199

هل الأصل في الواجبات التعبّديّة أو التوصّليّة؟

وبعد هذا ننتقل إلى صلب البحث، وهو: أنّ الأصل في الواجبات هل هو التعبّديّة أو التوصّليّة؟

والكلام يقع في مقامين: أحدهما في الأصل اللفظيّ، والآخر في الأصل العمليّ:

الأصل اللفظيّ:

أمّا المقام الأوّل: وهو الكلام في الأصل اللفظيّ، فيقع البحث فيه في مرحلتين: الاُولى في الإطلاق اللفظيّ، والثانية في الإطلاق المقاميّ:

الإطلاق اللفظيّ:

أمّا المرحلة الاُولى: وهي الإطلاق اللفظيّ، فنقول:

أمّا على مسلك من قبيل مسلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ القائل بمعقوليّة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر، وأنّه بذلك يختلف التعبّديّ عن التوصّليّ، فلا إشكال في تماميّة الإطلاق اللفظيّ لنفي التعبّديّة؛ فإنّ حالها حال بقيّة القيود والأجزاء التي تنفى بالإطلاق كما هو واضح.

وأمّا على مسلكنا: من أنّ الأمر التعبّديّ كالتوصّليّ متعلّق بذات الفعل، وإنّما يختلف عنه في تجدّد الأمر إذا لم ياتِ بقصد القربة بالنحو الذي عرفت، فأيضاً يتمّ التمسّك بالإطلاق اللفظيّ لنفي التعبّديّة، وذلك بأحد تقريبين:

الأوّل: أنّ قصد القربة وإن لم يكن قيداً في متعلّق الأمر ثبوتاً، لكنّه يعتبر قيداً له إثباتاً، ويكون بيان التجدّد في نظر العرف وبلسان عرفيّ بالتقييد، إذن فالعرف يجري مقدّمات الحكمة لنفي هذا القيد، وبذلك تثبت التوصّليّة.

200

الثاني: أنّه حتّى لو فرض: أنّ بيان هذا التجدّد في الأمر التعبّديّ ليس بلسان التقييد إثباتاً، وفرض: أنّ العرف يفرّق بين التقييد بقصد القربة وتجدّد الأمر، ويبيّن كلاًّ منهما إثباتاً ببيان خاصّ، قلنا: إنّ هذا التجدّد يعتبر مؤونة زائدة تحتاج إلى بيان زائد. وأمّا أصل الأمر فلا يقتضي أزيد من طلب الطبيعة بنحو صرف الوجود، فافتراض اشتمال الخطاب على أوامر متبادلة مطلب إضافيّ يحتاج إلى بيان إضافيّ، وحينما يقتصر المتكلّم على مجرّد ذكر الأمر الذي لا يتطلّب أزيد من طلب الطبيعة بنحو صرف الوجود ينفى التجدّد بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، وأصالة التطابق بين عالم الثبوت والإثبات، وذلك يكون من سنخ تعيين طلب صرف الوجود في مقابل طلب مطلق الوجود في صيغة الأمر بمقدّمات الحكمة.

وأمّا على مسلك التفصيل بين خصوص قصد الأمر وجامع قصد القربة، وأنّ الأوّل لا يعقل أخذه في متعلّق الأمر والثاني يعقل أخذه فيه، فلا إشكال في أنّه ينفى أخذ جامع قصد القربة في متعلّق الأمر بالإطلاق؛ لأنّ حاله حال سائر القيود. وأمّا أخذ خصوص قصد الأمر، فأيضاً يمكن نفيه بالإطلاق من باب: أنّه لو كان دخيلا ولا يمكن للمولى أخذه، كان عليه أن يأخذ ـ على الأقلّ ـ جامع قصد القربة إن كان في مقام البيان؛ لأنّ هذا ممكن له، وبذلك يقترب إلى مطلوبه الحقيقيّ، فعدم أخذ هذا الجامع في مقام الإثبات يشكّل ظهوراً إطلاقيّاً في أنّه لا جامع القربة دخيل في المقصود ولا خصوص قصد الأمر.

نعم، لو أخذ جامع القربة، فقال مثلا: «صلِّ بنيّة حسنة»، واحتملنا دخل خصوص قصد الأمر، لم يمكن نفيه بالإطلاق على ما يأتي إن شاء الله.

وأمّا على مسلك صاحب الكفاية والمشهور: من أنّ الأمر التعبّديّ فرقه عن التوصّليّ ـ مع كونهما متعلّقين بذات الفعل ـ هو: أنّ الأمر التعبّديّ نشأ من غرض لا يحصل إلّا مع قصد القربة، فلا يسقط الأمر بمجرّد الإتيان بذات الفعل، فهل

201

يمكن التمسّك بالإطلاق اللفظيّ لنفي التعبّديّة، أو لا؟

هنا ثلاثة اعتراضات رئيسة على التمسّك بالإطلاق:

الاعتراض الأوّل: أنّه لا يمكن أن يستكشف من إطلاق الخطاب وعدم تقييده إطلاق الأمر ثبوتاً؛ لأنّه بعد أن استحال تقييد الأمر ثبوتاً بالتعبّديّة استحال الإطلاق ثبوتاً، ومن هنا ندخل في أنّ استحالة التقييد هل توجب استحالة الإطلاق، أو لا؟ فنقول:

إنّ دعوى: كون استحالة التقييد مستلزمة لاستحالة الإطلاق لها صيغتان:

الصيغة الاُولى: أن يقال: إنّه إذا استحال تقيّد الحكم بقيد من القيود، استحال شمول الحكم لذلك المقيّد بالإطلاق أيضاً، وهذه الكبرى تامّة في بعض ملاكات استحالة التقييد، وغير تامّة في بعضها.

وتوضيح ذلك: أنّ استحالة التقييد لها عدّة ملاكات:

الأوّل: عدم صلاحيّة ذات المقيّد لكونه موضوعاً للحكم، من قبيل تقييد الصلاة بالعاجز، فإنّ ذلك مستحيل، وملاك الاستحالة: أنّ ذات العاجز يستحيل أن يقع موضوعاً للأمر، وهذا الملاك كما يوجب استحالة التقييد يوجب استحالة الإطلاق في عرض استحالة التقييد، أي: أنّ الإطلاق والتقييد مستحيلان بنكتة واحدة، وهي: كون ذات المقيّد غير قابل لثبوت الحكم عليه، فكما لا يمكن ثبوت الحكم عليه بالخصوص كذلك لا يمكن شمول الحكم له بالإطلاق، بأن يحكم مثلا بالصلاة على مطلق المكلّف سواء كان قادراً على الصلاة أو عاجزاً عنها.

الثاني: عدم مقسميّة الطبيعة من قبيل تقييد حرمة شرب الخمر بالخمريّة، فإنّ هذا مستحيل، فإنّ الخمر ليس مقسماً للخمريّة وعدم الخمريّة. وهذا الملاك أيضاً بنفسه يوجب استحالة الإطلاق كما يوجب استحالة التقييد، فلا يمكن أن تكون حرمة شرب الخمر شاملةً لفرض الخمريّة بالإطلاق كما لا يمكن أن تكون مختصّة

202

به بالتقييد، فكما لا يمكن أن يقال: «يحرم شرب الخمر إذا كان خمراً» كذلك لا يمكن أن يقال مثلا: «يحرم شرب الخمر سواء كان خمراً أو لا»، فإنّ الإطلاق والتقييد كليهما فرع كون الطبيعة مقسماً لوجود القيد وعدمه.

