371

 

 

 

 

هل يستدعي القطع الموافقة الالتزاميّة كما يستدعي الموافقة العمليّة أو لا؟

تعرّض الأصحاب ـ قدّس الله تعالى أسرارهم ـ في المقام لمسألة الموافقة الالتزاميّة (وهي عمل اختيارىّ قلبىّ بمعنى عقد القلب وخضوع الجنان للحكم)، وذلك كمقدّمة لمعرفة ما إذا كان وجوب الموافقة الالتزاميّة مانعاً عن جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالىّ حينما لا يوجد مانع من ناحية المخالفة العمليّة، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين، وموارد إثبات الاُصول للتكليف الإلزامىّ مع العلم الإجمالىّ بخلافه، كما في مستصحبي النجاسة مع القطع بطهارة أحدهما.

فيقع الكلام في جهتين:

 

وجوب الالتزام

 

الجهة الاُولى: في تحقيق حال وجوب الموافقة الالتزاميّة وعدمه.

إنّ تصوير وجوب الموافقة الالتزاميّة يكون بأحد وجوه:

الوجه الأوّل: افتراض أنّ الحكم الشرعىّ موضوع لحكم العقل بانصياع القلب له بالالتزام والخضوع النفسىّ، كما هو موضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال، فهما حكمان عقليّان عرضيّان. الثاني منهما ـ وهو وجوب الامتثال ـ مشروط عند الأصحاب القائلين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان بالوصول، والأوّل منهما ـ وهو وجوب الالتزام ـ يمكن افتراض اشتراطه بالوصول أيضاً، أو افتراض عدم اشتراطه بذلك. والثاني منهما خاصّ بالتكاليف الإلزاميّة المتوجّهة إلى المكلّف، في حين أنّ الأوّل منهما يشمل الأحكام الترخيصيّة والأحكام المتوجّهة إلى شخص آخر، فعلى الرجال ـ مثلاً ـ أن يلتزموا قلباً بالأحكام الخاصّة بالنساء، وكذا العكس.

الوجه الثاني: ـ أيضاً ـ هو افتراض أنّ للعقل حكمين تجاه الحكم الشرعىّ، وهما:

372

وجوب الامتثال بالأركان، ووجوب الالتزام بالجنان، إلّا أنّه يفترض وجوب الالتزام في طول وجوب الامتثال، أي: إنّ العقل يحكم بوجوب الالتزام بالتكليف الذي وجب امتثاله بما هو كذلك، فوجوب الامتثال مأخوذ في موضوع حكم العقل بوجوب الالتزام، إذن فلا مورد لوجوب الالتزام بالنسبة إلى الأحكام الترخيصيّة، أو الأحكام المتوجّهة إلى إنسان آخر، ولا بالنسبة إلى أىّ حكم غير منجّز، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين مثلاً.

الوجه الثالث: افتراض أنّ الموافقة الالتزاميّة هي شقّ من شقّي امتثال الحكم أوسع مورداً من شقّه الآخر الذي هو العمل بالأركان، فشقّ العمل بالأركان خاصّ بالأحكام الإلزاميّة المتوجّهة إلى شخص هذا الإنسان، في حين أنّ شقّ الموافقة بالجنان يشمل ما عدا ذلك أيضاً.

ووجوب الالتزام بناءً على هذا الوجه لا يمكن أن يشمل الحكم غير الواصل بناءً على مشرب القوم القائلين بأنّ حكم العقل بوجوب الامتثال متقوّم بالوصول، ومع عدمه تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الوجه الرابع: أن يفترض أنّ وزان الموافقة الالتزاميّة في التعبّديّات والتوصّليّات هو وزان قصد القربة في التعبّديّات، فكما أنّ قصد القربة دخيل في الغرض في التعبّديّات، فلا يصحّ العمل من دونه، كذلك قد تكون الموافقة الالتزاميّة دخيلة في الغرض في التعبّديّات والتوصّليّات، فلا يصحّ العمل من دونها.

وهذا الوجه لو تمّ لاختصّ وجوب الالتزام بالحكم المنجّز، فهو من هذه الناحية أخصّ من الوجه الأوّل والثالث غير المختصّين بالحكم المنجّز، لكنّه في نفس الوقت أوسع من الوجه الثاني الذي كان ـ أيضاً ـ مختصّاً بالحكم المنجّز؛ وذلك لأنّ الوجه الثاني لم يكن يأتي في موارد دوران الأمر بين المحذورين؛ لأنّ وجوب الالتزام كان في طول التنجّز، ولا تنجّز في موارد دوران الأمر بين المحذورين، في حين أنّ هذا الوجه لو تمّ أصبح المكلّف متمكّناً من المخالفة القطعيّة باختيار أحد الطرفين مع ترك الالتزام، فقد خرج المورد عن الدوران بذاك المعنى(1).

الوجه الخامس: افتراض أنّ الالتزام القلبىّ واجب شرعىّ مستقلّ في قبال سائر


(1) أو يجب الالتزام بالجامع على احتمال يأتي في الجهة الثانية.

373

الواجبات الشرعيّة. وهذا متوقّف على ورود دليل شرعىّ على ذلك في الأحكام كما ورد في اُصول الدين، ويدور ـ حينئذ ـ سعة وضيقاً مدار مفاد ذاك الدليل المفترض.

ومقصود الأصحاب (رضوان الله عليهم) ممّا جعلوه مداراً إثباتاً ونفياً في المقام هو: الوجه الثالث من هذه الوجوه دون غيرها. أمّا الوجه الخامس فواضح(1)، وأمّا الأوّلان والرابع فيظهر من التأمّل في كلماتهم: أنّها غير مقصودة. ونحن نقتصر هنا على الاستشهاد بالقرائن الموجودة في كلام المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله):

فقوله في الكفاية في أوّل هذا المبحث: «هل تنجّز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملاً يقتضي موافقته التزاماً...» ينفي إرادة الوجه الأوّل؛ فإنّ وجوب الالتزام بناءً على الوجه الأوّل حكم عقلىّ في عرض التنجّز، وليس شقّاً من شقّي التنجّز، ولا مترتّباً على التنجّز، فقوله: «هل تنجّز التكليف يقتضي...» إنّما يتلاءم مع الوجه الثاني الذي يكون وجوب الالتزام فيه حكماً عقليّاً مترتّباً على التنجّز، أو الثالث الذي يكون وجوب الالتزام فيه شقّاً من شقّي التنجّز، أو الرابع الذي يكون الالتزام فيه دخيلاً في الغرض، فيتنجّز على العبد بتنجّز التكليف.

ثُمّ تصريحه(رحمه الله) في أثناء البحث بأنّ الموافقة الالتزاميّة بناءً على وجوبها تجب حتّى في غير موارد وجوب الموافقة القطعيّة أو حرمة المخالفة القطعيّة ينفي الثاني والرابع؛ فإنّ الثاني لا يكون إلّا في مورد يتنجّز العمل بالأركان، والرابع يجري في مورد الدوران بين المحذورين، لكنّه لايكون في موارد الترخيص.

وقد أشكل(رحمه الله) على وجوب الالتزام بالوجدان الحاكم بعدم ثبوت حقّ من هذا القبيل للمولى، في حين أنّ هذا الإشكال لا مورد له على الوجه الرابع الذي يفترض فيه دخل الالتزام في غرض المولى؛ فإنّ الوجدان غير مطّلع على ما له دخل في غرض المولى، أو ليس له دخل.

وأيضاً عبّر(رحمه الله) بناءً على وجوب الالتزام بأنّ للحكم امتثالين وطاعتين: إحداهما بحسب القلب والجنان، والاُخرى بحسب العمل بالأركان، وهذا ـ كما ترى ـ ظاهره تعدّد


(1) لعلّ وجه الوضوح دعوى أنّه لامجال لتوهّم ورود دليل شرعىّ على ذلك. وعلى أيّ حال، فالقدر المتيقّن عندي: أنّ الأصحاب لم يقصدوا الوجه الرابع؛ فإنّهم لم يتكلّموا في الوجوب الشرطىّ للالتزام، وإنّما تكلّموا فيما هو من سنخ الوجوب التكليفىّ.

374

الحقّ، فهو ينفي الرابع، وعرضيّة الحقّين، فهو ينفي الثاني.

