هو باق على تلك الحالة السابقة، وهي أنّه يدرّس في كلّ يوم صباحاً أو لا، فهنا يوجد في قبال هذه الحالة السابقة حالة اُخرى وهي عدم تدريسه في نصف الليل، مثلاً لكن من الواضح أنّ الاستصحاب المركوز في الأذهان في مثل المقام إنّما هو استصحاب حالة كونه يدرّس في أوّل الصبح التي هي تشكّل قانون نسخ حالة عدم تدريسه الثابتة له فيما قبل الصبح، وكذلك الأمر في المقام، فإنّ حالة الحرمة التعليقية التي كانت ثابتة لهذا الجسم كانت تشكّل قانون نسخ الحلّيّة التي كانت ثابتة له وتخيّم عليها.
ويؤيّد كون المركوز العقلائي في المقام هو استصحاب الحرمة التعليقية دون الحلّيّة التنجيزية أنّه منذ بدايات تفتّح ذهن العلماء على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، أي: من حوالي أربعمائة سنة إلى الآن أخذ المشهور يجرون الاستصحاب التعليقي، إمّا مطلقاً كما هو المنسوب إليهم وإمّا مع التفصيل كالتفصيل الذي اخترناه، ونحتمل أنّه هو مقصود المشهور، ولم يكن حتّى المنكرون للاستصحاب التعليقي يستشكلون فيه من ناحية التعارض مع الاستصحاب التنجيزي، وبعدما التفتوا إلى مشكلة المعارضة أخذوا يفتّشون عن مبرّر لرفع اليد عن المعارضة، فاتّجهوا إلى الحكومة أو إلى عدم المعارضة ما عدا مدرسة المحقّق العراقي(رحمه الله) حيث ذهب(رحمه الله) إلى سقوط الاستصحاب التعليقي بالتعارض.
والخلاصة: أنّ هذه المحاولات الفنية للإجابة على التعارض هي توجيه وتبرير لما هو مركوز في ذهنهم من عدم التعارض، وقد أصابوا في الارتكاز واخطأوا في المحاولات الفنيّة.
وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه جريان الاستصحاب التعليقي بالتفصيل المتقدّم وعدم معارضته بالاستصحاب التنجيزي.
تنبيهات الاستصحاب التعليقي
ولننبّه في ذيل بحث الاستصحاب التعليقي على اُمور:
الأوّل: بناءً على جريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام هل يجري في الموضوعات الخارجية أيضاً، أو لا؟ ومثاله: ما يقال من أنّ حوضاً كان فيه الماء ثم شككنا في بقاء الماء فيه، وطرح فيه ثوب متنجس، فيقال: لو أنّه طرح في هذا الحوض قبل ساعة لغسل بالماء، فهل يقال بمقتضى الاستصحاب التعليقي: إنّه الآن ـ أيضاً ـ غسل بالماء، أو لا؟
ومنهج البحث هو أن نرجع إلى الوجوه الماضية في تصوير الاستصحاب التعليقي ليُرى أنّها تتم هنا أو لا فنقول:
الوجه الأوّل: استصحاب الجعل بمنظار الحمل الأوّلي بالتقريب الذي اخترناه.
وهذا إن تمّ هناك لا يأتي هنا إذ لا جعل في المقام.
الوجه الثاني: استصحاب الحكم بلحاظ أنّ فعليته منوطة بالوجود اللحاظي للشرط، وهو وجه مضى عن المحقّق العراقي(رحمه الله)، وهو لو تمّ هناك لا يتمّ هنا أيضاً، فإنّ حصول الغسل هنا امراً تكويني، تكون فعليته بتحقّق الوقوع في الحوض خارجاً لا لحاظاً.
الوجه الثالث: ما للمحقق العراقي ـ أيضاً ـ من استصحاب الملازمة بعد حلّ ما يرد عليه من إشكال المثبتية بالالتزام بمبنى جعل الحكم المماثل، فيقال عندئذ: إنّ جعل الملازمة في المقام يكون بجعل منشأ انتزاعها.
وهذا ـ أيضاً ـ لو تمّ هناك لا يتمّ هنا؛ إذ الملازمة هناك كانت مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعها، وهنا تكوينية صرفة بتكوينية طرفيها.
الوجه الرابع: ما مضى عن المحقّق الخراساني(رحمه الله)من إرجاع شرط الحكم إلى قيود متعلّق الحكم، سنخ إرجاع الحكم المشروط إلى الحكم المعلّق، فيكون الحكم فعليّاً، فيستصحب. وهذا هو الذي ذكر المحقّق الخراساني(رحمه الله)أنّه خارج عمّا نحن فيه.
وهذا الوجه ـ ايضاً ـ إن تمّ هناك لا يتمّ هنا، إذ ليس هنا حكم مشروط يقصد استصحابه حتّى يرجع إلى المعلّق فيستصحب، وحصول الغسل يكون مشروطاً ـ لا محالة ـ بالوقوع في الحوض في الوقت الذي كان فيه الماء، ولم يصبح فعلياً حتّى يستصحب.
الوجه الخامس: ما مضى عن المحقّق العراقي(رحمه الله)، وهو إثبات العلم المنوط.
وهذا الوجه الذي هو أغرب الوجوه وأكثرها تعقيداً لو تمّ هناك لتمّ هنا طابق النعل بالنعل.
وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه عدم جريان الاستصحاب التعليقي في الموضوعات.
الثاني: أنّ المثال المتعارف ذكره في مسألة الاستصحاب التعليقي وهو مثال العصير العنبي في الحقيقة ليس داخلاً في كبرى هذا البحث، ولا يصحّ جريان الاستصحاب فيه، وذلك لأنّ موضوع الحكم الثابت في لسان الدليل ليس هو العنب الغالي حتّى يجري الاستصحاب بعد زبيبيّته من باب أنّ العنبيّة والزبيبيّة تعدّ من الحالات، لا من المقوّمات الدخيلة في الموضوع، وليس الزبيب ولا العنب فيه ماء قابل للغليان، ولا يوجد في العنب إلاّ رطوبات، وإنّما موضوع الدليل هو ماء العنب الذي يحصل بطريقة العصر وتجميع تلك الرطوبات، وأمّا الزبيب فلا يُعطي ماءً بالعصر وإنّما يوضع فيه الماء من الخارج، ويغلي، فهذا
الماء غير ماء العنب، فالموضوع متبدّل ومتباين عقلاً وعرفاً، ولا مجال للاستصحاب.
الثالث: ذكر المحقّق النائيني(رحمه الله)والسيّد الاُستاذ في المعاملات المعلّقة أنّه يمكن إثبات اللزوم بالاستصحاب بعد الفسخ عند الشكّ في اللزوم، من دون أن يبتني ذلك على الاستصحاب التعليقي.
توضيح ذلك: أنّ العقود على قسمين:
الأوّل: ما يكون بطبيعته تنجيزياً ولا يجوز فيه التعليق، من قبيل البيع.
وفي هذا القسم إذا حصل الشكّ في اللزوم أمكن اجراء استصحاب بقاء الأثر بعد الفسخ بلا إشكال، ولا يرجع ذلك إلى الاستصحاب التعليقي، فإنّ الأثر كان ثابتاً بالفعل.
الثاني: ما يكون بطبيعته تعليقياً كالوصيّة المعلّقة على موت الموصي، والجعالة المعلّقة على العمل الذي عليه الجعل، والسبق، والرماية، ونحو ذلك، وعندئذ إذا حصل الفسخ قبل حصول المعلّق عليه فيترائى في النظر أنّ الاستصحاب هنا تعليقي، إذ يقال مثلاً: لو كان الموصي قد مات قبل الفسخ لكان هذا المال منتقلاً إلى الموصى له، فكذلك الأمر عند موته بعد الفسخ بحكم الاستصحاب(1).
ولكن ذكر المحقق النائيني(رحمه الله)والسيّد الاُستاذ أنّ جريان الاستصحاب في المقام غير موقوف على الاستصحاب التعليقي.
وتقريب السيد الاُستاذ للمطلب هنا يختلف عن تقريب المحقق النائيني(رحمه الله):
فذكر المحقّق النائيني(رحمه الله)(2): أنّنا نستصحب القرار الثابت في العقد، لا النتيجة والأثر، شبه ما نصنعه في استصحاب الأحكام عند الشكّ في النسخ، حيث إنّنا هناك نستصحب الجعل لا المجعول.
وذكر السيّد الاُستاذ(3): أنّنا نستصحب في المقام حقّاً ثبت لطرف المعاملة، وهو فعليّ قبل حصول المعلّق عليه، ففي باب الجعالة مثلاً يكون للمجعول له حقّ أن يملك مال الجعالة بالعمل، فنستصحب ثبوت هذا الحقّ بعد الفسخ.
(1) نقل السيد الهاشمي (حفظه الله) عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أن الاستصحاب التعليقي في المقام يكون من القسم الذي اخترنا جريانه.
(2) راجع فوائد الاصول: ج 4 ص 462 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وأجود التقريرات: ج 2 ص 411.
(3) راجع مصباح الاُصول ج3 ص140.