الثالث: استحالة نتيجة التقييد، وهي قصر الحكم على المقيّد وحبسه عليه، من قبيل أن يقال مثلا: إنّ الخطاب بالفروع لا يمكن أن يقيّد بخصوص الكفّار؛ لأنّه لو قيّد بذلك لزم قصر الحكم على الكافر. وهذا ينتج لغويّة الخطاب؛ لأنّ الكافر منكر للأساس، فيكون الخطاب مستهجناً.

وهذا الملاك غير موجود في الإطلاق؛ إذ ملاك الاستحالة هو قصر الحكم وحبسه، وهو غير ثابت في الإطلاق، فمثلا لو أوجب الصلاة بنحو يشمل الكافر والمسلم، لم يكن مستهجناً.

ولا يخفى: أنّ الوجه الأوّل من الوجوه الأربعة التي اخترناها لاستحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه راجع إلى استحالة نتيجة التقييد، حيث إنّ الحكم يصبح مقصوراً على فرض وجود الأمر ـ على حدّ تعبير المحقّق النائينيّ ـ أو على فرض وصوله ـ على حدّ تعبيرنا ـ ويتوقّف عليه، وذلك يستلزم الدور مثلا.

الرابع: أن يكون ملاك الاستحالة قائماً بالتقييد بما هو تقييد بقطع النظر عن نتائجه ومقدّماته، كأن يقال: إنّ تقييد الحكم بخصوص العالم به مستحيل بناءً على ما يقال: من أنّ العلم بالحكم لا يعقل أخذه في موضوع ذلك الحكم، فالمحذور ليس في أنّ ثبوت الحكم لذات العالم مستحيل، وإنّما المحذور في نفس التقييد، وعندئذ إن قلنا: إنّ الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود، فقد يقال باستحالة الإطلاق؛ لأنّ الإطلاق هو كلّ التقييدات، ومنها هذا التقييد المستحيل.

وبكلمة اُخرى: إنّ المحال عبارة عن لحاظ القيد الفلانيّ، ولا يختلف الحال في ذلك بين أن يلحظ ذلك القيد وحده أو يلحظ ذلك القيد ويلحظ نقيضه أيضاً، لكن

203

على ما هو الحقّ: من أنّ الإطلاق عبارة عن تعرية الخطاب عن التقييدات، فملاك استحالة التقييد لا يوجب استحالة الإطلاق؛ لأنّ الإطلاق لا يستلزم لحاظ القيد الذي يكون لحاظه مستحيلا. هذا.

وإنّما قلنا: إنّه بناءً على أنّ الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود قد يقال باستحالة الإطلاق، ولم نقل: إنّه بناءً عليه يستحيل الإطلاق حتماً؛ لأنّ في ذلك تفصيلا. توضيحه: أنّ القول بأنّ الإطلاق جمع بين القيود ينبغي أن يكون المقصود منه: أنّه جمع بين القيود في مقام اللحاظ، أي: يلحظ كلّ القيود حتّى ينتج نفي دخل أيّ قيد من القيود، لا أنّه جمع بين القيود في مقام التقييد حقيقة؛ إذ هذا واضح البطلان. وإن شئت فعبّر بأنّ الإطلاق جمع بين القيود تصوّراً ولحاظاً لا تصديقاً، وعندئذ فملاك الاستحالة إن كان قائماً بالتقييد تصوّراً ولحاظاً كما هو الحال في الوجه الثاني من الوجوه التي اخترناها لاستحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه الذي كان عبارة عن لزوم التهافت في اللحاظ، لزم كون الإطلاق أيضاً مستحيلا بنفس الملاك. وإن كان قائماً بالتقييد تصديقاً كما هو الحال في الوجهين الأخيرين من الوجوه المختارة لاستحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه اللذين مرجعهما إلى استحالة المحرّكيّة نحو قصد الأمر، فهذا الملاك لا يسري إلى الإطلاق.

هذا تمام الكلام في كبرى استحالة الإطلاق عند استحالة التقييد بصيغتها الاُولى. هذا.

ومن أثبت استحالة تقييد متعلّق الأمر بقصد القربة لا يمكنه أن يستفيد بذلك من هذه الكبرى، أي: كبرى أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة شمول الحكم لذات المقيّد بالإطلاق لإثبات عدم إمكان نفي التعبّديّة بالإطلاق؛ فإنّه لو فرضنا: أنّ ملاك استحالة التقييد في المقام هو أحد الملاكين الأوّلين المقتضيين لاستحالة

204

شمول الحكم لذات المقيّد بالإطلاق، وغضضنا النظر عن أنّ ملاك استحالة التقييد بكلّ براهينها الماضية إنّما يرجع إلى أحد الملاكين الأخيرين غير المقتضيين لاستحالة الإطلاق، قلنا: إنّ هذا لا يفيد لإثبات المدّعى من عدم إمكان نفي التعبّديّة بالإطلاق، فإنّ استحالة التقيّد بالتعبّد تنتج بناءً على هذه الصيغة استحالة شمول الحكم للحصّة التعبّديّة، بينما المقصود: إنّما هو إثبات استحالة نفي التعبّديّة بالإطلاق، وأنت ترى أنّ شمول الحكم للحصّة التعبّديّة غير نفي التعبّديّة بالإطلاق.

نعم، كان بالإمكان الاستفادة من هذه الكبرى لإثبات المدّعى عن غير طريق إثبات استحالة تقييد الأمر بالتعبّديّة، وذلك بأن يقال: إنّ تقييد الأمر بعدم صدور الفعل بالداعي القربيّ مستحيل؛ إذ يلزم منه لغويّة الأمر، إذن فشمول الأمر بالإطلاق لهذا المقيّد وهو العمل غير القربيّ مستحيل، وعليه، فلا يمكن إثبات التوصّليّة ونفي التعبّديّة بالإطلاق، وبهذا يتوصّل إلى النتيجة من دون إتعاب النفس في سبيل إثبات استحالة تقييد متعلّق الأمر بقصد القربة، إلّا أنّ ملاك الاستحالة إنّما هو أحد الملاكين الأخيرين دون الأوّلين، فلا تثبت بذلك استحالة الإطلاق.

الصيغة الثانية: هي الصيغة التي طرحها المحقّق النائينيّ (رحمه الله)(1)، وهي: أنّ استحالة التقييد بشيء تستلزم استحالة الإطلاق النافي لخصوصيّة ذلك القيد الموجب لشمول نقيضه، وهذا غير استحالة الإطلاق بمعنى شمول ذات المقيّد التي هي الصيغة الاُولى كما هو واضح، وهذه الصيغة لو تمّت كبراها تثبت المدّعى في



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 105 ـ 110، وص 113 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 146 ـ 152، وص 155 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

205

المقام بعد فرض استحالة التقييد بالقربة، وهو عدم إمكان نفي القربيّة بالإطلاق؛ لأنّ التقييد بالقربيّة مستحيل، فنفي هذا القيد وشمول الحصّة التوصّليّة أيضاً مستحيل، وهو المطلوب.

أمّا لماذا تستلزم استحالة التقييد بالقربة استحالة الإطلاق بهذا المعنى، فهذا ما يمكن بيانه بعدّة بيانات:

البيان الأوّل: أن يقال: إنّ استحالة التقييد توجب استحالة الإطلاق، لا من باب: أنّ نفس ملاك استحالة التقييد يوجب استحالة الإطلاق أيضاً في عرض استحالة التقييد كما كنّا نقوله في الصيغة الاُولى، ونقوله في البيانين التاليين، بل بنكتة تكون عبارة المحقّق النائينيّ (رحمه الله) نصّاً فيها، وهي: أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، فالإطلاق هو عبارة عن عدم التقييد في موضع قابل للتقييد، فإذا استحال التقييد، استحال الإطلاق.

