171

الحاكم على أصالة الحلّ، أو البيّنة الحاكمة عليها، فنعلم تفصيلاً بعدم جريان أصالة الحلّ.

وأمـّا على الثاني، فلأنّ دليل الاستصحاب ليس مجملاً، لما قلنا من انّ الأصلين ليس كلّ منهما في نفسه حجّة، بل أحدهما حجّة والآخر غير حجة، فبناءً على أنّ استصحاب الطهارة مقدّم على أصالة الحلّ نعلم ـ أيضاً ـ تفصيلاً بعدم جريان أصالة الحلّ، إمـّا للاستصحاب، أو للبيّنة، وبناءً على عدم تقدّمه عليه، تكون أصالة الحلّ حالها حال استصحاب الطهارة في هذا الطرف في الدخول في دائرة اشتباه الحجّة باللاحجّة، فإنـّه نعلم إجمالاً بأنـّه إمّا أن لا يكون الاستصحاب في ذاك الطرف حجّة؛ لقيام البينة على الخلاف، أو لا يكون الاستصحاب ولا أصالة الحلّ في هذا الطرف حجّة؛ لقيام البيّنة على الخلاف.

 

قيام الحجّة في طول العلم الإجماليّ:

وأمـّا الكلام في القسم الثاني: وهو ما لو كانت الحجّة في طول العلم الإجماليّ لا العكس، كما لو شهدت البيّنة بنفسها على نجاسة أحد الإناءين بنحو الترديد، فيقع في مقامين:

أحدهما: في أنّ مثل هذه البيّنة هل تكون حجّة في نفسها، أو لا؟ وهل تكون حجّيّتها بحيث تقتضي الموافقة القطعيّة، وتدفع البراءة العقلية في الأطراف، أو لا؟

وثانيهما: في أنـّه بعد الفراغ عن حجّيّتها في نفسها، هل تقدّم على الاُصول الشرعيّة في الأطراف ـ كما تقدّم على الأصل في موردها فيما لو شهدت البيّنة على نجاسة شيء معين، حيث لا إشكال في تقدمها على أصالة طهارته ـ أو لا؟

أمـّا المقام الأوّل: فلا إشكال في حجّيّة البيّنة في المقام على مبنانا في كيفيّة فهم الحكم الظاهريّ من أنـّه مهما كان لونه ولسانه من حكم تكليفيّ أو جعل التنجيز، أو الطريقية أو غير ذلك، فواقعه هو إبراز الاهتمام بالواقع على تقدير ثبوته في حال الشكّ، كاهتمامه به في حال العلم، فعلى هذا المبنى كما نقول في البيّنة القائمة على نجاسة شيء معيّن: بأنّ دليل حجّيّتها يدلّ على أنـّه وإن كان يوجد احتمال مخالفة البيّنة للواقع، لكن يهتمّ المولى بالواقع على تقدير مصادفتها حتى في ظرف وجود هذا الاحتمال، كما لو لم يوجد هذا الاحتمال، وكان يعلم تفصيلاً بنجاسة هذا

172

الشيء، كذلك نقول في البينة القائمة على نجاسة أحد الفردين: بأنّ دليل حجّيّتها يدلّ على أنـّه وإن كان يوجد احتمال مخالفتها للواقع، لكن يهتمّ المولى بالواقع على تقدير المصادفة، حتى مع وجود هذا الاحتمال، كما لو لم يكن موجوداً، وكان يعلم إجمالاً بنجاسة أحد الشيئين، وعليه، فكما أنـّه لو كان يعلم بنجاسة أحدهما كان ذلك موجباً لوجوب الموافقة القطعيّة، كذلك الأمر في فرض قيام البيّنة على أحدهما؛ إذ العلم باهتمام المولى بغرضه المردّد ـ حتى مع الشكّ في أصل الغرض، كما لو لم يكن شكّ فيه ـ يحتّم بحكم العقل على العبد الموافقة القطعيّة. كما كان يحتّم عليه ذلك العلم بنفس الغرض المردّد، وهذا واضح على مبانينا.

ولكن جملة من مباني مدارس الأصحاب الآخذة في حقيقة الحكم الظاهريّ ببعض ألسنة بيان الحكم الظاهريّ تواجه المشكلة في هذا المقام، ونذكر على سبيل المثال جملة منها:

فمنها ـ ما يظهر من كلام المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) في بحث الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ (1) من أنّ الحكم الظاهريّ عبارة عن التنجيز والتعذير، فعلى هذا المبنى يشكل الأمر في المقام، فإنّ دليل حجّيّة البيّنة إن قيل بأنـّه ينجّز هذا الطرف بالخصوص، أو ذاك الطرف بالخصوص، فهو ترجيح بلا مرجّح، ونسبة البيّنة إليهما على حدّ سواء، والدليل إنـّما دلّ على تنجيز مفاد البيّنة، وليس مفاد البيّنة هذا بالخصوص، أو ذاك بالخصوص، بل نفرض أنّ البيّنة بنفسها لا تعلم أنّ هذا بالخصوص نجس أو ذاك، والفرد المردّد ليس شيئاً حتى ينجّز بالبيّنة، وإن قيل بأنّه ينجّز الجامع، اتّجه التخيير، ولا وجه لوجوب الموافقة القطعيّة، بل يجوز شرب أحدهما، بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) التي يُؤمن بها المحقق الخراساني (قدس سره)، ولا يقاس ذلك بما يقوله (رحمه الله) من منجّزيّة العلم الإجماليّ للواقع إن قيل بأنّ العلم متعلّق بالجامع، ومع ذلك ينجّز الواقع، فإنّ منجّزيّة العلم حيث كانت بحكم العقل أمكن أنْ يُدّعى ـ كما هو الصحيح ـ: أنّ العلم الإجمالي بالرغم من تعلّقه بالجامع يحكم العقل بمنجّزيّته للواقع، أمـّا في المقام فهل نُسري التنجيز من الجامع إلى الواقع بحكم العقل، أو بحكم الشرع؟ فإن قيل بالأوّل، فهو خلف فرض أنّ أصل التنجيز هنا شرعيّ، وإن قيل بالثاني، يرد عليه: أنّ دليل حجّيّة البيّنة، إنـّما يدلّ على تنجيز مفاد


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 44 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

173

البيّنة لا أكثر، والبيّنة إنـّما شهدت بمقدار الجامع.

ومنها ـ ما ذهب إليه المحقّق العراقيّ (رحمه الله) من جعل الطريقيّة (1) على فرق دقيق بين طريقيّته وطريقيّة المحقق النائيني (رحمه الله) مضى ذكره في بحث الجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، وهو (قدس سره) يقول بأنّ العلم الإجمالي إنـّما ينجّز الواقع؛ لأنـّه يتعلّق بالواقع.

وعليه، نقول في المقام: إنّ هذه البيّنة هل تنجّز هذا الطرف بعنوانه، أو ذاك الطرف بعنوانه، أو الواقع، أو الجامع؟ فالأوّل والثاني ترجيح بلا مرجّح، وتنجيز لغير مفاد البيّنة، والثالث لا يتمّ فيما إذا احتمل كذب البيّنة، لا مجرّد خطئها واشتبهاها؛ لأنّ نسبة البيّنة إلى الواقع ـ لو كان هناك واقع ـ وغيره على حدّ سواء، وليس الحال في ذلك هو الحال في العلم الإجماليّ الذي فرض المحقّق العراقيّ أنـّه ينجّز الواقع؛ لتعلقه بالواقع(2)، فيتعّين الرابع، ويلزم جواز الاكتفاء بترك أحدهما تخييراً، وعدم وجوب الموافقة القطعيّة.

نعم، على مبنى المحقّق النائينيّ (قدس سره) منّ أن العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع، ومع ذلك ينجّز كلا الطرفين (3) ببيان مضى في محلّه، لا يرد هذا الإشكال، فإنّه قد


(1) لا يخفى أنّ المحقّق العراقيّ (رحمه الله) يقول بالطريقيّة في باب الأحكام الظاهرية بمعنيين:

الأوّل ـ ما يقوله في خصوص الأمارات من جعل العلم وتتميم الكشف، إلّا أنـّه لا يرى هذاإلّامجرّدصيغة من الصيغ، لا يختلف روح الحكم الظاهريّ به، عن روحه من موارد الاُصول العمليّة.

والثاني ـ ما يراه عبارة عن روح الحكم الظاهريّ، وهو كونه إنشاءً حاكياً عن لبّ الإرادة القائمة بالمتعلّق وإبرازاً لها، وتكون دائرة إنشائها أوسع من دائرة لبّ الإرادة الواقعيّة، فإنـّها تختصّ بالواقع، في حين أنّ الحكم الظاهريّ قد يخطىء الواقع.

راجع المقالات: ج 2، ص 6 و 19. ونهاية الافكار: القسم الأوّل من الجزء الثالث، ص18 ـ 20 والقسم الثاني من الجزء الثالث، ص 327.

(2) نعم على الوجه الثاني من وجهي قوله (رحمه الله) بوجوب الموافقة القطعيّة، حسب ما ورد في نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 300 و 309، يمكن حلّ الإشكال في المقام، حيثُ ادّعى (قدس سره) في هذا الوجه: أنّ العلم الإجماليّ حتى لو فرض تعلّقه بالجامع، لابُدّ من موافقته القطعيّة؛ لأنـّه ينظر إلى الجامع مفروغاً عن انطباقه وتحصّصه، وهذا ـ كما ترى ـ لو تمّ يأتي في المقام أيضاً، فإنّ البيّنة تشهد بالجامع مفروغاً عن انطباقه وتحصّصه ولو شهادة كاذبة.

(3) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 345.

174

ثبت في المقام العلم بالجامع تعبّداً، وذلك ينجّز كلا الطرفين بنفس البيان الذي اختاره هناك.

