109

 

 

 

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنـَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الُْمحْسِنِينَ * وَلاََجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾(1).

 



(1) الآية: 54 ـ 57.

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي...﴾يقال: استخلصه، أي: جعله خالصاً. والمكين: صاحب المكانة والمنزلة. والمعنى: وقال الملك: ائتوني بيوسف أجعله خالصاً لنفسي وخاصّة لي، فلمّا اُتي به إليه وكلّمه، قال له: إنّك اليوم ـ وقد ظهر من كمالك ما ظهر ـ لدينا ذو مكانة مطلقة وأمانة مطلقة، يمكّنك كمالك ذلك من كلّ ما تريد، ويأتمنك على جميع شؤون الملك.

﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ...﴾لمّا عهد الملك ليوسف: أنّك اليوم لدينا مكين أمين، سأله يوسف(عليه السلام) أن ينصبه على خزائن الأرض، ويفوّض إليه أمرها، والمراد بالأرض أرض مصر. ولم يسأله ذلك إلاّ ليتقلّد بنفسه إدارة

110

يوسف(عليه السلام) يتولّى خزائن الأرض:

ولمّا رأى الملك فراسة يوسف(عليه السلام) في تفسير الرؤيا، وحكمته العظيمة للتخطيط لخمس عشرة سنة الآتية من سنيّ مصر، وإثباته لبراءة نفسه بأفضل وجه، قال: ائتوني به أستخلصه لنفسي، فلمّا كلّمه ورآه في منتهى العقل والدراية والفطنة، قال: إنّك لدينا مكينٌ في الاُمور والتصرّفات، أمينٌ معتمدٌ في أمانتك.

 


أمر أرزاق الناس، فيجمعها ويدّخرها للسنين السبع الشداد التي سيستقبلها الناس، وتنزل عليهم جدبها ومجاعتها، ويقوم بنفسه لقسمة الأرزاق بين الناس وإعطاء كلّ منهم ما يستحقّه.

﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنـَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ...﴾التمكين: هو الإقدار. والتبوّء: أخذ المكان. والإشارة بقوله: كذلك إلى ما ساقه من القصّة بما انتهى إلى نيله(عليه السلام)عزّة مصر، وهو حديث السجن، وقد كانت امرأة العزيز هدّدته بالصغار بالسجن، فجعله الله سبباً للعزّة. وقوله: ﴿وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الُْمحْسِنِينَ﴾إشارة إلى أنّ هذا التمكين أجر اُوتيه يوسف(عليه السلام)، ووعد جميل للمحسنين جميعاً أنّ الله لا يضيع أجرهم.

﴿وَلاََجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ...﴾ أي: لأولياء الله من عباده، فهو وعد جميل اُخرويّ لأوليائه تعالى خاصّة، وكان يوسف(عليه السلام)منهم.

111

قال يوسف(عليه السلام): ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ﴾ نقل فيكنز الدقائق(1) عن تفسير عليّ بن إبراهيم: يعني على الكناديج والأ نابير(2)﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾.

وروي في كنز الدقائق(3) عن مجمع البيان، عن الرضا(عليه السلام): «وأقبل يوسف على بيع الطعام، فباعهم في السنة الاُولى بالدراهم والدنانير حتّى لم يبقَ بمصر وما حولها دينار ولا درهم إلاّ صار في ملكيّة يوسف، وباعهم في السنة الثانية بالحليّ والجواهر حتّى لم يبقَ بمصر وما حولها حليّ ولا جواهر إلاّ صار في ملكيّة يوسف، وباعهم في السنة الثالثة بالدوابّ والمواشي حتّى لم يبقَ بمصر وما حولها دابّة ولا ماشية إلاّ صارت في ملكيّة يوسف، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتّى لم يبقَ بمصر وما حولها عبد ولا أمة إلاّ صار في ملكيّةيوسف، وباعهم في السنة الخامسة بالدور والعقار حتّى لم يبقَ



(1) ج 6، ص 325.

(2) الكناديج: جمع الكندوج، شبه مخزن من تراب، أو خشب توضع فيه الحنطة. والأنابير: جمع أنبار، بيت التاجر الذي يجمع فيه المتاع والغِلال. (من المؤلّف دام ظلّه).

