222

 

النظم الحياتيّة الراقية والمعارف الأخلاقيّة

المطروحتان في الإسلام والقرآن

 

ولنبدأ لتوضيح الفكرة بالإشارة إلى مشكلة الإنسانيّة المعذّبة والحلّ الذي أتى به القرآن والإسلام لذلك، ونفتتح الحديث بإلقاء نظرة مختصرة على بعض بديهيّات الساحة التي نعيشها في الوقت الحاضر والتي وصلتنا بشكل قاطع من وقتنا القريب، وانتهت إلينا أيضاً من التاريخ الحاكي عن الوقت البعيد، أو من الكُتب السماويّة الحاكية عمّا قبل التاريخ:

إنّ البشريّة المعذّبة لم تر حتّى الآن حياة اجتماعيّة طيّبة وهنيئة على وجه الأرض، ابتداءً بالمجتمع الأوّلي الصغير الذي وقعت فيه مشكلة هابيل وقابيل، وانتهاءً بزماننا هذا الذي تعتبر فيه الصهيونيّة من مفردات مشاكله وويلاته البارزة، فقد شكّلت مصدراً للظلم وهدر الحقوق بالنسبة للعرب والمسلمين معاً، وهم يقفون في وجهها مضحّين بالغالي والنفيس في سبيل درء الظلم عن أنفسهم واسترجاع حقوقهم.

وإنّنا نعتقد أنّ الحلّ الوحيد لجميع المصائب الاجتماعيّة والظلم والمحن والاضطهاد هو الإسلام.

إلّا أنّ الإسلام لم يطبّق حتّى يومنا هذا على وجه الأرض إلّا ضمن نقائص ثلاثة:

أوّلاً: إنّ جميع تطبيقاته من زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وإلى ماتحقّق في زماننا من الحكومة الإسلاميّة المباركة في إيران ليس إلّا تطبيقاً على قطعة أرضيّة صغيرة بالقياس إلى الأرض المكتشفة لنا، والتي نتعامل معها في كلّ مرّة من مرّات

223

تطبيق الإسلام بما فيها التطبيق المبارك الذي صار في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله).

ثانياً: إنّ الحكومة الإسلاميّة لم تكن مستقرّة وهادئة البال في كلّ هذه المرّات، بل كانت في جميعها مبتلاة بالحروب أو ـ على الأقلّ ـ المعارضات الطاحنة من قبل الأعداء، سواء في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) أو عهد عليّ(عليه السلام) في فترة حكمه وكذلك في العهد القصير للحسن(عليه السلام) وفي عهدنا في إيران الإسلام.

ثالثاً: إنّ التطبيق كان ناقصاً في جميع أعصر التطبيق بما فيها العصر الذهبي لتطبيق الإسلام في عهد رسول الله وقيادته، فصحيح أنّه كان معصوماً، ولكن المجتمع الذي كان على عاتقه نصرة القائد ودعمه والتعاضد معه في التطبيق لم يفعل ما كان عليه؛ ولهذا كثر المنافقون في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله): ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَاب عَظِيم * وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم﴾(1). ولو كانوا قد طبّقوا الإسلام يوم ذاك بشكل كامل لما كان من المعقول أن يحدّثنا التاريخ بارتداد الناس ـ إلّا نفراً قليلاً ـ بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)عن الإسلام الذي اُكمل بالولاية: ﴿أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾(2).

والداء الذي سبّب هذا العذاب للبشريّة واضح، وهو مؤلّف من أمرين: أحدهما: محدوديّة وضيق النعم الدنيويّة وملاذّها في نظر هذا الإنسان الذي خلق هلوعاً بالرغم من أنّنا لو عددنا تلك النعم لا نحصيها، والثاني حبّ الذات في الإنسان ممّا أدّى إلى تكالبه على ما يمكن أن يقع بيديه من النعم واللذائذ المادّيّة، فمجموع هذين الأمرين هو الذي خلق هذا التنافس المحموم على


(1) س 9 التوبة، الآية: 101 ـ 102.

(2) س 3 آل عمران، الآية: 144.

224

الدنيا والصراع من أجلها ممّا سبّب التعارض والتسابب والتقاتل وسائر أنواع الظلم والاضطهاد والحيف وما إلى ذلك.

وقدّم العالَم حلّين نظريّين لهذه المشكلة التي هي اُمّ المشاكل المادّيّة، ولا ثالث لهما:

أحدهما: نزع حبّ الذات بالتدريج من النفس البشريّة، وتبديله بحبّ المجتمع عن طريق تطبيق نُظُم الاشتراكيّة إلى أن ينتهي الأمر إلى الشيوعيّة.