وعلى أىّ حال، فهذا الوجه الثالث الذي عليه مدار البحث عند الأصحاب نفياً أو إثباتاً الحقّ فيه هو النفي؛ وذلك لوضوح: أنّ التكليف لا يدعو إلّا إلى ما تعلّق به، وهو لم يتعلّق إلّا بالعمل، وحكم العقل بتنجّز التكليف ليس إلّا ضماناً عقليّاً لتحقّق ما أراده التكليف من التحرّك، إذن فالالتزام غير مشمول لا لتحريك التكليف ودعوته؛ إذ لم يتعلّق به، ولا لحكم العقل بالتنجّز؛ إذ لم يكن داخلاً في تحريك التكليف كي ينجّزه العقل، فلو فرضنا حكم العقل بوجوبه، فليس إلّا حكماً جديداً غير داخل في صميم حكم العقل بتنجّز التكليف، وليس شقّاً من شقّي وجوب الامتثال.

ويرد على الوجه الأوّل والثاني والثالث التي تجمعها دعوى حكم العقل بحقّ الموافقة الالتزاميّة للمولى: ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) في المقام: من أنّ الوجدان حاكم بانتفاء حقّ من هذا القبيل، وأنّ العبد الذي امتثل بالأركان ولم يلتزم بالجنان لا يستحقّ إلّا الثواب.

وينبغي أن يكون المقصود بذلك: دعوى أنّ العقل العملىّ الحاكم في تشخيص علاقات العبد والمولى الحقيقىّ يدرك عدم حقّ من هذا القبيل، لا الاستشهاد على المقصود بالنسبة إلى العبد وخالقه بحالة العبيد والموالي الاعتياديّين؛ إذ يرد على ذلك: أنّ مولويّة الله تعالى ذاتيّة، ويستحيل أن تكون مجعولة، ومولويّة الموالي الاعتياديّين مجعولة، ويستحيل أن تكون ذاتيّة، ودائرة الحقّ المجعول سعة وضيقاً تتبع دائرة الجعل، ولا تكون سعة دائرة جعله وضيقها دليلاً على سعة دائرة الحقّ الذاتيّ وضيقها، كما هو واضح.

ويرد على الوجه الرابع: أنّه لا يدلّنا برهان ولا وجدان على دخل الالتزام في غرض المولى، وحينئذ فإن أمكن أخذه في الخطاب، دفعنا احتماله بالإطلاق، وإلّا نفيناه بالبراءة وبالإطلاق المقامىّ.

بل نحن نقطع على وفق عرفنا المتشرّعىّ، وأنسنا بمذاق الشارع بعدم دخل ذلك في غرضه(1).

ويرد على الوجه الخامس: عدم ورود أىّ دليل شرعىّ يدلّ عليه.


(1) إذ لم ترد أىّ إشارة إلى ذلك من قريب أو بعيد في كتاب أو سنّة على رغم الابتلاء به.

375

مانعيّة وجوب الالتزام عن جريان الاُصول

 

الجهة الثانية: في أنّ وجوب الموافقة الالتزاميّة لو سلّم فهل يمنع ذلك عن جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالىّ حينما لا يكون مانع عملىّ عن ذلك، أو لا؟

وكان الجدير في منهجة البحث تأخير ذلك عن مبحث منجّزيّة العلم الإجمالىّ؛ لصعوبة بحث مانعيّة وجوب الموافقة الالتزاميّة عن جريان الاُصول قبل معرفة قواعد العلم الإجمالىّ، فهذا من تشويش الأبحاث.

إلّا أنّنا قد بحثنا على وفق ترتيب الكفاية، ولهذا نتعرّض لهذا البحث هنا.

وعلى أىّ حال، فقد وقع في كلماتهم تشويش في بيان وجه المانعيّة نشأ عنه التشويش في الجواب عن ذلك.

فقد جاء في الدراسات في بيان وجه المانعيّة: أنّ جريان الأصل في الأطراف يستلزم المخالفة الالتزاميّة تكويناً؛ لاستحالة الالتزام بشيء مع التعبّد بخلافه في تمام الأطراف، في حين أنّ هذا البيان ليس على ما ينبغي؛ إذ المفروض: أنّه لولا وجوب الموافقة الالتزاميّة، لجرت الاُصول في الأطراف بلا أىّ منافاة بينها وبين الحكم الواقعىّ، وقد افترضنا الفراغ من إمكانيّة الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ في مورد واحد، فما معنى تصوّر التنافي بين التزامين بشيئين غير متنافيين؟!(1)

فالذي ينبغي أن يفترض في مقام تصوير المانعيّة، ويجعل مصبّاً للبحث إثباتاً ونفياً إنّما هو القول بأنّ جريان الأصل في الأطراف يستلزم الترخيص في المخالفة الالتزاميّة. فلنفحص عن حال هذا التصوير للمانعيّة بناءً على كلّ واحد من الوجوه الخمسة الماضية لفرضيّة وجوب الموافقة الالتزاميّة:

أمّا على الوجه الأوّل: وهو كون وجوب الالتزام وجوباً عقليّاً منفصلاً عن مسألة التنجّز والامتثال إطلاقاً، فمن الواضح: أنّ دليل الأصل إنّما يؤدّي إلى نفي التنجيز وضرورة الامتثال، والمفروض أنّ هذا حكم عقلىّ آخر أجنبىّ عن ذاك.

نعم، لو كان هذا أثراً شرعيّاً للتكليف، لأمكن أن يقال: إنّ الأصل النافي للتكليف بناءً


(1) هذا لو لم نقل بإمكانيّة الالتزام بالمتنافيين ـ أيضاً ـ بناءً على أنّ الالتزام القلبىّ سهل المؤونة.

376

على تنزيليّته ينفي هذا الأثر، ونقصد بالتنزيليّة هنا: (كون الأصل ناظراً إلى تمام الآثار، لا ما وقع عليه الاصطلاح عند المشهور: من لحاظ نوع للكشف فيه)، ولكنّ المفروض أنّ هذا أثر عقلىّ بحت، والأصل التنزيلىّ إنّما يثبت أو ينفي الآثار الشرعيّة.

وأمّا على الوجه الثاني: وهو كون الالتزام حكماً عقليّاً اُخذ في موضوعه التنجّز ووجوب الامتثال، فمن الواضح ـ أيضاً ـ أنّ هذا لا يصلح مانعاً عن جريان الاُصول التي هي جارية لولاه؛ فإنّ المفروض انتفاء أىّ تنجيز أو وجوب امتثال في الرتبة السابقة على وجوب الالتزام، إذن لا موضوع لوجوب الالتزام.

وأمّا على الوجه الثالث: وهو كون وجوب الالتزام شقّاً من شقّي التنجّز مترتّباً على الوصول على حسب مبناهم، فيمكن تصوير المنافاة في المقام بين جريان الاُصول ووجوب الموافقة الالتزاميّة بأن يقال: إنّ وجوب الموافقة الالتزاميّة على هذا الوجه شقّ من شقّي التنجّز ووجوب الامتثال، والمفروض أنّ الاُصول تؤدّي إلى انتفاء التنجّز ونفي وجوب الامتثال، فهي تنفي وجوب الالتزام، فكما أنّ لزوم الترخيص في المخالفة القطعيّة العمليّة تمنع ـ مثلاً ـ عن جريان الاُصول، كذلك لزوم الترخيص في المخالفة الالتزاميّة تمنع عن ذلك.

وهذا البيان إنّما يكون له مجال في المقام ـ بغضّ النظر عمّا سيأتي إن شاء الله تعالى من الجواب ـ إذا كان مفاد الأصل نفي الواقع، كقوله: «رفع ما لا يعلمون». وبذلك يرفع جميع الآثار الامتثاليّة، أمّا إذا كان مفاده ناظراً إلى جانب العمل فحسب، فلا علاقة له بحقّ الالتزام حتّى يمنع عن جريانه(1).

 


(1) كأنّ ظاهر هذا الرجوع إلى لسان دليل الأصل. والأولى في المقام أن يقال: إنّنا تارة نفترض أنّ دليل الأصل لا يمكن أن ينفي التنجيز أو التعذير العقليّين، ويثبت ما يقابله لا مباشرة ولا عن طريق حكم تكليفىّ كالترخيص في المخالفة أو إيجاب الاجتناب مثلاً، فحتّى لو كان دليل الأصل وارداً بهذا اللسان، يجب تأويله وحمله على إيجاد العلم التعبّديّ على خلاف الحكم المنفىّ، بدعوى أنّ هذا يترتّب عليه نفي التنجيز أو التعذير وإثبات عكسه تلقائيّاً.

واُخرى نفترض أنّ دليل الأصل ينفي التنجيز العقلىّ مباشرة، أو عن طريق حكم تكليفىّ. وثالثة نفترض إمكانيّة كلا الأمرين.