ومنها ـ المذهب التقليديّ الموروث عن الشيخ الأعظم (قدس سره) من أنّ الحكم الظاهريّ عبارة عن جعل حكم مماثل للمؤدّى، على شرط احتمال مطابقته للواقع، وعليه ـ أيضاً ـ يشكل الأمر في المقام؛ إذ لو فرض جعل الحكم في هذا الطرف بالخصوص، أو ذاك الطرف بالخصوص، لم يكن ذلك مماثلاً للمؤدّى، ولو فرض جعل الحكم بالجامع لم تجب الموافقة القطعيّة، مضافاً إلى أنّ هذا خلف فرض اشتراط احتمال المطابقة للواقع لأنـّا نعلم أنّ الواقع إمـّا هذا بالخصوص، أو ذاك بالخصوص(1)، ومن هنا كان الإشكال على هذا المذهب أشدّ منه على ما مضى.

ثم لو فرضنا عدم احتمال كذب البيّنة، وإنّ احتمال الخلاف كان منحصراً في احتمال الخطأ و الاشتباه، وسلّم ـ أيضاً ـ أنّ العلم الإجماليّ يتعلّق بالواقع لا بالجامع، فعندئذ يمكن رفع الإشكال على مبنى المحقّق العراقيّ (رحمه الله) بأن يقال: إنّ الشارع جعل لنا العلم بما تعلم به البيّنة، والمفروض تعلّق علمها بالواقع، وأنّ علم البيّنة ينجّز عليها وجوب الموافقة القطعيّة، فإذا جُعِلَ لنا علم كعلمها نجّز ذلك علينا وجوب الموافقة القطعيّة.

ولكن لا يمكن رفع الإشكال بذلك على مبنى جعل المنجّزيّة والمعذّريّة، بأن يقال: إنّ الشارع جعل المنجّزية للواقع، فإنـّنا نحتمل خطأ البيّنة، وعلى تقدير الخطأ لا يوجد واقع ينجّز، كما لا يوجد مفاد للبيّنة يقتضي تنجيزه الموافقة القطعيّة، وهذا بخلاف فرض قيام البيّنة على نجاسة شيء معيّن، فإنّ الشارع قد جعل هناك مفاد البيّنة منجّزاً، وتنجيز ذاك المفاد يوجب الموافقة القطعيّة ولو فرضت بيّنة خاطئة.

كما لا يمكن أيضاً رفع الإشكال بذلك على مبنى الشيخ الأعظم من جعل الحكم المماثل، بأنْ يقال: إنّ الشارع حكم بالواقع حكماً مماثلاً لمفاد البيّنة، فإنـّنا لو علمنا بعدم خطأ البينة، فقد علمنا وجداناً بنجاسة أحد الإناءين، ولا حاجة إلى حجّيّة البيّنة، ولو احتملنا خطأها، فما معنى حكم الشارع بالواقع؟!

وعلى أيـّة حال، فهذا إشكال تواجهه هذه المدارس؛ لانشغالها بالألفاظ عن


(1) قد يقال: نكتفي في احتمال المطابقة للواقع بالمقدار الموجود في المقام، فإنّ مؤدّى البيّنة على تقدير صدقها وعدم خطئها مطابق للواقع بمقدار الجامع؛ لأنّ الجامع موجود ضمن الفرد.

175

الواقع، وأخذها في حقيقة الحكم الظاهري ببعض ألسنة بيانه(1)، والصحيح هو ما


(1) الواقع: أنّ سقوط البراءات العقليّة في الأطراف، ووجوب الموافقة القطعيّة وعدمه لدى قيام بيّنة على الجامع بين الحكمين، يرتبط بما هو المبنى في حقيقة العلم الإجماليّ، ومدى تنجيزه أكثر ممّا هو مرتبط بفهم حقيقة الحكم الظاهري.

وتوضيح المقصود: أنـّنا بعد فرض الإيمان بأصل قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) تارةً نبني في باب العلم الإجمالي على أنـّه متعلّق بالواقع، ومن ثمّ ينجّز الواقع، فتجب الموافقة القطعيّة، واُخرى نبني على أنـّه رغم تعلّقه بالجامع تجب موافقته القطعيّة؛ لأنّ الجامع منظور إليه بما هو مفروغ عن انطباقه وتحصّصه، وثالثة نبني على أنـّه تجب الموافقة القطعيّة؛ لتعارض البراءات العقلية وتساقطها في الأطراف ولو فرض تعلّق العلم بالجامع، ورابعة نبني على أنّ العلم الإجمالي رغم تعلقّه بالجامع يقتضي تنجيز الواقع، أي: أنّ تنجيزه أوسع بما تعلّق به؛ لأنـّنا لا نؤمن بحرفيّة قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) ونرى أنّ العلم بالجامع يكفي لانتفاء موضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) بناءً على الإيمان بأصل هذه القاعدة، وهذا المبنى الرابع هو مختار اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) فيما مضى، وخامسة نبني على أنّ العلم الإجمالي لا تجب موافقته القطعيّة؛ لأنـّه لم ينجّز أكثر من مقدار الجامع.

فعلى الأخير لا مورد للبحث هنا، إذ حتى على تقدير العلم الإجماليّ الوجدانيّ بالحكم الواقعي لا تجب موافقته القطعيّة، فضلاً عن فرض قيام البيّنة على الجامع، وإنـّما يقع الكلام في المقام على المباني الاُخرى.

فعلى المبنى الأوّل نقول في المقام: إنّ البيّنة إمـّا نقطع بعدم كذبها وإن احتملنا خطأها، أو نحتمل كذبها، فإن قطعنا بعدم كذبها إذن هي تعلم علماً إجماليّاً بأحد الحكمين، وعلمها متعلّق بالواقع حسب الفرض، أي: أنّ المعلوم بالفرض لها هو مقدار الواقع لا مقدار الجامع، والبيّنة ـ طبعاً ـ تشهد بما تعلم، إذن فبأيّ قدرة قادر نفذ علمها إلى مقدار الواقع نفذت شهادتها ـ أيضاً ـ إليه، فتجب موافقتها القطعيّة، كما وجبت الموافقة القطعيّة للعلم الإجماليّ بالواقع، وإنْ شئت فقل: إنّ علم البيّنة حُجّة لنا، وهو متعلّق بالواقع، فقد تنجّز الواقع علينا، ووجب موافقته القطعيّة، وأمـّا إنْ احتملنا كذبها وعدم علمها بالواقع، قلنا: إنّ البيّنة هي تشهد بأنـّها عالمة، وهذه الشهادة حُجّة لنا، اي: أنـّنا نعمل كما كنّا نعمل لو كانت عالمة، ومن المعلوم انّ علمها لو كان فهو نافذ إلى مقدار الواقع حسب الفرض، فقد تنجّز علينا الواقع، وإن شئت فعبّر بأنّ الشهادة بالعلم بالواقع دعوى للشهادة بالواقع، وهذه الدعوى حجّة لنا.

وعلى المبنى الثاني أيضاً تكون البيّنة موجبة لتنجيز الموافقة القطعيّة؛ لأنّ البيّنة وإن تعلّقت بالجامع فنجّزت الجامع، لكنّها قد تعلّقت به بما هو منظور إليه مفروغاً عن انطباقه وتحصّصه، فتنجّزت كذلك، فوجبت الموافقة القطعيّة.

176

اخترناه. وعلى مبانينا لا يرد أيّ إشكال في المقام.

ثم إنـّه يمكن الجواب عن هذا الإشكال حتى بناءً على هذه المدارس، وذلك بأنْ يقال: إنّ المدلول المطابقيّ للبيّنة، وهو شهادتها بالعلم بنجاسة أحد الإناءين وإن لم تتمّ حجيّته بالنحو المقصود، لكنْ توجد لذلك مداليل التزامية، وهي دلالتها على العلم بقضايا شرطيّة بعدد الأطراف، فلو كان عدد الأطراف اثنين مثلاً، فشهادة البيّنة تدلّ بالملازمة على أنّها تعلم بأنّه إنْ كان هذا الإناء طاهراً فذاك نجس، وبأنـّه إنْ كان ذاك طاهراً فهذا نجس، فيشمل إطلاق دليل حجّيّة البيّنة هذه الدلالات الالتزامية من دون إشكال، وذلك ينتج لنا العلم بأنّ أحد الإناءين نجس حتماً، إمـّا واقعاً أو ظاهراً؛ إذ لا يخلو الحال من أنـّه يوجد في البين طاهر في الواقع أو لا، فعلى الثاني يكون كلا الإناءين نجساً واقعاً، وعلى الأوّل يوجد في البين نجس أيضاً بحكم الدلالتين الالتزاميّتين.

 


وعلى المبنى الثالث ـ أيضاً ـ تجب الموافقة القطعيّة؛ لتعارض البراءات العقلية، لتنجّز مقدار الجامع بالبيّنة.

نعم، على المبنى الرابع، وهو أنّ العلم الإجمالي رغم تعلّقه بالجامع ينجّز أكثر ممّا تعلّق به، فهو منجّز للواقع رغم عدم كشفه للواقع بحدوده؛ وذلك لعدم إيماننا بحرفيّة قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) واعتقادنا بكفاية العلم بالجامع؛ لانعدام موضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) يمكن القول باختلاف النتيجة حسب اختلاف المباني في حقيقة الحكم الظاهري.

فعلى مبنى اُستاذنا الشهيد من عدم الوقوف على ألسنة الحكم الظاهري، والنفوذ إلى عمقه، وهو اهتمام المولى بغرضه على تقدير وجوده، بقدر الاهتمام على تقدير العلم تجب الموافقة القطعيّة، فإنـّه على تقدير العلم الوجداني بالحكم كانت الموافقة القطعيّة واجبة، حسب الفرض.

في حين أنـّه على مبنى كون حقيقة الحكم الظاهري عبارة عن التنجيز والتعذير قد يقال: إنّ التنجيز يقف على مقدار لسان الأمارة، ولسان الأمارة في المقام إنـّما هو الشهادة بالجامع، وكذلك على مبنى جعل الحكم المماثل قد يقال: إنّ الحكم المماثل جعل بمقدار لسان الأمارة، ولسانها في المقام هو الشهادة بالجامع.

نعم، على مبنى المحقّق النائينيّ (رحمه الله) من جعل العلم قد يقال: إنّ جعل العلم بالجامع يؤدّي عقلاً إلى تنجيز الواقع، كما فرضناه في العلم الوجدانيّ.