البيان الثاني: ما يستلمح من كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله) أيضاً وإن لم يكن كلامه نصّاً فيه، وهو أن يقال: إنّ التقييد بشيء وكذلك الإطلاق بمعنى رفض ذلك القيد فرع مقسميّة الطبيعة لواجد القيد وفاقده، فإن لم تكن مقسماً لذلك، استحال أخذ القيد، واستحال رفضه، والطبيعة لا تقبل الانقسام إلى ما يؤتى بها بقصد الأمر وما يؤتى بها لا بقصد الأمر إلّا في طول الأمر، وفي المرتبة السابقة على الأمر لا تكون الطبيعة مقسماً لذلك حتّى يعقل تعلّق الأمر بها مقيّدة بقصد الأمر أو مطلقة، والانقسامات التي تكون من هذا القبيل تسمّى بالانقسامات المتأخّرة في مقابل مثل انقسام الصلاة إلى الصلاة في البيت والصلاة في المسجد أو في مكان آخر الذي يتصوّر بغضّ النظر عن الأمر.

وهذا بيان ثان لا يتوقّف على دعوى: أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة.

206

البيان الثالث: مبنيّ على أمرين:

1 ـ إنّ الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود في عالم التصوّر واللحاظ، بمعنى: أنّه عبارة عن إسراء الحكم إلى تمام الحالات من قبيل العموم، بحيث إنّ الحالات بما هي حالات منظور إليها في المرتبة السابقة على الحكم كما في «أكرم كلّ عالم»، حيث تلحظ فيه الحصص والأفراد أوّلا، ثُمّ يجرى عليها الحكم ثانياً.

2 ـ إنّ المحذور في أخذ قصد القربة قيداً في متعلّق الأمر هو محذور لحاظيّ، وهو: أنّ المولى يستحيل أن يلحظ قصد القربة في مرتبة معروض الأمر؛ لأنّ قصد الأمر يرى في طول الأمر، فلا يمكنه لحاظه في مرتبة سابقة عليه؛ للزوم التهافت في اللحاظ، إذن فالتقييد مستحيل للزوم التهافت في اللحاظ، والإطلاق أيضاً مستحيل؛ لأنّه عبارة عن الجمع بين القيود، فأيضاً يلزم لحاظ قصد الأمر قبل الأمر الذي قد فرضنا استحالته.

وهذه التقريبات كلّها باطلة:

أمّا التقريب الثالث: فلبنائه على مقدّمة غير صحيحة(1)، وهي: كون الإطلاق



(1) هذه مناقشة في المقدّمة الاُولى، وأمّا المناقشة في المقدّمة الثانية بمنع كون المحذور هو المحذور اللحاظيّ؛ لافتراض: أنّ العبادة إنّما تحتاج إلى قصد مطلق الأمر لا قصد خصوص شخص الأمر، أو لافتراض: أنّ العبادة إنّما تحتاج إلى جامع القصود القربيّة مثلا، فيمكن غضّ النظر عنها هنا؛ لأنّه ليس المقصود هنا التكلّم في أصل مبنى استحالة أخذ قيد القربة في المقام، وأنّ هذه الاستحالة بأيّ ملاك هي.

بل بالإمكان أن يقال: إنّه مع فرض الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود في اللحاظ كما هو مقتضى المقدّمة الاُولى لا ينفع في مقام دفع المحذور افتراض: أنّ قصد القربة هو جامع قصد الأمر، أو جامع القصود القربيّة لا خصوص قصد شخص هذا الأمر؛ فإنّ هذا بنفسه إطلاق بلحاظ أقسام قصد الأمر، أو قصد القربة التي منها قصد شخص هذا الأمر، والمفروض: أنّ الإطلاق جمع بين القيود في اللحاظ، فيرجع المحذور؛ لأنّه لزم بالتالي لحاظ قصد شخص الأمر.

207

جمعاً بين القيود، بل الإطلاق قصر النظر على الطبيعة من دون ملاحظة أمر زائد، وقد ذكرنا في بحث المطلق والمقيّد الفرق بين العموم والإطلاق، وأنّه في الأوّل يلحظ الحصص، وفي الثاني يلحظ ذات الطبيعة مع رفض القيود.

وأمّا التقريب الثاني: وهو عدم مقسميّة الطبيعة قبل الأمر للعمل بقصد الأمر والعمل بلا قصد الأمر، فيرد عليه: أنّه لو كان برهان استحالة أخذ قصد الأمر قيداً في متعلّق الأمر عدم المقسميّة، لصحّ أن يقال: إنّه لا يتمّ الإطلاق أيضاً في مقابل التقييد بقصد الأمر، ولكن لو قبلنا استحالة التقييد، فإنّما هو بأحد البراهين الأربعة الماضية.

وأمّا القول بأنّ الطبيعة في المرتبة السابقة ليست مقسماً لقصد الأمر وعدمه، وإنّما التقسيم في طول الأمر، فغير صحيح، فإنّ ما في طول الأمر إمكان وقوع القسمين خارجاً لا المقسميّة المفهوميّة، فالطبيعة في المرتبة السابقة عن عروض الأمر عليها ـ وبغضّ النظر عن الأمر ـ لا يمكن وجود حصّتين منها خارجاً: إحداهما بقصد الأمر، والاُخرى لا بقصد الأمر؛ إذ المفروض عدم الأمر، وإنّما يمكن ذلك بعد الأمر. وأمّا انقسام الطبيعة مفهوميّاً بمعنى مصداقيّة كلّ من الحصّتين للطبيعة، لا بمعنى الوجود خارجاً، فهذا ثابت قبل الأمر؛ فإنّ الحصّة المأتيّ بها بقصد الأمر صلاة على أيّ حال، والحصّة المأتيّ بها لا بقصد الأمر أيضاً صلاة على أيّ حال، ومصداقيّة كلّ من الحصّتين للطبيعة مفهوماً ذاتيّة لها وليست في طول الأمر، ومناط المقسميّة هو مصداقيّة الحصّتين للطبيعة مفهوماً وذاتاً، لا إمكان الوجود خارجاً.

وأمّا التقريب الأوّل: وهو دعوى استحالة الإطلاق باستحالة التقييد؛ لكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، فيمكن الاعتراض عليه بعدّة إشكالات، أهمّها إشكالان:

208

الإشكال الأوّل: الجواب الحلّيّ، وهو: أنّنا ننكر كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

وتوضيح ذلك: أنّه في الواقع ليست المسألة مسألة لغويّة كما في شرح مدلول كلمة «الأعمى» لغةً لنرجع إلى اللغة أو العرف لنرى: هل معنى الإطلاق عدم التقييد مطلقاً، أو عدمه في مورد قابل للتقييد، وإنّما المسألة مسألة واقعيّة، وهي: أنّه ما هي تلك النكتة التي بها يحصل سريان الطبيعة إلى تمام الأفراد؟ وهي التي نسمّيها بالإطلاق، وقد مضى: أنّ في ذلك مسلكين:

أحدهما: أنّ القابليّة الشأنيّة للطبيعة للانطباق هي المقتضية للسريان، إلّا أنّها قد تقترن بمانع، وهو لحاظ القيد، ومع عدم المانع يؤثّر المقتضي أثره. إذن فالمقتضي للسريان دائماً محفوظ، فإنّه ذاتيّ للطبيعة لا يمكن سلخه عنها، فيكفي في حصول الإطلاق عدم المانع، أي: عدم لحاظ القيد الذي هو نقيض لحاظ القيد من دون فرق بين إمكان التقييد وعدمه، فالتقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب، لا تقابل العدم والملكة، ومع استحالة التقييد ثبوتاً يتعيّن الإطلاق ثبوتاً.