(3) ج 6، ص 330 ـ 331.

112

بمصر وما حولها دارٌ ولا عقار إلاّ صار في ملكيّة يوسف، وباعهمفي السنة السادسة بالمزارع والأ نهار حتّى لم يبقَ بمصر وما حولهانهر ولا مزرعة إلاّ صار في ملكيّة يوسف، وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتّى لم يبقَ بمصر وما حولها عبد ولا حرّ إلاّ صار عبديوسف. فملك أحرارهم وعبيدهم وأموالهم. وقال الناس: ما رأيناولا سمعنا بملك أعطاه الله من الملك ما أعطى هذا الملك حكماًوعلماً وتدبيراً!

ثُمّ قال يوسف للملك: أيّها الملك، ما ترى فيما خوّلني ربّي من ملك مصر وأهلها؟ أشر علينا برأيك، فإنّي لم اُصلحهم لأفسدهم، ولم اُنجهم من البلاء لأكون بلاءً عليهم، ولكنّ الله نجّاهم على يدي، قال له الملك: الرأي رأيك.

قال يوسف: إنّي اُشهد الله واُشهِدك أيّها الملك، أنّي قد أعتقت أهل مصر كلّهم، ورددت إليهم أموالهم وعبيدهم، ورددت عليك أيّها الملك، خاتمك وسريرك و تاجك على أن لا تسير إلاّ بسيرتي، ولا تحكم إلاّ بحكمي.

قال له الملك: إنّ ذلك لشرفي وفخري أن لا أسير إلاّ بسيرتك، ولا أحكم إلاّ بحكمك، ولولاك ما قويت عليه، ولا اهتديت له، ولقد جعلت سلطاني عزيزاً لا يُرام، وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده

113

لا شريك له، و أنّك رسوله. فأقم على ما وُلّيت؛ فإنّك لدينا مكين أمين».

انتهى ما أردنا نقله عن كنز الدقائق بشأن الملك.

 

مآل أمر زليخا:

أمّا زليخا حينما تقدّم سنّها فأروي بشأنها عن البحار الروايات التالية:

1 ـ عن الباقر(عليه السلام) قال: «لمّا أصابت امرأة العزيز الحاجة، قيل لها: لو أتيت يوسف بن يعقوب، فشاورت في ذلك، فقيل لها: إنّا نخافه عليك، قالت: كلاّ إنّي لا أخاف من يخاف الله، فلمّا دخلت عليه فرأته في ملكه، قالت: الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته، وجعل الملوك عبيداً بالمعصية. فتزوّجها فوجدها بكراً، فقال لها: أليس هذا أحسن؟! أليس هذا أجمل؟! فقالت: إنّي كنت بُليت منك بأربع خلال: كنتُأجمل أهل زماني، وكنتَ أجمل أهل زمانك، وكنتُ بِكراً، وكانزوجي عنّيناً»(1).

2 ـ عن الصادق(عليه السلام) قال: «استأذنت زليخا على يوسف، فقيل لها: يا زليخا، إنّا نكره أن نقدم بكِ عليه؛ لما كان منك إليه، قالت:



(1) البحار، ج 12، ص 269.

114

إنّي لا أخاف من يخاف الله. فلمّا دخلت قال لها: يا زليخا، مالي أراكِ قد تغيّر لونُك؟! قالت: الحمد لله الذي جعل الملوك بمعصيتهم عبيداً، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكاً، قال لها: يا زليخا، ما الذي دعاك إلى ما كان منك؟! قالت: حسن وجهك يا يوسف، فقال: كيف لو رأيت نبيّاً يقال له محمّد يكون في آخر الزمان، أحسن منّي وجهاً، وأحسن منّي خُلُقاً، وأسمح منّي كفّاً؟ قالت: صدقت، قال: وكيف علمتِ أنّي صدقت؟ قالت: لأنّك حين ذكرته وقع حبّه في قلبي، فأوحى الله عز وجلإلى يوسف: أنّها قد صدقت، وأنّي قد أحببتها لحبّها محمّداً(صلى الله عليه وآله)، فأمره الله تعالى أن يتزوّجها»(1).