أمـّا لو فرضنا جعل العلم مجرّد صيغة ولسان، وقلنا: إنّ الحكم الظاهريّ تكون طريقيّته التي هي روحه بمعنى حكايته للإرادة المتعلّقة بالواقع، فقد يقال: إنّ الحكاية هنا اقتصرت على مقدار الجامع حسب الفرض، فلا مبرّر لوجوب الموافقة القطعيّة.

177

لكنّ التحقيق: أنّ هذا الجواب لا يتمّ دائماً؛ لأنّ ما كان يقول به المحقّقون من الاُصوليّين إلى يومنا هذا من أنّ العلم الإجماليّ يستلزم دائماً علوماً بقضايا شرطيّة بعدد الأطراف، تاليها ثبوت طرف من هذه الأطراف ومقدّمها انتفاء باقي الأطراف غير صحيح؛ لأنّ العلم الإجمالي قد ينتج عن برهان أو ما بحكم البرهان (1)، فيتمّ فيه ما ذكر، وقد ينتج عن حساب الاحتمالات في الأطراف، كما لو علمنا بنجاسة إناء من أواني هذا المسيحي نتيجة لتراكم احتمالات المساورة الثابتة في تلك الأواني، وفي مثل ذلك لا يستلزم العلم الإجمالي تلك العلوم؛ لأنـّه على تقدير انتفاء باقي الأطراف لا يوجد لنا احتمالات نضمّ بعضها إلى بعض، حتى تولّد علماً في المقام، فليس لنا علم على هذا التقدير، ففي مثل ذلك لا يتمّ هذا الجواب مع أنـّهم يلتزمون بوجوب الاجتناب ولو فرض كون منشأ العلم للبيّنة هو حساب الاحتمالات.

وامـّا المقام الثاني: فيوجد هنا إشكال في تقديم إطلاق دليل حجّيّة البينة، بعد الفراغ عن صحّتها في نفسها في المقام الأوّل على إطلاق دليل الأصل؛ وذلك لأنـّه لا يمكن قياس ذلك بفرض قيام البيّنة على نجاسة شيء معيّن، فإنـّه هناك قد عبّدنا الشارع بنجاسة هذا الإناء، وفرض أنّ الأصل إنـّما يجري مع عدم العلم بالنجاسة واقعاً أو تعبّداً، فدليل البيّنة ناف لموضوع دليل الأصل بالحكومة أو الورود، وأمـّا فيما نحن فيه ففي كلّ واحد من الإناءين يكون موضوع دليل الأصل تاماً؛ لعدم العلم بنجاسته واقعاً ولا تعبّداً، غاية الأمر أنـّنا نعلم بجامع النجاسة تعبّداً، أو بالقضيّتين الشرطيّتين بالنحو الذي عرفت، فتقع المعارضة بين دليل حجّية البيّنة ودليل الأصل، ولا يقاس ما نحن فيه بالعلم الوجدانيّ بنجاسة أحد الإناءين، فإنّ العلم الوجدانيّ كان منجِّزاً عقلاً أو عقلائيّاً، فدليل الأصل لو أراد إبطال هذه المنجّزيّة، فهو خلف ما يفرض من عدم تعليقيّة منجّزيّة العلم الإجمالي عقلاً، أو القرينية المتّصلة للارتكاز العقلائيّ في المقام، ولو أراد رفع النجاسة واقعاً، فهو خلف عدم التصويب، ولو أراد رفع العلم، فهو خلف مفروض المسألة، وأمّا في المقام فمنجّزيّة البيّنة إنـّما ثبتت بإطلاق دليل شرعي، فيقع التعارض بين هذا الاطلاق


(1) كأنّ مقصوده (رحمه الله) بما بحكم البرهان حساب الاحتمالات في مرحلة اُخرى غير احتمالات نفس الأطراف، كما لو شهد من نقطع بصدقه، وعدم خطأه بحساب الاحتمالات بأنـّه رأى بعينه نجاسة أحد الإناءين.

178

وإطلاق دليل الأصل، وهذه المشكلة أثارها في المقام المحقّق العراقيّ (قدس سره) (1) .

وأجاب (رحمه الله) عنها بأنـّه يوجد لدينا في المقام سنخان من الشكّ والاحتمال:

(الأوّل) أنـّه في كلّ واحد من الإناءين نحتمل طهارته مطلقاً، أي: حتى على تقدير طهارة الآخر، وإجراء أصالة الطهارة بهذا اللحاظ؛ ليثبت طهارة هذا الإناء، ولو على تقدير طهارة الآخر، محكوم للبيّنة الدالّة على أنـّه ليس هذا الإناء طاهراً على كلّ تقدير، أي: حتى على تقدير طهارة الآخر على حدّ محكوميّة أصالة الطهارة في مورد للبيّنة الدالّة على النجاسة في نفس ذلك المورد تفصيلاً.

(الثاني) احتمال الطهارة في كلّ واحد من الإناءين بدلاً عن الآخر، وعلى غير تقدير طهارة الآخر، وقد كان الثابت عندنا بقطع النظر عن البيّنة الاحتمال الأوّل، أعني: احتمال الطهارة على كلّ تقدير، وإنـّما تبدّل هذا الاحتمال بالاحتمال الثاني بواسطة حكم البيّنة ببطلان الاحتمال الأوّل، وإثباته ظاهراً؛ لعدم ثبوت الطهارة على كلّ تقدير، وإذا أردنا إجراء أصالة الطهارة بلحاظ هذا الاحتمال، فالأصلان في الطرفين يتعارضان ويتساقطان، ويكون إطلاق دليل حجّيّة البيّنة في منجى عن دائرة المعارضة؛ لأنّ موضوع الأصل الذي هو هذا الاحتمال الثاني قد تولّد في طول حجّيّة البيّنة، فلا يعقل تعارض الأصلين مع حجّيّة البيّنة.

أقول: إنّ هذا الكلام غير صحيح، فإنـّه لم يتبدّل بحجّيّة البيّنة احتمال إلى احتمال آخر، وإنـّما واقع المطلب هو أنـّه كان لنا احتمالان: أحدهما: احتمال طهارة هذا الإناء بالفعل، وكذلك احتمال طهارة ذاك الإناء بالفعل. والآخر: احتمال طهارة هذا الإناء على تقدير طهارة ذاك الإناء، وكذلك العكس، ولنفرض أنّ هذا الاحتمال الثاني تبدّل إلى العلم بنجاسة هذا الإناء على تقدير طهارة ذاك الإناء وبالعكس، لكنّ الاحتمال الأوّل باق على حاله، ويجري الأصل بلحاظه في عرض حجّيّة البيّنة، فيتعارضان، فرجع الإشكال على حاله.

والتحقيق في المقام: أنّ هذا الإشكال ـ أيضاً ـ إنـّما يتأتّى بناءً على مباني الأصحاب، حيث يقولون بتقديم البيّنة والأمارات على الأصل بالحكومة أو الورود، فيقال عندئذ: إنـّه لا حكومة فيما نحن فيه ولا ورود؛ لانحفاظ موضوع الأصل في كل واحد من الطرفين بخصوصه، ولا مورد لهذا الإشكال بناءً على مبنانا الذي سوف


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 326 ـ 328.

179

ننقّحه ـ إن شاء الله ـ في بحث تعارض الأمارات والاُصول في آخر الاستصحاب، وهو أنّ تقدّم الأمارات على الاُصول يكون من باب كون دليل حجّيّة الأمارة أخصّ، أو ما بحكم الأخصّ بالنسبة لدليل الأصل، فعلى هذا المبنى نقول فيما نحن فيه: إنّ إطلاق دليل حجّيّة البيّنة مقدّم على إطلاق دليل الأصل تقدُّم إطلاق الأخص، أو ما بحكم الأخص على إطلاق الاعمّ، فيقع التعارض لا محالة بين الأصلين؛ إذ تقدّمت البيّنة على مجموعهما، فلابدّ من سقوط واحد منهما، ولا مرجح لأحدهما على الآخر.

وقد يمكن الجواب عن الإشكال بناءً على مباني القوم أيضاً، بأنْ يقال: إنّ مجموع الأصلين مقيّد عقلاً أو عقلائيّاً بعدم العلم بالحكم، وقد علمنا بالحكم ببركة البيّنة، فهذا حاكم على مجموع الأصلين، فيقع التعارض ـ عندئذ ـ بين الأصلين.

إلّا أنّ هذا الجواب حسب مباني القوم لا يتمّ؛ إذ لو كان المراد بالعلم بالحكم العلم الوجدانيّ بالحكم الظاهريّ، فالأصلان ليسا نافيين لهذا الحكم الظاهريّ، حتى تكون نسبتهما إلى هذا العلم نسبة الاُصول النافية للواقع إلى العلم الإجماليّ بالواقع، بل هما في عرض هذا الحكم الظاهريّ، فيقع التعارض بين الجميع، ولو كان المراد بذلك العلم التعبّديّ بالحكم الواقعيّ، فيدّعى أنّ المجعول في دليل حجّيّة البيّنة هو العلم، فيكون حاكماً على مجموع الأصلين على حدّ حكومة البيّنة القائمة على مورد خاصّ على الأصل في مورده، ورد عليه: أنّ الأصل في مورد البيّنة القائمة على مورد خاصّ مقيدٌ في نفس لسان دليله بعدم العلم، فيقال بحكومة دليل البيّنة عليه. وأمـّا فيما نحن فيه فليس مجموع الأصلين في نفس لسان الدليل مقيّداً بعدم العلم بالخلاف، وإنـّما يكون مقيّداً بذلك بالارتكاز العقليّ أو العقلائيّ، وهم يفصّلون في الحكومة بين كون قيد عدم العلم لفظيّاً في لسان الدليل أو لبّيّاً، فيقولون بأنّ الحكومة تثبت في الأوّل دون الثاني، وبهذا دفعوا شبهة أنـّه لماذا تكون الأمارة حاكمة على الاستصحاب دون العكس، مع أنّ حجّيّة الأمارة أيضاً مقيّدة بعدم العلم بالخلاف، حيث يقال في مقام الجواب عن ذلك: إنّ الاستصحاب كان مقيداً بعدم اليقين في نفس لسان دليله، لكنّ حجّيّة الأمارة ليست مقيدة في نفس لسان دليلها، وإنـّما هي مقيدة بذلك لبّاً.