وثانيهما: أنّ قابليّتها الذاتيّة للانطباق لا تقتضي الانطباق، بل لابدّ من لحاظ التطبيق الفعليّ حتّى تسري بالفعل، وعليه فالتقابل بينهما تقابل التضادّ، لا تقابل العدم والملكة؛ فإنّ التقييد عبارة عن لحاظ القيد، والإطلاق عبارة عن لحاظ عدم القيد ورفضه، فهو أمر وجوديّ في مقابل التقييد، ولا نتصوّر فرضاً ثالثاً للنكتة بحيث يكون التقابل معها تقابل العدم والملكة.

والإشكال الثاني: اعتراض نقضيّ، وحاصله: أنّه لو سلّم: أنّ استحالة التقييد توجب استحالة الإطلاق، ففي محلّ الكلام يوجد تقييدان متقابلان، وفي مقابل كلّ منهما إطلاق: أحدهما تقييد الصلاة بقصد الأمر، والثاني تقييدها بدواع اُخرى. وفي مقابل الأوّل رفض أخذ قصد الأمر، وفي مقابل الثاني رفض أخذ الداعي

209

النفسانيّ. والتقييد بأخذ قصد الأمر مستحيل، فيستحيل أيضاً رفض أخذه الذي ينتج الشمول للحصّة غير القربيّة، فلا يشمل تلك الحصّة. والتقييد بغير قصد القربة أيضاً مستحيل؛ فإنّ من المستحيل للمولى أن يأمر عبده بالصلاة لا بقصد أمره؛ لأنّه يلغو الأمر؛ إذ لو صلّى لا بسبب هذا الأمر، لم يؤثّر الأمر في حقّه، ولو صلّى بسبب الأمر، لم يقبل المولى منه الصلاة، إذن فالإطلاق المقابل له أيضاً مستحيل، أي: أنّ رفض أخذ الداعي النفسانيّ المنتج للشمول للعمل القربيّ مستحيل، فيصبح كلا التقييدين والإطلاقين مستحيلا، فيصبح الواجب سنخ طبيعة مهملة لا تنطبق لا على هذه الحصّة، ولا على تلك الحصّة، وفيما لا يراد جعله قربيّاً لا يمكن رفع الإهمال بمتمّم الجعل أيضاً؛ لأنّ التقييد بغير داعي الأمر بمتمّم الجعل أيضاً مستحيل؛ إذ يوجب لغويّة الأمر، فيصبح الإطلاق للحصّة القربيّة بمتمّم الجعل مستحيلا أيضاً؛ لأنّ الإطلاق يستحيل حيث يستحيل التقييد حسب الفرض، فسوف يبقى الجعل مهملا إلى أن يرث الله الأرض وتمام من عليها من الاُصوليين، فهذا البرهان يؤدّي إلى سفسطة من هذا القبيل في هذا الجعل(1).



(1) وهناك إشكال ثالث بلحاظ بعض المسالك أو الافتراضات في المقام، بيانه: أنّ من الواضح: أنّ المقصود بالملكة ليست هي القابليّة الفعليّة التامّة للشخص، وإلّا فالأعمى أيضاً قد امتنع في حقه البصر ولو امتناعاً بالغير بوجه من الوجوه، فليس له قابليّة البصر، ومع ذلك يصدق عليه أنّه أعمى، فلابدّ من فرض تضييق في دائرة القابليّة المشروطة، كأن يقال مثلا بأنّ المقصود: القابليّة النوعيّة لا الشخصيّة، وحينئذ قد يقال في المقام: إنّ القابليّة النوعيّة محفوظة، أو يقال مثلا بأنّ المقصود من القابليّة عدم استحالة تشبه الاستحالة الذاتيّة، فالجدار ليس من شأنه أن يكون بصيراً؛ لأنّه ليس له في عالم الطبيعة علّة للبصر، فتشبه استحالة البصر بالنسبة إليه الاستحالة الذاتية، بينما الإنسان الأعمى

210

هذا تمام الكلام في الاعتراض الأوّل على التمسّك بالإطلاق لإثبات التوصّليّة على مسلك صاحب الكفاية والمشهور: من أنّ الفرق بين الواجب التعبّديّ والتوصّليّ إنّما هو في الغرض من دون أيّ فرق في الجعل والمتعلّق، وقد تحصّل أنّه غير وارد.

الاعتراض الثاني: مبنيّ على عكس ما قرّر في الاعتراض الأوّل من استحالة الإطلاق ثبوتاً، فهنا يقال بضرورة الإطلاق ثبوتاً؛ لأنّ الأمر في مقام الجعل والثبوت يدور بين ثلاثة اُمور: التقييد، والأهمال، والإطلاق. فالتقييد مستحيل لمامرّ، وكذلك الإهمال مثلا، فلابدّ من الإطلاق. وإذا كان الإطلاق ضروريّاً لم نكن بحاجة إلى مقدّمات الحكمة لإثباته، ولكن هذا الإطلاق الثبوتيّ الثابت بالبرهان لا ينفع لنفي التعبّديّة وإثبات التوصّليّة؛ لأنّ التعبّديّ والتوصّليّ يمتازان ـ بحسب المسلك المفروض فعلا، وهو مسلك المشهور ـ بحسب الغرض، لا بحسب عالم الجعل، وكلا الجعلين متعلّقان بذات الفعل، إلّا أنّ الغرض في التعبّديّ لا يحصل إلّا بقصد القربة، وفي التوصّلي يحصل بدونه، فإذا أردنا إثبات التوصّليّة فلابدّ من إثبات الإطلاق في الغرض.



ليس كذلك، وحينئذ نقول: إنّ عدم قابليّة الأمر لتقييد متعلّقه بقصد الأمر أشبه على بعض الوجوه والفروض بعدم قابليّة الإنسان الأعمى للبصر دون عدم قابليّة الجدار للبصر؛ فإنّ جلّ براهين الاستحالة تتدخّل فيها مسألة عدم جواز الأمر بغير المقدور، أو عدم معقوليّة الأمر بدون المحرّكيّة، فيجب أن نرى مثلا: أنّ حقيقة الأمر هل هي التحريك حتّى يصبح التقييد بما لا يمكن التحريك نحوه شبيها بالبصر بالنسبة للجدار، أو أنّ حقيقة الأمر ليست إلّا عبارة عن اعتبار ممكن في ذاته، إلّا أنّه يفهم منه التحريك، فلا يصدر من العاقل الملتفت (إذا حمل أمره على ظاهره) إلّا مع إمكانيّة التحريك حتّى يصبح التقييد بذلك شبيهاً بالبصر بالنسبة للأعمى.

211

فإن قيل: إنّ الإطلاق في الجعل يكشف عن إطلاق الغرض. قلنا: إنّه إنّما يكشف عن ذلك لو أمكنه أن لا يطلق الجعل فأطلق، فيكون ذلك كاشفاً عن إطلاق الغرض؛ لأنّ الجعل يتبع الغرض، أمّا إذا لم يمكنه عدم الإطلاق، فإطلاق الجعل لا يكشف عن إطلاق الغرض كما هو واضح.

وهذا الاعتراض تحقيقه يتوقّف على مطلب أشرنا إليه، وهو: أنّ المهمل بمعنى الطبيعة التي لم يلحظ فيها التقييد ولا الإطلاق هل هو في قوّة المطلق؛ لأنّ الطبيعة بذاتها تقتضي السريان، وهو الذي سمّيناه بالإطلاق الذاتي، أو في قوّة المقيّد؟

فإن قلنا بأنّ المهمل في قوّة المطلق، صحّ هذا الاعتراض؛ إذ عندنا ـ في الحقيقة ـ شقّان: مقيّد ومطلق؛ لأنّ المهمل يرجع إلى المطلق، فإذا امتنع التقييد وجب الإطلاق، وهذا الإطلاق الضروريّ في عالم الجعل لا يكشف عن الإطلاق الغرضيّ.