وهذا الحلّ لايمكن تطبيقه لتعارضه مع أمر ذاتيّ يستحيل نزعه من البشريّة، وهو حبّ الذات.

وكان على رأس أصحاب هذه النظريّة المعسكر الاشتراكي الذي كان مسيطراً على إحدى القوّتين المتنافستين للهيمنة على العالم الثالث، وقد انهار في زماننا شرّ انهيار، وليس ذلك إلّا لكون نظريتهم خياليّة بحتاً لا تقبل التطبيق.

ثانيهما: عكس الأوّل تماماً، وهو نظريّة إعطاء الحرّيات الأربع ـ الحرّية السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة والشخصيّة ـ بأقصى ما يمكن.

وهذه هي النظريّة التي أخذ بها المعسكر الآخر في العالم في مقابل المعسكر الاشتراكي وهو المعسكر الرأسمالي، وكانت نتيجتها تصاعد التنافس المحموم في العالم على أثر الحرّيات المفروضة ممّا أدّى إلى تعقّد مشكلة البشريّة بأقصى ما يمكن أن يكون.

أمّا العلاج المطروح من قبل القرآن أو الاسلام فهو عبارة عن تضافر أمرين:

الأوّل: دلالة الإنسان على عدم انحصار النعم والملاذّ المادّيّة ـ من المأكولات والمشروبات والمنكوحات وما إلى ذلك ـ التي هي أقرب إلى نفس الإنسان الساذج والبسيط بالنعم المحدودة في الدنيا، وأنّ هناك أمثالها بل أعلى منها بمراتب لا تحصى في العالم الآخر، والتنافس الظالم في هذا العالم يمنع عن

225

التنافس في تلك، فالأفضل ـ حتّى لمن لا يدرك إلّا الملاذّ المادّيّة ـ صرف عنان التنافس إلى تلك النعم الخالدة؛ اذ لا يخلق التنافس فيها أيّ مشكلة من المشاكل، بل التنافس فيها يجرّ الإنسان إلى الأعمال الفاضلة والحميدة لا إلى الشرّ والظلم. ألا وهي الجنّة التي عرضها السماوات والأرض اُعدّت للمتّقين.

والآيات التي تشير إلى نعم الجنّة اللامتناهية كثيرة، نكتفي هنا بالإشارة إلى واحدة منها، قال الله تعالى: ﴿إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُر مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْس مِن مَّعِين * بَيْضَاء لَذَّة لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ ءَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * ءَإِذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً ءَإِنّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاُْولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَل الْعَامِلُون﴾(1).

ولم ينفِ القرآن حالة التنافس الموجودة في ذات البشريّة ـ التي هي مثار الفتن بالنسبة لنعم الدنيا ـ ولم يردع عنها، بل صرفها من النعم الضيّقة والفانية التي يؤدّي التنافس فيها إلى التكالب والتضارب إلى تلك النعم التي لا يكون طريق الوصول إليها إلّا ترك الظلم والطغيان، وأمر بالتنافس فيها ورغّب البشريّة في ذلك كما قال: ﴿إِنَّ الاَْبْرَارَ لَفِي نَعِيم * عَلَى الاَْرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيق مَّخْتُوم * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ


(1) س 37 الصافات، الآية: 40 ـ 61.

226

فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون﴾(1)، و التنافس هنا ليس كالتنافس في اُمور الدنيا مثاراً للمشاكل لأنّ ازدياد أحد من تحصيل تلك النعم لا يَنقص شيئاً من الآخر.

الثاني: فتح بصيرة الإنسان على اللذائذ المعنويّة التي تفوق للعارف بها اللذائذ المادّيّة بمراتب لا تحصى، وتزيد تلك المراتب وتنقص بقدر زيادة العرفان في الإنسان ونقصانه.

وشرح ذلك يطول ولكنّنا نكتفي في ذلك بالإشارة إلى بعض النماذج من القرآن؛ لتكون خير شاهد على حلّ الإسلام لمشكلة الإنسانيّة المعذّبة بأرقى مستوى من مستويات الأخلاق وتهذيب النفوس:

 

الأوّل ـ شكر المنعم:

قال الله تعالى:﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾(2)، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَوَصَّيْنَا الاِْنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾(3).