 

180

 

 

 

العلم الإجماليّ في التدريجيّات

 

التنبيه الثامن: في العلم الإجمالي في التدريجيّات.

لو علم إجمالاً بأحد حكمين، أحدهما: بلحاظ الزمان الحاضر، والآخر: بلحاظ الزمان المستقبل، من قبيل علم المرأة إجمالاً بحيضها في هذا الزمان، فيحرم عليها الدخول في المسجد مثلاً بالفعل، أو في الزمان الآتي فيحرم عليها ذلك في الوقت الآتي، فهل يكون مثل هذا العلم الإجمالي منجّزاً، أو لا؟

إنّ ارتباط الحكم بالزمان المستقبل تارةً يكون بمعنى كونه استقباليّاً خطاباً وملاكاً، واُخرى بمعنى كونه استقباليّاً خطاباً، كما لو علم بوجود الملاك بالفعل في العمل الكذائيّ الاستقباليّ، ولكن رأينا أنـّه ليس الخطاب ثابتاً الآن ولو من باب القول باستحالة الواجب المعلّق، وثالثة بمعنى تأخّر زمان الواجب وإن كان الملاك والخطاب ثابتاً بالفعل، وذلك إذا قلنا بإمكان الواجب المعلّق، ورابعة بمعنى أنّ المكلّف يقصد صدفةً تأخير امتثاله.

ونحن نتكلّم أوّلاً في القسم الأوّل، فإن ثبتت فيه منجّزيّة العلم الإجماليّ، فلا إشكال في منجّزيّته في الأقسام المتأخّرة، وإلّا وصلت النوبة إلى البحث عن الأقسام المتأخّرة.

وبما أنـّنا سوف نثبت التنجيز في هذا القسم، فلا تصل النوبة إلى البحث عن سائر الأقسام، ونقصر البحث على هذا القسم، فنقول:

إنّ هنا شبهة في منجّزيّة هذا العلم الإجماليّ تنشأ من الصيغة المذكورة في مقام بيان ضابط منجّزيّة العلم الإجماليّ، وهي أنّ العلم الإجمالي إنـّما يكون منجِّزاً إذا كان متعلّقاً بحكم فعليّ على كلّ تقدير، فيقال فيما نحن فيه: إنـّه لم يتعلّق العلم بحكم فعليّ عل كلّ تقدير؛ إذ لو حرم عليها الدخول في المسجد الآن مثلاً ـ لكونها حائضاً ـ فهذا حكم فعلي قابل للتنجيز بحكم العقل، ولو كان يحرم عليها الدخول فيما بعد، فهذه الحرمة غير فعليّة الآن، وغير قابلة للتنجيز فعلاًبحكم العقل، والجامع بين القابل للتنجيز وغير القابل له غير قابل للتنجيز.

وهذه الشبهة دعت الشيخ الأعظم إلى القول بعدم التنجيز في بعض الشقوق ـ

181

على ما في التقريرات ـ، ودعت المحقّق العراقيّ (1) إلى إبراز علم إجماليّ آخر منتزع عن هذا العلم الإجمالي يكون بين حكمين فعليّين، فينسب التنجيز إلى هذا العلم الإجمالي الثاني. وذلك ببيان أنّ العلم الإجمالي بأحد الحكمين الآن أو مستقبلاً وإنْ لم يكن علماً بالحكم الفعليّ على كلّ تقدير، ولكن يتولّد من ذلك علم اجمالي بأنـّه إمـّا يجب عليه الحكم الأوّل الفعليّ، أو يجب عليه بالفعل حفظ القدرة للواجب الثاني؛ لأنـّه قد ثبت بوجه من الوجوه وجوب حفظ القدرة للواجبات الاستقباليّة، وبه يتغلّب على مشكلة المقدّمات المفوّتة، وهذا العلم الإجمالي يكون علماً بين حكمين فعليّين، ويكون منجّزاً.

أقول: يردُ على ذلك: أوّلاً ـ أنّ وجوب المقدّمات المفوّتة حكم عقليّ كما يعترف هو (قدس سره) بذلك، وذلك من باب حكم العقل بالتنجيز، فلا يجب حفظ القدرة للواجب الاستقباليّ إذا لم يكن منجّزاً، كما إذا لم يكن طرفاً للعلم الإجماليّ، بل كان مشكوكاً بالشك البدويّ، فوجوب حفظ القدرة في المقام فرع تنجّز هذا الحكم بالعلم الإجماليّ الأوّل، فإن لم يكن منجِّزاً لم يتولّد العلم الثاني، وإن كان منجِّزاً فلا حاجة إلى دسّ مسألة حفظ القدرة (2) في المقام، فملاك ما هو المركوز في ذهنه (قدس سره)ليس هو ذلك.


(1) راجع القسم الثاني من الجزء الثالث من نهاية الأفكار، ص 325.

وذكر (رحمه الله) هناك ـ أيضاً ـ وجهاً آخر لحلّ إشكال عدم تعلّق العلم الإجمالي بتكليف فعليّ على كلّ تقدير، وهو أنّ الأحكام في رأيه (قدس سره) كما هي في رأي اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) فعليّة منذ البدء، وإنـّما الذي يتأخّر إلى حين مجيء الشروط هو فاعليّتها، إذن فالعلم الإجمالي في المقام علم إجمالي بتكليف فعليّ على كلّ تقدير.

أقول: إنّ هذا الوجه غيرصحيح، فإنـّنا لو أردنا أن نتكلّم بهذه اللغة، قلنا: إنّ العلم الإجماليّ إنـّما يكون مؤثّراً إذا كان علماً بتكليف فاعل على كلّ تقدير، أمّا إذا كان علماً بتكليف فعليّ مردّد بين أن يكون فاعلاً بالنسبة لي أو غير فاعل بالنسبة لي إلى الأبد؛ لعدم تحقّق موضوعه فيّ، فأيّ قيمة لهذا العلم الإجمالي؟ إذن فالمهمّ في الجواب توضيح أنـّه تكفي فعليّة الحكم أو فاعليته (على اختلاف لغات المدارس الاُصولية) في وقته، وإن كان مستقبلاً.

(2) ويمكن الإيراد ـ أيضاً ـ على المحقّق العراقيّ (رحمه الله) بأنّ العلم الإجمالي المردّد بين حكم العقل وحكم الشرع لا يقبل التنجيز؛ لأنّ حكم العقل المحتمل بنفسه لا مؤمّن له، فاحتمال التنجيز منجّز، ويبقى الطرف الآخر، وهو الحكم الشرعي مشكوكاً بالشكّ البدويّ، ومجرىً لقاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

182

وثانياً: أنّ هذا لا يأتي في غير موارد وجوب حفظ القدرة، وذلك في موردين:

الأوّل: ما إذا فرضت القدرة على الواجب في زمانه دخيلة في الملاك، ففي مثل هذا الفرض لا يجب حفظ القدرة، ولذا نقول بجواز إراقة الماء قبل الوقت مع القطع بعدم إمكان تحصيل الماء للوضوء في الوقت؛ لأنّ القدر المتيقّن من ثبوت الملاك هو فرض القدرة في نفس الوقت.

والثاني: ما إذا فرض عدم تمكّنه قبل الوقت من التعجيز عن العمل حين الوقت، كما لو علم أنـّه نذر أن لا يأكل الجبن في هذا اليوم أو غداً، ونحو ذلك ممّا لا يتمكّن فيه عادة من تعجيز نفسه عن الامتثال في الوقت، وإذا لم يجب حفظ القدرة في هذين الموردين لم يتشكّل العلم الإجمالي بوجوب حفظ القدرة أو الواجب الأوّل، مع أنـّه (قدس سره) يقول بالتنجيز، ولزوم الإتيان بكلا العملين في جميع الموارد.

وثالثاً: أنـّه لو سُلّم أنّ العلم الإجمالي الأوّل ليس منجِّزاً، وأنّ العلم الإجمالي الثاني موجود ومُنجِّز، فهو إنـّما يصلح للتنجيز بمقدار سدّ باب العصيان الناشىء من تفويت القدرة قبل الوقت، فإنّ هذا هو المقدار الذي وقع طرفاً للعلم الإجمالي، ولا ينجِّز بلحاظ سدّ باب العصيان الناشىء من التصميم على الترك بعد دخول الوقت.

وبعد هذا نرجع إلى أصل الإشكال في المقام (1)، وهو أنّ الحكم الاستقبالي


(1) يمكن أن يشقّ الإشكال إلى تقريبين:

الأوّل ـ تلحظ فيه فعلية الحكم أو فاعليّته، فيقال: إنّ العلم الإجمالي إنـّما ينجّز إذا تعلّق بتكليف فعلي، أو فاعل على كلّ تقدير، وهنا أحد التكليفين ليس فعليّاً أو فاعلاً في الوقت الحاضر.

ويجاب عنه: بأنـّه تكفي فعليّة أو فاعليّة الحكم الثاني في ظرفه.

والثاني ـ أن يقال: إن الحكم المستقبليّ يستحيل تنجّزه من الآن لأنّ المردّد بين ما يتنجّز وما لا يتنجز لا يتنجز.