فعلى الفرض الأوّل لا يعقل التفكيك بين شقّي التنجيز من وجوب الالتزام ووجوب العمل بأن يرفع بالأصل الثاني دون الأوّل، فتقع المنافاة ـ مثلاً ـ بين الأصل ووجوب الالتزام.

377

والصحيح: أنّ بيان المنافاة على هذا الوجه ـ أيضاً ـ غير تامّ، وذلك لأنّ الوصول الذي هو موضوع التنجيز لم يتمّ إلّا بقدر الجامع.

وتوضيح ذلك: أنّ هناك كلاماً في أنّ العلم في موارد العلم الإجمالىّ هل هو متعلّق بالواقع على قدره الحقيقىّ، أعني الفرد، أو بالجامع؟ فإن قلنا بالأوّل كما عليه المحقّق العراقىّ(رحمه الله) (وقد تُفرّعُ عليه علّيّة العلم الإجمالىّ لوجوب الموافقة القطعيّة)، صحّ القول في


وعلى الفرض الثاني يعقل التفكيك، وحينئذ إن لم يكن لدليل الأصل إطلاق يشمل نفي وجوب الالتزام، فلا منافاة بين الأصل ووجوب الالتزام، وإن كان له إطلاق ففي مثل مستصحبي النجاسة ودوران الأمر بين المحذورين، يسقط الإطلاق بالتعارض، وتجري الاُصول بلحاظ العمل، وفيما إذا كان الأصل في أحد الطرفين نافياً للإلزام، وفي الطرف الآخر إلزاميّاً، والعلم الإجمالىّ تعلّق بمخالفة أحد الأصلين للواقع، (كما لو علمنا إجمالاً إمّا بنجاسة الإناء المستصحب الطهارة، أو بطهارة الإناء المستصحب النجاسة)، فنفي الأصل لوجوب الامتثال العملىّ والقلبىّ في الطرف الأوّل يعارض نفي الأصل لوجوب الامتثال القلبىّ في الطرف الآخر.

وعلى الفرض الثالث نرجع إلى لسان دليل الأصل، فإن كان لسانه الفرض الأوّل، اُلحق به، وإن كان لسانه لسان الفرض الثاني، اُلحق به، أمّا مع الإجمال فإن فرض معنى الإجمال تردّد مفهوم الكلام بين الفرضين، التحق في النتيجة بأخسّ الفرضين، وإن فرض معنى الإجمال الدلالة على مفهوم جامع بين الفرضين، التحق في النتيجة بأخصّب الفرضين.

وهنا فرض رابع: وهو الذي نؤمن به: من أنّ روح الأصل ثبوتاً أجنبىّ عن كلّ تلك الفروض السابقة حتّى لو كان لسانه لسان أحد تلك الفروض، وإنّما واقع الأصل وحقيقته: هو إبراز اهتمام المولى أو عدم اهتمامه بالحكم الواقعىّ في ظرف الشكّ. ومن هنا يصبح كلّ أصل حاكياً عن اهتمام المولى بما يتطلّبه الحكم الواقعىّ من الالتزام به قلباً لو كان مطابقاً مع الواقع، ففي مستصحبي النجاسة يقتضي الاستصحاب التزامنا قلباً بالنجاسة الواقعيّة لكلّ من الإناءين، صحيح أنّ الاستصحاب حكم ظاهرىّ، لكنّ معنى ظاهريّته: أنّه وجب علينا ظاهراً الالتزام بالنجاسة الواقعيّة، فبناءً على عدم إمكانيّة الالتزام بالمتناقضات والمتضادّات يصبح الوجه الصحيح لبيان المنافاة بين وجوب الالتزام والاُصول هو التقريب الذي مضى عن السيّد الخوئىّ: من أنّه مع إجراء الاُصول نعجز تكويناً عن الالتزام بالحكم الواقعىّ المعلوم إجمالاً.

أمّا إذا قلنا بإمكانيّة الالتزام بالمتناقضات والمتضادّات، فحال الأصل النافي للمعلوم بالإجمال في هذا الفرض هو حال الأصل في الفرض الأوّل، أي: إنّه لا يعقل ـ أيضاً ـ التفكيك بين شقّي التنجّز، فتتمّ المنافاة بين الاُصول ووجوب الالتزام.

هذا كلّه حال الأصل النافي للمعلوم بالإجمال، كاستصحاب عدم الطهارة مع العلم بطهارة أحدهما. أمّا الأصل المثبت لما يضادّ المعلوم بالإجمال، كاستصحاب النجاسة مع العلم بطهارة أحدهما، ففي الفرض الأوّل والثاني والثالث لا تنافي بين وجوب الالتزام وجريان الاُصول بناء على عدم حجّيّة مثبتات الاُصول، وفي الفرض الرابع لا فرق بين الأصل المثبت لما يضادّ المعلوم بالإجمال والأصل النافي للمعلوم بالإجمال؛ فإنّه على أىّ حال يدلّ على اهتمام المولى بالحكم الذي أثبته لو كان هو الواقع في مقابل الحكم الآخر، أي: يهتمّ بالحكم الآخر لو كان هو الواقع، ولا فرق في ذلك بين افتراضها نقيضين أو ضدّين.

378

المقام بالمنافاة بين جريان الاُصول ووجوب الالتزام؛ إذ الاُصول تنفي وجوب الالتزام بكلّ واحد من الأفراد، وبالتالي تنفي وجوب الالتزام بذاك الفرد المعلوم بالإجمال.

ولكن المختار لنا في باب العلم الإجماليّ هو تعلّق العلم بالجامع، فالوصول إنّما تمّ بهذا المقدار، والاُصول العمليّة حينما تؤدّي إلى الترخيص في ترك الحكم الإلزامىّ قد يقال بتساقطها؛ لأجل أنّ جريان بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجّح، وجريانها في الجميع ترخيص في ترك الجامع؛ لأنّ ترك تمام الأفراد يساوق ترك الجامع. وهذا البيان كما ترى لا يأتي في طرف الالتزام، فلو لم تلزم من الاُصول مخالفة عمليّة، فلا بأس بإجرائها في تمام الأطراف؛ فإنّ غاية ما يستلزم جريانها هو الترخيص في ترك الموافقة الالتزاميّة لكلّ طرف من الأطراف، والوصول لم يتمّ إلّا بقدر الجامع، وترك الالتزام بالأطراف لا يساوق ترك الالتزام بالجامع.

وبتعبير آخر: إنّ الواجب هو الالتزام بالجامع فحسب، وجريان الأصل في تمام الأطراف لا يوجب الترخيص في ترك الالتزام بالجامع، إلّا بأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: توهّم قياس جانب الالتزام بجانب العمل، فكما أنّ ترك الفردين ترك للجامع كذلك ترك الالتزامين ترك للالتزام بالجامع، في حين أنّك ترى أنّ ترك الالتزامين إذا قسناه بترك العملين فصحيح أنّ تركهما يقتضي ترك الجامع بينهما، كما أنّ ترك العملين يقتضي ترك الجامع بينهما، لكنّ هذا لا يعني ترك الالتزام بالجامع، فكم فرق بين ترك الجامع بين الالتزامين وترك الالتزام بالجامع، والالتزام بالجامع يقف على الجامع كما يقف العلم بالجامع عليه.

الثاني: أن يقال: إنّ موضوع وجوب الالتزام هو الحكم الشرعىّ مع الوصول، والأصل قد نفى الجزء الأوّل من الموضوع، وهو الحكم الشرعىّ، فهذا يساوق نفي وجوب الالتزام.

والجواب: أنّ جزء الموضوع هو الجامع بين الحكمين لا واقع الفرد؛ لأنّ المقدار المنجّز هو الجامع، والجامع ليس منفيّاً بالأصل.

الثالث: أن يقال: إنّ نفي الفردين بالأصل يساوق نفي الجامع؛ فإنّ عدم الجامع ليس تكويناً أمراً وراء عدم أفراده، كما أنّ وجوده ليس أمراً وراء وجود أفراده، فإثبات الفرد إثبات للجامع، ونفيه نفي له.

379

والجواب: أنّ كون نفي الأفراد تكويناً مساوقاً لنفي الجامع تكويناً لا يستلزم كون نفيها تشريعاً مساوقاً لنفيه تشريعاً، وعدم الجامع مفهوم مغاير لمفهوم عدم الأفراد، فإثبات الأوّل بالأصل الذي يثبت الثاني تمسّك بالأصل المثبت(1).