وإن قلنا بأنّ المهمل ليس في قوّة المطلق، بل في قوّة المقيّد، فحينئذ لابدّأن نلاحظ البراهين التي بها برهنّا على استحالة التقييد وأخذ قصد القربةفي متعلّق الأمر؛ لنرى: هل تقتضي أيضاً استحالة المهمل الذي هو في قوّة المقيّد، أو لا؟

فإن اتّبعنا برهان لزوم الدور للمحقّق النائينيّ (رحمه الله) اقتضى ذلك استحالة الإهمال أيضاً؛ لأنّ المكلف لا يقدر عند الاهمال على الامتثال إلّا مع وجود الأمر ـ على حدّ تعبير المحقّق النائينيّ (رحمه الله) ـ أو مع وصول الأمر ـ على حدّ تعبيرنا ـ وعليه، فأيضاً يجب الإطلاق؛ لأنّ المقيّد والمهمل كلاهما محال، ومع ضروريّة الإطلاق في الجعل لا يكون ذلك كاشفاً عن الإطلاق الغرضيّ الذي هو المقصود في المقام.

وإن اتّبعنا البراهين الثلاثة الأخيرة من البراهين التي اخترناها للاستحالة، فهي إنّما تبرهن على استحالة التقييد دون الإهمال الذي هو في قوّة التقييد، وعليه، فلا يتعيّن

212

الإطلاق؛ إذ بعد استحالة التقييد يبقى عندنا شيئان: الإهمال الذي هو في قوّة التقييد، والإطلاق، فإذا أمكن كلاهما واختار المولى الإطلاق في عالم الجعل، كشف ذلك عن الإطلاق الغرضيّ؛ إذ لم يكن مجبوراً على اختيار الإطلاق، فالاعتراض لا يرد إذن.

فهذا الاعتراض وارد على تقديرين، وغير وارد على تقدير واحد؛ حيث إنّه يوجد عندنا ثلاثة تقديرات:

1 ـ كون المهمل في قوّة المطلق.

2 ـ كون المهمل في قوّة المقيّد مع شمول برهان استحالة المقيّد للمهمل.

3 ـ كون المهمل في قوّة المقيّد مع عدم شمول برهان استحالة المقيّد للمهمل.

وهذا الاعتراض يرد على التقديرين الأوّلين، ولا يرد على التقدير الثالث؛ وحيث إنّ الصحيح هو التقدير الأوّل، فالاعتراض تامّ.

الاعتراض الثالث: بعد التنزّل من الاعتراضين السابقين، وفرض: أنّ الإطلاق لا هو مستحيل ثبوتاً كما فرض في الاعتراض الأوّل، ولا واجب ثبوتاً كما فرض في الاعتراض الثاني، بل يكون أمر المولى دائراً بين شيئين: مطلق لحاظيّ، ومهمل لحاظيّ في قوّة المقيّد، فحينئذ يقول صاحب هذا الاعتراض: إنّ الإطلاق لا يمكن إحرازه بمقدّمات الحكمة بحسب مقام الإثبات؛ إذ مرجع مقدّمات الحكمة إلى دلالة عرفيّة وهي عدم التقييد في مقام التكلّم، ومن المعلوم: أنّ عدم التقييد التخاطبيّ إنّما تكون له دلالة عرفيّة على الإطلاق الثبوتيّ إذا أمكن للمولى أن يقيّد في مقام التخاطب ولم يقيّد. أمّا مع عدم قدرته على ذلك كما لو اُخذ بفمه مثلا ومُنع عن التقييد، فمن الواضح: أنّه لا يكون لعدم التقييد التخاطبيّ دلالة على الإطلاق الثبوتيّ، وهذا معناه: أنّ الإطلاق الحَكَميّ الإثباتيّ اُخذت فيه القابليّة، فما ادّعاه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) من أخذ القابليّة حيث كان نظره إلى الإطلاق الثبوتيّ منعناه، أمّا لو كان نظره إلى الإطلاق الإثباتيّ ومقدّمات الحكمة فنقبله، فإنّ

213

الكاشف العرفيّ عبارة عن عدم التقييد حينما يمكنه التقييد، وإلّا فلعلّه لم يقيّد من باب أنّه لم يتمكّن من ذلك، فليس كاشفاً عن الإطلاق.

وهذا البيان ـ بحسب الحقيقة ـ مبنيّ على أن يفرض: أنّ الدالّ عرفاً على الإطلاق إنّما هو عدم بيان التقييد مع إمكان بيانه. وأمّا لو قلنا: إنّ الدالّ عرفاً على الإطلاق عدم بيان ما يخالف الإطلاق ولو كان هو الإهمال الذي هو في قوّة التقييد بناءً على مبنى هذا الاعتراض، فالكاشف عن الإطلاق موجود، فإنّه وإن لم يكن يمكنه نصب القرينة على التقييد، ولكن كان يمكنه نصب القرينة على الإهمال ولم ينصب(1).

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّه على مسلك المشهور لا يتمّ الإطلاق اللفظيّ(2).



(1) فمبنيّاً على ذلك لا يتمّ هذا الاعتراض، ولكن الاعتراض الثاني قد عرفت تماميّته.

هذا بناءً على التسليم بوجود عالم وسط بين عالم الغرض وعالم البيان اسمه عالم الجعل. وأمّا إذا أنكرنا ذلك، وقلنا: إنّ عالم البيان يكشف رأساً عن عالم الغرض، ففي عالم الغرض لا يتصوّر الإهمال، وينحصر الأمر في الإطلاق والتقييد، ولا يبقى موضوع للاعتراض الثاني، ولكن يتسجّل الاعتراض الثالث بلا إشكال، وهو: أنّ عدم التقييد عند عدم إمكانه لا يدلّ عرفاً على إطلاق الغرض.

(2) لا يخفى: أنّه قد يقال بناءً على مسلك متمّم الجعل بتماميّة الإطلاق اللفظيّ، بدعوى: أنّ متمّم الجعل يبيّن عرفاً بلسان التقييد بقصد القربة. إلّا أنّ هذا لا يتمّ على مسلكهم؛ إذ لا يقولون: إنّ البيان العرفيّ لمتمّم الجعل هو لسان التقييد، فصحّ أن يقال: إنّه على مسلك القائلين بعدم إمكان تقييد الجعل الأوّل لا يمكن إثبات التوصّليّة بالإطلاق حتّى عند القائل بمتمّم الجعل؛ لأنّ إطلاق الجعل الأوّل لا يعني عدم التقييد بقصد القربة بالجعل الثاني.

214

الإطلاق المقاميّ:

وأمّا المرحلة الثانية: وهي الإطلاق المقاميّ، فنقول:

لو فرضنا عدم تماميّة الإطلاق اللفظيّ كما هو الحال على المسلك الرابع من المسالك التي تكلّمنا عليها في الإطلاق اللفظيّ، وهو مسلك المشهور، فهل يمكن نفي دخل قصد القربة في الغرض بالإطلاق المقاميّ، أو لا؟

هناك تقريبان لإثبات الإطلاق المقاميّ:

التقريب الأوّل: أن نحصل على برهان لعدم دخل قصد القربة في غرض المولى، وذلك البرهان هو: أنّه لو كان دخيلا فيه، كان عليه بيانه ولو بالجملة الخبريّة ببرهان استحالة نقض الغرض.



نعم، على النكتة التي مضت الإشارة إليها منه (رحمه الله): من كون لسان التقييد بياناً عرفيّاً للقربيّة يتمّ التمسّك بالإطلاق.