ويجاب عنه بما في المتن، وبالإمكان أن يصاغ الإشكال بصياغة النقض، بأنْ يقال: إنْ كان المقياس هو فعليّة الحكم في ظرفه فَلِمَ لا يُؤثّر العلم الإجمالي بتكليف مردد بين ما مضى وما هو حاضر، مع أنّ ما مضى حكم فعليّ في ظرفه؟ وإن كان المقياس قابليّة التنجيز، بمعنى قبح المخالفة الثابت أزلاً، حتى قبل القدرة، فكذلك هو ثابت أبداً حتى بعد زوال القدرة، فلِمَ لا يُؤثّر العلم الإجماليّ بتكليف مردّد بين ما مضى وما هو حاضر؟

والجواب: انّ المقياس هو قابليّة التنجيز، والحكم لا يقبل التنجيز، إلّا بعلم معاصر، والعلم الإجمالي بتكليف فعليّ أو مستقبليّ ينجّز الطرفين؛ لأنـّه يعاصرهما، لأنّ العلم سيبقى إلى

183

ليس فعليّاً الآن، فلا يقبل حكم العقل بالتنجيز، فنقول: إنـّنا لا نفهم من هذا الكلام معنىً متحصّلاً، وإنـّما نتفوّه به كألفاظ، فإنّ حكم العقل بالتنجّز ليس واقعاً عبارة عن الحكم والإلزام، حتى يقال: إنّ هذا حكم وإلزام موضوعه حكم الشارع وإلزامه، ولا يتقدّم عليه، كما يقال في المقدّمة ـ بناءً على وجوبها شرعاً ـ: إنّ وجوب المقدّمة لا يتحقّق قبل ذيها، ولا يترشّح من وجوب ذي المقدّمة قبل وجوبه، وإنـّما المقصود بحكم العقل بالتنجّز هو إدراكه لقبح هذه المخالفة؛ لكونها مخالفة لما هو داخل في حقّ المولى ودائرة مولويته، ومن المعلوم أنّ قبح القبيح ثابت أزلياً، وإنـّما الشيء الذي يتأخّر هو نفس الإتيان بالقبيح، فلا معنى للقول: بأنّ هذا الحكم حيث إنـّه ليس بفعليٍّ، فلا يقبل التنجّز الآن، بل نقول: إنـّه يقبل التنجّز الآن، بمعنى أنـّه تقبح مخالفته بحكم العقل، ويكون قبحها ثابتاً بالفعل، وإنْ كانت قدرة العبد على الإتيان بهذا القبيح متأخّرة زماناً، وغير ثابتة الآن، وبالجملة: كما أنّ المعلوم بالعلم الإجماليّ في غير التدريجيّ يدخل في دائرة حقّ المولى، كذلك المعلوم بالعلم الإجماليّ في التدريجيّ يدخل في تلك الدائرة، وليس في ذلك محذورٌ أصلاً؛ إذ دخوله فيها عبارة عن قبح المخالفة، وقبح المخالفة ثابت بالفعل على كلّ حال.

هذا، ويمكن إثبات عدم منجِّزيّة العلم الإجماليّ في التدريجيّات ببيان آخر غير البيان الذي ذكرناه وأبطلناه، وذلك بأنْ يقال: إنّ العلم الإجماليّ في التدريجيّات ليست له قابليّة التنجيز للطرف المتأخّر، كما يظهر ذلك بمقدّمتين:

المقدّمة الاُولى: أنّ العلم الإجمالي لا ينجِّز حكماً متأخّراً عن زمان تعلّق العلم به بوجوده الحدوثيّ، وإنـّما ينجّزه بوجوده البقائيّ ولذا لو تبدّل العلم في زمان ذلك الحكم إلى الشكّ الساري، لا يكون ذلك الحكم منجّزاً.

المقدّمة الثانية: إنّ العلم الإجماليّ بوجوده البقائيّ فيما نحن فيه غير قابل لتنجيز الحكم المتأخّر؛ لأنـّه في زمان الحكم المتأخّر يكون متعلّقاً بما يتردّد بين


الزمان المستقبل، وكذلك الحال لو بدّلنا لغة التنجيز بلغة ارتكاز التضادّ بين الترخيص الشامل لكلّ الأطراف والغرض الإلزامي المعلوم بالإجمال، فإنّ هذا الارتكاز أيضاً مشروط بمعاصرة العلم للتكليف على كلّ تقدير، والعلم الإجماليّ بتكليف حاليّ، أو مستقبليّ معاصر للتكليف على كلّ تقدير؛ لأنـّه سيبقى إلى الزمان المستقبل، أمـّا العلم الإجمالي بتكليف ماض أو تكليف فعلي، فهو غير معاصر للتكليف الماضي حسب الفرض.

184

الخارج عن محلّ الابتلاء، وهو الحكم الماضي الداخل في محلّ الابتلاء، وهو الحكم الفعلي، ولذا لو تعلّق ابتداءً علم إجمالي بحكم مردد بين ما مضى وقته وسقط، وما يكون ثابتاً بالفعل، لم يكن منجِّزاً.

وبالجمع بين هاتين المقدّمتين يظهر أنّ العلم الإجماليّ فيما نحن فيه غير قابل لتنجيز المتأخّر، إذ هل ينجّزه بوجوده الحدوثيّ أو بوجوده البقائيّ؟ أمـّا الأوّل فهو خلف المقدّمة الاُولى من أنّ العلم لا ينجّز شيئاً متأخّراً عنه بوجوده الحدوثيّ، وإنـّما ينجّزه بلحاظ بقائه إلى ذلك الوقت، وأمـّا الثاني فهو خلف المقدّمة الثانية من أنّ العلم الإجمالي فيما نحن فيه يكون بوجوده البقائيّ حاله حال العلم الإجماليّ الذي تعلّق ابتداءً بالمردّد بين الماضي والحاضر، وهو غير منجِّز. وإذا لم يكن العلم الإجماليّ قابلاً لتنجيز الطرف المتأخّر، فهو غير قابل للتنجيز أصلاً (1) .

والجواب: أنّ المقدّمة الاُولى وإن كانت صحيحة إلّا أنّ المقدّمة الثانية غير صحيحة، فإنّ قياس العلم الإجماليّ بوجوده البقائيّ ـ فيما نحن فيه ـ بالعلم الإجماليّ الحدوثيّ المردّد بين الماضي والحاضر قياس مع الفارق، وتوضيحه: أنّ التحميل الذي ينشأ من قِبَل العلم على المكلّف يستحيل أنْ يتقدّم على نفس المحمّل، وهو العلم، والعلم الإجماليّ الحدوثيّ لو تردّد بين الماضي والحاضر، وحمّل على المكلّف العمل بالحكم الأوّل قبل حدوثه، لزم منه تقدّم التحميل على المحمّل الذي هو العلم . وأمـّا فيما نحن فيه فالعلم ثابت في كلا الحالين، وعاصَرالحكم الأوّل، والحكم الثاني، فينجّز الحكم الأوّل؛ لكونه معاصراً له وعدم لزوم تقدّم التحميل على المحمّل، وينجّز الحكم الثاني أيضاً؛ لكونه معاصراً له.

هذا والجواب بهذا اللّسان إنـّما يناسب مذهب الأصحاب من كون المحذور عقليّاً، ولا يناسب مسلكنا، وإن شئت تعميم الجواب قلت: إنـّه في العلم الإجماليّ الحدوثيّ المردّد بين الماضي والحاضر لا معارض للأصل النافي، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الحاضر، لعدم جريان أصل ناف لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الماضي، لا بلحاظ زمان الماضي؛ لعدم معلوم بالإجمال فيه، ولا بلحاظ هذا الزمان؛ لمضيّ ذلك وخروجه عن محلّ الابتلاء. وأمـّا فيما نحن فيه


(1) مضى منّا في بحث الانحلال الحكمي في الردّ على إثبات الاحتياط بالعلم الإجماليّ شرح لعدم قابليّة الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله للتنجيز.

185

فالأصل النافي للحكم الثاني بلحاظ زمانه معارض للأصل النافي للحكم الأوّل بلحاظ زمانه.

هذا، والنكتة في كلّ ما ذكرناه هي تعاصر العلم الإجماليّ لكلا الحكمين، سواء فرض علماً إجماليّاً واحداً، كما كان هو المفروض حتى الآن، أو فرض علمين، كما لو علم إجمالاً بثبوت حكم عليه: إمـّا في اليوم الأوّل أو في اليوم الثالث، وعلم أنـّه سوف يزول علمه الإجمالي في اليوم الثاني، ويرجع في اليوم الثالث، فالطرفان في مثل هذا الوجه يتنجّزان.

ولا يقال: إنّ العلم الأوّل ليست له قابليّة تنجيز الحكم الثاني، والعلم الثاني ليست له قابليّة تنجيز الحكم الأوّل، فيسقط كلاهما عن التأثير.

فإنـّه يقال: إنّ غاية الأمر هي كون تأثير العلم الإجماليّ مشروطاً بقابلية المعلوم بالإجمال للتنجيز في أيّ واحد من الطرفين، ولا يلزم أنْ يكون ذلك بعلم واحد، بل العلم الأوّل ينجّز الطرف الأوّل، والعلم الثاني ينجّز الطرف الثاني، أو تقول: إنّ الأصلين في الطرفين ينفي كلّ واحد منهما بلحاظ زمان مجراه احتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال، ويلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعيّة القبيح عقلاً، أو المناقض للغرض الإلزاميّ عقلائيّاً، فيتعارضان ويتساقطان.

بقي في المقام شيء وهو أنـّه إذا علم الشخص بوجوب أحد شيئين عليه، مع تأخّر أحد الحكمين، فتارةً يفرض له العلم بأنـّه سيبقى له هذا العلم الإجماليّ التدريجيّ إلى زمان الحكم الآخر، واُخرى يفرض له العلم بأنـّه سوف يزول منه هذا العلم الإجمالي، فهو يدري على سبيل الترديد أنـّه تحصل له إحدى حالات ثلاث: فإمـّا تظهر له حال الحكم الآخر ويعلم بثبوته، أو تظهر له حاله، ويعلم بعدم ثبوته، أو يخرج عن طرفيّته للعلم الإجماليّ، ويشكّ فيه شكّاً بدويّاً بأن يعلم تفصيلاً بثبوت الحكم الأوّل، ويشكّ بدويّاً في ثبوت الحكم الثاني، وثالثة يفرض له الشكّ في أنـّه هل سيبقى له هذا العلم الإجماليّ، أو يزول، فهذه ثلاثة أقسام:

أمـّا القسم الأوّل: فهو القدر المتيقّن ممّا مضى من منجّزيّة العلم الإجماليّ في التدريجيّات.