ولتوضيح رفعة التصوير القرآني لمسألة شكر المنعم ـ بما لا يصل إليه العقل البشري من دون الاستعانة بمبدأ الوحي وبالتربيّة القرآنيّة ـ نبرز هنا عدّة نكات:

 


(1) س 83 المطفّفين، الآية: 22 ـ 26.

(2) س 17 الإسراء، الآية: 23 ـ 24.

(3) س 31 لقمان، الآية: 14 ـ 15.

227

النكتة الاُولى: لئن كان احترام الأبوين إلى حدّ التذلّل لهما والاهتمام بمداراتهما وبقضاء حوائجهما يعتبر أمراً طبيعيّاً في المجتمع الإسلامي، فهذا أمر مأخوذ من القرآن ومن مبدأ الوحي والإسلام، ولو أردنا أن نعرف ما هو الذي يترشّح في هذا الموضوع من عقل الإنسان غير المستنير بنور القرآن يجب أن ننظر إلى المجتمع الغربي الذي لم يتربّ ولو بمقدار تربيتنا الناقصة على يد القرآن. وها نحن نرى أنّ البارّ من أولادهم غاية ما يفعل لأبيه أو اُمّه العجوزين العاجزين هو أن ينقله إلى دار العجزة أو المستوصف الحكوميين، ولن يعود الشابّ إلى ذاك المكان عادةً إلّا بعد إبلاغه خبر موته، فيعود بهدف بيع جثمانه للمستشفى. كما نرى كثيراً منهم يفضّل تربية كلب وتبنّيه على تربية ولد واحتضانه؛ لأنّ الكلب له صفة الوفاء والولد لا وفاء له ولو بمقدار وفاء الكلب، هذا هو مستوى إدراك من لم يتربّ تربية قرآنيّة.

النكتة الثانية: إنّ الله تبارك وتعالى قرن الإحسان بالوالدين بعبادته سبحانه وتعالى ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أن لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾، ويبدو لنا في سرّ ذلك أنّ الله هو المنعم الحقيقي، وأوّل نعمه علينا هو نعمة الوجود، فهو الخالق لنا، والأبوان لهما دخل أيضاً في خلقنا وإيجادنا في حين أنّ ذلك خلق وإيجاد مجازي لا حقيقي؛ إذ ليسا إلّا من المقدّمات الإعداديّة التي كانت مقدّميّتهما أيضاً من إفاضات الله سبحانه، وقد يتّفق أنّهما لم يعملا ما عملا لأجلنا بل لأجل شهوتهما الجنسيّة، وقد لا تتحمّل الاُمّ مشاقّ الحمل والوضع والرضاعة إلّا لمشتهياتها النفسيّة أيضاً، ولكن مع هذا كلّه أوجب هذا المقدار من الدخل لإيجاد الأولاد شكرهم لهما إلى حدّ خفض جناح الذلّ لهما من الرحمة.

ولئن كان الشابّ الغربي البعيد عن تعاليم القرآن لا يتحمّلهما لدى الكبر إلّا بمقدار النقل إلى شبه المستشفيات ثُمّ عيادتهما بعد موتهما لبيع جسدهما، فإنّ

228

القرآن يربيّ أتباعه على عدم إبراز التضجّر من احتضان الأبوين لدى الكبر ولو بأبسط شيء، وهي قولة ﴿اُفّ﴾ بل أوجب عليهم خفض جناح الذلّ لهما من الرحمة.

والملاحظ أنّ الأمر بخفض جناح الذلّ للأبوين من الرحمة صدر من شريعة نهت على العموم عن التذلّل لغير الله، فنهت عن السجود لغير الله، وعن تقبيل اليد إلّا يداً اُريد بها وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وعن السلام على الغنيّ بغير وجه السلام على الفقير لاعتبار ذلك نوع تذلّل للغنيّ.

النكتة الثالثة: إنّك لا ترى قانوناً مفروضاً من قبل سلطان أرضيّ، يطلب من الرعيّة احترام عدوّه والعطف عليه والتعاطف معه بالرحمة والحنان لا لشيء إلّا لحقّ الاُبوّة على الولد، في حين أنّك ترى القرآن قد أمر الولد بذلك بشأن أبويه حتّى ولو كانا مشركين، نعم استثنى عدم طاعتهما في نفس الشرك، وأنت تعلم أنّ من أعدى أعداء الله تعالى هو المشرك به عزّ وجلّ. وأمّا ما ورد في الروايات بصدد احترام حقّ الاُبوّة فقد بلغ مستوى أنّه لا يقاد الوالد بقتل الولد، في حين أنّه يقاد الولد بقتل الوالد(1)، ويقاد أيّ شخص ولو كان عزيزاً بقتل أيّ شخص ولو كان وضيعاً.