هذا، وأمّا لو تصوّرنا تعدّد الجعل بالنحو الذي ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من فرض تعدّد المجعول ووحدة الجعل، فهذا إنّما يعقل لو تصوّرنا الجامع بين الواجبين والموضوعين، وحينئذ إن كان العنوان المأخوذ في لسان الدليل هو الجامع بين الفعل وقصد القربة، فأوجب المولى ذلك الجامع بنحو مطلق الوجود، إذن فثبتت العباديّة لا التوصّليّة، وإن كان العنوان المأخوذ فيه هو الفعل، أعني: ذات الصلاة مثلا فقط، فهنا تثبت التوصّليّة لا بالإطلاق، بل بأصالة التطابق بين العنوان المأخوذ في عالم الإثبات والعنوان المأخوذ في عالم الثبوت.

إلّا أنّ هذا المقدار إنّما يكفي لنفي التعبّديّة لو كان شكل العباديّة منحصراً فيما يقترحه المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من فرض تعدّد المجعول ووحدة الجعل، بينما هو لا يدّعي الانحصار، وإنّما يدّعي إمكان هذه الصورة.

215

وهذا التقريب يتوقّف على كون عدم بيان الدخل ولو بالجملة الخبريّة نقضاً للغرض، وقد أوضح المحقّق العراقيّ (رحمه الله) بهذا الصدد: أنّ لزوم نقض الغرض في المقام يتوقّف على أحد أمرين(1):

الأوّل: أن يقال: إنّ قصد القربة يكون من القيود المغفول عنها، ولا يلتفت إليه العرف عادةً، ولا يخطر على باله لدقّته.

وعليه، فلو كان دخيلا في الغرض، وسكت عنه المولى ولو بنحو الإخبار فالناس بحسب طبعهم سوف لا يلتزمون به؛ إذ لا يخطر على بالهم احتمال دخله، وبهذا يفوت غرض المولى، فلزم نقض الغرض.

الثاني: أن يقال: إنّ الأصل العمليّ عند الشكّ في دخل قصد القربة في الغرض هو البراءة لا الاشتغال، فحتّى إذا كان قصد القربة قيداً لا يغفل عنه العرف، يلزم من عدم بيانه عدم التزام الناس به، وهو نقض للغرض.

فإن تمّ أحد الأمرين تمّ البرهان، وإلّا فلا يلزم من عدم الإخبار بدخل قصد القربة نقض الغرض؛ إذ لو كان قيد القربة ممّا يلتفت إليه الناس وكان الأصل فيه عند الشكّ هو الاشتغال، كان من حقّ المولى أن يعتمد في مقام استيفاء غرضه على أصالة الاشتغال من دون بيان شيء.

أقول: إنّ هذا التقريب للإطلاق المقاميّ يرد عليه اعتراضان:

الاعتراض الأوّل: أنّ هذا البرهان إنّما يتمّ لو اُحرز عدم بيان المولى لدخل قصد القربة إطلاقاً، بينما في الأغلب لا نحرز ذلك، وغاية ما نحرزه أنّ الآية



(1) الأمر الثاني غير موجود في المقالات. راجع المقالات، ج 1، ص 241 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، ويحتمل استفادته من نهاية الأفكار على تشويش في العبارة. راجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 199 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

216

الفلانيّة أو الرواية الفلانيّة الآمرة بالعمل الفلانيّ لم تتضمّن ذكر دخل قصد القربة في الغرض، وأمّا احتمال ذكر ذلك سابقاً أو لاحقاً في وقت آخر، فغالباً يكون ثابتاً في النفس بلا دافع، ويكفي في عدم نقض الغرض من قبل المولى ذكر ذلك ولو منفصلا، إذن فهذا التقريب لا يثبت الإطلاق المقاميّ بالنحو المطلوب، فإنّ المطلوب هو إثبات الإطلاق المقاميّ لشخص خطاب معيّن حينما نعرف ـ ولو بالشهادة السكوتيّة للراوي ـ أنّه لم يذكر معه دخل قصد القربة، وهذا لا يثبت بهذا البيان.

وبكلمة اُخرى: إنّه يوجد عندنا سكوتان عن ذكر دخل قصد القربة: السكوت المطلق، ومطلق السكوت، والأوّل يكشف عن عدم الدخل ببرهان استحالة نقض الغرض، لكن لا سبيل لنا غالباً إلى إحرازه، والثاني لنا سبيل إلى إحرازه، وهو شهادة الراوي مثلا، ولكن لا يكشف ببرهان استحالة نقض الغرض عن عدم الدخل.

الاعتراض الثاني: مختصّ بكشف الإطلاق عن طريق دعوى: أنّ قيد القربة ممّا يغفل عنه عادةً الناس، وهو: أنّ هذا التقريب إنّما يبرهن على أنّ قصد القربة ليس شرطاً واقعيّاً، أي: دخيلا في الغرض على الإطلاق؛ إذ لو كان كذلك لكان ترك ذكره نقضاً للغرض؛ لغفلة عامة الناس عنه، لكن يبقى احتمال كونه شرطاً ذُكريّاً كبعض الشروط الاُخرى التي تكون شرطاً عند التذكّر والالتفات، فإنّه إذا كان كذلك لم يكن ترك بيانه نقضاً للغرض؛ إذ من لا يلتفت إليه لا غرض في قصده للقربة، ومن يلتفت إليه من دون بيان المولى لا حاجة إلى البيان بالنسبة إليه، فلعلّ قصد القربة شرط عند الذكر والالتفات: إمّا بمعنى: أنّه شرط في حقّ من يلتفت إلى قصد القربة تصوّراً لو قيل بأنّ العرف بعيد عن تصوّره، فمع تصوّره يحتمل تقييد الواجب به، فحال شرطيّة القربة حال مانعيّة نجاسة الثوب مثلا المشروطة بالالتفات إلى النجاسة، أو بمعنى: أنّه شرط في حقّ من يحتمل تقيّد الواجب به لو قيل بأنّ العرف بعيد عن هذا الاحتمال، فحال لزوم قصد القربة حال وجوب القصر

217

على المسافر المشروط بالالتفات إلى هذا الحكم ولو احتمالا، والمرفوع عمّن تخيّل أنّ حكم المسافر هو حكم الحاضر.

وعلى أيّ حال، فعلى الاُصوليّين الملتفتين إلى قصد القربة، وإلى احتمال دخله أن يلتزموا به مثلا، بينما المقصود هو نفي شرطيّة قصد القربة بالإطلاق المقاميّ مطلقاً.

التقريب الثاني: أن يقال: إنّ قوله مثلا: «صلِّ» مفاده الأمر، وظاهر حال المولى كونه في مقام بيان تمام ما يأمر به، لكن لا بأن يكون له نظرة استقلاليّة إلى الأمر بأن يكون في مقام بيان تمام ما أمر به باعتباره بياناً للمأمور به، وإنّما يكون بظاهر حاله بصدد بيان تمام ما يأمر به باعتباره طريقاً إلى بيان غرضه، فالأمر ملحوظ باعتباره كاشفاً عن الغرض، لا بما هو هو، فظاهر حال المولى أنّه في مقام بيان تمام الغرض ولو لم يكن مدلولا مطابقيّاً للأمر، فلو كان أمره قاصراً عن تمام غرضه؛ لعدم إمكان أداء تمامه بالأمر، ولكن بالإمكان تكميل أدائه بضمّ جملة خبريّة إلى الأمر، لأكمل كلامه بضمّ ذلك الخبر إلى هذا الأمر، فإن لم يصنع كذلك انعقد الإطلاق المقاميّ لنفي دخل قصد القربة، لا بلحاظ برهان نقض الغرض، بل بلحاظ ظهور حاله في أنّه في مقام بيان تمام غرضه.