أقول: إن كان المقصود بهذا الحقّ هو العنوان الانتزاعي الذي ينتزع من القضية التعليقية في المقام، وهي قضية: أنّه لو عَمِلَ لاستحقّ مال الجعالة، فاستصحاب هذا العنوان الانتزاعي ليس له أثر، وإن كان المقصود دعوى: أنّ الجاعل يُنشئ بعقد الجعالة أمرين: أحدهما حقّ أن يملك المجعول له المال بالعمل، والثاني: ثبوت المال له بعد العمل، ويجعل الثاني أثراً للأوّل، والشارع أمضى ذلك بهذا الترتيب، فنحن نستصحب الأمر الأوّل وهو ذلك الحقّ، فيترتّب عليه استحقاق المجعول له للمال بعد العمل؛ لأنّه أثر شرعي للمستصحب، قلنا: إنّ هذه الدعوى في غير محلّها، فإنّ الجاعل لا ينشئ إلاّ الأمر الثاني، وهو استحقاق المجعول له للمال إذا عمل، ولا يوجد هنا حقّ آخر مجعول، وهو حقّ أن يتملك بالعمل.
نعم، ورد في بعض الروايات الحكم بثبوت بعض آثار هذا الحقّ تعبّداً (لا الحكم بثبوت هذا الحقّ) وذلك ما ورد في بعض الروايات من أنّه إذا أوصى أحد بمال لشخص ثمّ مات الموصى له قبل موت الموصي أو قبل قبول الموصى له قام ورثة الموصى له مقامه(1).
وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله)من استصحاب القرار فهو مبنيّ على مبنى فقهيّ في باب الفسخ، مقبول عندنا، وهو أنّ العقد في باب العقود وإن كان بحسب الحقيقة أمراً آنياً يتحقّق وينتهي، لكنّه بحسب اعتبار المُعتَبِر في نظر العقلاء له نوع قرار واستمرار ينقطع بالفسخ(2)إذا كان متزلزلاً، فعند الشكّ في التزلزل يستصحب هذا الاستمرار بعد الفسخ ويترتّب عليه أثره، لكنّ هذا المبنى غير مقبول عند السيّد الاُستاذ، وإنّما هو يقول بأنّ الفسخ أخذ عدمه قيداً في الملكية المجعولة، لا أنّه رفع لذلك القرار وللاستمرار، وبناءً على هذا المبنى لا مجال للاستصحاب في المقام عدا الاستصحاب التعليقي.
(1) راجع الوسائل: ج 19 بحسب طبعة آل البيت ب 30 من الوصية ح1 ص333 ـ 334.
(2) إن كان يعتبر للعقد نوع قرار واستمرار فإنّما هو قراره في نفس العاقد، وهو ينتهي بالفسخ سواءً كان لازماً أو متزلزلاً. أمّا الذي يبقى بعد الفسخ لو كان لازماً فهو الأثر، وليس القرار.
في استصحاب عدم النسخ
التنبيه السابع: في استصحاب عدم النسخ، وفيه مقامان:
أحدهما: في استصحاب حكم نفس هذه الشريعة. والآخر: في استصحاب حكم شريعة اُخرى.
استصحاب حكم هذه الشريعة:
أمّا المقام الأوّل: فأوّلاً نطرح في المقام السؤال عن أنّه هل الشكّ في النسخ يكون قسماً ثالثاً في قبال الشكّ في سعة دائرة المجعول وضيقه، كما هو الحال في الشبهات الحكمية، وفي قبال الشكّ في الأمر الخارجي، كما هو الحال في الشبهات الموضوعية، أو لا؟
والواقع: أنّ الأمر في ذلك يختلف باختلاف ما يتصوّر في حقيقة النسخ.
فالنسخ يمكن تصوّره بأحد معان ثلاثة:
الأوّل: أن يكون النسخ رفعاً للحكم حقيقةً، بمعنى أنّ الحكم يجعل من قبل المولى بنحو وسيع وممتدّ إلى يوم القيامة، ثمّ قد ينسخ بعد ذلك. وهذا التصوّر غير محتمل بالنسبة لمبادئ الحكم من الإرادة والكراهة والحبّ والبغض؛ لأنّه يساوق البداء الحقيقي المستحيل عليه تعالى، ولكن يمكن تصويره بلحاظ عالم الجعل، فيقال: إنّ الجعل وإن كان أمراً آنياً لا يدوم لكنّه بحسب الاعتبار العرفي والعقلائي الممضى شرعاً كأنّ له نوعاً من البقاء والدوام والاستمرار إلى أن يقطع بالنسخ.
وبناءً على هذا يكون الشكّ في النسخ قسماً ثالثاً مستقلاً برأسه.
الثاني: أن يكون النسخ تقييداً زمانياً، أي: إنّ الحكم من أوّل الأمر كان مجعولاً إلى زمان معيّن لا إلى الأبد، وقد أبدى القيد بعد ذلك في ثوب الناسخ، ولم يكن الجعل مطلقاً ثبوتاً من أوّل الأمر، وإلاّ لكان الجعل بلحاظ زمان ما بعد النسخ لغواً مثلاً.
وبناءً على هذا التصوّر يرجع الشكّ في النسخ إلى الشكّ في سعة دائرة المجعول وضيقها، من قبيل الشبهات الحكمية الاُخرى المألوفة، ولم يكن قسماً ثالثاً.
الثالث: أن يفرض النسخ عبارة عن حصول غاية الحكم، وهو جعل الحكم المضادّ للحكم الأوّل، وذلك بأن يقال: إنّ الأحكام منذ البدء مجعولة مغيّاة بجعل ضدّها، فقوله مثلاً: (هذا حرام) يعني كونه حراماً ما لم يجعل الحلّية.
وعلى هذا فالشكّ في النسخ مرجعه إلى الشكّ في الشبهات الموضوعية، ولم يكن قسماً ثالثاً.
وقد يورد على هذا التصوّر الأخير الاعتراض باستحالة كون عدم أحد الضدين موضوعاً للضد الآخر.
وقد يجاب عليه بأنّ هذه الاستحالة ثابتة في التكوينيات، أمّا الجعل والاعتبار فسهل المؤونة، ويمكن فرض جعل الحكم مغيّى بجعل ضدّه، فقد يدّعى أنّ المفهوم عرفاً من جعل الأحكام ذلك.
أمّا أنّ أيّاً من هذه التصوّرات الثلاثة هو الصحيح فسيأتي في آخر البحث ـ إن شاء الله ـ.
وأمّا هنا فنبحث عن أنّ استصحاب بقاء الحكم هل يجري بناءً على أي واحدة من هذه التصوّرات، أو لا.
فنقول: قد مضى في بحث الشبهات الحكمية إشكالان على استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية:
أحدهما: أنّ الشكّ في الحكم مرجعه في الحقيقة إلى الشكّ في جعل زائد معاصر للجعل الأوّل، لا في امتداد الجعل الأوّل.
وثانيهما: أنّ استصحاب المجعول معارَض باستصحاب عدم الجعل.
ويوجد هنا إشكال في استصحاب الحكم عند الشكّ في النسخ تعرّض له الشيخ الأعظم(رحمه الله)(1) وتبعه المتأخرون عنه في ذكره، وهو إشكال تعدّد الموضوع من باب أنّ الحكم كان ثابتاً على الأشخاص الذين كانوا في العصر الأوّل، ونحن اُناس آخرون لم يثبت شمول الحكم لنا من أوّل الأمر.
وشيء من هذه الإشكالات الثلاثة لا موضوع لها في المقام بناءً على التصوّر الأوّل، فإنّ المشكوك حقيقة بناءً عليه هو استمرار الجعل ودوامه، ولو دوامه العرفي، لا سعة دائرة الجعل وضيقعها في الآن الأوّل حتّى يرد الإشكال الأوّل.
(1) راجع الرسائل: ص381 بحسب الطبعة المشتملة ـ على تعليقات رحمة الله.
كما أنّه لم يكن المقصود استصحاب المجعول حتّى يفترض تعارضه مع استصحاب عدم الجعل، وإنّما المدّعى أنّ نفس الجعل يحتمل بقاؤه فيستصحب.
كما أنّه لا مجال للإشكال الثالث: لأنّ المدّعى أنّ الحكم جعل على تمام الأفراد إلى يوم القيامة ثمّ احتمل نسخه(1).
كما لا موضوع لهذه الإشكالات على التصوّر الثالث ؛ إذ الشكّ بناءً عليه يكون في الشبهة الموضوعية، لا في الجعل حتّى يجري استصحاب عدم الجعل الزائد، وشبهة التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل إنّما هي في الشبهات الحكمية لا الموضوعية، كما مضى في محلّه.
كما لا مجال للاستشكال من ناحية تعدد الموضوع، فإنّنا نريد استصحاب الموضوع الخارجي وهو عدم جعل الحلّية مثلاً، ويكون الحكم مجعولاً على كلّ الأفراد مشروطاً بشرط شككنا في انتفائه، لا على بعض الأفراد دون بعض.
فهذه الإشكالات الثلاثة إنّما يمكن افتراض مجال لها بناءً على التصوّر الثاني، وهو كون النسخ تقييداً زمانياً للحكم.
فإن بنينا على هذا التصوير قلنا: أما الإشكالان الأوّلان فقد مضى جوابهما في بحث الاستصحاب في الشبهات الحكمية، ونفس الجواب يأتي هنا، وأمّا الإشكال الثالث فقد أجاب عنه الشيخ الأعظم (رحمه الله)(2) بكلام مجمل، وأجاب عنه المحقّق النائيني (رحمه الله)بكلام
(1) قلت له (رحمه الله): إنّ استصحاب بقاء الجعل بمعنى ذلك الاعتبار الممتدّ يمكن جعله معارضاً لاستصحاب عدم ثبوت الإرادة ومبادئ الحكم بالنسبة لغير المقدار المتيّقن الذي هو من سنخ استصحاب عدم الجعل الزائد الذي يذكر في الإشكال الأوّل والثاني من الإشكالات الثلاثة.