وأمـّا القسم الثاني: فالصحيح هو عدم منجّزيّة العلم الإجماليّ فيه؛ لأنّ الأصل في طرف الحكم الأوّل ليس له معارض بحسب اعتقاد العالم؛ لأنّ الأصل في طرف الحكم الثاني بلحاظ زمان الحكم الأوّل غير جار؛ إذ لا أثر له، وبلحاظ زمان الحكم

186

الثاني إمـّا أنـّه غير جار لعلمه بذلك الحكم في ذلك الزمان إثباتاً أو نفياً، أو أنـّه جار بشكل غير معارض؛ لعدم كونه بلحاظ احتمال الانطباق الذي هو عدل احتمال الانطباق الحاليّ؛ لأنّ المفروض تبدّل العلم الإجماليّ في ذلك الظرف إلى العلم التفصيليّ، والشكّ البدوي، فالآن له أن يجري الأصل في هذا الطرف، ويخالف الحكم الأوّل المحتمل، ثمّ يأتي عليه زمان الحكم الثاني، فيرى ماذا حصل له من تغيّرالحال، فإن رأى أنـّه صار عالماً بثبوت الحكم الثاني، أو بانتفاءه، عمل وفق عِلمه، وإنْ رأى أنـّه صار شاكّاً في ذلك بالشكّ البدويّ نفاه بالأصل، وإنْ تبيّن له أنّ ما كان يتخيّله ـ من أنـّه سوف ينحلّ علمه الإجماليّ ـ كان اشتباهاً، وبقي علمه الإجماليّ على حاله، فأيضاً لا بأس بأنْ يجري الأصل، ويترك العمل بهذا الحكم؛ لأنّ العلم الإجماليّ في الزمان الأوّل لم يؤثّر في تنجيز الطرفين، والآن يكون علماً إجمالياً مردداً بين ما مضى وقته وما لم يمض ِ وقته، فالآن ـ أيضاً ـ لا أثر له.

إنْ قلت: إنـّه بعد أنْ رأى بقاء العلم الإجماليّ انكشف له أنّ الأصل في الزمان الأوّل كان جزءاً من الترخيص في المخالفة القطعيّة، فبناءً على مبنى الأصحاب من قبح الترخيص في المخالفة القطعيّة قد انكشف: أنّ هذا كان جزءاً من القبيح فلم يكن جارياً.

قلت: المفروض أنـّه في الزمان الأوّل كان يقطع بأنّ هذا الأصل ليس جزءاً من الترخيص في المخالفة القطعيّة، فلم يكن قبيحاً وترخيصاً في القبيح، فإنّ القبيح هو المخالفة القطعيّة الواصلة بالعلم أو بمطلق الوصول.

وأمـّا القسم الثالث: فالعلم الإجمالي فيه منجِّزٌ بناءً على أنّ الوجه في عدم جريان الاُصول في الأطراف هو حكم العقل بقبح الترخيص في المخالفة القطعيّة، فإنـّه ـ عندئذ ـ يشكّ في أنّ جريان الأصل في الطرف الفعليّ هل هو جزء من القبيح أو لا؟ وقد تقيّد دليل الأصل بأنْ لا يلزم من إجرائه الترخيص في المخالفة القطعيّة في أطراف العلم الإجمالي، فالتمسّك بدليل الأصل هنا يكون تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة بناءً على ما لا يبعد أنْ يقال ـ على القول بقبح الترخيص في المخالفة القطعيّة ـ من أنـّه يكفي في قبحه كونها واصلة ولو احتمالاً، وأقول: (لا يبعد) لأنـّي لم أدركْ أصل قبح الترخيص في المخالفة القطعيّة.

ولا يتوهّم أنّ هذا البيان بعينه يجري في القسم الثاني؛ إذ يحتمل أنّه سوف يشكّ بدويّاً في الطرف الآخر، وينفيه بالأصل، فيلزم نفي كلا الطرفين بالأصل، فإنـّه

187

هناك لم تلزم المخالفة القطعيّة من إجراء الأصلين في طرفي العلم الإجمالي، وإنـّما لزمت من نفس إجراء الأصل الأوّل؛ لتبيّن وجوب ما نفاه به، وهذا من قبيل ما إذا احتمل بدويّاً وجوب شيء، ونفاه بالأصل، مع أنـّه كان يحتمل أنْ سوف يحصل له العلم بأنّه كان واجباً، ثمّ حصل له ذلك العلم فلزمت المخالفة القطعيّة، وهذا لا بأس به.

هذا، وأمّا إذا قلنا: إنّ الوجه في عدم جريان الاُصول في الأطراف ليس هو المحذور العقليّ، وإنـّما هو الارتكاز العقلائيّ للمناقضة بين الترخيصات والإلزام المعلوم بالإجمال، فعندئذ يجب أنْ نرجع إلى سعة دائرة هذا الارتكاز وضيقها؛ لنرى أنّ ارتكاز المناقضة ثابت حتى في مثل هذا الفرض الذي يحتمل أداء إجراء الأصل إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة في أطراف العلم الإجمالي، وذلك بأن يبقى العلم الإجماليّ على حاله، ويحتمل عدم أدائه إلى ذلك، وذلك بأن لا يبقى العلم الإجمالي على حاله، أو أنّ الارتكاز في مثل ذلك غير ثابت؟ فان ثبت فلا يجري الأصل، وإلّا جرى (1)، ومع الشكّ في ذلك ـ أيضاً ـ لا يمكن إجراء الأصل.

ثم إنّ كلّ ما ذكرناه إنـّما هو فيما إذا لم يكن للحكم الثاني أثر لزوميّ في الزمان الأوّل، بأن كان من الممكن تفويت القدرة في زمانه عليه في الزمان الأوّل، وإلّا جرى الأصل النافي لذلك الحكم في الزمان الأوّل، وأصبح معارضاً للأصل النافي للحكم الأوّل، ويتساقطان، كما أنـّه إذا كان ذلك الحكم في الزمان الثاني موضوعاً لحكم آخر في الزمان الأوّل، حصل العلم الإجمالي بالحكم الأوّل، أو هذا الحكم المترتّب على الحكم في الزمان الثاني، ومنع ذلك عن نفي الحكم الأوّل بالأصل النافي.

ثم إنـّه يمكن أنْ يفترض أنّ العالم بالإجمال في التدريجيّات يعلم بأنّ هذا


(1) لا يبعد التفصيل في ذلك بين ما إذا كان احتماله لزوال العلم الإجمالي في المستقبل بنحو يبطل جزمه بكون الأصل الذي يجريه فعلاً لنفي الطرف الحالي جزءاً من الترخيص في المخالفة القطعيّة، وما إذا لم يكن كذلك، ففي الفرض الأوّل لا يكون الارتكاز ثابتاً، ويجري الأصل فعلاً لنفي التكليف الحاليّ، وذلك كما لو احتمل زوال العلم الإجمالي في المستقبل بحصول العلم التفصيليّ بالحكم الثاني، وفي الفرض الثاني يكون الارتكاز ثابتاً ولا يجري الأصل في المقام، وذلك كما لو لم يحتمل زوال العلم الإجماليّ في المستقبل بحصول العلم التفصيلي بالحكم الثاني، وإنـّما احتمل زواله بحصول العلم التفصيليّ بالحكم الأوّل، أو بالشكّ الساري في أصل المعلوم بالإجمال.

188

العلم سيزول في الزمان الثاني بالشكّ الساري، وعندئذ:

تارةً يفرض أنّ عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجماليّ يكون بملاك القبح العقلي للترخيص في المخالفة القطعيّة، فهنا لا بأس بجريان الاُصول؛ إذ لا تلزم مخالفة قطعيّة لا في الزمان الأوّل؛ لأنّه لم يحن وقت الحكم الثاني، ولا في الزمان الثاني؛ لأنـّه يتبدّل علمه في ذاك الزمان إلى الشكّ في أصل التكليف.

نعم، إذا كان الحكم المتأخّر له أثر في زمان الحكم السابق، وهو وجوب حفظ القدرة والإتيان بالمقدّمات المفوّتة، فعندئذ إنْ احتمل أنـّه لو حفظ قدرته الآن فسوف يمتثل الحكم الثاني في زمانه بالرغم من تبدّل علمه إلى الشكّ، فالآن لابدّ له من الإتيان بالواجب الأوّل، وحفظ القدرة للواجب الثاني، ثم إذا جاء زمان الواجب الثاني، وزال عنه علمه جاز له ترك ذلك الواجب، وأمّا إنْ علم بأنـّه سوف لا يمتثل الحكم الثاني في زمانه، بل يتركه اعتماداً على الأصل، فعلمه الآن لا ينجّز عليه شيئاً.

ولو لم يعلم بأنـّه سوف يتبدّل علمه إلى الشكّ الساري، ولكن احتمل ذلك، جاء هنا ما مضى من شبهة التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

واُخرى يفرض أنّ عدم جريان الاُصول يكون بملاك ارتكاز المناقضة، فلعلّه يمكن أنْ يقال ـ عندئذ ـ بأنّ الارتكاز هنا غير موجود، فإنّ صيرورة الحكم الثاني طرفاً للعلم الإجمالي ليست (1) بأعظمَ من القطع بثبوت حكم في زمان متأخّر، مع العلم


(1) صحيح أنّ هذه ليست بأعظم من ذاك، ولكن في فرض القطع بثبوت حكم في زمان متأخّر يكون مصبّ المحذور ـ لو كان ـ هو الأصل المتأخّر وحده، والمفروض أنّ ذاك الأصل غير جار بلحاظ زمان يوجد فيه العلم، إذن فلا محذور فيه. وأمّا فيما نحن فيه، فالمحذور ـ لو كان ـ هو محذور الارتكاز القائم بمجموع الأصلين بسبب كون أحدهما جارياً بلحاظ زمان يوجد فيه العلم، وهو الأصل الأوّل، والظاهر أنّ هذا كاف في ثبوت الارتكاز ما دام الأصل الأوّل يعتقد تأثيره في الترخيص في المخالفة القطعيّة، وهذا الارتكاز لا يؤدّي إلى سقوط كلا الأصلين؛ وذلك لأحد أمرين:

(الأوّل): أنّ الارتكاز إنـّما يحكم بعدم جريان مجموع الأصلين، وإنـّما يؤدّي ذلك إلى سقوطهما معاً بنكتة أنّ التمسّك بدليل الأصل في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، وهذه النكتة غير موجودة في المقام؛ لأنّ احتمال سقوط خصوص الأصل الملحوظ فيه زمان زوال العلم، وبقاء الأصل الملحوظ فيه زمان العلم غير موجود، بخلاف العكس، وبهذا يتعيّن الأصل الملحوظ فيه زمان العلم للسقوط، ونتمسّك بإطلاق دليل الأصل لإثبات الأصل الآخر، سنخ ما

189

بأنـّه سوف يتبدّل في ذلك الزمان هذا القطع إلى الشكّ، وفي هذا الفرض نحكم بالفعل بشمول إطلاق دليل الأصل للشكّ في الزمان المتأخّر، إذن فلا بأس بجريان الاُصول.