وهذا التقريب صحيح.

الأصل العمليّ:

وأمّا المقام الثاني: وهو الكلام في الأصل العمليّ، فالذي يتبادر إلى الذهن بدواً: أنّ المقام صغرى من صغريات الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فحاله حال سائر موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيّين: من جريان البراءة، أو الاشتغال بحسب الخلاف المعروف.

ولكن تفصيل الكلام في ذلك: أنّه إن بنينا على إمكان تقيّد الأمر به، فحال

218

المقام حال سائر موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فإنّ الأمر دار بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين بلحاظ نفس الأمر المتعلّق بالصلاة، فلا فرق بين قيد القربة أو أيّ قيد آخر مشكوك.

وأمّا بناءً على مختارنا: من أنّ الأمر التعبّديّ يرجع إلى الأمر بالصلاة وتجدّده متى ما لم يصلِّ بقصد القربة، فإن قلنا في سائر موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر بالبراءة، فلا إشكال هنا أيضاً في البراءة. أمّا البراءة العقليّة لو قيل بها، فتجري عن وجوب الصلاة مرّةً ثانية بعد الإتيان بها من دون قصد القربة؛ لأنّ الواجب الزائد بالدقّة العقليّة عبارة عن صلاة ثانية، وهذا تكليف زائد مشكوك منفيّ بالبراءة. وأمّا البراءة الشرعيّة فأيضاً تجري عن وجوب الصلاة مرّة اُخرى؛ لأنّه تكليف زائد مشكوك.

وبإمكانك أن تعبّر في البراءة الشرعيّة بأنّنا نجري البراءة عن الخطاب بقصد القربة؛ لأنّ البراءة الشرعيّة تجري عن كلّ ما ينتج تسجيل الواقع على عهدة المكلّف، فإنّ البيان العرفيّ للإلزام بصلاة اُخرى كان عبارة عن إيجاب قصد القربة بحسب مقام الإثبات، والخطاب الإثباتيّ بقصد القربة يؤثّر(1) في تسجيل الواقع الذي هو ثبوتاً عبارة عن وجوب صلاة اُخرى على المكلّف، فهو مرفوع بمثل حديث الرفع.

هذا إذا بنينا على البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

وأمّا إذا بنينا على الاشتغال فيه، فهل تجري في ما نحن فيه أيضاً أصالة الاشتغال، أو لا موجب للاشتغال، بل نرجع إلى البراءة؟

هذا يختلف باختلاف المسالك لإثبات الاشتغال في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، وأهمّها مسالك أربعة:



(1) ولو باعتباره إخباراً عن الغرض.

219

الأوّل: دعوى: أنّنا نعلم إجمالا بالأمر بالأقلّ بحدّه الأقلّيّ والأمر بالأكثر، أي: نعلم إجمالا بشرط شيء، ولا بشرط.

وهذا الوجه بهذه الصياغة لا يأتي في المقام؛ للعلم بأنّ الأمر تعلّق بالمطلق، وإمكان إجراء البراءة عن أمرثان بالصلاة.

الثاني: أنّنا سلّمنا: أنّ العلم الإجماليّ منحلّ إلى العلم بالأمر بالأقلّ والشكّ في الأمر بالأكثر على كلام وتفصيل في تقريب الانحلال، لكن بإتيانه بالأقلّ لا يقطع بالإتيان بما ينطبق الأمر بالأقلّ عليه، فإنّه إذا كان أمراً ضمنيّاً فهو غير متعلّق بالمطلق، بل متعلّق بالطبيعة المهملة التي هي في قوّة الجزئيّة، فلا تنطبق على الفاقد للجزء أو القيد المشكوك، ولابدّ له من تحصيل القطع بانطباق الأمر بالأقلّ الذي علم به تفصيلا على فعله، وهذا لا يكون إلّا بأن يأتي بالأكثر.

وهذا التقريب بهذه الصياغة أيضاً لا يأتي في المقام؛ لأنّ الأمر متعلّق بالمطلق، ومنطبق على ما أتى به حتماً، فليُجرِ البراءة عن أمر ثان متعلّق بصلاة اُخرى.

الثالث: أنّنا سلّمنا: أنّ الأمر بالأقلّ متعلّقه ـ على أيّ حال ـ هو ذات الأقلّ، وينطبق على ما أتى به ولو لم يكن في ضمن الأكثر على تفصيل وكلام في محلّه، لكن لابدّ له من إحراز سقوط الأمر بالأقلّ حتّى يرتاح، وسقوطه مشكوك فيه؛ إذ لو كان أمراً ضمنيّاً لكان ملازماً مع الأمر الضمنيّ الآخر في الثبوت والسقوط، ولا يسقط إلّا بإتيان الأكثر.

وهذا الكلام بهذه الصياغة أيضاً لا يأتي في المقام؛ لما عرفت: من أنّ الأمر الأوّل على مسلكنا يسقط بالإتيان بالفعل من دون قصد القربة، ويشكّ في تجدّد أمر جديد بالفعل، فليُجرِ البراءة عنه.

الرابع: أنّه لابدّ له من الجزم بتحصيل غرض المولى، والأمر بالأقلّ إذا كان في ضمن الأمر بالأكثر، لم يحصل الغرض المولويّ منه بالإتيان بالأقلّ، فلابدّ من الاحتياط بالإتيان بالأكثر.

220

وهذا الوجه يأتي في المقام؛ فإنّ الغرض من الأمر الأوّل إذا كان عباديّاً لا يحصل بمجرّد الإتيان بمتعلّقه وإن كان يسقط شخص ذلك الأمر؛ لاستحالة بقائه مع الإتيان بمتعلّقه، ولذا يتولّد أمر جديد، فلابدّ في مقام تحصيل الجزم بحصول الغرض من الصلاة بقصد القربة.

وأمّا إن بنينا في العباديّات على متمّم الجعل، بمعنى: أنّ هناك أمرين تعلّق أحدهما بذات الصلاة والآخر بقصد القربة، فعندئذ إن فرضنا: أنّ الأمر بالصلاة تعلّق بالطبيعة المهملة كما عن المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، فحال ذلك حال ما إذا كان نفس الأمر الأوّل قابلا للتقييد، ويكون الأمران تماماً كالأمرين الضمنيّين، فإن جرت البراءة في سائر موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، جرت في المقام، وإن جرى الاشتغال فيها، جرى في المقام أيضاً: إمّا بدعوى العلم الإجماليّ بالإطلاق والتقييد، إلّا أنّه بمعنى نتيجة الإطلاق والتقييد، أو قل: بمعنى الإطلاق والتقييد المنفصل، أو بدعوى: أنّ الأمر بالأقلّ لم يحرز انطباقه على ما أتى به، أو بباقي التقريبات التي عرفت حرفاً بحرف.

وإن فرضنا: أنّ الأمر الأوّل تعلّق بالمطلق، فإن جرت البراءة في سائر موارد الأقلّ والأكثر، جرت هنا بلا إشكال، وإن قلنا بالاشتغال فيها، فإذا كان ذلك بأحد الملاكين الأخيرين، فهما ثابتان في المقام؛ للشكّ في حصول الغرض وعدم سقوط الأمر الأوّل على تقدير وجود الأمر الثاني؛ لأنّه متمّم له، وهما بمنزلة الضمنيّين، وإن كان بأحد الملاكين الأوّلين، فهما غير ثابتين في المقام؛ للعلم التفصيليّ بوجود أمر مطلق متعلّق بالأقلّ، وهو ذات الصلاة منطبق على عمله ولو لم يكن مع قصد القربة، وافتراض أمر آخر بقصد القربة منفيّ بالبراءة.