3 ـ روي في البحار عن تفسير عليّ بن إبراهيم «...لمّا مات العزيز، وذلك في السنين الجدبة، افتقرت امرأة العزيز، واحتاجت حتّى سألت الناس، فقالوا لها: ما يضرّكِ لو قعدتِ للعزيز؟ وكان يوسف يسمّى بالعزيز، فقالت: أستحيي منه، فلم يزالوا بها حتّى قعدت له، فأقبل يوسف في موكبه، فقامت إليه، وقالت: سبحان الذي جعل الملوك بالمعصية عبيداً، وجعل العبيد بالطاعة ملوكاً، فقال لها يوسف: أنت هاتيك؟! فقالت: نعم، وكان اسمها زليخا فأمر بها، وحوّلت إلى منزله،



(1) البحار، ج 12، ص 281 ـ 282.

115

وكانت هرمة، فقال لها يوسف: ألست فعلتِ بي كذا وكذا؟ فقالت: يا نبيّ الله، لا تلمني؛ فإنّي بُليت بثلاثة لم يُبلَ بها أحد، قال: وما هي؟ قالت: بُليت بحبّك ولم يخلق الله في الدنيا لك نظيراً، وبليت بأنّه لم يكن بمصر امرأة أجمل منّي، ولا أكثر مالاً منّي نُزِعَ عنّي (والثالث من الثلاثة التي بليت بها ساقط عن هذه الرواية، وهو: أنّ زوجها عنّين)، فقال لها يوسف: فما حاجتكِ؟ فقالت: تسأل الله أن يردّ عليّ شبابي، فسأل الله، فردّ عليها شبابها، فتزوّجها وهي بكر»(1).

 

* * *



(1) البحار، ج 12، ص 253، وراجع تفسير القمّي، ج 1، ص 337.

116

 

 

 

﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(1).

 


(1) الآية: 58 ـ 62.

﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ...﴾في الكلام حذف كثير، وإنّما لم يقصّه لعدم تعلّق غرض هامّ به، وإنّما الغرض بيان لحوق أخي يوسف من اُمّه به، وإشراكه معه في النعمة والمنّ الإلهي، ثُمّ معرفتهم بيوسف ولحوق بيت يعقوب به.

وكان بين دخول إخوته وهم العصبة، وبين انتصابه على خزائن الأرض، وتقلّده عزّة مصر بعد الخروج من السجن أكثرُ من سبع سنين؛ فإنّهم إنّما جاؤوا إليه في بعض السنين المجدبة وقد خلت السبع السنون المخصبة، ولم يروه

117


منذ سلّموه إلى السيّارة يوم اُخرج من الجبّ وهو صبيّ، وقد مرّ عليه سنون في بيت العزيز، ولبث بضع سنين في السجن، وتولّى أمر الخزائن منذ أكثر من سبع سنين، وهو اليوم في زيّ عزيز مصر، لا يظنّ به أنّه رجل عبريّ من غير القبط، وهذا كلّه صرفهم عن أن يظنّوا به أنّه أخوهم ويعرفوه، لكنّه عرفهم بكياسته أو بفراسة النبوّة.

﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ...﴾الجهاز: ما يعدّ من متاع وغيره، والتجهيز: حمل ذلك أو بعثه. فالمعنى: ولمّا حمّلهم ما أعدّ لهم من الجهاز والطعام الذي باعه منهم، أمرهم بأن يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم. وقوله: ﴿أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ﴾أي: لا أبخس فيه، ولا أظلمكم بالاتّكاء على قدرتي وعزّتي. وأنا خير المنزلين: اُكرم النازلين بي واُحسن مثواهم.

﴿فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ﴾ الكيل: بمعنى المكيل، وهو الطعام. ولا تقربون، أي: لا تقربوني بدخول أرضي والحضور عندي للامتيار واشتراء الطعام.

﴿قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ...﴾المراودة: هي الرجوع في أمر مرّة بعد مرّة بالإلحاح، ففي قولهم ليوسف(عليه السلام): ﴿سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ﴾دليل على أنّهم قصّوا عليه قصّته وأنّ أباهم يضنّ به، ولا يرضى بمفارقته له.

﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا...﴾الفتيان: جمع الفتى، وهو الغلام. والبضاعة:

118

إخوة يوسف(عليه السلام) ينكرون يوسف:

دخل إخوة يوسف العشرة على يوسف فعرفهم وهم له منكرون.