هذا ما يمكن أنْ يقال في المقام، لكن المسألة بحاجة إلى ما لم يسعني الآن من مزيد من التفكير، ويشكل إجراء الأصل للعلم بأنّه سوف يتبدّل العلم الإجماليّ إلى الشكّ الساري، وأشكل منه إجراءه لاحتمال هذا التبدّل.

 

 


مضى سابقاً، بقطع النظر عن بعض النصوص الخاصّة من أنّ أحد طرفي العلم الإجماليّ إن كان على تقدير كونه هو الواقع أهمّ من الآخر، فمقتضى القاعدة التمسّك بإطلاق دليل الأصل في الطرف غير الاهم، ومن المعلوم أنّ تلك النصوص الخاصّة لا علاقة لها بما نحن فيه.

(والثاني): أنـّنا إنْ لم نقبل ما مضى في الأمر الأوّل فانتهينا إلى التعارض والتساقط، قلنا: إنّ هذا التعارض والتساقط إنـّما يكون في أصل يشمل بإطلاقه لولا التعارض أطراف العلم الإجماليّ، ويبقى مثل حديث الرفع الذي لا يشمل أطراف العلم الإجماليّ، فهذا لا يجري في الطرف الأوّل لمكان العلم، ويجري في الطرف الثاني لأنّ العلم سيزول.

190

 

 

 

الاضطرار في بعض الأطراف

 

التنبيه التاسع: في الاضطرار إلى المخالفة في أحد الأطراف، والكلام فيه يقع في مقامين؛ لأنّ الاضطرار تارةً يكون في أحدهما المعيّن، وأُخرى في أحدهما لا بعينه.

 

الاضطرار في طرف معيّن

المقام الأوّل: في الاضطرار إلى أحدهما المعيّن، وهذا الاضطرار تارةً يحصل قبل سبب الحكم، وقبل العلم بالحكم، ونحوه فرض المقارنة للسبب أوْ له وللعلم، وأُخرى يحصل بعدهما، وثالثة يحصل بعد السبب وقبل العلم أو معه، فالاضطرار إلى الماء مثلاً تارةً يحصل قبل وقوع قطرة دم في واحد من إنائي الماء والدبس، وأُخرى يحصل بعد وقوعها وبعد العلم بذلك، وثالثة يحصل بعد وقوعها وقبل العلم بذلك.

أمـّا القسم الأوّل ـ وهو حصول الاضطرار قبل سبب التكليف أو مقارناً له، فلا إشكال في عدم التنجيز فيه؛ لعدم العلم بالتكليف، لأنّ أحد الطرفين ـ وهو الماء ـ مرخّص فيه ومباح إمّا بالعنوان الأوّلي أو بالاضطراري(1)، والطرف الآخر


(1) قد تقول: إنّ ما نحن فيه ـ بناءً على عدم دخل القدرة في الملاك ـ مورد للاحتياط؛ لأنـّه من موارد كون الشكّ في التكليف ناتجاً من الشكّ في القدرة، وفي مثل هذا الفرض يحكم العقل ـ بناءً على عدم دخل القدرة في الملاك ـ بالاشتغال، ولا تجري البراءة العقليّة، وينصرف عنه إطلاق البراءة الشرعية، وأيّ فرق بين ما لو علمنا تفصيلاً بتكليف ما على تقدير عدم العجز ولكن احتملنا العجز وما لو علمنا إجمالاً بأحد تكليفين على تقدير عدم العجز، ولكن قطعنا بالعجز عن أحدهما المعيّن؟ ففي كلا الفرضين يكون الشكّ في التكليف ناتجاً من الشكّ في القدرة، فإذا وجب الاحتياط في الفرض الأوّل لغرض عدم دخل القدرة في الملاك وجب في الفرض الثاني أيضاً.

191

مشكوك الحرمة.

وأمـّا القسم الثاني: وهو حصول الاضطرار بعد العلم بالحكم، فيمكن أن يتخيّل فيه الانحلال، وجريان الأصل بعد طروّ الاضطرار؛ إذ قد خرج أحد طرفي العلم الإجماليّ عن الطرفيّة بعد حصول الاضطرار بالقطع بالترخيص والإباحة، فليس هنا علم إجماليّ بالتكليف، نعم كان يوجد لنا قبل الاضطرار علم إجماليّ بالتكليف مردّد بين هذا وذاك، ولكن ذاك العلم الإجماليّ لا ينجّز الطرف غير المضطرّ إليه في زمان الاضطرار إلى الطرف الآخر، لأنّ العلم الإجمالي لا ينجّز الحكم في الزمان الثاني بوجوده الحدوثيّ، وإنـّما ينجّزه بوجوده البقائيّ.

ويرد عليه: ما ذكره المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) في حاشيته على كفايته، وأوضحه(1) المحقّق العراقيّ (قدس سره) من أنّ هذا يكون من قبيل العلم الإجماليّ بأحد تكليفين: أحدهما طويل، والآخر قصير، فإنـّا علمنا إجمالاً بوجوب الاجتناب عن الماء من الساعة الاُولى إلى الساعة الثانية التي جاء فيها الاضطرار، أو وجوب


والجواب: أنّ مصبّ البراءة في مورد العلم التفصيليّ هو نفس ما علمنا بالملاك فيه، وبمطلوبيّته على تقدير القدرة، فيقال فيه بحكم العقل بالتنجيز، وانصراف أدلّة الاُصول الشرعيّة عنه، ويكون التكليف فيه قابلاً للتنجيز على كلا التقديرين، أمّا على تقدير ثبوت القدرة، فالتكليف يقبل التنجيز بمقدار الامتثال، وأمّا على تقدير العجز فلأنّ العجز غير محرز، فالتكليف قابل للتنجيز بمقدار محاولة الامتثال، وأمّا في المقام فالمعلوم هو الجامع بين ما لا يقبل التنجيز يقيناً، وهو الطرف المضطر إليه، وما يقبل التنجيز، وهو الطرف الآخر، وهذا العلم لا ينجّز عقلاً، كما أنّ الاُصول الشرعية غير ساقطة بالتعارض؛ لعدم التعارض، وغير منصرفة عن المورد؛ لأنـّنا نجريها عمّا شككنا في التكليف وفي الملاك فيه، وهو الطرف غير المضطرّ إليه، لا عمّا علمنا بالملاك وبالطلب فيه على تقدير القدرة مع الشكّ في القدرة، كما في مورد العلم التفصيليّ.

(1) المحقّق العراقيّ (قدس سره) ذكر في المقام: أنّ المسألة تدخل في العلم الإجمالي تدريجيّات، راجع نهاية الافكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 254 و 350، والمقالات: ج2، ص 91 و 67 ـ 68)، ولكنّه لم يذكر ذلك بعنوان توضيح كلام المحقّق الخراسانيّ، فلعلّ مقصود اُستاذنا (رحمه الله)هو أنّ المحقق العراقي وضّح أصل المطلب، لا أنـّه وضّح كلام المحقّق الخراسانيّ، أو لعلّه وقع اشتباه في عبارته (رحمه الله) أو في قلمي بين المحقّق العراقيّ والمحقّق الاصفهانيّ، فإن المحقّق الاصفهانيّ هو الذي شرح في تعليقته على الكفاية ما أورده المحقّق الخراسانيّ في تعليقته عليها، فراجع المجلّد الثاني من تعليقة المحقّق الاصفهانيّ على الكفاية، ص250 ـ 251.

192

الاجتناب عن الدبس إلى ما بعد الساعة الثانية، وهذا علم إجمالي حدث من زمان التكليف القصير، وبقى إلى آخر زمان التكليف الطويل، فأثره باق إلى الآخر ببقائه.

نعم، هنا شيء، وهو أنّ القول بالتنجيز هنا هل يتوقّف على القول بالتنجيز في العلم الإجماليّ في تدريجيّات، أو لا؟

وتحقيق الحال في ذلك: أنـّه إن فرض التكليف واحداً مجموعيّاً لا ينحلّ إلى أحكام عديدة، كما لو كان ترك الشرب في مجموع الزمان حكماً واحداً، فالقول بالتنجيز هنا لا يتوقّف على القول بالتنجيز هناك، بل يمكن تسليمه هنا مع فرض عدم تسليمه هناك، وأمـّا إذا كان أحكاماً عديدة، فالمنجِّز للحكم الثاني الذي هو حكم ما بعد الاضطرار إنـّما هو العلم الإجماليّ بوجوب الشيء في الزمان الأوّل المضطرّ إلى مخالفته في الزمان الثاني، أو وجوب الشيء الآخر في الزمان الثاني، فإن فرضت الأحكام العديدة التي انحلّ التكليف إليها وجوبات متدرّجة زماناً في نفس الوجوب، فالقول بالتنجيز فيه يتفرّع على القول بالتنجيز في العلم الإجماليّ في التدريجيّات، بمعنى كون التدريج في نفس الوجوب، وإنْ فرض أنّ تلك الأحكام متعاصرة وكلّها ثابتة في الزمان الأوّل، وإنـّما التدرّج في الواجب ومتعلّق العلم، فالقول بالتنجيز فيه يتفرع على القول بالتنجيز في العلم الإجمالي في التدريجيّات، بمعنى التدرّج في نفس الواجب على نحو الواجب المعلّق لا في نفس الوجوب.

وأمـّا القسم الثالث: وهو تأخّر الاضطرار عن سبب التكليف وتقدّمه على العلم به أو مقارنته أيّاه، فهل يلحق بالقسم الأوّل، وهو تقدّمه عليهما في عدم تنجيز العلم الإجمالي فيه، أو بالقسم الثاني، وهو تأخّره عنهما في تنجيزه فيه؟ نقل في التقريرات: أنّ المحقّق النائينيّ (قدس سره) كان يبني في الدورة السابقة على التنجيز ثمّ عدل إلى عدم التنجيز.