فاجاب (رحمه الله) بأنّ من يستصحب بقاء ذلك الجعل والاعتبار الممتدّ لو كان يرى أنّ ذلك الاعتبار كاف في التنجيز ولو فرض عدم وجود الارادة والمبادئ وراءه، فاستصحابه يكفي في التنجيز، ولا يعارضه استصحاب عدم تلك المبادئ، ولو كان يرى عدم كفايته في التنجيز فاستصحابه في نفسه غير جار، فإنّ ذلك الجعل والاعتبار المطلق إنّما يكون موجباً للامتثال بمقدار شموله للمبادئ، وقد فرضنا في موارد النسخ أنّ هناك اعتباراً وجعلاً مطلقاً شاملاً لكلّ الأزمنة والأفراد إلى يوم القيامة، من دون أن تكون وراءه مبادئ الحكم بهذا النحو من الامتداد والشمول، واستصحاب اعتبار قد يكون من هذا القبيل لا أثر له.
والخلاصة: أنّ المفروض في هذا التصوّر الأوّل لاستصحاب عدم النسخ هو كفاية مثل هذا الاعتبار ما لم ينسخ للتنجيز(ولو من باب كونه بروح وضع مفاده على عهدة المكلف.)، فيجري استصحابه بلا معارض.
(2) راجع الرسائل ص381 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات رحمة الله.
واضح(1)، وكأنّه جعله تفسيراً لكلام الشيخ الأعظم (رحمه الله)، وكلام المحقّق الخراساني (رحمه الله)(2) في مقام الجواب ـ أيضاً ـ مجمل.
وعلى أيّ حال، فما ذكره المحقّق النائيني (رحمه الله) هو: أنّ القضية ليست خارجية حتّى يفترض أنّ موضوعها خصوص اُولئك الأشخاص الذين كانوا في العصر الأوّل، وإنّما القضية مجعولة بنحو القضية الحقيقية.
أقول: إنْ كان المفروض استصحاب المجعول الفعلي إما بالنحو الذي يتصوّره المحقّق النائيني (رحمه الله) من حدوث مرتبة الفعلية للحكم عند وجود الموضوع خارجاً، وإمّا بالنحو الذي نتصوّره نحن من المجعولات الجزئية بعدد الموضوعات التي تُرى حينما ينظر إلى الجعل بمنظار الحمل الأوّلي، فمجرّد افتراض كون القضية حقيقية لا يكفي لحلّ الإشكال، بل نحتاج في مقام حلّ الإشكال إلى مجموع أمرين:
1 ـ كون القضيّة حقيقيّة لا خارجية، وإلاّ لم يعلم ثبوت الحكم علينا ولو فرض وجودنا في ذلك الزمان.
2 ـ قبول الاستصحاب التعليقي، فإنّ الاستصحاب في المقام تعليقيّ ؛ لأنّنا لم يمضِ علينا وقت نعلم بثبوت الحكم الفعلي في حقّنا حتّى نستصحبه، وإنّما نعلم أنّه لو كنّا في ذلك الزمان لثبت الحكم الفعلي لنا.
وهذا الاستصحاب التعليقي يكون داخلاً في القسم الذي قلنا نحن بجريانه ؛ لأنّه ليست القضية المجعولة في المقام عبارة عن أنّ الشخص الذي كان في ذلك الزمان حكمه كذا، وإنّما هي عبارة عن قضية اُمّ فيها قضية بنت، أي: إنّها عبارة عن قضية موضوعها ذلك الزمان الماضي، ومحمولها قضية بنت، وهي أنّ الإنسان فيه حكمه كذا.
والوجه في استظهار ذلك هو: أنّ النسخ حسب التصوّر العرفي يكون على طبق ما مضى من التصوّر الأوّل، وبعد فرض التنزّل عنه يفتّش العرف عن صيغة مشابهة له، وتلك الصيغة هي أنْ نفترض أنّ الحكم قضية كانت في زمان وانتهى أمدها، وهذا يكون بجعل ذلك الزمان موضوعاً، وتلك القضية محمولاً.
وإن كان المفروض استصحاب المجعول الكلّي، أي: الجعل الكلّي بمنظار الحمل الأوّلي
(1) راجع فوائد الاُصول ج4 ص478 ـ 479 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وأجود التقريرات ج2 ص414.
(2) راجع الكفاية ج2 ص323 ـ 324 بحسب الطبعة المتلمة في حواشيها على تعليقات الشيخ المشكيني.
فعندئذ نقول: إنّ نكتة حلّ الإشكال ليست هى كون القضية حقيقية لا خارجية، وإنّما نكتة المطلب هي أنّ موضوع الحكم هل هو الطبيعة أو الأفراد ؛ إذ لو فرض الموضوع هو الأفراد فحتّى لو كانت القضية حقيقية يكون الإشكال ثابتاً ؛ لأنّ الموضوع متعدّد ـ لا محالة ـ بتعدّد الأفراد، فيكون اليقين بلحاظ بعض الأفراد والشكّ بلحاظ بعض آخر، وهذا بخلاف ما لو كان موضوع الحكم هو الطبيعة، وعندئذ تكون القضية حقيقية حتماً، فإنّه في هذا الفرض لم يحصل أيّ تغيّر في موضوع الحكم، فيجري استصحاب ثبوت الحكم على الطبيعة.
ولعلّ هذا هو مقصود الشيخ الأعظم (رحمه الله) حيث عبّر بأنّ القضية هنا طبيعية، ولا دخل لخصوصية الأفراد.
وبناءً على هذا الذي ذكرناه قد يشكل الاستصحاب إذا كان لسان دليل الحكم هو لسان العموم لا الإطلاق، فإنّ الموضوع عندئذ هو الأفراد، إلاّ إذا ادّعي رجوع العموم من هذه الناحية بنظر العرف إلى الإطلاق، أي: إنّ العرف يفهم أنّ الحكم للطبيعة، وهذه الدعوى صحيحة.
والنكتة في هذا الارجاع عند العرف هي عدم مدخلية أيّ خصوصية من الخصوصيات الفردية على ما هو المفروض من شمول القضية حتّى للأفراد المقدّرة الوجود، وعليه فيجري الاستصحاب.
استصحاب حكم شريعة سابقة:
وأمّا المقام الثاني: وهو استصحاب حكم شريعة اُخرى. فنفس الإشكالات السابقة مع تحقيق حالها تجري هنا حرفاً بحرف، إضافة إلى إشكالين آخرين:
الإشكال الأوّل: العلم الإجمالي بنسخ بعض أحكام تلك الشريعة.
واُجيب بانحلاله بالعلم التفصيلي أو بالعلم الإجمالي الأصغر منه دائرة ـ كما هو الصحيح ـ بلحاظ علمنا بأنّ بعض أحكام شريعتنا المعلومة لنا نسخ لتلك الشرائع.
وأقول: إنّ هذا العلم الإجمالي حتّى مع فرض عدم انحلاله لا أثر له في المقام، فإنّ تأثيره في إبطال الاستصحاب مشروط باُمور ثلاثة:
1 ـ كون الاستصحاب استصحاباً لحكم ترخيصي، فلا يوجد محذور في استصحاب الأحكام الإلزامية.
2 ـ كون العلم الإجمالي علماً بنسخ الترخيص، فإذا كان متعلّقاً بالجامع بين الترخيصات
والإلزاميات فلا أثر له.
3 ـ الالتفات إلى أطراف العلم الإجمالي حتّى يترتّب أثر على كلّ من الاستصحابات، فإذا لم نعلم من أحكام تلك الشريعة إلاّ حكماً واحداً مثلاً وهو حكم الجعالة الذي يستفاد ثبوتها في زمن يوسف (عليه السلام) من قصّة يوسف في القرآن مثلاً ونحن غير مطّلعين على حكم آخر، فمجرّد إجراء استصحاب بقاء حكم آخر نحن غير ملتفتين إليه لا أثر له حتّى يجري ويعارض استصحاب حكم الجعالة مثلاً.
الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق النائيني (رحمه الله)(1) من أنّه إن فرض أنّ شريعتنا نسخت الشريعة السابقة بتمامها ثمّ شرّعت أحكاماً يطابق بعضها ما في الشرائع السابقة، ويخالف بعضها ما في تلك الشرائع، فلا مجال لاستصحاب حكم الشريعة السابقة. وإن فرض أنّه ليس الأمر هكذا، بل إنّ شريعتنا تنظر إلى كلّ واحد من تلك الأحكام السابقة فينسخه أو يمضيه، فأيضاً لا مجال لاستصحاب حكم الشريعة السابقة ؛ لأنّ غاية ما يستفاد من ذلك الاستصحاب أنّ حكم الشريعة السابقة باق حتّى الآن، ولكن حكم الشريعة السابقة لا يفيدنا، وإنّما نحن نحتاج إلى إمضائه من قبل شريعتنا، وهو لم يثبت بالاستصحاب.
وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ بأنّ نفس استصحابه الثابت بشريعتنا معناه إمضاء شريعتنا لذلك الحكم(2).