ويمكن أن تكون هناك عدّة أسباب لعدم معرفتهم إيّاه، من قبيل:

1 ـ الفاصل الزمنيّ بين يوم ألقوه في غيابة الجبّ ويوم دخولهم عليه، هو ما بين ثلاثين وأربعين سنة.

2 ـ لم يكن يخطر في خلدهم احتمال أنّ يوسف أصبح عزيز مصر، فحتّى لو كان هناك شبه بين عزيز مصر ويوسف يحمل ذلك على المصادفة البحت.

3 ـ وثياب يوسف التي أصبحت ثياباً مصريّة كانت تُبعد الذهن عن الانتقال من لباسه إلى يوسف الذي كان له قميصه حين أرادوا إلقاءه في الجُبّ.

4 ـ ولعلّ احتمال بقاء يوسف حيّاً لم يكن يخطر ببالهم.

 


قطعة وافرة من المال تُقتنى للتجارة. والرحال: جمع رحل، وهو: الوعاء والأثاث. والانقلاب: الرجوع. ومعنى الآية: وقال يوسف(عليه السلام) لغلمانه: اجعلوا مالهم وبضاعتهم التي قدّموها ثمناً لما اشتروه من الطعام في أوعيتهم، لعلّهم يعرفونها إذا انقلبوا ورجعوا إلى أهلهم وفتحوا الأوعية، لعلّهم يرجعون إلينا ويأتون بأخيهم؛ فإنّ ذلك يقع في قلوبهم، ويطمعهم في الرجوع والتمتّع بالإكرام والإحسان.

119

يوسف(عليه السلام) يطلب جلب أخيه:

استضاف يوسف(عليه السلام) إخوته، ورتّب لهم خير ضيافة وإرفاق كما يفهم من قوله: ﴿وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾.

وحينما أرادوا الرجوع إلى أبيهم جعل(عليه السلام) بضاعتهم ـ التي كانوا قد أتوا بها بعنوان ثمن مكاييل الغلاّت ـ في رحالهم من طريق فتيانه من دون أن يعرف الإخوة ذلك، وطلب منهم أن يأتوا في السفرة القادمة بأخيهم من أبيهم، يعني: (بنيامين)، وإلاّ فلن يجهّزهم في المرّة القادمة بالغلاّت، في حين أنّه لو أتوا به فسوف يعطيهم بعددهم مكاييل الغلاّت زائداً كيل بعير للأخ الحادي عشر، فهم وعدوه بمحاولتهم لذلك، ولعلّ معنى ﴿وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾: هو الوعد بأصل الإتيان بذاك الأخ الصغير.

ولعلّ معنى قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أنّ إرجاع البضاعة إليهم يكون دليلاً على صدقهم، فيثق الأب بكلامهم، ويوافق على تسليم بنيامين إليهم، كما أنّ جملة ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾تحتمل تفسيراً آخر، وهو: أنّهم ربّما لا يكون لهم ثمن المكاييل، فلا يستطيعون الرجوع، في حين أنّ بضاعتهم تصلح مرّة اُخرى لجعلها ثمناً، فلعلّهم يرجعون.

* * *

120

 

 

 

﴿فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِير ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾(1).

 


(1) الآية: 63 ـ 66.

﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ...﴾الاكتيال: أخذ الطعام كيلا إن كان ممّا يكال. وقوله: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ...﴾إجمال ما جرى بينهم وبين عزيز مصر ـ من أمره بمنعهم من الكيل إن لم يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم ـ يقصّونه على أبيهم، ويسألونه أن يرسله معهم؛ ليكتالوا ولا يحرموا.

﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ...﴾أي: هل أطمئنّ إليكم في ابني هذا إلاّ مثل ما اطمأننت إليكم في أخيه يوسف من قبل هذا، فكان ما كان... وقوله: ﴿فَاللهُ

121


خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾تفريع على سابق كلامه: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ...﴾ويفيد الاستنتاج، أي: إذا كان الاطمئنان إليكم في أمره لا أثر له، ولا يغني شيئاً، فخير الاطمئنان والاتّكال ما كان اطمئناناً إلى الله سبحانه من حيث حفظه.