 

الثاني ـ الوفاء بالعهد:

قال الله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾(2).

وقال عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود﴾(3).

 


(1) وسائل الشيعة 29: 77 ـ 80، الباب 32 من قصاص النفس.

(2) س 17 الإسراء، الآية: 34.

(3) س 5 المائدة، الآية: 1.

229

وقال عزّ مِن قائل: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْض وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾(1).

وقال تعالى:﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين﴾(2).

وقال عزّ مِن قائِل:﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُون﴾(3).

وقال عزّ اسمه:﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين﴾(4).

فبالله عليك هل تعرف سلطاناً أرضيّاً غير متربٍّ في مدرسة القرآن عندما أعطى الأمان لأعدى أعدائه في حالة الحرب لكي يوضّح له حججه، فلم يقتنع بها، يأمر بإرجاعه إلى مأمنه وفاءً بعهد الأمان، وبعد ذلك يُجوّز محاربته؟ أو يحتمل بشأن ما يترشّح من العقل الذي لم ير نوراً من القرآن والوحي غير أن يقول: مادام هذا العدوّ المحارب المسلّح لم يقتنع بحججنا فعليكم أن تقطّعوه إرباً إرباً، وإيّاكم أن تفسحوا له المجال للوصول إلى مأمنه؟

ولا بأس هنا بذكر بعض روايات هذا الباب من قبيل ما روي عن الصادق(عليه السلام)أنّه قال: «لو أنّ قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان فقالوا: لا. فظنّوا أنّهم قالوا: نعم. فنزلوا إليهم، كانوا آمنين»(5).

وما ورد بسند تام عن ابن أبي يعفور عن الصادق(عليه السلام): «أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)


(1) س 4 النساء، الآية: 21.

(2) س 9 التوبة، الآية: 4.

(3) س 9 التوبة، الآية: 6.

(4) س 9 التوبة، الآية: 7.

(5) وسائل الشيعة 15: 68، الباب 20 من جهاد العدوّ، الحديث 4.

230

خطب الناس في مسجد الخيف فقال: نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلّغها مَن لم يسمعها... المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم»(1).

وفي نقل آخر: «المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، وهم يدٌ على مَن سواهم، يسعى بذمّتهم أدناهم»(2)، ومعنى سعي أدناهم بذمّتهم أنّ الأمان المعطى من قبل أدناهم يجب تنفيذه حتّى على أعلاهم، كما أنّ العالي والداني يتكافأ دمهما، فيقتل العالي وهو في أعلى مستوى اجتماعي بأدناهم نسباً وحسباً. فهل يتصوّر إمكان إدراك المجتمعات الغربيّة لهذا المستوى الأخلاقي في حين أنّ من أبرز مشاكلهم هو التمييز العنصري بين البيض والسود، وكأنّما الأسود عندهم في مرتبة نازلة من البشريّة ومتوسطة بين الإنسان والحيوان، بل أقلّ من الحيوان؛ لأنّهم لا يحترمون الأسود بقدر ما يحترمون الكلب؟

 

الثالث ـ التوبة :

أفترى مخلوقاً غير متربّ بتربية القرآن يعفو عن مجرم ارتكب بحقّه شتّى ألوان الظلم والطغيان والإجرام على طول حياته، ثمّ تاب وطلب منه العفو في آخر لحظة؟!

ولكنّك ترى القرآن وهو يخاطب المذنبين ـ حتّى مرتكبي الكبائر ومضيّعي أعمارهم بالانهماك في المعاصي ـ بتعبير عاطفي بليغ لو لم يكن يمتلك إلّا حلاوة عطفه على عدوّه الذي أراد التوبة لكفاه عظمةً وجمالاً، وها هو قوله


(1) وسائل الشيعة 29: 75 ـ 76، الباب 31 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2.

(2) المصدر السابق، الحديث 3.

231

تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم﴾(1) يعبّر عن هذا الخطاب الذي يجسّد مفهوم الرحمة بأجمل صورها.

والسبب في هذا العطف وهذا القبول للتوبة واضح، وهو أنّ الله تعالى خلق عباده لكي يرحمهم كما يظهر من قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾(2)، وخير رحمة للربّ هو تمكينهم من التكامل ومساعدتهم لذلك، والتوبة عبارة عن بداية الرجوع إلى خطّ التكامل وسدّها سدّ لباب التكامل؛ فلهذا فتح الله هذا الباب على عباده ولو كانت ذنوبهم كالجبال الرواسي.