وأمّا على الوجه الرابع: وهو افتراض كون وزان الالتزام وزان قصد القربة في دخله في غرض المولى.

فالمقصود بذلك: إن كان هو افتراض كون الالتزام بالفرد الثابت في الواقع دخيلاً في الغرض، كان أثر ذلك خروج موارد دوران الأمر بين المحذورين عن الدوران، وإمكانيّة المخالفة القطعيّة العمليّة، ولاتجري الاُصول، وإن كان هو افتراض كون الالتزام بالقدر المعلوم (وهوالجامع) دخيلاً في الغرض، فأحد جزئي الواجب وهو الالتزام بالجامع يمكن


(1) كلّ هذا البيان إنّما يتمّ على رأي المشهور من كون الوصول هو المنجّز للحكم.

والواقع: أنّه على هذا الرأي كان على المشهور الالتزام بجواز مخالفة العلم الإجمالىّ الاحتماليّة عملاً برغم تساقط الاُصول الشرعيّة؛ وذلك لأنّ ما وقع تحت التنجيز إنّما هو الجامع، أمّا خصوصيّة الأفراد فهي باقية تحت قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولا معنىً لإسراء محذور التعارض الإثباتىّ في الاُصول الشرعيّة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وعلى أىّ حال، فبناءً على الرأي المختار: من أنّ الحكم يكفي في تنجيزه احتماله، وأنّ الأصل الشرعىّ يمنع عن التنجيز عن طريق إبراز عدم اهتمام المولى بالحكم في ظرف الشكّ، وأنّ تساقط الاُصول في أطراف العلم الإجمالىّ إنّما هو بنكتة عرفيّة تمنع عن قبول إطلاق الدليل لإثبات عدم اهتمام المولى بالحكم مع العلم الإجمالىّ إلى حدّ الترخيص في المخالفة القطعيّة، وأنّ جريان الأصل في بعض الأطراف دون بعض ترجيح بلا مرجّح... أقول: بناءً على ذلك كلّه صحّ أن يقال فيما نحن فيه: إنّ وجوب الموافقة الالتزاميّة ـ أيضاً ـ يمنع عن جريان الاُصول كوجوب الموافقة العمليّة؛ وذلك لأنّ إجراء الاُصول في تمام الأطراف يساوق الترخيص في المخالفة القطعيّة؛ لأنّ الواجب الذي يتطلّبه الحكم هو الالتزام بواقع الحكم لا بالجامع بين الحكمين، وإجراء الأصل في بعض الأطراف ترجيح بلا مرجّح، هذا إضافة إلى ما عرفته في التعليق السابق: من أنّ الإشكال بناءً على هذا الوجه (لو قلنا باستحالة الالتزام بالمتنافيات) ليس هو اقتضاء الاُصول للترخيص في ترك الالتزام، بل هو منعه تكويناً عن الالتزام. وهذا الإشكال لا يفرّق فيه بين فرض وجوب الالتزام بالواقع ووجوب الالتزام بالجامع؛ فإنّ الالتزام بنجاسة كلا الإناءين واقعاً والالتزام بجامع طهارة أحدهما واقعاً لا يجتمعان.

وقد ظهر بمجموع ما ذكرناه في هذا التعليق والتعليق السابق: أنّه بناءً على هذا الوجه الثالث من وجوه تصوير وجوب الالتزام يستفحل إشكال مانعيّة وجوب الالتزام عن جريان الاُصول، ولا يمكن حلّه لا عن طريق افتراض أنّ الأصل ليس عدا ترخيص في جانب العمل لا الالتزام، ولا عن طريق أنّ الوصول تمّ بقدر الجامع. نعم، يبقى أمل واحد لحلّ الإشكال وهو ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من بحث دفع وجوب الالتزام في المقام بمزاحمته لحرمة التشريع. وعلى أىّ حال، فلا يهمّنا الأمر بعد أن كان أصل الوجه الثالث غير صحيح بإشكال يخصّه كما مضى.

380

للعبد امتثاله على كلا الشقّين، أي: سواء اختار الفعل أو الترك، ومع امتثاله لذلك الجزء يكون أمره بالنسبة إلى الجزء الآخر دائراً بين المحذورين، فتجري البراءة عن الطرفين بناءً على جريانها في موارد الدوران بين المحذورين، ولا يمنعه وجوب الالتزام عن إجراء الأصل بالنسبة إلى الجزء الثاني(1).

وأمّا على الوجه الخامس: وهو كون وجوب الالتزام حكماً شرعيّاً مستقلّاً موضوعه الحكم الشرعىّ الأوّل، فأصل البراءة عن وجوبي الالتزام طبعاً غير جار؛ للتعارض والتساقط. أمّا الأصل الجاري في جانب العمل، فلا يشكّل وجوب الالتزام مانعاً عن إجرائه لو لم يكن فيه محذور عملىّ: بأن يؤدّي إلى جواز المخالفة العمليّة القطعيّة، سواء فرضنا الأصل تنزيليّاً بمعنى كونه ناظراً إلى كلّ آثار الواقع، أو فرضناه ناظراً إلى نفي ذات الحكم من دون أن ينفي آثاره الشرعيّة: أمّا على الثاني فواضح؛ لأنّ الأصلين لا ينفيان الأثر الشرعىّ المترتّب على الحكم، وهو وجوب الالتزام بحسب الفرض، فلا منافاة بينه وبين الأصلين، وأمّا على الأوّل، فلأنّ غاية ما يلزم سقوط إطلاق الأصلين بالنسبة إلى نفي هذا الأثر (وهو وجوب الالتزام)؛ لعلمنا الإجمالىّ بوجوب أحد الالتزامين، ولكن لا وجه لسقوط الأصلين من رأس(2).

هذا تمام الكلام في وجوب الموافقة الالتزاميّة، ومدى تأثيره في جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالىّ بغضّ النظر عن ابتلاء هذا الوجوب بمزاحم له: وهو حرمة التشريع (والمقصود من التشريع إسناد ما لم يعلم أنّه من الشارع إليه).

والآن نريد أن نتكلّم في النسبة بين وجوب الالتزام وحرمة التشريع، فنقول: لو اخترنا من الوجوه السابقة ما يتطلّب وجوب الالتزام بالجامع، إذن لا يوجد أىّ تصادم بينه وبين حرمة التشريع، أمّا لو اخترنا منها ما يتطلّب وجوب الالتزام بالفرد المعلوم بالإجمال بحدّه


(1) ولكن يمنعه عن إجراء البراءة من أصل الواجب الارتباطىّ المركّب من الفعل والالتزام، أو الترك والالتزام؛ لإمكانيّة المخالفة القطعيّة.

(2) لو افترضنا الأصل في أحد الطرفين إلزاميّاً، وفي الطرف الآخر نافياً للإلزام مع العلم الإجمالىّ بمخالفة أحد الأصلين للواقع، كما لو علمنا إجمالاً إمّا بطهارة الإناء المستصحب النجاسة، أو بنجاسة الإناء المستصحب الطهارة، فنفي الأصل لوجوب الالتزام في الطرف الأوّل يعارض نفي الأصل لوجوب العمل والالتزام في الطرف الثاني. نعم، الأصل في الطرف الأوّل بلحاظ العمل جار بلا معارض.

381

الفردىّ، فحينئذ: تارة يفترض أنّ وجوب الالتزام وحرمة التشريع حكمان عقليّان. واُخرى يفترض أنّهما حكمان شرعيّان.

وثالثة يفترض أنّ وجوب الالتزام عقلىّ، وحرمة التشريع شرعيّة.

ورابعة يفترض العكس.

ففي الفرض الأوّل: لابدّ من مراجعة العقل الذي هو الحاكم في تنظيم العلاقات بين العبد والمولى؛ كي يرى ماذا يحكم في مثل ما نحن فيه، من وجوب، أو تحريم، أو لا يحكم بشيء منهما؟

وفي الفرض الثاني: لابدّ من مراجعة الدليلين الشرعيّين المفترضين؛ كي يرى هل هناك مرجّح لدليل حرمة التشريع، وبالتالي يلغو وجوب الالتزام فيما نحن فيه نهائيّاً، أو هناك مرجّح لدليل وجوب الالتزام، وبالتالي تلغو حرمة التشريع في الفرد المعلوم بالإجمال، ولكن تبقى الحرمة في الفرد الآخر، ويصبح المورد من موارد العلم الإجمالىّ بواجب وحرام مع الاشتباه فيما بينهما، أو أنّه لا مرجّح لأحدهما على الآخر، فيتساقطان في الفرد المعلوم بالإجمال، وتبقى حرمة التشريع في الفرد الآخر، ويصبح المورد من موارد العلم الإجمالىّ بالحرام؟

وفي الفرض الثالث: لو كان حكم العقل بوجوب الالتزام تعليقيّاً، أي: كان معلّقاً على عدم ترخيص الشارع في الخلاف، فقد انتفى الوجوب بالترخيص المستفاد من دليل حرمة التشريع، ولو كان تنجيزيّاً، وقع التعارض بين دليل حرمة التشريع ودليل أصل ثبوت الحكم الذي يجب الالتزام به، ووجب الرجوع إلى قوانين باب التعارض في ذلك.