﴿يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضَاعَتُنَا...﴾البغي: هو الطلب، ويستعمل كثيراًفي الشرّ، ومنه البغي بمعنى الظلم، والبغي بمعنى الزنا. والميرة: الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد. وقوله: ﴿يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي﴾استفهام، أي: لمّا فتحوا متاعهم ووجدوا بضاعتهم ردّت إليهم، قالوا: يا أبانا، ما الذي نطلب من سفرنا إلى مصر وراء هذا؟ فقد اُوفي لنا الكيل، وردّ إلينا ما بذلناه من البضاعه ثمناً.

أرادوا بذلك تطييب نفس أبيهم؛ ليرضى بذهاب أخيهم معهم؛ لأنّه في أمن من العزيز، وهم يحفظونه كما وعدوه؛ ولذلك عقّبوه بقولهم: ﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِير ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾أي: سهل.

﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً...﴾الموثق بكسر الثاء: ما يوثق به ويعتمد عليه، والموثق من الله هو أمر يوثق به، ويرتبط مع ذلك بالله، كالعهد واليمين. والإحاطة: مِن حاط بمعنى حفظ، والله سبحانه محيط بكلّ

122

الإخوة يبرّرون إرسال بنيامين معهم:

قوله: ﴿مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ﴾ المقصود: هو المنع عن الكيل في سفرة ثانية.

قوله: ﴿مَا نَبْغِي هذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا﴾ أقوى الاحتمالين في (ما) أنّها استفهاميّة. وكان إرجاع البضاعة ـ وهي رأس مالهم ـ دليلاً على صدقهم.

قوله: ﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنَا﴾ أي: نجلب الطعام والموادّ الغذائيّة لأهلنا.

 


شيء، أي: مسلّط عليه حافظ له من كلّ جهة، وأحاط به البلاء والمصيبة، أي: نزل به على نحو انسدّت عليه جميع طرق النجاة. والتوكّل على الغير: اعتماده والاطمئنان إليه في أمر. ومعنى الآية: قال يعقوب لبنيه: لن أرسل أخاكم من اُمّ يوسف معكم حتّى تعطوني موثقاً من الله أثق به واعتمد عليه: من عهد أو يمين لتأتنّني به، واللام للقسم، ولمّا كان إيتاؤهم موثقاً من الله إنّما كان يمضي ويفيد فيما كان راجعاً إلى استطاعتهم وقدرتهم، استثنى، فقال: إلاّ أن يحاط بكم، وتسلبوا الاستطاعة والقدرة، فلمّا آتوه موثقهم من الله، قال يعقوب: الله على ما نقول وكيل، أي: إنّا قاولنا جميعاً، فقلتُ وقلتم، وتوسّلنا بذلك إلى هذه الأسباب الاعتياديّة؛ للوصول إلى غرض نبتغيه، فليكن الله سبحانه وكيلا على هذه الأقاويل يجريها على رسلها، فمن التزم بشيء، فليأتِ به كما التزم، وإن تخلّف فليجازه الله، وينتصف منه.

123

قوله: ﴿وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِير ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ أقوى الاحتمالين أنّ المقصود: أنّ كيل بعير يسيرٌ على عزيز مصر.

وبرغم دلالة إرجاع البضاعة على صدقهم، وأنّ أخذ بنيامين ليس من قبيل قصّة أخذ يوسف، لم يكتفِ يعقوب(عليه السلام)بذلك إلى أن استوثق منهم تأكيداً بتحليفهم بالله ﴿فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾.

وبرغم هذا الاستيثاق لم يكلّفهم بغير المقدور فيما لو تحقّق قدرٌ أسقط عنهم القدرة على إرجاع بنيامين ﴿إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ﴾.

 

* * *

 

124

 

 

 

﴿وَقَالَ يَابَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَاب وَاحِد وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَاب مُّتَفَرِّقَة وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِنْ شَيْء إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْء إلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُوعِلْم لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَالنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(1).

 



(1) الآية: 67 ـ 68.

﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَاب وَاحِد...﴾ هذه كلمة ألقاها يعقوب(عليه السلام) إلى بنيه حين آتوه موثقاً من الله، وتجهّزوا واستعدّوا للرحيل، ومن المعلوم أنّه خاف على بنيه ـ وهم أحد عشر رجلاً متعاضدين ـ من أن يراهم الناس، فتصيبهم عين أو يحسدون، فيفرّق جمعهم، وينقص عددهم، فأمرهم أن لا يتظاهروا بالاجتماع، وحذّرهم من الدخول من باب واحد، وعزم عليهم أن يدخلوا من أبواب متفرّقة؛ رجاء أن يندفع بذلك عنهم بلاء التفرقة بينهم، والنقص في عددهم. ﴿وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِنْ شَيْء...﴾ أي: لست أرفع حاجتكم إلى الله سبحانه بما أمرتكم به من السبب الذي تتّقون به نزول النازلة، وتتوسّلون به إلى

125

يعقوب(عليه السلام) يحتاط لحفظ بنيه:

قوله: ﴿يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَاب وَاحِد وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَاب مُّتَفَرِّقَة وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْء إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾: إنّ يعقوب يعلم


السلامة والعافية، ولا أحكم بأن تحفظوا بهذه الحيلة؛ فإنّ هذه الأسباب لا تغني من الله شيئاً، ولا لها حكم دون الله سبحانه، فليس الحكم مطلقاً إلاّ لله.

﴿وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم...﴾ أي: إنّهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من أبواب متفرّقة كما أمرهم أبوهم، وكان قضاء الله سبحانه ماضياً فيهم، وأخذ العزيز أخاهم من أبيهم؛ لحديث سرقة الصواع، وانفصل منهم كبيرهم، فبقي في مصر، وأدّى ذلك إلى تفرّق جمعهم ونقص عددهم، فلم يغنِ يعقوب أو الدخول من حيث أمرهم عنهم من الله من شيء، لكن الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب(عليه السلام)؛ فإنّه جعل هذا السبب الذي تخلّف عن أمره وأدّى إلى تفرّق جمعهم ونقص عددهم بعينه سبباً لوصول يعقوب إلى يوسف(عليه السلام)؛ فإنّ يوسف أخذ أخاه إليه، ورجع سائر الإخوة إلاّ كبيرهم إلى أبيهم، ثُمّ عادوا إلى يوسف يسترحمونه، ويتذلّلون لعزّته، فعرّفهم نفسه، وأشخص أباه وأهله إلى مصر، فاتّصلوا به. ﴿ما كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْء﴾ أي: لم يكن من شأن يعقوب أو هذا الأمر ـ الذي اتّخذه وسيلة لتخلّصهم من هذه المصيبة النازلة ـ أن يغني عنهم من الله شيئاً البتّة، ويدفع عنهم ما قضى الله أن يفارق اثنان منهم جمعهم. ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْم لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾الضمير ليعقوب، أي: إنّ يعقوب لذو علم بسبب ما علّمناه من العلم.

126

أنّ دخولهم من أبواب متفرّقة لا يغني عن القضاء الحتميّ ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾لكنّه قد يُغني عن غير الحتميّات.

وأكبر الظنّ أنّ نظره(عليه السلام) في هذا الأمر كان إلى أحد شيئين:

إمّا إلى أثر عين السوء الذي اُكّد في روايات كثيرة، فهم كلّهم أولاد يعقوب رشيدون، وذوو حسن وبهاء وإن لم يكونوا بمستوى يوسف، وهم إخوة متكاتفون متعاضدون، فدخولهم من باب واحد قد يجلب عليهم أثر العين.

وإمّا إلى حسد الحسّاد الذين إذا رأوهم بهذه الهيئة، اشتعلت نائرة حسدهم، فسعوا ضدّهم لدى عزيز مصر.

ولم يكن مقصوده(عليه السلام) أنّ هذا يؤمّنهم من قضاء الله وقدره، وإنّما كان يقصد هذا المقدار من الاحتياط الذي كان أمراً صحيحاً، ولهذا قال الله سبحانه و تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْم لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.

* * *

127

 

 

 

﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا جَزَآؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَات مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْم عَلِيمٌ﴾(1).

 



(1) الآية: 69 ـ 76.

﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ...﴾الإيواء إليه: ضمّه وتقريبه منه في مجلسه، والابتئاس: اجتلاب البؤس والاغتمام والحزن، وضمير الجمع

128


للإخوة. ومعنى الآية: ولمّا دخلوا على يوسف بعد دخولهم مصر، آوى وقرّب إليه أخاه الذي أمرهم أن يأتوا به إليه، وكان أخاً له من أبيه واُمّه، قال له: ﴿إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ﴾ أي: يوسف الذي فقدته منذ سنين، فلا تبتئس، ولا تغتمّ بما كانوا يعملون من أنواع الأذى والمظالم التي حملهم عليها حسدهم لي ولك، ونحن أخوان من اُمّ.

﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ... أَيَّتُهَا الْعِيرُ﴾السقاية: الظرف الذي يشرب فيه. والرحل: ما يوضع على البعير للركوب. والعير: القوم الذين معهم أحمال الميرة.

﴿قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ﴾الفقد: غيبة الشيء عن الحسّ بحيث لا يعرف مكانه، والضمير في قوله: ﴿قَالُوا﴾للإخوة. والمعنى: قال إخوة يوسف المقبلين على يوسف وفتيانه: ماذا تفقدون؟ وفي السياق دلالة على أنّ المنادي إنّما ناداهم من ورائهم وقد أخذوا في السير.

﴿قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ...﴾الصواع بالضمّ: السقاية، وقيل: إنّ الصواع هو الصاع الذي يكال به، وكان صواع الملك إناء يشرب فيه ويكال به؛ ولذلك سمّي تارةً سقاية، واُخرى صواعاً. وقوله: ﴿حِمْلُ بَعِير﴾ الحمل: ما يحمله الحامل من الأثقال. وقوله: ﴿وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ﴾ الزعيم والكفيل والضمين

129


نظائر، والزعيم أيضاً القائم بأمر القوم، وهو الرئيس. ولعلّ القائل: نفقد صواع الملك هو فتيان يوسف، والقائل: ﴿وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ﴾ يوسف(عليه السلام)نفسه؛ لأنّه هو الرئيس الذي يقوم بأمر الإعطاء.

﴿قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ...﴾المراد بالأرض أرض مصر، وهي التي جاؤوها. وفي قولهم: ﴿لَقَدْ عَلِمْتُم ما جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ﴾دلالة على أنّهم فتّشوا وحقّق في أمرهم أوّل ما دخلوا مصر للميرة بأمر يوسف(عليه السلام)بدعوى الخوف من أن يكونوا جواسيس وعيوناً.

﴿قَالُوا فَمَا جَزَآؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ﴾أي: قال فتيان يوسف أو هو وفتيانه سائلينهم عن الجزاء: ما جزاء السرقة؟ أو ما جزاء الذي سرق منكم إن كنتم كاذبين في إنكاركم؟

﴿قَالُوا جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ...﴾مرادهم: أنّ جزاء السرقة نفس السارق، أو جزاء السارق نفسه، بمعنى: أنّ من سرق مالاً يصير عبداً لمن سُرِقَ مالُه.

﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ...﴾أي: أخذ بالتفتيش والفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء، فبدأ بأوعيتهم وظروفهم قبل وعاء أخيه؛ للتعمية عليهم حذراً من أن يتنبّهوا ويتفطّنوا أنّه هو الذي وضعها في رحل أخيه، ثُمّ استخرجها من وعاء أخيه، وعند ذلك استقرّ الجزاء عليه؛ لكونها في رحله.

130

يوسف(عليه السلام) يحتفظ بأخيه:

قوله سبحانه وتعالى: ﴿آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ﴾ روي في


﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ...﴾الإشارة إلى ما جرى من الأمر في طريق أخذ يوسف(عليه السلام) أخاه لاُمّه من عصبة إخوته وقد كان كيداً؛ لأنّه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا ويتفطّنوا به، غير أنّه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحي منه إليه؛ ولذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد، فقال: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ و ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ﴾بيان للسبب الداعي إلى الكيد، وهو أنّه كان يريد أن يأخذ أخاه إليه، ولم يكن في دين الملك، أي: سنّته الجارية في أرض مصر طريق يؤدّي إلى أخذه، ولا أنّ السرقة حكمها استعباد السارق، ولذلك كادهم يوسف بأمر من الله بجعل السقاية في رحله، ثُمّ إعلام أنّهم سارقون حتّى ينكروه، فيسألهم عن جزائه إن كانوا كاذبين، فيخبروا: أنّ جزاء السرقة عندهم أخذ السارق واستعباده، فيأخذهم بما رضوا به لأنفسهم. ﴿نَرْفَعُ دَرَجَات مِّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْم عَلِيمٌ﴾امتنان علىيوسف(عليه السلام)بما رفعه الله على إخوته، وبيان لقوله: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾وكان امتناناً عليه. وفي قوله: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْم عَلِيمٌ﴾بيان أنّ العلممن الاُمور التي لا يقف على حدّ ينتهي إليه، بل كلّ ذي علم يمكن أن يفرض من هو أعلم منه.

131

كنز الدقائق(1) عن تفسير عليّ بن إبراهيم: خرجوا وخرج معهم بنيامين، وكان لا يؤاكلهم ولا يجالسهم ولا يكلّمهم، فلمّا وافوا مصر دخلوا على يوسف وسلّموا، فنظر يوسف إلى أخيه فعرفه، فجلس منهم بالبعيد، فقال يوسف: أنت أخوهم؟ قال: نعم، قال: فلِملا تجلس معهم؟ قال: لأنّهم أخرجوا أخي من اُمّي وأبي، ثُمّ رجعوا ولم يردّوه، وزعموا أنّ الذئب أكله، فآليت على نفسي أن لا اجتمع معهم على أمر مادمت حيّاً. قال: فهل تزوّجت؟ قال: بلى، قال: كمولد لك؟ قال: ثلاثة بنين، قال: فما سمّيتهم؟ قال: سميّت واحداًمنهم الذئب، وواحداً القميص، وواحداً الدم، قال: وكيف اخترتهذه الأسماء؟ قال: لئلاّ أنسى أخي، كلّما دعوت واحداً من ولدي،ذكرت أخي.

قال لهم يوسف اُخرجوا. وحبس بنيامين، فلمّا خرجوا منعنده، قال يوسف لأخيه: أنا أخوك يوسف ﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوايَعْمَلُونَ﴾.

ثُمّ قال له: أنا اُحبّ أن تكون عندي، فقال: لا يدعني إخوتي؛ فإنّ أبي قد أخذ عليهم عهداً لله وميثاقه أن يردّوني إليه، قال: أنا أحتال



(1) ج 6، ص 341.

132

بحيلة، فلا تنكر إذا رأيت شيئاً، ولا تخبرهم، فقال: لا.

قوله عزّ من قائل: ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾ عبّر القرآن عن ذاك الظرف تارةً بالسقاية، وهي المشربة، واُخرى بالصواع، وهو الكيل، فلعلّه كان تارةً مشربة واُخرى كيلاً، وقيل: إنّه كان من فضّة، وقيل: إنّه كان من ذهب.

قوله: ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُون﴾ العير: بمعنى القافلة، ولعلّه(عليه السلام)قصد بذلك أنّكم سرقتم يوسف، فلم يكذب.

 

* * *

133

 

 

 

﴿قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الُْمحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذاً لَّظَالِمُونَ﴾(1).

 


(1) الآية: 77 ـ 79.

﴿قَالُوا إِن يَسْرِقْ...﴾القائلون هم إخوة يوسف(عليه السلام) لأبيه، ولذلك نسبوا يوسف إلى أخيهم المتّهم بالسرقة؛ لأنّهما كانا من اُمّ واحدة. والمعنى: أنّهم قالوا: إن يسرق هذا صواع الملك، فليس ببعيد منه؛ لأنّه كان له أخ وقد تحقّقت السرقة منه من قبل، فهما يتوارثان ذلك من ناحية اُمّهما، ونحن مفارقوهما في الاُمّ.

وبهذا يتّضح بعض الشيء معنى قول يوسف: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ كما أنّ الظاهر أنّه كالبيان لقوله: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ﴾والمعنى: فأسرّها، أي: أخفى هذه الكلمة التي قالوها، أي: لم يتعرّض لما نسبوا إليه من