إلّا أن انفتاح هذا الباب موقّت، وينتهي بمعاينة اُمور الآخرة لدى الموت وحضور السكرات كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾(3).

والسرّ في انغلاق باب التوبة بالمعاينة واضح أيضاً؛ لأنّ هكذا توبة ليست طريقاً للتكامل، فهلمّ بنا لولوج الباب قبل انسداده: «إلهي، أَنْتَ الَّذي فَتَحْتَ لِعِبادِكَ بَابَاً إِلى عَفْوِكَ سَمَّيْتَهُ التَّوبَة، فَقُلْتَ: ﴿تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً﴾ فَمَا عُذر مَنْ أَغْفَلَ دُخُولَ الْبَابَ بَعْدَ فَتْحِه؟»(4) .

 


(1) س 39 الزمر، الآية: 53.

(2) س 11 هود، الآية: 118 ـ 119.

(3) س 4 النساء، الآية: 17 ـ 18.

(4) مناجاة التائبين.

232

شذرات من أخلاق الرسول(صلى الله عليه وآله):

وما دمنا قد طرقنا باب أخلاقيّة الإسلام بمقدار ترطيب أناملنا ببحر الأخلاق الواردة في دين الإسلام، فلا بأس بأنّ نبلّلها مرّة اُخرى ببحر أخلاق رسول الله(صلى الله عليه وآله)الذي قال الله تبارك وتعالى بشأنه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم﴾(1)، ﴿فَبِمَا رَحْمَة مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين﴾(2)، ونذكر هنا مقتطفات من أخلاقه(صلى الله عليه وآله) الرفيعة والتي تمثّل أجلى صورة للأخلاق الإسلاميّة السامية:

الأوّل: حينما فتح مكّة عفا عن كلّ الأعداء ومجرمي الحروب التي شنّوها عليه(صلى الله عليه وآله)، ووقف ـ روحي فداه ـ قائماً على باب الكعبة فقال: «لا إله إلّا الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ألا إنّ كلّ مال ومأثرة ودم يدّعى تحت قدميّ هاتين إلّا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنّهما مردودتان إلى أهليهما... ألا لبئس جيران النبيّ كنتم، لقد كذّبتم وطردتم وأخرجتم وآذيتم، ثمّ ما رضيتم حتّى جئتموني في بلادي تقاتلوني! إذهبوا فأنتم الطلقاء». فخرج القوم وكأنّما نُشروا من القبور ودخلوا في الإسلام، وقد كان الله سبحانه أمكنه من رقابهم عنوةً، وكانوا له فيئاً، فلذلك سمّي أهل مكّة بالطلقاء(3).

 


(1) س 68 القلم، الآية: 4.

(2) س 3 آل عمران، الآية: 159.

(3) البحار 21: 105 ـ 106، الباب 26 من أبواب أحوال الرسول(صلى الله عليه وآله) من البعثة إلى نزول المدينة.

233

الثاني: حينما دخلوا مكّة نادى سعد بن عبادة أحد آمري اللواء: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسبى الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشاً. ولكن نادى رسول الله(صلى الله عليه وآله): «يا أبا سفيان، بل اليوم يوم الرحمة، اليوم أعزّ الله قريشاً». وأرسل إلى سعد فعزله عن اللواء(1).

الثالث: حينما دخل النبيّ(صلى الله عليه وآله) مكّة غلق عثمان بن أبي طلحة العبدي باب البيت وصعد السطح، فطلب النبيّ(صلى الله عليه وآله) المفتاح منه، فقال: لو علمت أنّه رسول الله لم أمنعه. فصعد علي بن أبي طالب(عليه السلام) السطح ولوّى يده، وأخذ المفتاح منه وفتح الباب، فدخل النبيّ(صلى الله عليه وآله) البيت فصلّى فيه ركعتين، فلمّا خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح، فنزل: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾(2)، فأمر النبيّ(صلى الله عليه وآله) أن يردّ المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، فقال له عثمان: يا علي، أكرهت وآذيت ثمّ جئت برفق؟ قال(عليه السلام): لقد أنزل الله عزّ وجلّ في شأنك وقرأ عليه الآية، فأسلم عثمان فأقرّه النبيّ(صلى الله عليه وآله)في يده(3).