أقول: المظنون أنّ مقصود المحقّق النائيني (رحمه الله) هو أنّ مولوّيّة موسى أو عيسى (عليهما السلام)مثلاً غير ثابتة في حقنّا، وإنّما هي ثابتة في حقّ اُمّته، فتشريعه لا ينفذ في حقّنا، وإنّما الذي ينفذ في حقّنا هو تشريع مولانا محمد(صلى الله عليه وآله)، والاستصحاب يثبت أنّ موسى أو عيسى (عليهما السلام)قد جعل هذا الحكم جعلاً مطلقاً شاملاً لنا، وهذا لا يُثبت أنّ مولانا محمداً (صلى الله عليه وآله) أمضى ذلك الحكم في شريعته، إلاّ بالملازمة العقلية، من باب أنّ النبيّ السابق لا يشرّع حكماً مطلقاً شاملاً لنا، إلاّ إذا كان الملاك والمصلحة عامّاً ثابتاً في حقّنا، فيشرّع الحكم على الإطلاق برجاء أن يُمضى من قبل نبيّنا مثلاً، وإذا كان الملاك عامّاً ـ فلا محالة ـ يُمضى من قبل نبيّنا. وهذا لا يرد عليه ما ذكره السيّد الاُستاذ.
وهذا الكلام بعد تسليم مبناه يتمّ بناءً على أنّ إمضاء نبيّنا (صلى الله عليه وآله) لكلّ حكم سابق يكون
(1) راجع فوائد الاصول ج4 ص480 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وأجود والتقريرات ج2 ص415.
(2) راجع مصباح الاصول ج3 ص150.
بإمضائه بالخصوص. أمّا لو فرضنا أنّ له إمضاءً كلّيّاً موضوعه هو كلّ حكم من أحكام النبيّ السابق الذي لم ينسخ أي الأحكام التي تكون مطلقة وشاملة لنا، فاستصحاب بقاء ذلك الحكم ينقّح موضوع الإمضاء، ويثبت الإمضاء.
وعلى أيّ حال، فهذا الكلام إن كان هو مقصود الشيخ النائيني (رحمه الله) فهو باطل من أساسه، لما يرد عليه من أنّنا ننظر إلى موسى أو عيسى (عليهما السلام) بالمعنى الحرفي، ونستصحب تشريعه بما هو تشريع للمولى الحقيقي الذي مولويّته ذاتية وثابتة لا ترتفع.
الأصل المثبت
التنبيه الثامن: في الاصل المثبت، وقد اشتهر بين المحققين المتأخرين مطلبان:
الأوّل: الفرق بين الأمارات والاُصول بأنّ الأمارات تثبت اللوازم زائداً على المدلول المطابقي، بخلاف الاصول.
والثاني: أنّ الاستصحاب يترتّب عليه الأثر المستصحب إذا كان أثراً شرعياً، ويترتّب عليه كلّ أثر شرعي مترتّب على المستصحب بلا واسطة، أو بواسطة أثر شرعي، ولا يترتّب عليه ما يكون بواسطة أثر عقلي.
ومن العجيب أنّه قد اشتهر هذان الأمران بين المحقّقين المتأخرين شهرة عظيمة، ولكن لا يوجد فيما يذكرونها من أدلّة على ذلك ما يكون في الوضوح بمستوى هذه الشهرة، بل هي أدلّة متزعزعة أو دعاوى بالإمكان لأحد أن يقابلها بدعوى اُخرى مثلها.
وعلى أيّ حال فالكلام يقع في هذين الأمرين في مقامين:
لوازم الأمارات والاُصول:
المقام الأوّل: في الأمر الأوّل وهو الفرق بين الأمارات والاُصول بحجّيّة اللوازم في الاُولى دون الثانية.
وهناك اتجّاهان لتوضيح هذا الفرق وتبريره:
الاتّجاه الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق النائيني (رحمه الله) من فرض فرق ثبوتي بينهما، أعني: أنّ سنخ الحجيّة المجعولة في الأمارات يختلف عن سنخ الحجيّة المجعولة في الاُصول، فالأوّل يقتضي حجيّة لوازم الأمارة، والثاني يقتضي عدم حجيّة لوازم الاُصول(1).
الاتّجاه الثاني: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني (رحمه الله) من أنّ الفرق بينهما إثباتي، فلسان
(1)راجع فوائد الاصول ج4 ص484 ـ 489 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم المشتملة على تعليقات الشيخ العراقي (رحمه الله) وأجود التقريرات ج2 ص415 ـ 417.
دليل حجيّة الأمارة شمل صدفةً اللوازم، ولسان دليل حجيّة الاُصول لم يشمل صدفة ذلك(1).
والسيّد الاُستاذ ذهب إلى روح هذا الاتّجاه، أي: أنّه ذهب إلى أنّ الفرق يجب أن يفتَّش عنه في لسان الدليل، إلاّ أنّه لم يقبل كون لسان الدليل في كلّ الأمارات مقتضياً لحجيّة المثبتات، بل قال بالتفصيل في ذلك(2).
ونحن نتكلّم في كلّ من الاتّجاهين في لسان الأصحاب، ونبيّن ضمناً ما هو تحقيق الكلام في المقام فنقول:
أمّا الاتّجاه الأوّل: فقد ذكر المحقّق النائيني (رحمه الله)(3) أنّ للعلم أربعة آثار:
1 ـ الأثر النفسي والوصفي من ثبوت الاستقرار والكمال مثلاً للنفس ونحو ذلك.
2 ـ الطريقيّة وانكشاف الواقع، وربط الإنسان به.
3 ـ تحريك الإنسان في عمله نحو الواقع.
4 ـ التنجيز والتعذير.
أمّا الأثر الأوّل فهو مختصّ بالعلم، ولا يقوم مقامه شيء آخر. وأمّا الأثر الثاني فالأمارة تقوم مقام العلم في هذا الأثر، وهذا معنى جعل الطريقية وتتميم الكشف. وأمّا الأثر الثالث فيقوم مقام العلم فيه الاُصول التنزيلية والمحرزة كالاستصحاب. وأمّا الأثر الرابع فلم يفرض (رحمه الله) قيام شيء مقام العلم فيه، ولا يرى إمكان جعل المنجّزيّة والمعذّريّة، بل ذكر أنّ الاُصول غير التنزيلية ـ أيضاً ـ تقوم مقام العلم في الأثر الثالث، إلاّ أنّ الفرق بينها وبين الاُصول التنزيلية هو أنّ الاُصول التنزيلية اُقيمت مقام العلم في الجري العملي على طبق الشيء على أنّه كأنّه الواقع تنزيلاً وتعبّداً، والاُصول غير التنزيلية اُقيمت مقام العلم في الجري العملي من دون افتراض هذا التعبّد والتنزيل.
وهذه المطالب تنقلب عند المحقق النائيني (رحمه الله) إلى اصطلاحات فحينما يطلق اصطلاح الأمارة يقصد بذلك ما أقامه الشارع مقام العلم في الأثر الثاني، وحينما يطلق اصطلاح الأصل يقصد به ما أقامه الشارع مقام العلم في الأثر الثالث. وعلى هذا الأساس يقول: إنّ
(1) راجع الكفاية ج2 ص326 ـ 329. بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكيني.
(2) راجع مصباح الاصول ج3 ص155.
(3)راجع فوائد الاصول ج4 ص484 ـ 489 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم المشتملة على تعليقات الشيخ العراقي (رحمه الله) وأجود التقريرات ج2 ص415 ـ 417.
لوازم الأمارات حجّة ؛ لأنّ الكشف والطريقية لا يختصّ بالشيء دون لوازمه، فإذا انكشف شيء فقد انكشف كلّ لوازمه، ولوازم الاُصول غير حجّة ؛ لأنّ جعله قائماً مقام العلم في الجري العملي على طبق شيء لا يستلزم اقتضاء الجري العملي على طبق لوازمه.
وأورد عليه السيّد الاُستاذ بأنّه كما لا يكون التعبّد بضرورة الجري العملي على طبق شيء مستلزماً للتعبد بضرورة الجري العملي على طبق لوازمه كذلك اليقين التعبدي بشيء غير مستلزم لليقين التعبّدي بشيء من لوازمه. نعم، يوجد تلازم بين اليقين الحقيقي بشيء واليقين الحقيقي بلوازمه. وفي باب الأمارات لا يوجد يقين حقيقي بالشيء، وإنّما يوجد اليقين التعبّدي(1)، ومن هنا ذهب السيّد الاُستاذ إلى أنّه يجب التفتيش عن الفرق في لسان الدليل، لا عن فرق جوهري بين الحجّيّتين.
أقول: أمّا أن ننكر الفرق الجوهري بين الحجّيّتين بعد افتراض بطلان الفرق الجوهري الذي ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله)، فهذا موقوف على عدم وجود فارق جوهري آخر، وسوف نذكر ـ إن شاء الله ـ ما هو التحقيق في ذلك، وأمّا الإشكال الذي أورده على الفرق الجوهري المذكور في كلام المحقّق النائيني (رحمه الله)فهو وارد عليه في حدود التقريب الذي بيّناه لكلامه، والذي يكون موجوداً في تقريري بحثه، لكنّني أظنّ أنّه(رحمه الله) ينظر إلى أحد أمرين انطمسا في خلال الكلام، ولم ينعكسا على التقريرين:
الأمر الأوّل: أن تدّعى الملازمة العرفيّة بين جعل الطريقيّة والكشف التعبّدي بالنسبة إلى شيء وجعل الطريقيّة والكشف التعبّدي بالنسبة إلى لوازمه، ولا تدّعى ملازمة من هذا القبيل بين جعل الأصل قائماً فقام العلم في اقتضائه للجري العملي على طبق ذلك المعلوم وجعله قائماً مقامه في ذلك بلحاظ اللوازم.