وفي الفرض الرابع: لو كانت حرمة التشريع عقلاً معلّقة على عدم ترخيص الشارع، فوجوب الالتزام ترخيص ناف للحرمة في الفرد المعلوم بالإجمال، فتقف حرمة التشريع على الفرد الآخر، ويصبح المورد من موارد العلم الإجمالىّ بواجب وحرام مع الاشتباه فيما بينهما(1).

وقد تلخّص من جميع ما ذكرناه إلى هنا: أنّه يشترط في سقوط الاُصول في أطراف


(1) أمّا لو كانت حرمة التشريع العقليّة تنجيزيّة، فوجوب الالتزام يسقط في المقام؛ لأنّ الدليل النقلىّ لا يقاوم عند التعارض حكم العقل. ولا أدري لماذا لم يوجد في المتن ذكر هذا الشقّ، ولعلّه سقط منّي عند تقرير البحث.

382

العلم الإجمالىّ من ناحية الالتزام القلبىّ ستة اُمور:

الأوّل: ثبوت مقتض لوجوب الالتزام بالأحكام الشرعيّة: بأن يعترف بأحد الملاكات الخمسة مثلاً.

الثاني: عدم مانعيّة استلزامه للتشريع عن ذلك.

الثالث: كون وجوب الالتزام عقليّاً لا شرعيّاً؛ إذ لو كان شرعيّاً، لقلنا بجريان الاُصول بالنسبة إلى الحكم الشرعىّ المتعلّق بالعمل دون هذا الحكم الشرعىّ المتعلّق بالالتزام، وإذا كان هذا الحكم من آثار ذاك الحكم، التزمنا بالتبعيض في آثار الأصل التنزيلىّ(1).

الرابع: أن يكون حقّ الالتزام شقّاً من شقّي التنجّز ووجوب الامتثال؛ إذ لو كان في الرتبة المتأخّرة عنه، فلا معنىً لمانعيّته عن جريان الاُصول الذي هو مساوق لعدم التنجّز في المرتبة السابقة، ولو كان حقّاً مستقلّاً عن حقّ الامتثال، لم يعقل ـ أيضاً ـ مانعيّته عن جريان الاُصول؛ لأنّ الاُصول إنّما تنفي حقّ الامتثال، ولا علاقة لها بحقّ آخر مستقلّ عنه.

الخامس: أن يكون العلم الإجمالىّ متعلّقاً بتمام الواقع لا بمقدار الجامع فقط، وإلّا لالتزمنا بالجامع، ولم يكن الترخيص في ترك الالتزام بالفردين ترخيصاً في ترك الالتزام بالجامع(2).

السادس: أن لا يكون مفاد الأصل ناظراً إلى الجانب العملىّ فحسب، بل يكون مفاده نفي الواقع (كقوله: رفع ما لا يعلمون)؛ كي يفيد رفع جميع الآثار الامتثاليّة(3).

هذا تمام الكلام في بيان ما هو المختار في مانعيّة وجوب الالتزام عن جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالىّ.


(1) قد عرفت تعليقنا على ذلك حيث عرفت أنّ أحد الأصلين قد يسقط نهائيّاً عند ما يكون وجوب الالتزام شرعيّاً.

أمّا لماذا لم يذكر هنا(رحمه الله) سقوط الاُصول على تقدير كون وجوب الالتزام من سنخ وجوب قصد القربة، أي: وجوباً شرطيّاً؟ فلعلّه لأجل أنّه بناءً على هذا الوجه يرجع الأمر في الحقيقة إلى محذور المخالفة العمليّة لا الالتزاميّة.

(2) قد عرفت تعليقنا على ذلك.

(3) قد عرفت تعليقنا على ذلك.

383

آراء الأعلام في المسألة

 

بقي الكلام فيما أفاده الأعلام من الأجوبة عن ذلك، وعمدتها وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: ما يظهر من كلام الشيخ الأعظم(رحمه الله): من أنّ الاُصول إذا كانت موضوعيّة فهي حاكمة(1) على وجوب الالتزام؛ لأنّها ترفع موضوع الحكم الذي يجب أن يلتزم به.

وإذا كانت حكميّة، وكان وجوب الالتزام حكماً شرعيّاً(2) مترتّباً على تلك الأحكام التي نفتها الاُصول، فأيضاً تكون الاُصول حاكمة على وجوب الالتزام؛ لأنّها نفت موضوعه، وهو الحكم الذي يجب الالتزام به. نعم، إذا كانت الشبهة حكميّة، وكان وجوب الالتزام حكماً عقليّاً، أصبح وجوب الالتزام مانعاً عن جريان الاُصول، ولا يمكن تقديم الاُصول عليه بالحكومة؛ فالاُصول لاتحكم على وجوب الالتزام لا مباشرة برفع موضوعه ـ (وهو الحكم الذي يجب الالتزام به)؛ لأنّ الحكومة إنّما تعقل بين أحكام حاكم واحد، ولا تعقل حكومة(3) حكم شرعىّ على حكم عقلىّ ـ ولابواسطة حكومتها على الحكم الذي يجب الالتزام به برفع موضوعه؛ لأنّ المفروض أنّ الأصل حكمىّ، وليس موضوعيّاً(4).

ويرد عليه: أنّ وجوب الالتزام إن فرضناه وجوباً شرعيّاً موضوعه الأحكام الشرعيّة، فالاُصول لاتنفيه بالحكومة؛ فإنّ حكومة الاُصول على الأحكام الواقعيّة ظاهريّة، وليست واقعيّة، ومع العلم بثبوت موضوع وجوب الالتزام واقعاً نعلم بثبوت هذا الوجوب واقعاً، فيجب امتثاله، ولا مورد للحكم الظاهرىّ بهذا اللحاظ.

وإن فرضناه وجوباً عقليّاً، فإن كان معلّقاً على عدم ترخيص الشارع، فالاُصول تنفيه


(1) كلمة (الحكومة) غير واردة هنا في الرسائل، ولعلّ المقصود هو الجامع بين الحكومة والورود.

(2) الموجود فيما عندي من نسخة الرسائل هو دعوى تقديم الاُصول على وجوب الالتزام في الشبهات الحكميّة ـ أيضاً ـ برفع موضوعه، من دون تفصيل بين كون وجوب الالتزام شرعيّاً أو عقليّاً.

(3) لا تعقل الحكومة في طرف التضييق بمعناها الخاصّ لا بالمعنى الشامل للورود، وأمّا الورود فمعقول إذا كان حكم العقل تعليقيّاً، أي: معلّقاً على عدم الترخيص.

(4) وحتّى لو كان موضوعيّاً لا تعقل الحكومة بالمعنى الخاصّ على حكم عقلىّ برفع موضوعه. نعم، تعقل الحكومة بالمعنى الشامل للورود فيما لو فرض الرفع حكماً واقعيّاً لا ظاهريّاً، أو فرض حكم العقل بوجوب الالتزام تعليقيّاً.