وأمّا إن بنينا على مبنى المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله): من أنّ الواجب التعبّديّ ليس فيه إلّا أمر واحد متعلّق بذات العمل كالتوصّليّ، إلّا أنّه لا يسقط بالإتيان بذات العمل ما لم يأتِ به بقصد القربة؛ لأنّ الغرض لا يحصل، وسقوط الأمر تابع لحصول

221

الغرض، ومادام الغرض باقياً فالأمر باق، فظاهر كلام المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) أنّه حتّى لو قلنا بالبراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين نقول بالاشتغال في المقام(1).

ونحن نتكلّم هنا تارةً عن أنّه لو قلنا بالاشتغال في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فهل يثبت الاشتغال بنفس ملاك الاشتغال في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين أو لا؟

واُخرى عن أنّه هل هناك وجه للقول بالاشتغال في المقام حتّى على تقدير البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين كما يظهر من المحقّق الخراسانيّ، أو أنّه على تقدير البراءة هناك تتعيّن البراءة هنا؟

أمّا الأوّل، فنتكلّم فيه على ضوء ما عرفت من الملاكات الأربعة للاشتغال في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فنقول:

إنّ الصحيح هو التفصيل بين الملاكين الأوّلين والملاكين الأخيرين، فالملاك الأوّل لا يجري في المقام؛ لوضوح العلم بأ نّ الأمر تعلّق بالمطلق بحسب الفرض، ولا يوجد علم إجماليّ بالإطلاق أو التقييد، وكذلك الملاك الثاني لا يجري في المقام؛ لوضوح انطباق الأمر بالمطلق على فعله ولو لم يكن بقصد القربة، ولكن الملاك الثالث يجري في المقام؛ لعدم الجزم بسقوط الأمر؛ لأنّ المفروض: أنّ الأمر إذا كان تعبّديّاً، فهو لا يسقط بالإتيان بمتعلّقه بدون قصد القربة، وكذلك الملاك الرابع يجري في المقام؛ لوضوح عدم الجزم بسقوط الغرض؛ لأنّ المفروض: أنّه إذا كان الأمر عباديّاً لا يحصل الغرض منه بمجرّد الإتيان بالفعل بلا قصد القربة.

وأمّا الثاني، وهو: أنّه هل هناك وجه لثبوت الاشتغال هنا حتّى على تقدير البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، أو لا؟

فيمكن افتراض جريان الاشتغال في المقام مع فرض البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين بعدّة تقريبات:



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 113 ـ 114 بحسب طبعة المشكينيّ.

222

الأوّل: مبنيّ على أن يختار من ملاكات الاشتغال الملاك الثالث، وهو: عدم إحراز سقوط الأمر، فيقال: إنّ هذا الملاك تامّ في ما نحن فيه؛ حيث إنّه لو صلّى بدون قصد القربة، لم يجزم بسقوط الأمر؛ لاحتمال كونه عباديّاً، لكنّه غير تامّ في سائر موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيّين؛ وذلك بدعوى: أنّ البراءة عند الشكّ في سقوط الأمر إنّما لا تجري إذا لم يكن الشكّ في السقوط من تبعات الشكّ في وجود أمر ضمنيّ بالزائد، كما لو علم بوجوب الصلاة ثُمّ شكّ في أنّه هل صلّى أو لا. أمّا إذا كان من تبعات ذلك، كما لو أتى بالأقلّ المعلوم وترك الجزء الزائد المشكوك، فالبراءة عن الأمر الضمنيّ المشكوك جارية، وتكون كافية للتأمين من ناحية احتمال عدم سقوط الأمر، وحيث إنّه في باب قصد القربة ليس الشكّ في سقوط الأمر ناشئاً من الشكّ في أمر ضمنيّ زائد؛ إذ المفروض عدم انبساط الأمر على قصد القربة، فلا مجال للبراءة، وهذا بخلاف الأجزاء والقيود الاُخرى التي ينبسط عليها الأمر.

إلّا أنّ التحقيق: أنّ هذا الوجه غير صحيح؛ وذلك لأنّه بعد أن قبلنا جريان البراءة عن الأمر الضمنيّ المشكوك، وقلنا: إنّ هذا يؤمّن من ناحية احتمال عدم سقوط الأمر الناشئ من احتمال الأمر الضمنيّ بالزائد، ينبغي أن يكون المناط ما هو أعمّ من الأمر، وذلك بأن يقال: إنّ الشكّ في السقوط ينقسم إلى نحوين:

1 ـ الشكّ في سقوط الأمر الناشئ من احتمال مطلب يرجع إلى المولى، ويكون من وظيفة المولى بيانه، سواء كان بصيغة الأمر أو بصيغة الإخبار عن المدخليّة في الغرض.

2 ـ الشكّ في سقوط الأمر الناشئ من جهة ترجع إلى العبد، ولا يكون من وظيفة المولى بيانه، من قبيل الشكّ في أصل الإتيان بالصلاة.

فالقسم الثاني مجرىً لأصالة الاشتغال؛ لرجوع الشكّ إلى جهة ترتبط بالعبد

223

لا المولى، وهي عالم الامتثال. وأمّا القسم الأوّل، فهو مجرىً للبراءة؛ لكون الشكّ في دخل أمر زائد: إمّا في الأمر كما في غير قصد القربة، وإمّا في الغرض كما في قصد القربة.

الثاني: مبنيّ على أن يختار من ملاكات الاشتغال الملاك الرابع، وهو الشكّ في حُصول الغرض، فيقال: إنّ هذا الوجه تامّ في المقام، وليس تامّاً في سائر موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، وذلك بأن يقال: إنّ الغرض للمولى لا يقع في عهدة المكلف عادةً إلّا إذا تصدّى المولى إلى تحصيله تشريعاً، فلو لم يتصدَّ هو إلى تحصيله، لم يكن على العبد أن يكون أكثر حرارةً من المولى في مقام تحصيل أغراضه، فإذا تردّد أمر الواجب بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، من قبيل ما لو شكّ في وجوب السورة في الصلاة، فالقدر المتيقّن من تصدّي المولى وتسبيبه الشرعيّ إلى التحصيل هو الأقلّ، فتجري البراءة عن الزائد بالرغم من الشكّ في حصول الغرض، ولكن لا تجري البراءة إذا كان عدم تسبّب المولى التشريعيّ إلى الوصول إلى غرضه على تقدير دخل القيد الزائد في الغرض ناشئاً من عجز المولى عن ذلك كما لو كان مكمّماً.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ قصد القربة على تقدير دخله في الغرض يكون المولى عاجزاً عن الأمر به؛ لما هو المفروض من عدم إمكان تعلّق الأمر بقصد القربة، إذن فلابدّ من الاحتياط؛ للشكّ في حصول الغرض بدون قصد القربة، وعدم إمكان التسبّب التشريعيّ للمولى إلى الوصول إلى غرضه على تقدير دخله فيه.

والجواب: أنّه هنا أيضاً إذا جعل إمكان تسبّب المولى إلى تحصيل الغرض مبرّراً لجريان البراءة، لا ينبغي تخصيص ذلك بالتسبّب بصيغة الأمر، بل يكفي إمكانيّة تسبّب المولى إلى تحصيل غرضه ولو بالإخبار بدخل ذلك في الغرض، ومن المعلوم أنّه بإمكان المولى الإخبار بدخل قصد القربة في الغرض.

الثالث: يختصّ بالبراءة الشرعيّة، فلو أنكرنا البراءة العقليّة: إمّا مطلقاً كما هو الصحيح، أو في خصوص الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، أو خصوص المقام بأحد