ونكتة الفرق بينهما هي: أنّ العلم ـ حسب ما افترضه المحقّق النائيني(رحمه الله) ـ له صفة الكاشفيّة وله صفة الاقتضاء للجري العملي، والشارع قد يعطي للشيء تعبّداً صفة الكشف، وقد يعطي له تعبّداً صفة اقتضاء الجري العملي على طبق شيء.
أمّا الكشف الذي أعطاه تعبّداً فلو فرض انّه كان ـ على فرض المحال ـ قد أعطاه حقيقة كان لازمه لا محالة الكشف عن كلّ الملازمات، وهذا أصبح نكتة لفهم العرف من إعطاء الكشف تعبّداً إعطاءه بالنسبة للملازمات أيضاً.
(1) مصباح الاصول ج3 ص155.
وأمّا صفة الاقتضاء للجري العملي فلو فرض محالاً أنّ الشارع أعطاها لغير العلم تكويناً لا تعبّداً لم يكن يسلتزم ذلك اقتضاء الجري العملي بالنسبة للملازمات، فتلك النكتة غير موجودة هنا، ولهذا لا تنعقد تلك الملازمة العرفيّة هنا.
الأمر الثاني: أن يفترض أنّ دليل التعبّد بشيء في الأمارات وفي الاُصول يكون فيه بحسب الإثبات إطلاقٌ يشمل ذاك الشيء وجميع آثار ذاك الشيء ولو كانت عقلية، بلا فرق في ذلك بين الأمارات والاصول. وهذا الإطلاق ينتج في باب الأمارات حجيّة اللوازم ؛ لأنّ من آثار كشف الشيء كشف جميع ملازماته، فدليل التعبّد بكشفه دليل على التعبّد بكشف جميع ملازماته، ولكنّه لا ينتج في باب الاُصول حجيّة اللوازم ؛ لأنّ المتعبّد به في الاُصول هو اقتضاء الجري العملي، ويكون الأصل منزّلاً منزلة العلم في اقتضائه للجري العملي، واقتضاء العلم للجري العملي على طبق المعلوم ليس من آثاره اقتضاء الجري العملي على طبق ملازمات الشيء. نعم يوجد هنا تلازم بين الاقتضائين من باب ملازمة المقتضيين، وهما العلم بالشيء والعلم بلوازمه.
ولكن هذا الأمر الثاني لا ينسجم مع مبنى المحقّق النائيني(رحمه الله).
توضيحة: أنّ هذا الأمر إنّما ينسجم بناءً على تفسير جعل الطريقية بتنزيل الأمارة منزلة الكاشف في الآثار، فيدّعى أنّ الدليل مطلق يشمل كلّ الآثار، لكن المحقّق النائيني(رحمه الله)لا يقول بجعل الطريقية بهذا المعنى؛ إذ هذا يرجع إلى جعل الآثار من المنجّزيّة والمعذّريّة، وهو يرى جعل المنجّزيّة والمعذّريّة محالاً، وإنّما يقول بجعل الطريقيّة بمعنى إيجاد الفرد الاعتباري للعلم على نحو مجاز السكاكي، فعندئذ يترتّب عليه ـ لا محالة ـ كلّ أثر يكون بنفسه أثراً للجامع بين الفرد الوجداني والفرد الاعتباري، ويدّعى أنّ التنجيز والتعذير من هذا القبيل، ولا يترتّب عليه كلّ أثر لا يكون أثراً للجامع، وإنّما يكون أثراً للفرد الوجداني فقط، وذلك من قبيل انكشاف اللوازم، فإنّه أثر للانكشاف الحقيقي فقط، دون التعبدي.
وعلى أيّة حال، فتحقيق المطلب: أنّ الفرق الجوهري بين الأمارات والاُصول أعمق جوهريّة من الفرق بين لسان جعل الكاشفية ولسان جعل اقتضاء الجري العملي، ويكون الفرق بين الأمارات والاُصول في حجيّة اللوازم وعدمها أكثر ارتباطاً بذاك الفرق الجوهري الذي نحن نقوله منه بهذا.
وتوضيح ذلك: أنّه مضى في محلّه أنّ جعل الحكم الظاهري عبارة عن جعل الخطاب الحافظ لبعض الملاكات الواقعية عند تزاحمها في مرحلة الحفظ، فالمولى يحكّم في ذلك قانون
الأهمّ والمهمّ، وبعد الكسر والانكساريجعل الحكم الظاهري، وترجيح أحد الجانبين على الآخر تارةً يكون بلحاظ سنخ المحتمل واهمّيّته، واُخرى بلحاظ درجة الاحتمال وقوّته. ففي باب أصالة الحلّ وأصالة الاحتياط لاحظ المولى سنخ المحتمل، وهو الحلّيّة أو الحرمة، وهذا روح الأصل المحض. وفي باب حجيّة خبر الواحد والظهور لم يلاحظ المولى ذلك، فإنّ المولى جعل بنحو القضية الحقيقية خبر الثقة مثلاً حجّة سواء فرض مدلوله الحلّيّة أو الحرمة أو أيّ شيء آخر، فالملحوظ ليس هو خصوصية في سنخ المحتمل ابداً وانما الملحوظ هو غلبة صدق خبر الثقة وقوّة الاحتمال حسب نظر المولى إلى أفراد خبر الثقة بنحو القضيّة الحقيقيّة. وهذا هو روح الامارة المحض، ولا فرق في ذلك كلّه بين أن يجعل الحكم بلسان جعل الكاشفيّة والطريقيّة، أو جعل اقتضاء الجري العملي، أو جعل التنجيز والتعذير، أو أي شيء آخر، وإنّما كلّ هذه قشور وألفاظ، وليست هي الفارق الحقيقي بين الأمارات والاُصول. نعم، يكون لسان جعل الطريقية وقوله: (ليس لأحد التشكيك فيما يروي عنّا ثقاتنا) أنسب من ألسنة اُخرى بلاغيّاً بالأمارات باعتبار النظر فيها إلى قوّة الاحتمال.
وإذا عرفت روح الأمارة المحض، وروح الأصل المحض قلنا: إنّ الأمارة بعد أن فرض أنّ المنظور في حجيّتها ليس إلاّ درجة كشفها، ولم تلحظ أيّ خصوصيّة في جانب المحتمل، فلا محالة تصبح لوازمها حجّة ؛ لأنّ درجة الكشف نسبتها إلى المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي على حدّ سواء، والمفروض أنّها هي العلّة التامّة لجعل الحجيّة، ولم تلحظ أيّ خصوصيّة في جانب المحتمل، ولذا لو قامت الأمارة على ذاك المدلول الالتزامي لكان حجّة. وعليه، فتثبت هذه اللوازم بنفس ملاك ثبوت المدلول المطابقي.
وأمّا في جانب الاصول فليس الأمر كذلك، فلو فرضت ملازمة مثلاً بين حلّيّة العصير العنبي إذا غلى ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال واثبتنا الحلّيّة بالأصل، فهذا الأصل إنّما جرى بلحاظ أهميّة المحتمل، وهو الحلّيّة وعدم الإلزام، ولا ملازمة بين أهميّة الحليّة من الحرمة وأهميّة وجوب الدعاء من عدم الوجوب، ولو كان المحتمل في جانب اللازم من سنخ المحتمل في جانب المدلول المطابقي، كما لو فرضت الملازمة بين حلّيّة العصير العنبي وحلّيّة شيء آخر كالعصير التمري مثلاً، فالمحتمل في جانب اللازم بنفسه مصداق لدليل حجّيّة الأصل، وتجري فيه أصالة الحلّ، ولو فرض أنّه لم يكن مصداقاً لأصالة الحلّ وكان دليل أصالة الحلّ مختصّاً بالعصير العنبي إذن لا نعلم أنّ الحلّيّتين من سنخ واحد في درجة أهميّة المحتمل، هذا كلّه في الأمارة المحض والأصل المحض.
وقد يلحظ المولى كلا الجانبين، أعني جانب الاحتمال وجانب المحتمل معاً، وذلك كما في قاعدة اليد بناءً على لحاظ قوّة الكشف فيها، وقاعدة الفراغ التي يكون ظاهر دليلها هو لحاظ درجة الكشف، ولكن في نفس الوقت لوحظ فيها جانب المحتمل أيضاً، فترى قاعدة اليد إنّما تكون في قسم خاصّ من المحتملات، وهو الملكيّة، وقاعدة الفراغ ـ ايضاً ـ في قسم خاص من المحتملات، وهو الأجزاء والشرائط الداخلية في صحّة العمل مثلاً، فهذا أمر متوسّط بين الأمارة والأصل، وليكن هذا هو المقصود بالأصل التنزيلي الذي هو بين الأمارات والاُصول، وقد أدرك ذلك، أي: الأصل التنزيلي العلماء بفطرتهم، لكنّهم ـ أيضاً ـ فسّروه بما يرجع إلى عالم الألفاظ، وأرجعوا الفرق بين التنزيلي وغيره إلى القشور وأساليب أداء الحجيّة، وهذا ـ أيضاً ـ لا تكون لوازمه حجّة، لأنّه يوجد فيه جانب الأصلية، والنتيجة تتبع أخسّ المقدمات على تفصيل في ذلك:
توضيحه: أنّه لو فرضنا مثلاً الملازمة بين صحّة الصلاة التي وقت وصحّة الصوم الذي وقع، وفرضنا أنّ قاعدة الفراغ تختصّ بباب الصلاة، فهنا لايمكن إثبات صحّة الصوم بإجراء قاعدة الفراغ في الصلاة ؛ لاحتمال الاختلاف في درجة الأهميّة بين المحتملين. أمّا إذا كانت هناك ملازمة بين صحّة الصلاة التي وقعت وصحّة صلاة اُخرى وقعت أيضاً، وكانت قاعدة الفراغ تختصّ بإحداهما؛ لاختصاص الأذكريّة بها صدفةً، فهنا يمكن إثبات صحّة الصلاة الاخرى بالملازمة بغض النظر عن نكتة سوف تأتي، فإنّ المحتملين من سنخ واحد بعد إستبعاد كون صرف الأذكرية وعدم الأذكريّة دخيلاً في درجة أهميّة المحتمل.