384

بالورود بلا فرق بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة، وإن كان تنجيزيّاً، فلايمكن رفع هذا الحكم العقلىّ التنجيزىّ بالاُصول، لا ابتداءً ولا برفع موضوعه وهو الحكم الواقعىّ: أمّا الأوّل فلأنّ المفروض تنجيزيّة الحكم العقلىّ في المقام، وكون العلم الإجمالىّ علّة تامّة لوجوب الالتزام، وأمّا الثاني فلما قلنا: من أنّ حكومة الاُصول على الأحكام الواقعيّة ظاهريّة(1)، والمفروض الفراغ من عدم المنافاة بين الحكم الواقعىّ والظاهرىّ. ولعلّه(رحمه الله)يشير إلى ما ذكرناه في نفي حكومة الاُصول على وجوب الالتزام بما ذكره في آخر عبارته من قوله: (ولكنّ التحقيق: أنّه لو ثبت هذا التكليف، أعني: وجوب الأخذ بحكم الله والالتزام مع قطع النظر عن العمل، لم تجر الاُصول؛ لكونها موجبة للمخالفة العمليّة


(1) أمّا لو كانت واقعيّة، فلامعنىً ـ أيضاً ـ للحكومة بمعناها الخاصّ على الحكم العقلىّ بتقليصه عن طريق نفي موضوعه تعبّداً، ولا فرق في عدم معقوليّة الحكومة بالمعنى الخاصّ بين الحكومة بالمباشرة بنفي موضوع وجوب الالتزام وهو الحكم الشرعىّ تعبّداً، والحكومة بواسطة الحكومة على الحكم الشرعىّ الذي يجب الالتزام به بنفي موضوع الحكم الشرعىّ تعبّداً. نعم، لو كان نفي موضوع الحكم الشرعىّ تعبّداً واقعيّاً لا ظاهريّاً، أنتج ذلك بالحكومة نفي الحكم الشرعىّ واقعاً، ويكون هذا وارداً على حكم العقل بوجوب الالتزام بالحكم الشرعىّ برفع موضوعه تكويناً.

وعلى أيّ حال، فلاإشكال في أنّ حكم العقل بوجوب الالتزام لو كان تنجيزيّاً، لم يعقل رفعه بالاُصول؛ لأنّه خلف تنجيزيّته، ولو كان تعليقيّاً، ارتفع بالاُصول.

ولعلّ هذا هو مقصود صاحب الكفاية(رحمه الله) فيما جاء في نسخة (حقائق الاُصول) من قوله بعد بيان عدم المانع عن جريان الاُصول من قبل لزوم الالتزام: «كما لا يدفع بها محذور عدم الالتزام به، إلّا أن يقال: إنّ استقلال العقل بالمحذور فيه إنّما يكون فيما إذا لم يكن هناك ترخيص في الإقدام والاقتحام في الأطراف، ومعه لا محذور فيه، بل ولا في الالتزام بحكم آخر».

إلّا أنّ نسخة المشكينىّ تشير إلى بيان مسألة عدم رافعيّة الاُصول لوجوب الالتزام لو كان تنجيزيّاً في صياغة الدور، حيث جاءت العبارة كما يلي:

«كما لا يدفع بها محذور عدم الالتزام به، بل الالتزام بخلافه لو قيل بالمحذور فيه حينئذ أيضاً، إلّا على وجه دائر؛ لأنّ جريانها موقوف على عدم محذور في عدم الالتزام اللازم من جريانها، وهو موقوف على جريانها بحسب الفرض. اللّهمّ، إلّا أن يقال: إنّ استقلال العقل بالمحذور فيه...» إلى آخر ما مضى.

وهناك نسخة ثالثة بناءً على ما ذكره المشكينىّ(قدس سره) في تعليقته حذفت فيها تمام العبارة، وذكر المشكينىّ(رحمه الله)أنّ اُستاذه نقل: أنّ المحقق الخراسانىّ ضرب القلم على هذه العبارة.

أقول: إنّ بيان الإشكال على رفع وجوب الالتزام بجريان الاُصول بناءً على تنجيزيّته في صياغة الدور لابأس به؛ فإنّ جريان الاُصول متوقّف على عدم حكم العقل تنجيزيّاً بوجوب الالتزام، فلو كان هو في نفس الوقت رافعاً لذلك، للزم الدور، إلّا أنّنا لسنا بحاجة إلى إشكال الدور؛ فإنّ حكم العقل إن كان تنجيزيّاً، فنفس تنجيزيّته كافية في وضوح عدم ارتفاعه بالاُصول؛ لأنّ ذلك خلف تنجيزيّته، وإن كان تعليقيّاً، فيرتفع لا محالة بجريان الاُصول بلا لزوم دور في المقام.

385

للخطاب التفصيلىّ، أعني: وجوب الالتزام بحكم اللَّه، وهو غير جائز حتّى في الشبهة الموضوعيّة كما سيجيء، فيخرج عن المخالفة العمليّة).

الوجه الثاني: ما جاء في (الدراسات): من أنّه لا يجب الالتزام بالحكم بعنوانه التفصيلىّ حتّى يمنع ذلك عن جريان الاُصول في الأطراف، بل يكفي الالتزام به بعنوانه الإجمالىّ.

وهذا الجواب غير صحيح، سواء قرّبنا المانعيّة بفرضيّة: أنّ جريان الاُصول ينافي وجوب الالتزام، أو قرّبناها بفرضيّة أنّ إجراء الاُصول يجعل الالتزام بالحكم المعلوم غير ممكن.

أمّا على التقريب الأوّل، فأجنبيّة الجواب الذي ذكره عمّا نحن فيه في غاية الوضوح؛ فإنّ من يرى مانعيّة وجوب الالتزام عن جريان الاُصول بهذا التقريب يرى أنّ جريان الاُصول في تمام الأطراف والترخيص فيها جميعاً يوجب الترخيص في ترك الامتثال الجنانىّ للحكم المعلوم ثبوته في أحد الأطراف، ومن المعلوم: أنّه لا فرق في ذلك بين فرض كون الامتثال الجنانىّ عبارة عن الالتزام بالحكم بعنوانه التفصيلىّ وفرض كونه عبارة عن الالتزام بالحكم بعنوانه الإجمالىّ(1). ولعلّ نظر السيّد الخوئىّ في الجواب إلى التقريب الثاني من تقريبي المانعيّة، لا التقريب الأوّل الذي تكون أجنبيّة الجواب عنه في غاية الوضوح.

وأمّا على التقريب الثاني، فالصحيح ـ أيضاً ـ أنّ الجواب المذكور في غير محلّه؛ فإنّ منشأ دعوى التنافي بين الاُصول والالتزام هو توهّم أنّ الالتزام بشيء مع التعبّد بضدّه ظاهراً التزام بالضدّين(2)، مع توهّم أنّ الالتزام بالضدّين محال. وهذا ـ أيضاً ـ لا يفرّق فيه بين فرض الالتزام بالعنوان التفصيلىّ والالتزام بالعنوان الإجمالىّ؛ فإنّ الالتزام بشيء سواء كان بعنوانه التفصيليّ، أو الإجمالىّ مع الالتزام بما يضادّه التزام بالمتضادّين المفروض استحالته.


(1) لو قصد بالالتزام بالحكم بعنوانه الإجمالىّ الالتزام بالجامع، وقيل: إنّ الاُصول في الأطراف إنّما تنفي وجوب الالتزام بخصوصيّة الأفراد، فالإشكال غير وارد.

(2) أو اعتقاد أنّ الأصل يوجب علينا ظاهراً الالتزام بواقعيّة الحكم المنافي للمعلوم بالإجمال، كما يتّجه ذلك على بعض الشقوق، وقد مضى.

386

الوجه الثالث: ما ذكره المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله)، وإليك نصّ عبارته:

«ثمّ لا يذهب عليك أنّه على تقدير لزوم الموافقة الالتزاميّة ـ لو كان المكلّف متمكّناً منها ـ تجب ـ ولو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعيّة عملاً، ولا يحرم المخالفة القطعيّة عليه كذلك أيضاً؛ لامتناعها، كما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته ـ للتمكّن من الالتزام بما هو الثابت واقعاً والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت، وإن لم يعلم أنّه الوجوب أو الحرمة. وإن أبيت إلّا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه، لما كانت موافقته القطعيّة الالتزاميّة ـ حينئذ ـ ممكنة، ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعاً؛ فإنّ محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلاً ليس بأقلّ من محذور عدم الالتزام به بداهة، مع ضرورة أنّ التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام، لم يكد يقتضي إلّا الالتزام بنفسه عيناً، لا الالتزام به أو بضدّه تخييراً. ومن هنا انقدح: أنّه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الاُصول الحكميّة أو الموضوعيّة في أطراف العلم، لو كانت جارية مع قطع النظر عنه».

وظاهر العبارة أنّ كلمة «من هنا» في آخر عبارته إشارة إلى كلّ ما مضى، إذن فمقصوده(رحمه الله) هو الجواب عن مشكلة مانعيّة وجوب الالتزام عن جريان الاُصول:

أوّلاً: بأنّ الالتزام الواجب إنّما هو الالتزام بالواقع على إجماله، لا الالتزام به بعنوانه التفصيلىّ، والالتزام بالواقع على إجماله لا ينافي جريان الاُصول.