وشبهة التنجيز تقرّب بتقريبين:

التقريب الأوّل: ما ذكره السيّد الاُستاذ في الدراسات(1) من أنـّه بعد طروّ الاضطرار قد علم بثبوت تكليف عليه قبل الاضطرار، ولا يدري هو الفرد القصير الذي انقضى بالاضطرار، أو الفرد الطويل الباقي، فيجري استصحاب الكلّيّ من


(1) راجع الدراسات: ج3، ص248 ـ 249 . وراجع ـ أيضاً ـ مصباح الاُصول: ج 2، ص386 ـ 388.

193

القسم الثاني، نظير استصحاب الحدث بعد الوضوء عند التردّد بين الحدث الأصغر والأكبر، وهذا وإن كان لايثبت ذاك التكليف الطويل؛ لأنّ ذلك تعويل على الأصل المثبت، لكنّه بعد أن ثبت بالاستصحاب توجّه تكليف إلى العبد، فالعقل يحكم بلزوم الخروج عن عهدته جزميّاً، وهذا لا يكون إلّا بالعمل بالتكليف الطويل.

ثم أجاب عن هذه الشبهة بأنّ استصحاب الكلّيّ من القسم الثاني إنـّما يتمّ فيما إذا لم يمكن نفي الفرد الطويل بالأصل المؤمّن، كما في مثال الحدث، حيث إنّ استصحاب عدم الحدث الأكبر معارض باستصحاب عدم الحدث الأصغر، فيرجع إلى استصحاب الكلّيّ. وأمـّا فيما نحن فيه فأصالة البراءة الجارية في طرف الفرد الطويل لا معارض لها؛ إذ التكليف في الطرف ساقط قطعاً بعد الاضطرار، وقبله كانت الشبهة بدويّة غير مقرونة بالعلم الإجماليّ، والأصل في طرف الفرد الطويل حاكم على استصحاب الكلّيّ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الكلّيّ ناشىء من الشكّ في الفرد الطويل، وبهذا ندفع شبهة استصحاب الكلّيّ في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين بعد الإتيان بالأقلّ.

أقول: إنّ هذا الكلام كلّه ممّا لا يناسب السيّد الاُستاذ، فإنّ استصحاب الكلّيّ هنا في نفسه غير جار بقطع النظر عن وجود حاكم عليه، إذ الجامع بين التكليف الطويل والتكليف القصير الخارج عن تحت(1) القدرة لا يقبل التنجيز؛ لأنـّه جامع بين ما يقبل التنجيز، وهو التكليف الطويل، وما لا يقبل التنجيز ولا يدخل تحت دائرة حقّ المولى ولو صرّح المولى به، وهو التكليف بغير المقدور، ولهذه النكتة ـ أيضاً ـ نقول بعدم جريان استصحاب الكلّيّ في دوران الاُمر بين الأقلّ والأكثر بعد الإتيان بالأقلّ، أو دوران الأمر بين المتباينين بعد الإتيان بأحدهما؛ لأنّ الجامع بين ما يقبل التنجيز وهو الأكثر، أو الفرد الآخر، وما لا يقبل التنجيز وهو الحكم الممتثل غير قابل للتنجيز، والحكم بعد الامتثال لا يعقل أن يكون داخلاً في دائرة حقّ المولى لامتثال ثان، وهذا بخلاف مثال الحدث، فإنـّه في مثال الحدث نستصحب الكلّيّ لا لتنجيز وجوب الغسل، بل لإثبات الأثر الشرعي الذي أُخذ في موضوعه جامع الحدث،


(1) أفاد رحمه الله: أنّ الكلام فعلاً نفرضه في الاضطرار البالغ حد العجز عقلاً أو شرعاً، ثمّ نتكلّم في أحد تنبيهات بحث الاضطرار في الاضطرار المنفي شرعاً بمعنى مجرّد الترخيص في الخلاف.

194

وهو حرمة مسّ الكتاب مثلاً.

والخلاصة: أنّه مهما كان استصحاب الكلّيّ من القسم الثاني لأجل ترتيب أثر شرعي مترتّب على الجامع، فهو جار، ومهما لم يكن للجامع أثر شرعي، وإنـّما كان المقصود تنجيز الطرف الآخر لا يجري، وأمّا استصحاب ذات الإلزام الواقعيّ على ما هو عليه، فهو استصحاب للفرد المردد بين ما يقطع بزواله ومايقطع بعدم زواله، وذلك غير جار، ولو جرى لجرى ـ أيضاً ـ في فرض سبق الاضطرار على سبب التكليف، غاية الأمر أنـّه يجري فيه بنحو الاستصحاب الموضوعي، فيستصحب عدم طروّ الاضطرار على واقع ما هو متعلّق الحرمة.

وقد تحصّل بما ذكرناه: انـّه لا يجري فيما نحن فيه استصحاب الكلّي في نفسه.

ثمّ على تقدير جريانه لا يحكم عليه الأصل في طرف الفرد الطويل؛ إذ الكلّيّ ليس حكماً للفرد الطويل ينفى ظاهراً بنفي موضوعه بالأصل، فإنّ الكلّيّ إنْ فرض عين الفرد فلا تعدّد في المقام، حتى بفرض سببيّة أحدهما للآخر، وموضوعية أحدهما للآخر، وإنْ فرض غير الفرد ومسبّباً عن الفرد، فهذا مسبّب عقليّ لا أثر شرعيّ ينفى ظاهراً بنفيه بالأصل، على أنـّه لو كان أثراً شرعيّاً له، فإنّما يمكن نفيه بنفي موضوعه بمثل الاستصحاب، لا البراءة التي لا تنفي الموضوع، وإنـّما شأنها التأمين من قِبَل ما يجري بلحاظه.

ولعلّه وقع هنا في الدراسات خلط واشتباه، فإنّه على ما أتذكّر يقول السيّد الاُستاذ في باب الاستصحاب بعدم حكومة استصحاب عدم الفرد الطويل على استصحاب الكلّيّ، فكيف يقول هنا بحكومة البراءة عن الفرد الطويل عليه؟!

التقريب الثاني: ما ذكره المحقّق النائينيّ (قدس سره) من أنـّه قد علم بعد حصول الاضطرار بتحقّق التكليف واشتغال الذمّة، وشكّ في سقوط التكليف، ومع الشكّ في السقوط لا في أصل التكليف تجري أصالة الاشتغال.

وهذا ـ أيضاً ـ غير صحيح، وتوضيح ذلك: أنـّه لو علم الإنسان بتكليف وشكّ في سقوطه لاحتمال إتيانه به، أو احتمال طروّ العجز عنه، فهنا يحكم العقل بلزوم الاحتياط، وأمـّا لو علم بطروّ العجز عن شيء، وثبوت القدرة على شيء، وشكّ في أنّ تكليفه هل هو تكليف لما طرأ العجز عنه يقيناً، فهو ساقط، أو تكليف بالشيء الآخر الثابت تحت قدرته، فهو باق حتى الآن، كما هو الحال فيما نحن فيه، فهذا

195

يكون مجرىً للبراءة عن التكليف الآخر، لا لأصالة الاشتغال. هذا إذا كان مقصوده في المقام التمسّك بقاعدة الاشتغال. وأمّا إذا كان مقصوده التمسّك بالاستصحاب، فالاستصحاب إنـّما يجري في مثل ما إذا وجب الجلوس في المسجد إلى أن ينزل المطر مثلاً، فشكّ في نزول المطر، وأمـّا في مثل ما نحن فيه فلا يجري على ما عرفته آنفاً في مناقشاتنا لما في الدراسات.

 

الاضطرار في طرف غير مُعيّن

المقام الثاني: في الاضطرار إلى المخالفة في أحد الطرفين لا بعينه.

ذهب صاحب الكفاية (رحمه الله) إلى أنّ (1) الترخيص التخييريّ الثابت بواسطة الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه ينافي التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال، فيرتفع ذلك، فيرتفع العلم، فلا تنجيز في المقام، وبعد أنْ رفع الاضطرار بارتكاب أحد الطرفين ارتفع الترخيص التخييري، وجاء احتمال التكليف في الطرف الآخر، لكنّه شكّ بدويّ ينفى بالأصل.

هذا، وينبغي تقييد كلامه (قدس سره) بفرض عدم تأخّر طروّ الاضطرار عن العلم.

وعلى أيّ حال، فليس مُدّعاه (قدس سره) كون الترخيص هنا واقعيّاً ينافي التكليف الواقعيّ، وإنـّما هو ترخيص ظاهريّ؛ إذ لم ينشأ من محض الاضطرار، بل تدخّل فيه الجهل بالحرام، ولو كان عالماً لم يجز له ارتكابه، وكان عليه رفع الاضطرار بالآخر، ويرى هو (قدس سره): أنّ هذا الترخيص الظاهريّ ينافي ذلك التكليف الواقعيّ المعلوم بالإجمال، ولم يذكر في عبارته النكتة في هذه المنافاة(2) .

 


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 212 حسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكينيّ.

(2) الظاهر أنّ مقصود المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله): أنّ الترخيص ينافي فعليّة الحكم الواقعيّ بالمعنى الذي يقول به من الفعليّة، فيسقط العلم الإجماليّ عن كونه علماً إجماليّاً بالتكليف، كما يقول في مورد الشكّ البدويّ أيضاً، وبأنّ البراءة الشرعيّة تسقط فعليّة التكليف، ومن هنا يتّضح أنـّه لا نكتة لتقييد كلامه (قدس سره) بفرض عدم تأخّر طروّ الاضطرار عن العلم.

وعلى أيـّة حال، فإنْ كان هذا هو مراد المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) في المقام، فقد أورد عليه اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) بأنّ هذا الكلام لا يتمّ لا في مورد العجز التكوينيّ، ولا في مورد العجز التشريعيّ، أمـّا الأوّل ـ وهو ما لو اضطر بمستوى العجز التكوينيّ إلى مخالفة أحد طرفي العلم