وقد اتّضح بكل ما ذكرناه أنّ هنا فرقاً ثبوتياً وجوهرياً بين الأمارة والأصل يؤثّر في حجيّة لوازم الأمارة دون الأصل، وهو كون النظر في الأوّل إلى درجة الاحتمال فحسب، وفي الثاني إلى درجة قوّة المحتمل وحدها، أو منضمّة إلى درجة الاحتمال. نعم، بحسب الإثبات نحتاج إلى دليل يثبت أنّ الملحوظ في الشيء الفلاني هو قوّة الاحتمال لا قوّة المحتمل حتّى تثبت حجيّة لوازمه.
ثمّ إنّ ما ذكرنا كلّه يكون فيما إذا فرض أنّ الحكم الظاهري كان الملحوظ فيه الطريقية الصرف إلى الواقع، ولم تلحظ فيه أيّ نكتة اُخرى نفسيّة. وأمّا إذا فرض دخل نكتة نفسية في الحكم بطلت حجيّة اللوازم في تمام الموارد ؛ لاحتمال كون النكتة النفسيّة مختصّة بالمدلول المطابقي، إلاّ إذا فرض أنّ لسان دليل الحجيّة كان مطلقاً يشمل اللوازم أيضاً، وعندئذ تكون اللوازم حجّة ولو فرضت تلك الحجّة أصلاً لا أمارة.
وقد اتّضح بتمام ما ذكرناه أنّ حجيّة اللوازم تكون في موردين:
1 ـ مورد كون الملحوظ درجة الاحتمال وعدم لحاظ قوّة المحتمل، أو عدم احتمال الفرق في المحتمل بين المدول المطابقي ولازمه مع عدم احتمال نكتة نفسيّة غير موجودة في اللازم، وذلك بأن تنفى احتمال النكتة النفسية المختصّة بالمدلول المطابقي إما بالظهور اللفظي لدليل الحجيّة، أو بضمّ ارتكازات عقلائية تكون كالقرينة المتصلة.
2 ـ مورد وجود إطلاق في دليل الحجيّة يشمل اللوازم.
إذا عرفت ذلك نأتي إلى تطبيق الأمر على المصاديق فنقول:
أمّا خبر الثقة وكذلك الظهور فالملحوظ في حجيّتهما هي درجة الاحتمال لا قوّة المحتمل ؛ إذ لم يؤخذ فيهما سنخ محتمل خاصّ، والمستفاد من دليل حجيّتهما ولو بمعونة الارتكاز العقلائي هو أنّه لم تلحظ في حجيّتهما أيّ نكتة نفسية في المدلول المطابقي، وإنّما لوحظت الطريقية الصِرف، فإنّ هذا هو الذي يفهم بالارتكاز العقلائي من دليل حجيّة الخبر والظهور، ولو من باب أنّ حجيّة الخبر والظهور من الاُمور العقلائية في نفسها، والعقلاء لا يلحظون في حجيّتهما نكتة نفسية في المدلول المطابقي، إذن فلوازمهما حجّة.
وأمّا أصالة الحلّ وأصالة الاحتياط فالملحوظ فيهما هو جانب المحتمل ؛ ولذا اُخذ في كلّ منهما قسم خاصّ من المحتملات، ولا إطلاق في دليل حجيّتهما يشمل اللوازم. إذن فلوازمهما غير حجّة، فلو فرضت ملازمة بين حليّة العصير العنبي ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال فاثبات الحليّة بالأصل لا يوجب ثبوت وجوب الدعاء ؛ لاحتمال الفرق في درجة الأهميّة بين المحتملين.
نعم، لو فرضت الملازمة بين حليّة العصير العنبي وحليّة العصير التمري مثلاً، فبما أنّ كلتا الحلّيّتين داخلتان تحت دليل أصالة الحلّ نعرف عدم الفرق بين المحتملين في ذلك، لكنّ التمسّك هنا بالأصل المثبت لا محصّل له ؛ إذ هو في طول جريان الأصل في اللازم في نفسه، ولولا جريانه لم نقطع بعدم الفرق بين المحتملين ؛ إذ من المحتمل أن تكون الحلّيّة في باب العنب مثلاً أهمّ من جانب الحرمة، ويكون الأمر في باب التمر بالعكس.
وأمّا قاعدة الفراغ مثلاً فهي أمر بين الأمرين، أي: لوحظت فيها درجة قوّة الاحتمال وقوّة المحتمل معاً، فلو فرض أنّه فرغ من صلاة واشتغل بصلاة اُخرى، وقبل الفراغ من الصلاة الثانية شكّ في أنّه هل توضّأ قبل الصلاتين أو لا، فقاعدة الفراغ تحكم بصحّة الصلاة الاُولى وصحّتها ملازمة لصحّة الصلاة الثانية ؛ إذ لو كان متوضّئاً صحّت كلتا الصلاتين، وإلاّ
بطلت كلتا الصلاتين، ولكن مع ذلك لا يمكن إثبات صحّة الصلاة الثانية ؛ وذلك لأن قاعدة الفراغ وإن لو حظت فيها درجة قوّة الاحتمال، ولكن لوحظت فيها درجة أهميّة المحتمل أيضاً، ولعلّ مصلحة الحلّيّة والتسهيل في صلاة فرغ العبد عنها أقوى من مصلحة الحلّيّة والتسهيل في صلاة لم يفرغ العبد عنها، باعتبار أنّ العبد مثلاً يحس في فرض الفراغ قبل حصول الشكّ بنوع من الارتياح والخروج عن مسئوليّة الواجب، وتكون الإعادة والاحتياط أصعب عليه ممّا لو فرضت عليه الإعادة والاحتياط قبل الفراغ، وليس لدليل حجيّة قاعدة الفراغ إطلاق يشمل الملازمات. وأمّا إذا فرضنا أنّه فرغ عن كلتا الصلايتن ثمّ شكّ في الوضوء، ولكن قاعدة الفراغ جرت في الصلاة الاُولى فحسب للقطع بالغفلة عند الصلاة الثانية، فالأذكريّة لم تكن ثابتة بالنسبة لها، فهنا وإن أمكن القول بعدم احتمال الفرق بين المحتملين في درجة الأهميّة لكن مع ذلك لا نقول بثبوت صحّة الصلاة الثانية ؛ وذلك لاحتمال كون قاعدة الفراغ لوحظت فيها نكتة نفسية في موارد الأذكريّة، وأن لا تكون طريقية بحتاً، والارتكاز العقلائي الذي كان يحكم في باب خبر الثقة والظهورات بعدم وجود نكتة نفسية تختصّ بالمدول المطابقي غير موجود هنا.
يبقى الكلام في الاستصحاب، فنقول: إن فرض أنّ الاستصحاب حكم ظاهري جعل بلحاظ ترجيح المحتمل وأهميّته فلوازمه غير حجّة؛ إذ ليس النظر فيه إلى قوّة الاحتمال، ولا يوجد إطلاق في لسان دليل حجيّته يشمل اللوازم، إلاّ أنّ هذا الفرض خلاف الواقع ؛ إذ لم يؤخذ في دليل الاستصحاب قسم خاصّ من المحتملات حتّى يفترض أنّه بلحاظ ترجيح محتمل على محتمل آخر، وأهميّته منه.
وإن فرض أنّ الاستصحاب لوحظت فيه قوّة الاحتمال ولا توجد في مدلوله المطابقي أيّ نكتة نفسية، فلا محالة تكون لوازمه حجّة.
لكن الصحيح أنّ الاستصحاب وإن كان الملحوظ فيه قوّة الاحتمال، لكن لم يثبت عدم وجود نكتة نفسية تفرّق بين مدلوله المطابقي ولوازمه، وفرق كبير بين الاستصحاب وخبر الثقة.
وتوضيح ذلك: أنّ دليل حجيّة خبر الثقة إن لم نقل: إنّ لسانه بنفسه ظاهر في عدم وجود نكتة نفسية، والتمحّض في الطريقية، وذلك كلسان: (ليس لأحد التشكيك فيما يروي عنّا ثقاتنا) ولسان: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، فلا أقلّ من ظهوره في ذلك بلحاظ الارتكاز العقلائي، حيث إنّ حجيّة خبر الثقة مركوزة عقلائياً على نحو الطريقية
الصرف، وأمّا الاستصحاب فهو وإن كان موجوداً ـ أيضاً ـ في ارتكاز العقلاء، لكنّه لم يعلم كونه في ارتكازهم بلحاظ الطريقية إن لم يعلم خلافه، فإنّ الظاهر أنّ الاستصحاب والجري على الحالة السابقة والبناء عليها يرجع إلى لون من العادة واُنس الذهن والميل النفسي وما شابه ذلك، لا إلى الكشف والطريقية ؛ ولذا يقال: إنّ ارتكازيّة الاستصحاب مشتركة بين الإنسان والحيوان، فلا يوجد هنا ارتكاز عقلائي يجعل دليل حجيّة الاستصحاب ظاهراً في الطريقية المحض، كما أنّ لسان دليل حجيّته وهو النهي عن النقض العملي ليس بنفسه ظاهراً في ذلك، كما أنّه لا يوجد في دليل الاستصحاب إطلاق يشمل اللوازم، إذن فلوازم الاستصحاب غير حجّة، وسيأتي تحقيق حال الاستصحاب بشكل أوسع في المقام الثاني ـ إن شاء الله ـ .