وثانياً: بأنّه لو تنزلنا وافترضنا كون الواجب هو الالتزام بالواقع بعنوانه التفصيليّ: «لما كانت موافقته القطعيّة الالتزاميّة ـ حينئذ ـ ممكنة؛ ولما وجب عليه الالتزام...» إلى آخره.

إلّا أنّ المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) فسّر العبارة بتفسير غريب، وهو: أنّه مع الاعتراف بأنّ الواجب هو الالتزام بالواقع على إجماله يصبح وجوب الالتزام مانعاً عن جريان الاُصول؛ لأنّ وجوب الالتزام ثابت حتّى في حالة دوران الأمر بين المحذورين، فيمنع عن جريان الاُصول على رغم عدم محذور عملىّ؛ لعدم إمكانيّة الموافقة القطعيّة ولا المخالفة القطعيّة، أمّا إذا افترضنا أنّ الواجب هو الالتزام بالواقع بعنوانه التفصيلىّ، إذن لا يشكّل هذا محذوراً عن جريان الاُصول في موارد دوران الأمر بين المحذورين؛ إذ على هذا الفرض «ما كانت موافقته القطعيّة الالتزاميّة ـ حينئذ ـ ممكنة...» إلى آخر عبارة الكفاية.

387

وعلى أىّ حال، فلو كان مقصود صاحب الكفاية هو الذي نحن فهمناه من عبارته: من افتراض عدم وجوب الالتزام بالعنوان التفصيلىّ، وكفاية الالتزام بالواقع على إجماله جواباً مستقلّاً عن مانعيّة وجوب الالتزام عن إجراء الاُصول، فهذا هو عين الجواب الذي نقلناه عن الدراسات، وقد عرفت تعليقنا عليه.

أمّا الذي نريد بحثه هنا، فهو جوابه عن تقدير وجوب الالتزام بالواقع بعنوانه التفصيلىّ.

وظاهر عبارته(رحمه الله): أنّه على هذا التقدير له جوابان. إلّا أنّ الذي يقتضيه الفنّ هو أن يكونا شقّين لجواب واحد عن فرضين مختلفين، بأن يقال:

تارة يفترض أنّ التكليف يتطلّب الالتزام به بعينه، ولكنّنا نتنزّل من الموافقة القطعيّة إلى الموافقة الاحتماليّة بالالتزام بأحد الطرفين؛ لعدم القدرة على الموافقة القطعيّة باعتبار استحالة الالتزام بالضدّين.

واُخرى يفترض أنّ التكليف ابتداءً لا يتطلّب عدا الالتزام به، أو بضدّه تخييراً.

فإن فرض الأوّل، قلنا: إنّ الالتزام بأحدهما كان موافقة التزاميّة احتماليّة، لكنّه في نفس الوقت يحتمل أن يكون التزاماً بضدّ التكليف، وليس محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلاً بأقلّ من محذور عدم الالتزام بالتكليف.

وإن فرض الثاني، قلنا: إنّ إشكال حرمة الالتزام بضدّ التكليف لايكون وارداً؛ لأنّ المفروض أنّ التكليف هو الذي يتطلّب منّا تخييراً الالتزام به أو بضدّه، إلّا أنّ هذا الفرض في نفسه ضرورىّ البطلان؛ بداهة أنّ التكليف لو كان يقتضي الالتزام، فإنّما يقتضي الالتزام به عيناً، لا الالتزام به أو بضدّه تخييراً.

ويرد عليه: أنّ فرضيّة عدم كون محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلاً أقلّ من محذور عدم الالتزام بالتكليف، لا تكفي لإسقاط وجوب الالتزام في المقام. نعم، يمكن إسقاطه لو فرض كون محذور الالتزام بضدّ التكليف أقوى، أمّا مع التساوي فستترجّح كفّة وجوب الالتزام بالتكليف على كفّة قبح الالتزام بضدّ التكليف؛ لأنّ في ترك الالتزام بشيء من الحكمين مخالفة قطعيّة لوجوب الالتزام، وفي الالتزام بأحدهما مخالفة احتماليّة لقبح الالتزام بضدّ التكليف، والمخالفة الاحتماليّة أهون من المخالفة القطعيّة.

388

توضيح ذلك(1) أنّنا تارة نتكلّم على مبنى علّيّة العلم الإجمالىّ لوجوب الموافقة القطعيّة وتعلّقه بالواقع، واُخرى على مبنى اقتضائه وتعلّقه بالجامع. أمّا على الثاني فلا تزاحم بين الحقّين أصلاً؛ لتمكّنه من الموافقة القطعيّة لكليها: بأن يلتزم بالجامع، ولا يلتزم بخصوصيّة أحد الفردين.

فالذي ينبغي فرضه في المقام هو المبنى الأوّل الذي هو مبنى المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله). وعليه نقول: إنّ هناك حقّين عقليّين للمولى قد تزاحما:

الحقّ الأوّل: هو حقّ الالتزام بحكم المولى، وبعد فرض عدم إمكان الموافقة القطعيّة بالالتزام بالضدّين، وفرض بقاء هذا الحقّ، وعدم سقوطه على رغم عدم إمكان الالتزام بالضدّين، لابدّ من افتراض تبدّل محور الحقّ، وتنزّله من الالتزام بالحكم بنحو الموافقة القطعيّة إلى الالتزام به بنحو الموافقة الاحتماليّة، وذلك بغضّ النظر عن الحقّ الثاني المزاحم لهذا الحقّ، وبمجرّد نكتة عدم إمكانيّة الموافقة القطعيّة وبقاء الحقّ في نفس الوقت.

الحقّ الثاني: هو حقّ ترك الالتزام بضدّ التكليف، وهذا الحقّ بغضّ النظر عن مزاحمه،


(1) هذا التوضيح في الحقيقة جواب عن إشكال قد يورد في المقام: وهو أنّ المخالفة القطعيّة لوجوب الالتزام بالواجب توأم مع الموافقة القطعيّة لحرمة الالتزام بضدّ الواجب، والمخالفة والموافقة الاحتماليّة لأحدهما توأم للمخالفة والموافقة الاحتماليّة للآخر، فالكفّتان متعادلتان.

ويمكن الجواب عن ذلك بوجهين:

الأوّل: ما قد يقال في موارد اشتباه عمل واجب بعمل آخر محرّم: من أنّه يجب التنزّل من الموافقة القطعيّة لأحدهما التوأم للمخالفة القطعيّة للآخر إلى الموافقة الاحتماليّة لكلّ منهما، فإذا كان الأمر كذلك في موارد اشتباه الواجب بالحرام، فكذلك الحال في المقام.

إلّا أنّ هذا غير تامّ في المقام لأمرين:

أوّلاً: أنّ هذا الرأي مبتن على أنّ العلم الإجمالىّ متعلّق بالجامع بحدّه الجامعىّ، لا الواقع بحدّه الواقعىّ، وأنّ العلم الإجمالىّ أصبح بذلك علّة تامّة لوجوب الامتثال بقدر الجامع، إذن فترجح كفّة الموافقة الاحتماليّة لكلا الطرفين المساوقة للإتيان بكلا الجامعين على كفّة الموافقة القطعيّة لأحدهما والمخالفة القطعيّة للآخر، في حين أنّنا في المقام نتكلّم على مبنى تعلّق العلم الإجمالىّ بالواقع، كما جاء توضيح ذلك في المتن.

ثانياً: أنّ كون العلم الإجمالىّ بناءً على تعلّقه بالجامع علّة تامّة لتنجّز الجامع فقط إنّما يعقل في العلم بالتكليف، لا في العلم بالحقّ العقلىّ؛ فإن مفهوم الحقّ قد استبطن فيه التنجّز، فمجرّد احتماله ينجزّه بحدّه الواقعىّ.

الثاني: ما جاء في المتن بتعبير (توضيح ذلك...) إلى آخره.

389

وهو الحقّ الأوّل، ليس فيه تنزّل عن الترك بنحو الموافقة القطعيّة إلى الترك بنحو الموافقة الاحتماليّة؛ وذلك لقدرة المكلّف على الموافقة القطعيّة بترك الالتزام بهما معاً.

فإذا كان الحقّ الأوّل بذاته متنزّلاً إلى حقّ الالتزام بنحو الموافقة الاحتماليّة بخلاف الحقّ الثاني، تبيّن لك: أنّ في الالتزام بأحد الطرفين موافقة قطعيّة لحقّ الالتزام، ومخالفة احتماليّة لحقّ ترك الالتزام بضدّ الواجب، وفي ترك الالتزام بهما معاً موافقة قطعيّة لحقّ ترك الالتزام بضدّ الواجب، ومخالفة قطعيّة لحقّ الالتزام بالواجب. إذن فكلا الفرضين يشتركان في موافقة قطعيّة، ويختلفان في أنّ أحدهما يشتمل على مخالفة احتماليّة، والآخر يشتمل على مخالفة قطعيّة، والمخالفة الاحتماليّة أهون من المخالفة القطعيّة.