الرابع: ورد أنّه في يوم وفاة إبراهيم بن النبيّ(صلى الله عليه وآله) انكسفت الشمس، فاعتقد قسم من الناس أنّ هذه كرامة لإبراهيم ومعجز لرسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكان بإمكانه(صلى الله عليه وآله)أن يسكت عن ذلك؛ لأنّه من صالحه، وكما يقال في المثل: الكذب حرام وليس الصدق واجباً، ولكن من أهدافه(صلى الله عليه وآله) اجتثاث الخرافات من أذهان المسلمين، فصعد(صلى الله عليه وآله)المنبر وقال: «أيّها الناس، إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا انكسفا أو


(1) المصدر السابق: 109.

(2) س 4 النساء، الآية: 58.

(3) راجع المصدر السابق: 116 ـ 117.

234

أحدهما صلّوا»، ثمّ نزل من المنبر، فصلّى بالناس صلاة الكسوف، فلمّا سلّم قال: يا عليّ قم فجهّز ابني(1).

الخامس: روي عن الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذا أراد أن يبعث سريّة دعاهم فأجلسهم بين يديه ثمّ يقول: سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولا تمثّلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلّا أن تضطرّوا إليها، وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى رجل من المشركين فهو جار حتّى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه واستعينوا بالله»(2).

السادس: روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: إنّ يهوديّاً كان له على رسول الله(صلى الله عليه وآله)دنانير فتقاضاه، فقال له: يا يهودي، ما عندي ما اُعطيك. فقال: فإنّي لا اُفارقك يامحمّد حتّى تقضيني. فقال: إذن أجلس معك. فجلس معه حتّى صلّى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) يتهدّدونه ويتواعدونه، فنظر رسول الله(صلى الله عليه وآله) إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول الله، يهوديّ يحبسك؟! فقال(صلى الله عليه وآله): لم يبعثني ربّي عزّ وجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره. فلمّا علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت إلّا لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإنّي قرأت نعتك في


(1) اُنظر البحار 22: 155 ـ 156، الباب 1 من أبواب ما يتعلّق بالرسول(صلى الله عليه وآله) من أولاده وأزواجه، الحديث 13.

(2) البحار 19: 177، الباب 8 من أبواب أحواله(صلى الله عليه وآله)، الحديث 21.

235

التوراة محمّد بن عبدالله مولده بمكّة، ومهاجره بطيبة، وليس بفظّ ولا غليظ ولا سخّاب ولا متزيّن بالفحش ولا قول الخناء، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله. وكان اليهودي كثير المال. ثمّ قال(عليه السلام): كان فراش رسول الله(صلى الله عليه وآله) عباءة وكانت مرفقته (أي وسادته) أدم حشوها ليف، فثنّيت له ذات ليلة فلمّا أصبح قال: لقد منعني الفراش الليلة الصلاة. فأمر(صلى الله عليه وآله) أن يجعل بطاق واحد(1).

السابع: روي عن الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) في بيت اُمّ سلمة في ليلتها، ففقدته من الفراش فدخلها في ذلك ما يدخل النساء، فقامت تطلبه في جوانب البيت حتّى انتهت إليه وهو في جانب من البيت قائم رافع يديه يبكي وهو يقول: اللّهمّ لا تنزع منّي صالح ما أعطيتني أبداً، اللّهمّ لا تشمت بي عدوّاً ولا حاسداً أبداً، اللّهمّ ولا تردّني في سوء استنقذتني منه أبداً، اللّهمّ ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً. قال: فانصرفت اُمّ سلمة تبكي حتّى انصرف رسول الله(صلى الله عليه وآله) لبكائها فقال لها: ما يبكيك يا اُمّ سلمة؟ فقالت: بأبي أنت واُمّي يا رسول الله، ولم لا أبكي، وأنت بالمكان الذي أنت به من الله قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر تسأله أن لا يشمت بك عدوّاً أبداً، وأن لا يردّك في سوء استنقذك منه أبداً، وأن لا ينزع منك صالحاً أعطاك أبداً، وأن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين أبداً؟ فقال: يا اُمّ سلمة، وما يؤمنني؟ وإنّما وكّل الله يونس بن متى إلى نفسه طرفة عين وكان منه ما كان»(2).

 


(1) راجع البحار 16: 216 ـ 217، باب مكارم أخلاقه وسيره وسننه(صلى الله عليه وآله)، الحديث 5.

(2) المصدر السابق، الحديث 6.