وأمّا الاتّجاه الثاني: وهو الاتّجاه القائل بأنّ الفرق بين الأمارات والاُصول فرق إثباتي، فهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني (رحمه الله) والسيّد الاُستاذ، على فرق بينهما في التقريب.
فالمحقّق الخراساني (رحمه الله) ذكر: انّ مصبّ الحجيّة في باب الأمارة هو الحكاية، وخبر الثقة كما يحكي عن المدلول المطابقي كذلك يحكي عن المدلول الالتزامي، فإنّ الحكاية لا تختصّ بالدلالة المطابقية، وعلى هذا الأساس تصبح لوازمه حجّة، وهذا بخلاف الاُصول(1).
وأورد السيّد الاُستاذ على ذلك بأنّ الحكاية فرع القصد، والمخبر قد لا يقصد اللوازم، بل قد لا يكون ملتفتاً إليها، أو يتخيّل عدم الملازمة، ومع ذلك يقال بحجيّة اللوزام(2)، وذكر ـ دامت بركاته ـ أنّ الوجه في حجيّة لوازم الخبر هو أنّ دليل حجيّة الخبر هو السيرة، والسيرة كما قامت على العمل بمدلوله المطابقي كذلك قامت على العمل بمدلوله الالتزامي، ولا يوجد شيء من هذا القبيل في باب الاُصول(3).
أقول: إنّ الفرق بين الأمارات والاُصول الذي جعل لوازم الأمارات حجّة ولوازم الاُصول غير حجّة هو أعمق ممّا ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله) من كون موضوع الحجيّة هو الحكاية، فالشهرة مثلاً ـ بناءً على حجيّتها بدليل قوله: (خذ بما اشتهر بين أصحابك) ـ تكون لوازمها حجّة، مع أنّ الشهرة تختصّ بالمدلول المطابقي، وقد لا تكون اللوازم مشهورة.
كما أنّ الفرق أعمق ممّا ذكره السيّد الاُستاذ الذي لا يأتي في مثل الشهرة بناءً على
(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 329 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكيني.
(2) راجع مصباح الاُصول ج3 ص153.
(3) المصدر السابق ص155.
حجيّتها بمثل قوله (خذ بما اشتهر بين أصحابك)، ولا في خبر الثقة بناءً على كون الدليل على حجيّته غير السيرة، ولا في البيّنة في باب القضاء إذا ثبتت حجيّتها بالتعبّد لا بالسيرة.
والصحيح في الضابط في حجيّة اللوازم ما عرفت من أنّه أحد أمرين:
الأوّل: الإطلاق في دليل الحجيّة يثبت اللوازم، وهذا لا تؤثّر فيه أماريّة الأمارة أو أصليّة الأصل.
والثاني: أنّ تكون العبرة فقط بأقوائية الاحتمال. وأمّا إذا تدّخل سنخ المحتمل دخلاً تامّاً أو دخلاً ناقصاً، أو تدخّلت نكتة نفسية ولو احتمالاً فلا يمكننا أن نتعدّى إلاّ إلى لازم ثبت دخوله في دائرة سنخ المحتمل المفروض حجيّته فيه، أو دائرة النكتة النفسيّة على شرط أن لا يكون ثبوت دخوله في تلك الدائرة عن طريق كونه بنفسه مصداقاً للأمر الذي جعل بمدلوله المطابقي حجّة، وإلاّ فالتمسّك بالمدلول الالتزامي لا محصّل له.
فخبر الثقة مثلاً لوازمه حجّة ؛ لأنّ الملحوظ فيه هو أقوائية الاحتمال، والنكتة النفسية غير ملحوظة بمقتضى ظاهر دليل الحجيّة ولو بمعونة الارتكاز العقلائي الذي يرى عدم دخل نكتة نفسية في المقام، ولا أقصد بالارتكاز العقلائي خصوص ارتكاز حجيّة شيء من دون دخل نكتة نفسية، بل يكفي أن يكون المرتكز في أذهان العقلاء أنّ الشيء الفلاني إن كان حجّة فهو إنّما يكون حجّة لأجل ما فيه من قوّة الاحتمال من دون دخل أيّ نكتة نفسية في موارده، سواء كانت حجيّته ـ ايضاً ـ مركوزة، أو لا.
ولو فرضنا أنّ خبرالثقة جعل حجّة في العبادات بالخصوص مثلاً لدخل سنخ المحتمل، ودلّ خبر الثقة على وجوب الصلاة مثلاً، وكانت هناك ملازمة بين وجوب الصلاة ووجوب الصوم، ثبت بذلك وجوب الصوم بالرغم من دخل سنخ المحتمل حسب الفرض، وذلك لاتحاد سنخ المحتمل في المقام.
والاُصول لوازمها غير حجّة ؛ لأنّ العبرة فيها بسنخ المحتمل الذي يحتمل اختلافه من المدلول المطابقي إلى المدلول الالتزامي، ولا إطلاق في دليل حجيّته يشمل المداليل الالتزامية.
والاستصحاب بالرغم من كونه أمارة، بمعنى ملاحظة قوّة الاحتمال فيه دون سنخ المحتمل ـ على ما عرفت ـ، لا تكون لوازمه حجّة، ففي خصوص الاستصحاب نؤيّد الاتّجاه الثاني القائل بالرجوع إلى مرحلة الإثبات. ولتوضيح الحال في الآثار المترتّبة على المستصحب نرجع إلى المقام الثاني.
الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب بواسطة أثر شرعي أو عقلي
المقام الثاني: في الأمر الثاني وهو الفرق بين الآثار المترتّبة على المستصحب بواسطة أثر تكويني كنبات اللحية مثلاً والآثار الشرعية المتسلسلة المترتّبة على المستصحب، وهذا الفرق مشهور على لسان المحقّقين المتأخرين.
ويقع الكلام في أنّه كيف يفترض لسان دليل الاستصحاب بحيث ينسجم مع كلا هذين الأمرين، اعني عدم ثبوت الآثار الشرعية التي تكون بواسطة أثر تكويني من ناحية، وثبوت الآثار الشرعية التي تكون بواسطة أثر شرعي آخر من ناحية اُخرى؟
وهنا افتراضان في تصوير مفاد دليل الاستصحاب.
الافتراض الأوّل: ما هو مختار المحقّق الخراساني (رحمه الله) من أنّ مفاد دليل الاستصحاب هو تنزيل المشكوك منزلة الواقع، من قبيل تنزيل الطواف بالبيت منزلة الصلاة، إلاّ أنّ ذاك تنزيل واقعي وهذا تنزيل ظاهري، ومعنى التنزيل هو ترتيب أثر المنزل عليه على المنزّل، وجعل المنزّل كأنّه المنزل عليه في الأثر، ولكن هنا في الحقيقة لم يترتّب أثر المنزل عليه على المنزّل، فإنّ أثر بقاء حياة زيد المستصحب حياته إنّما هو مثلاً جواز التقليد واقعاً، والذي يترتّب على الحياة المشكوكة إنّما هو جواز التقليد ظاهراً، وهذا غير ذاك، إلاّ أنّه كانّه هو ذاك، وهو مثله، وهذا معنى ما يقوله المحقّق الخراساني (رحمه الله)من أنّه يكون المجعول في باب الاستصحاب هو الحكم المماثل.
وهذا الافتراض يكون توضيح انسجامه مع عدم ثبوت الآثار الشرعية المترتّبة بواسطة أثر تكويني بأن يقال: إنّ الأثرالتكويني لا يثبت بهذا التنزيل، فإنّ التنزيل إنّما يفيد التوسعة في دائرة ما يكون بيد المولى المُنزِل بما هو مولى، والأثر التكويني ليس هكذا، وإذا لم يثبت الأثر التكويني لم يثبت ما تترتّب عليه من آثار لعدم ثبوت موضوعها وجداناً ولا تنزيلاً.
يبقى أن يُقال: إنّ تلك الآثار الشرعية هي آثار للمستصحب ؛ لأنّها آثار لأثر المستصحب، وأثر الأثر أثر لذلك الشيء، إذن فلتثبت تلك الآثار بواسطة استصحاب المستصحب ابتداءً من دون توسيط إثبات الأثر التكويني، وهنا يقول المحقّق الخراساني(رحمه الله): إنّ دليل الاستصحاب لا يشمل هذا الأثر الذي هو أثر بالواسطة، للانصراف، أو أنّ القدر المتيّقن هو الأثر بلا واسطة(1).
(1) راجع الكفاية ج2 ص327 بحسب الطبعة المشتملة في الحواشي على تعليقات الشيخ المشكيني.
وهنا قد يقال: إنّ هذا المنهج لا ينسجم مع القول بترتّب الآثار الشرعيّة التي تكون بواسطة أثر شرعي آخر ؛ لأنّه إذا صار القرار على دعوى عدم شمول إطلاق الدليل للأثر الذي يكون بواسطة أمر تكويني، للإنصراف عن الأثر مع الواسطة، أو وجود القدر المتيقّن، فلا فرق في ذلك بين الأثر الشرعي الذي يكون بواسطة أمر تكويني والأثر الشرعي الذي يكون بواسطة أثر شرعي.
