الله! هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول الله وأنا متقلّده؟ قالوا اللّهمّ نعم. قال: فاُنشدكم الله! هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول الله أنا لابسها؟ قالوا: اللّهمّ نعم». الأمالي (الصدوق): 159 ـ بحسب الطبعة الرابعة لمنشورات المكتبة الإسلاميّة ـ المجلس 30، الحديث 1.
لكي يهزّ بذلك ضمير ذلك الإنسان المسلم المهزوز الذي تميّعت إرادته.
وهكذا كان، فقد استطاع (عليه السلام) بهذا التخطيط الدقيق الرائع أن يهزّ ضمير ذلك الإنسان المسلم.
الدرس الذي نستفيده من التخطيط الحسيني
ومن هذا التخطيط يمكننا أن نستفيد درساً عامّاً، وحاصل هذا الدرس:
إنّ عمليّة التغيير في أخلاقيّة الاُمّة لا يجوز أن تقوم بأيّ مجابهة واضحة للأخلاقيّة الفاسدة الموجودة في الاُمّة؛ لأنّ المجابهة الواضحة الصريحة للأخلاقيّة الفاسدة الموجودة في الاُمّة يكون معناها الانعزال عن هذه الاُمّة والانكماش، وعدم القدرة على القيام بعمل مشروع في نظر هذه الاُمّة.
حينما نريد أن ننفذ إلى ضمير الاُمّة التي ماعت أخلاقيّاً، لابدّ لنا أيضاً ـ في نفس الوقت الذي نفكّر في إنشاء أخلاقيّتها من جديد ـ أن نفكّر في عدم مجابهة الأخلاقيّة القائمة بالشكل الذي يعزل هذا الشخص الذي يريد أن يغيّر أخلاقيّة الاُمّة؛ فلابدّ له أن يفكّر في انتهاج طريق في التغيير يستطيع به أن ينفذ إلى ضمير الاُمّة، وهو لا يمكنه أن ينفذ إلى ضمير الاُمّة إلّا إذا حافظ باستمرار على معقوليّة ومشروعيّة عمله في نظر الاُمّة، كما عمل الإمام الحسين (عليه السلام)، لم يبقَ لدى شخص من أبناء الاُمّة الإسلاميّة أيُّ شكّ في أنّ عمل الإمام الحسين (عليه السلام) كان عملاً مشروعاً صحيحاً، وأنّ عمل بني اُميّة كان عملاً ظالماً عاتياً جبّاراً.
وهذا الوضوح في الرؤية هو الذي جعل المسلمين يدخلون بالتدريج إلى آفاق جديدة من الأخلاقيّة تختلف عن أخلاقيّة الهزيمة. هذا الوضوح هو الذي هزّ ضمير الإنسان المسلم، وهو الذي يهزّه إلى يومنا هذا.
فليس دم الإمام الحسين (عليه السلام) رخيصاً بدرجة يُكتفى في ثمنه بأن يهتزّ ضمير الإنسان المسلم في عصر واحد، أو في جيل واحد.. لا يمكن أن يكون ثمن دم الإمام الحسين (عليه السلام) أن تتزلزل قواعد بني اُميّة، أو أن يُكشف عن حقيقة بني اُميّة، أو أن تنتعش ضمائر جيل من اُمّة الإسلام.. هذا لا يكفي ثمناً لدم الإمام الحسين (عليه السلام) الطاهر، بل إنّ ثمن دم الإمام الحسين ـ الذي هو أغلى دم سُفك في سبيل الإسلام ـ أن يبقى محرِّكاً، منوِّراً، دافعاً، مطهِّراً، منقِّياً على مرّ التاريخ لكلّ أجيال الاُمّة الإسلاميّة..
لابدّ وأن يهزّ ضميرَنا وضميرَ كلّ واحد منّا اليوم كما كان يهزّ ضمير المسلمين قبل ثلاثة عشر قرناً..
لابدّ أن يهزّ ضميرَ كلّ واحد منّا حينما نجابه أيّ موقف من مواقف الإغراء، أو الترغيب، أو الترهيب..
لابدّ وأن نستشعر تلك التضحية العظيمة حينما نلتفت إلى أنّنا مدعوّون إلى تضحية جزئيّة بسيطة، حينما يتطلّب منّا الإسلام لوناً من التضحية وقَدَراً بسيطاً وضئيلاً من التضحية.
لابدّ وأن نلتفت دائماً إلى ذلك القَدَر العظيم غير المحدود من التضحية الذي قام به الإمام الحسين (عليه السلام) لكي نستصغر.. ولكي يتضاءل أمامنا أيُّ قَدَر نواجهه في حياتنا، ونكلّف أنفسنا بالقيام به في سبيل الإسلام.
إنّ الإسلام اليوم يتطلّب منك قَدَراً قليلاً من التضحية بوقتك، براحتك، بمصالحك الشخصيّة، برغباتك، بشهواتك، في سبيل تعبئة كلّ طاقاتك وإمكانيّاتك وأوقاتك لأجل الرسالة.
أين هذه التضحية من تلك التضحية العظيمة التي قام بها الإمام الحسين (عليه السلام) ؟ من تضحيته بآخر قطرة من دمه، بآخر شخص من ذرّيّته، بآخر كرامة من كراماته بحسب مقاييس الإنسان الدنيوي؟!
لابدّ أن نعيش دائماً هذه التضحية، ونعيش دائماً مدلولَ هذا الدم الطاهر؛ لكي يكون ثمنُ دم الإمام الحسين (عليه السلام) حيّاً على مرّ التاريخ.
وغفر الله لنا ولكم.
7النهضة الحسينيّة
نماذج مهمّة من الآراء
في تفسير ثورة الإمام الحسين(عليه السلام)
ودراستها
° الرأي غير الهادف ومناقشته.