236

 

العرفان الشامخ المطروح في الإسلام والقرآن

 

نشير فيما يلي باختصار إلى العرفان المطروح في القرآن وفي الإسلام ـ والذي يستحيل وصول شخص غير متربٍّ بتربية القرآن اليه ـ ونكتفي في ذلك بالتلميح إلى نقاط ثلاث:

1 ـ حبّ الله.

2 ـ رضوان الله.

3 ـ لقاء الله.

أمّا حبّ الله فقد عدّه القرآن من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء، وعدّه علامة على أنّ صاحبه يكون معتصماً من الارتداد عن مبدئه، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِم ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم﴾(1)، فمن لم يتربّ في مدرسة القرآن قد يصعب عليه تصوّر الالتذاذ بحبّ الله فوق الالتذاذ باللذات المادّية فضلاً عن التصديق به أو الوصول اليه، أمّا تلميذ القرآن فيقول: «إِلهي مَنْ ذَا الَّذي ذَاقَ حَلاوَةَ مَحَبَّتِكَ فَرامَ مِنْكَ بَدَلاًَ؟ وَمَنْ ذَا الَّذي آنَسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغَى عَنْكَ حِوَلاًَ»(2) ؟

وأمّا رضوان الله فقد جعله القرآن أكبر من جنّات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنّات عدن، قال الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ


(1) س 5 المائدة، الآية: 54.

(2) مناجاة المحبّين.

237

جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾(1).

ولا أحد يستطيع أن يتصوّر ذلك عدا من يكون متربّياً بأخلاقيّة القرآن كالمرحوم آية الله السيّد صدر الدين أحد أجداد اُستاذنا الشهيد الصدر(قدس سرهما) والذي كان يقول:

رضاك رضاك لا جنّات عدن
وهل عدنٌ تطيب بلا رضاكا(2)
 

ولعلّه أخذه من الآية المباركة التي أشرنا إليها.

وأمّا لقاء الله ـ وليس المقصود اللقاء المادّي تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ـ فقد عبّر القرآن عن ذلك ـ على ما يبدو ـ بالنظر إلى الله ـ والمقصود النظر بعين البصيرة وليس بالباصرة ـ في قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة﴾(3)، ويحتمل أن يكون اللقاء المعنوي أيضاً هو المقصود في آخر سورة القمر، حيث قال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّات وَنَهَر * فِي مَقْعَدِ صِدْق عِندَ مَلِيك مُّقْتَدِر﴾(4).

وقد عبّر عن نقيض ذلك بالحجاب في قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَّمَحْجُوبُون﴾(5).

ومَن الذي يستطيع أن يصل إلى مغزى لذّة لقاء الله، وحقيقة ألم فراقه غير تلميذ القرآن الذي يقول: «فَهَبْني يا إِلهي وَسَيِّدي وَمَوْلايَ وَرَبِّي صَبَرْتُ عَلَى عَذابِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِراقِك»(6)؟

 


(1) س 9 التوبة، الآية: 72.

(2) راجع كتابنا مباحث الاُصول، الجزء الأوّل من القسم الثاني: 18.

(3) س 75 القيامة، الآية: 22 ـ 23.

(4) س 54 القمر، الآية: 54 ـ 55.

(5) س 83 المطفّفين، الآية: 15.

(6) دعاء كميل.

238

 

التوحيد المطروح في الإسلام والقرآن

 

للتوحيد المطروح من قبل الإسلام في القرآن مستويان:

الأوّل: التوحيد الذي به قوام إسلام المسلم، وهو شهادة أن لا إله إلّا الله، وهذا يشتمل على التوحيد في الخلق وفي الرزق وفي الربوبيّة وفي العبادة، وما إلى ذلك ممّا هو داخل في جملة لا إله إلّا الله، ولكن هذا التوحيد في بساطته يدركه كلّ مسلم حتّى ذلك المسلم الساذج الذي يتصوّر انفكاك الخالق عن المخلوق من سنخ انفكاك البنّاء عن البيت.

والثاني: التوحيد في الوجود المستقلّ، وهذا إن رأينا طرحه من قبل الفلاسفة الإسلاميّين أو العرفاء المسلمين فإنّما أخذوه من القرآن الذي قال: ﴿هُوَ الاَْوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيم﴾(1)، وقال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد﴾(2)، وما إلى ذلك من مثل هذه الآيات.