إن قلت: بعد البناء على قبح التجرّي يكون للمولى فيما نحن فيه حقوق عقليّة ثلاثة:

1 ـ حقّ الالتزام بأحد الحكمين.

2 ـ حقّ ترك الالتزام بالوجوب.

3 ـ حقّ ترك الالتزام بالحرمة.

وباعتبار وجود التناقض بين متعلّقي الحقّين الآخرين بمجموعهما، ومتعلّق الحقّ الأوّل، يستحيل اجتماع الحقّين الآخرين مع الحقّ الأوّل، لا للتزاحم، وعجز المكلّف عن الجمع فحسب، بل لعدم تعقّل تعلّق الحقّ بالنقيضين في ذاته، فيتساقط الحقّ الأوّل مع أحد الحقّين الأخيرين، ويتحوّل الحقّان الأخيران إلى حقّ ترك الالتزام بأحدهما تخييراً.

قلت: مركز حقّ عدم الالتزام بضدّ الحكم إنّما هو ابتداءً عبارة عن أصل الحكم الواقعىّ المعلوم، ويجب ملاحظة حاله عند التزاحم مع حقّ الالتزام بالتكليف، فلو تقدّم عليه، وصلت النوبة إلى تحقّق حقّين بعدد الموافقتين الاحتماليّتين له، بناءً على كون القبح في الحقيقة للجامع بين التجرّي والمعصية، ولو تقدّم حقّ الالتزام عليه كما عرفت، لم تصل النوبة إلى ذلك(1) هذا.

 


(1) وينبغي ـ أيضاً ـ بيان أنّ مصبّ حقّ وجوب الالتزام بالتكليف ـ أيضاً ـ كان من أوّل الأمر هو ذات التكليف المعلوم، ولكن بما أنّ هذا الحقّ لو بقي محوره عبارة عن ذات التكليف، لوجبت موافقته القطعيّة بالالتزام بكلّ واحد من الحكمين؛ لأنّ مفهوم الحقّ مستبطن لمفهوم التنجّز، واحتمال المنجّز منجّز لا محالة، والاحتمال قائم في كلا الطرفين، في حين أنّ المفروض عدم إمكانيّة الموافقة القطعيّة. فالمفروض: أنّ محوره


390

وكأنّ منشأ اشتباه المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) أنّه لاحظ كلّاً من الفردين على حدة، ورأى أنّ في الالتزام به احتمال حصول الالتزام بالحكم الواقعىّ، واحتمال حصول الالتزام بضدّه، والمفروض: أنّ حسن الأوّل ليس بأشدّ من قبح الثاني.

وعلى أىّ حال، فالذي يهوّن الخطب أنّ عنوان الحرام ليس هو الذي ذكره(قدس سره) في كلامه من الالتزام بضدّ التكليف، بل الذي دلّ على حرمته العقل والنقل هو التشريع الذي يكفي في تحقّقه بالإسناد والالتزام مجرّد الشكّ في كون هذا من الشارع.

ثُمّ إنّ ما أفاده(رحمه الله): من عدم التمكّن من الموافقة القطعيّة بناءً على وجوب الالتزام بالعنوان التفصيلىّ للحكم غير صحيح؛ فإنّ اجتماع الضدّين لاشكّ في استحالته، لكن الالتزام بهما ليس محالاً؛ فإنّ الالتزام بمعنى عقد القلب والاستسلام القلبيّ أمر اختيارىّ للقلب يحصل حتّى تجاه ما يعلم باستحالته كالضدّين، والضدّيّة بين الشيئين لا تسري إلى الالتزامين.

 

 

 

 


قد تبدّل من الواقع المعلوم إلى أحد محتملي الواقعيّة على سبيل التخيير، لا أنّ مصبّ الحقّ ابتداءً كان عبارة عن كلا محتملي الواقعيّة، وسقط أحدهما بالعجز؛ كي يقال: إنّه إذن في مقابل ذلك يكون حقّ ترك الالتزام بضدّ التكليف ـ أيضاً ـ ابتداءً عبارة عن حقّ ترك الالتزام بهذا، وحقّ ترك الالتزام بذاك، فرجعنا إلى فرضيّة الحقوق الثلاثة.

ثُمّ إنّني أعتقد أنّ هذا الإشكال على ما اُعمل فيه من دقّة وتحقيق غير واضح الورود على صاحب الكفاية؛ فإنّه لم يفترض التساوي بين حقّ ترك الالتزام بضدّ التكليف وحقّ الالتزام بنحو الموافقة الاحتماليّة بالتكليف، وإنّما افترض التساوي بين حقّ الالتزام بضدّ التكليف وحقّ الالتزام بذات التكليف، ومن حقّه أن يدّعي أنّ حقّ الالتزام بذات التكليف حينما يتحوّل (على أساس العجز عن الموافقة القطعيّة الالتزاميّة) إلى حقّ الالتزام بنحو الموافقة الاحتماليّة، سيكون الحقّ المتحوّل إليه أخفّ من الحقّ الأصلىّ، وأنزل درجة بقدر ما يوجد من مستوى الفرق بين درجة الموافقة القطعيّة والموافقة الاحتماليّة.

391

بحث القطع

6

 

 

 

الدليل العقلىّ

 

 

 

○ تمهيد.

○ القُصور في عالم الجَعل.

○ القُصور في عالم الكشف.

○ القُصور في عالم الحجّيّة.

 

 

 

 

 

393

الدليل العقليّ

1

 

 

تمهيد

 

 

○  تحرير محلّ النزاع.

○  طرق استنباط الحكم الشرعىّ من العقل.

 

 

395

 

 

 

لنمهّد قبل الدخول في البحث ـ عمّا وقع الخلاف فيه بين الاُصوليّين والأخباريّين من حجّيّة القطع بالأحكام الشرعيّة عن طريق العقل ـ مقدّمتين:

 

المقدّمة الاُولى في تحرير محلّ النزاع

 

إنّ كلمات بعض المتقدّمين في بيان ما هو المراد من الدليل العقلىّ في غاية التشويش، كتفسيرهم ذلك بالاستصحاب، والبراءة، وغير ذلك، إلّا أنّ الصحيح في ضابط محلّ النزاع هو: أنّ الخلاف قد وقع في إمكانيّة الاعتماد على استنباط الحكم الشرعىّ بدليل عقلىّ قطعىّ وعدمها.

وهذا غير النزاع الثابت بين الإماميّة والعامّة في حجّيّة الدلالة العقليّة المتقدّم تأريخيّاً على هذا النزاع، حيث ادّعى السنّة حجّيّة الظنون العقليّة في الاستنباط، ومنع الإماميّة عن ذلك، ولعدم التمييز بين النزاعين اتّهم بعض الأخبارييّن الاُصوليّين باتّباعهم الظنون العقليّة في استنباط الأحكام.

والواقع: أنّ الشيعة بأجمعهم أنكروا حجّيّة هذه الظنون تبعاً لأئمّتهم الذين كثر عنهم الردع عن ذلك، كقولهم: «دين الله لا يصاب بالعقول»، كما أنّه يكفي في عدم حجّيّتها بغضّ النظر عن العمومات والإطلاقات الرادعة عن العمل بالظنّ مجرّد أصالة عدم الحجّيّة.

وبعد هذا تطوّر النزاع إلى نزاع آخر بين الشيعة أنفسهم في مدى إمكانيّة الاعتماد في استنباط الحكم الشرعىّ على دليل عقلىّ مورث للقطع، وليس المقصود بإدراك العقل ـ الذي وقع الخلاف في الاعتماد عليه في استنباط حكم الشرع ـ الإدراكات العقلانيّة بالقوّة الخاصّة من قوى النفس المسمّاة بالقوّة العقليّة عند الفلاسفة، وإنّما المقصود هو: الإدراك المقرون بالجزم، سواء كان حصيلة تلك المرتبة الخاصّة، أو حصيلة سائر المراتب والقوى الموجودة في النفس.

كما ينبغي الإشارة إلى أنّ المقصود هو الإدراك العقلىّ الذي هو في عرض الكتاب والسنّة؛ فإنّ الكلام إنّما هو في استنباط الحكم من العقل على حدّ استنباطه من الكتاب