° الرأي الهادف ودراسته.
لقد(1) توّج الإمام الحسين (عليه السلام) حياته السياسيّة بصنع حدث كبير هزّ الضمائر، وآل إلى تحوّلات عظيمة على صعيدَي الفكر والواقع الاجتماعي، فكانت الثورة هي ذلك الحدث الذي انطلق لمواجهة الانحراف الحكومي المتمثّل وقتئذ بيزيد بن معاوية، في وقت كانت الاُمّة قد بلغت حدّاً من النضج جعلها تدرك تلك الأوضاع، وتدرك ضرورة تغييرها، فجاء الإمام الحسين (عليه السلام) لينقل هذا الوعي إلى ذروة المواجهة، وليعلن الثورة على الظالمين، مستعيداً سيرة جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) طالباً للإصلاح في اُمّته، ضارباً أروع الأمثلة للتضحية من أجل المبادئ، وبذلك أسّس الإمام الحسين (عليه السلام) وعياً سياسيّاً جديداً يأبى المصالحة مع الحاكم المنحرف، ويأبى السكوت على انحرافه، أو الركون إليه
(1) راجع: كتاب الإمامة وقيادة المجتمع (لسماحة آية الله العظمى السيّد كاظم الحسيني الحائري دام ظلّه) 1:202 بحسب الطبعة الثانية لدار البشير بقم.
مصداقاً لقوله تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(1).
ولقد دارت حول ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) آراء عديدة لتفسيرها ربّما تتناقض في ما بينها ويؤدّي بعضها إلى القول بأقوال غريبة أو غير معقولة، وقد تساهم في تشويه الهدف الذي نهض وثار من أجله الإمام (عليه السلام)، ولهذا سوف نستعرض نماذجَ مهمّةً من هذه الآراء لمناقشتها ونفي الفاسد منها وإثبات الصالح الموافق لطبيعة الثورة وأهدافها وغاياتها:
هناك رأيان أساسيّان يهيمنان على حدث الثورة لاستكناه أسبابها ودواعيها وغاياتها في الواقع الشيعي: الأوّل غير هادف، والثاني هادف، وينقسم الرأي الثاني بدوره إلى قسمين في تحقيق مصداقيّة الهدف من خلال تفاصيل حدث الثورة ونتائجها، وسوف نستعرض ذلك تباعاً:
الرأي غير الهادف ومناقشته:
أمّا الرأي غير الهادف والذي أنتجه العقل الشيعيّ الجمعيّ لعدد من
(1) هود: 113.
سواد الناس، والفاقد للدليل والبرهان، فمفاده: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) إنّما خرج وأعلن ثورته على يزيد بن معاوية لا لشيء إلّا ليُقتَل ويستشهدعلى أيدي الظالمين من أجل أن يصبح موضوعاً للتأسّي والألم والبكاء من قبل شيعته ومحبّيه، ولكي يكون ذلك سبباً لغفران ذنوبهم وتخليصهم من عقاب الآخرة وإدخالهم الجنّة.
ومن الواضح أنّ هذا التفسير يلغي هدفيّة الإمام الحسين (عليه السلام) بالشكل الذي يمكن للعاملين الهادفين الاقتداء به، ويجعل ذلك عملاً قائماً على أساس تعبّد بحت خاصٍّ به (عليه السلام)؛ لأنّنا لو كنّا وظاهر ما بأيدينا من نُظُم الشريعة، لقلنا بترتّب الإشكال الشرعي على التضحية التي قام بها الإمام (عليه السلام)؛ إذ إنّ السبب المذكور آنفاً يفتقد الملاك الشرعي الذي بموجبه يجوز إراقة الدم وتعريض النفس للهلاك.
ويرد على هذا الوجه: أنّ الأهداف التي أعلنها الإمام (عليه السلام) في خطبه وبياناته صادعة بأنّ للإمام (عليه السلام) هدفاً رئيسيّاً هو طلب الإصلاح في اُمّة جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّ الروايات التي وردت تبشّر بالثواب الجزيل لمن يبكي على مصاب الإمام (عليه السلام)، لا يمكن أن يُقبل في تفسيرها أكثر من التأكيد على حصول الثواب، ولا يمكن قبول فرضيّة
أنّ الحسين (عليه السلام) قُتل لكي تبكي عليه الشيعة ويوجب ذلك دخولهم الجنّة وغفران ذنوبهم مهما عظُم إجرامهم، فإنّ الاعتقاد بمثل هذا الرأي يبطل الأهداف التغييريّة التي جاء بها الإسلام وعمل بها الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) من بعده، فالتغيير لا يحصل إلّا باتِّباع جميع مقرّرات الشريعة ومن خلال العمل الصالح والإيمان واليقين.
الرأي الهادف ودراسته:
وأمّا الرأي الهادف في تفسير ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، فهو الذي يتحرّك على أساس هدفيّة الإمام الحسين (عليه السلام) في إعلانه المعارضة على حكم يزيد والثورة عليه والتصدّي للظالمين. وفي دائرة هذا الرأي ثمّة اتجاهان يفسّران عمل الإمام الحسين (عليه السلام):
الاتجاه الأوّل: هو الاتجاه الذي يذهب إلى أنّ هدف الإمام الحسين (عليه السلام) كان إقامة الحكومة الإسلاميّة ولم يكن هدفه الاستشهاد، وإنّما شاءت الأقدار فاستشهد، فكانت شهادته خسارة عظيمة للإسلام ولم يكن فيها نفع، وقد يكون لهذا الرأي دعاته ومتبنّوه، ولكنّنا نختار نموذجاً واحداً هو صالحي نجف آبادي في كتابه (شهيد جاويد)، وهذا الكتاب فارسي.