وقد ذكر المحقّق النائيني(رحمه الله): إنّ الآثار المتسلسلة إن كانت من سنخ واحد، أي: كلّها تكوينية، أو كلّها تشريعية، فالأثر المتأخّر يُعدّ أثراً للشيء وإن كان مع الواسطة. وأمّا إذا لم تكن من سنخ واحد كما لو ترتّب أثر شرعي على أثر تكويني للشيء، فذاك الأثر المتأخّر لا يكون أثراً لذلك الشيء(1).
وهذا الكلام لا نفهم له وجهاً ومحصّلاً إن لم يرجع إلى ما سوف نذكره في آخر البحث، ونختاره، وهو لا يرجع إليه.
والذي ينسجم مع تصوّرات المحقّق الخراساني (رحمه الله) وكأنّه المقصود من عبارته في الكفاية(2) أن يقال: إنّ تنزيل الحياة المشكوكة لزيد مثلاً منزلة الحياة الواقعية عبارة عن ترتيب آثار الحياة الواقعية على الحياة المشكوكة، وفي الحقيقة لا تُرتَّب آثار الحياة الواقعية على الحياة المشكوكة، وإنّما يرتّب عليها أثر آخر كانّه هو أثر الحياة الواقعية، وهذا بدوره يستبطن تنزيلاً آخر، وهو تنزيل الأثر الظاهري منزلة الأثر الواقعي ؛ لأنّ حمله على مجرّد تشبيه الأثر الظاهري بالأثر الواقعي دون تنزيله المولوي منزلته في الآثار خلاف ظهور الكلام في المولوية، وكونه تشبيهاً صدر من المولى بما هو مولىً، وهذا التنزيل الثاني يرتّب
(1) راجع فوائد الاُصول ج4 ص489 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم المشتملة على تعليقات الشيخ العراقي (رحمه الله) وأجود التقريرات ج2 ص417.
(2) لم أر في الكفاية عبارة تشير إلى ذلك ولعل استاذنا الشهيد (رحمه الله) يقصد نفس تصريح الآخوند بدلالة دليل الاستصحاب على ترتيب آثار المنزّل عليه بلا واسطة دون الآثار المترتبة على ذلك بواسطة أثر تكويني حيث لا شك أنه لو فرضنا أن أثر المستصحب ينقسم عنده إلى هذين القسمين وليس له قسم ثالث وهو الأثر المترتب شرعاً على أثر المستصحب فالمفروض أن يكون قد أدخل هذا القسم في القسم الأول وهو الأثر بلا واسطة وهذا يكون توجيهه ببيان أن الأثر الأول بنفسه أصبح أيضاً منزّلاً عليه بلحاظ أثره الشرعي وعلى أي حال فقد وجدتُ هذا المعنى في كلّمات المحقق العراقي (رحمه الله) بعد فرض ارجاع التنزيل الاستصحابي إلى جعل الأثر أو المماثل راجع نهاية الافكار القسم الأول من الجزء الرابع بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وراجع المقالات ج2 ص409 بحسب طبعة مجمع الفكر الاسلامي.
على الأثر الظاهري الأثر الثابت للأثر الواقعي بلا واسطة، وهكذا يتسلسل الكلام إلى الأثر الأخير، ففي الحقيقة يكون التنزيل هنا منحلاًّ الى تنزيلات عديدة يكون المرتّب في كلّ واحد منها هو الأثر الثابت بلا واسطة.
هذا ما يستفاد من كلام صاحب الكفاية مع تعميقه، ولعله أحسن ما اُفيد في المقام.
إلاّ أنّه يرد عليه:
أوّلاً: أنّ ما فرض من عدم إمكان شمول التنزيل للأثر التكويني إنّما يتمّ في التنزيل الواقعي الذي يرتّب على المنزّل عليه حقيقةً ما هو من سنخ أثر المنزّل، من دون أيّ فرق بينهما، فهذا مختصّ بالآثار الشرعيّة بلا إشكال، لأنّها التي يكون أمر توسيعها بيد الشارع بما هو شارع دون الآثار التكوينية، وليس مقصود صاحب الكفاية في المقام دعوى التنزيل الواقعي، وإلاّ لكان الاستصحاب حكماً واقعياً، ولما احتجنا في توضيح ترتّب الآثار الشرعية المتسلسلة إلى تحليل التنزيل إلى تنزيلات عديدة.
وأمّا التنزيل الظاهري والذي هو المقصود في المقام، فشموله للأثر التكويني بمكان من الإمكان ؛ لأنّه ليس إثباتاً لذاك الأثر حقيقةً كي يقال: إنّه أمرٌ تكويني لا يثبت بالتشريع، وإنّما هو إثبات لما فرض ادّعاءً، وبتنزيل آخر أنّه ذاك الأثر رغم الفرق بينهما بكون أحدهما واقعياً والآخر ظاهرياً، أو كون أحدهما تكوينياً والآخر اعتبارياً وجعليّاً. إذن فالحلقة التكوينية من الآثار المتسلسلة لا مبرّر لسقوطها من الحساب كي يؤدّي ذلك إلى سقوط الحلقات الشرعية المترتبة على تلك الحلقة التكوينية.
إلاّ أن يُفترض اقتصار التنزيل على موارد المماثلة التامّة بين أثر الواقع وأثر المشكوك من غير ناحية كون الأوّل واقعياً والثاني ظاهرياً، فيقال: إنّ هذا في الأثر التكويني غير ممكن ؛ لأنّ الأثر الذي يثبت بالاستصحاب ليس تكوينياً، بل هو اعتباري وجعليّ، فانتفت المماثلة.
ولكنّك ترى أنّ هذا الافتراض قيد إضافي منفيّ بالإطلاق ما دمنا اعترفنا بأنّ ادّعاء كون هذا الأثر كذاك الأثر، أو تنزيله منزلته يجبر وجود مثل هذا الفرق.
ولو أصررنا على ضرورة المماثلة التامّة بين الأثرين من غير ناحية كون أحدهما واقعياً والآخر ظاهرياً، لورد النقض بما إذا كان أحد الآثار خارجاً عن محل الابتلاء، وكان يترتّب عليه أثر داخل في محل الابتلاء، فذاك الأثر الخارج عن محل الابتلاء ليس ثبوته فعلاً حكماً وإلزاماً وتحريكاً، في حين أنّ واقع ذاك الأثر جعل لحالة الدخول في محلّ الابتلاء بوصفه
إلزاماً وتحريكاً لمن يتوجّه إليه، ومثاله: ما لو استصحبنا حياة زيد، وكان أثرها وجوب الصلاة في يوم الجمعة الماضي، وكان الأثر المترتّب على هذا الأثروجوب الصلاة في اليوم الحاضر، فهنا يرتّبون وجوب الصلاة في اليوم الحاضر على استصحاب الحياة مع أنّ لازم الكلام في المقام عدم ترتيبه، وكذلك ما لو فرضنا أنّ عمراً يستصحب حياة زيد، وأثرها الشرعيوجوب الصلاة على بكر، والأثر المترتّب على هذا الأثر هو وجوب الصلاة على عمرو، فالأثر الأوّل لا يثبت بالنسبة للمستصحب وهو عمرو؛ لأنّه ليس حكماً له، كما لا يثبت لبكر ؛ لأنّه ليس هو صاحب اليقين السابق والشكّ اللاحق، لكن الأثر الثاني يثبت في المقام.
والخلاصة: أنّ كون حلقة من حلقات سلسلة الآثار تكوينية لا يوجب بطلان تنزيل المشكوك منزلة ذي الأثر بلحاظ هذا الأثر التكويني ما دام التنزيل ليس حقيقياً، بل هو ظاهريّ، ويتقوّم حسب الفرض بتنزيل ثان، وهو تنزيل الأثر الظاهري التشريعي منزلة الأثر التكويني استطراقاً إلى ترتيب الأثر الشرعي المترتّب على الحلقة التكوينية.
ودعوى انصراف التنزيل إلى الأثر المباشر لا يضرّ في المقام، كما لم يضرّ حسب الفرض في سلسلة الآثار التي كانت كلّها شرعية ؛ لأنّ المفروض انحلال التنزيل إلى تنزيلات عديدة يترتّب في كلّ واحد منها الأثر المباشر.
إلاّ أن تضمّ إلى ذاك الانصراف المدّعى دعوى انصراف آخر من دون بيان نكتة له، وهو الانصراف إلى الأثر الشرعي دون التكويني، فيقال: إنّ الحلقة التكوينية تسقط بالانصراف الثاني، فتسقط الحلقات المتأخّرة عنها بالانصراف الأوّل، فيتمّ التفصيل المطلوب في المقام.
وثانياً: أنّ فرض لسان دليل الاستصحاب هو التنزيل وجعل الحكم المماثل بلا موجب، سواءً فرضنا مفاد (لا) في الحديث هو النفي، أو فرضناه هو النهي، بان تكون (لا) ناهية، أو نافية اُريد بها النهي.
فلو فرضنا مفادها هو النفي فالمقصود هو نفي الانتقاض الخارجي لليقين، لا النقض العملي، ونفي الانتقاض الخارجي لليقين عبارة اُخرى عن التعبّد ببقاء اليقين وجعل الطريقية ولو بلحاظ مرتبة الجري العملي، كما يقوله المحقّق النائيني (رحمه الله)، ولا وجه لإرجاع الكلام إلى جانب المتيقّن، وحمله على تنزيل المشكوك منزلة المتيّقن.
ولو فرضنا أنّ مفاد الحديث هو النهي كما هو ظاهر في عبارة (لا ينبغي لك أن تنقض