ولقد أخطأ من حمل هذه الآيات على وحدة الموجود ونفي أيّ فارق بين الله ومخلوقاته، وبحجّة أنّه لولا الوحدة لكان وجود المخلوقات حدّاً لله، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، فإنّ هذا الرأي ينتهي إلى إبطال بعث الرسل وإنزال الكتب وإبطال الثواب والعقاب، وما إلى ذلك من مخاطر؛ إذ لا معنى لبعث الرسل وإرسال الكتب أو تثبيت الثواب أو العقاب على الشبكات العدمية التي يتراءى من خلالها الوجود مقطّعاً ومحدّداً، فإنّ الأعدام لا تعي ولا تدرك، ولا معنى لإرسالها أو تثبيتها على الوجود الذي يُرى خلال تلك الشبكات؛ لأنّ


(1) س 57 الحديد، الآية: 3.

(2) س 50 ق، الآية: 16.

239

المفروض أنّه لا حقيقة لها إلّا الله، فبقرينة آيات البعث وإرسال الرسل والكتب وتثبيت يوم الجزاء وما إلى ذلك نعرف أنّ المقصود بآيات نفي التفكيك بين الخالق والمخلوق كون المخلوق إشراقاً للخالق ووجوداً تبعيّاً، والوجود التبعي مهما يكثر لا يؤدّي إلى الحدّ من الوجود المستقلّ، بدليل أنّ عدمه لا يوسّع دائرة الوجود المستقلّ، وإلّا للزم أن يكون الوجود المستقلّ تبعيّاً في مقدار منه، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

نكتفي بهذا المقدار من الإشارة إلى معارف الإسلام الراقية والتي تكون أقوى دلالة ـ عند العارفين ـ على حقّانيّة الإسلام ورسول الإسلام(صلى الله عليه وآله) من المعاجز.

 

 

 

 

 

241

الفصل الثالث

 

 

 

الإمامة

 

 

○ ضرورة التنصيص على الإمامة.

○ إثبات إمامة الأئمّة(عليهم السلام).

○ ظهور دولة العدل في آخر الزمان.

 

 

243

 

 

 

 

 

ضرورة التنصيص على الإمامة

 

الإمامة عند الفريقين

 

الإمامة لدى إخواننا السنّة تعني في أرقى مقام يمكن افتراض اشتمالها عليه اُموراً ثلاثة، ولا يمكن أن ترقى أكثر من ذلك حسب تصوّراتهم:

الأوّل: زعامة الحكومة بعنوان الخلافة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله).

والثاني: إجراء الحدود واسترجاع الحقوق من سالبيها وتسليمها إلى أهلها، من قبيل القصاص والديات وما إلى ذلك.

والثالث: الحراسة عن الدين الإسلامي ودعمه ونشره وتثبيت دعائمه في المجتمع.

ولا يطرأ في مخيّلتهم أنّ للامامة مقاماً أرفع من ذلك، وغالباً ما يعبّرون عنها بالخلافة.

والشيعة يعبّرون غالباً عن هذا المنصب بالإمامة، ولا يكتفون في مفادها بالمناصب التي أشرنا إليها، ويرون عادة أنّ هذه المناصب المشار إليها ثابتة لفقهائهم العُدول، وأنّ هذه لا ترقى إلى مستوى الإمامة الحقيقي الذي يعني عندهم ـ زائداً على ما مضى ـ منصب إبلاغ الأحكام الفقهيّة عن الله لا بمعنى

244

حجيّة الفتوى التي قد تخطئوقد تصيب، ومن سنخ حجيّة خبر الثقة الذي قد يخطئ وقد يصيب، بل بمعنى التصاق الإمام بالله سبحانه بمستوى يكفي لانكشاف الحقائق والأحكام له مباشرة؛ لشدّة اضمحلالهم في ذات الله وارتباطهم به بشكل لا يمكن أن يخفى عليهم شيء ممّا يريده الله، فما يبيّنونه من الحكم يكون من قبيل بيان الرسول للحكم، أي إنّ ذلك يكون هو حكم الله مباشرة، وليست حجّيّته ظاهريّة من باب حجيّة كلام أهل الخبرة كما في الفتوى، أو حجيّة كلام الثقة كما في نقل الراوي، فكلام الإمام ككلام النبيّ من دون فرق، ولهذا ارتأت الشيعة أنّ الإمامة أصل من اُصول العقائد وإن كان يختلف الإمام عن النبيّ في أنّ الوحي ينزل على الرسول ولا ينزل على الإمام.

وعلى هذا الأساس تتمّ عصمة الأئمة عن المعاصي وبغض النظر عن الأدلّة الكلاميّة المعروفة؛ لأنّ من انكشفت له عظمة الله سبحانه تمام الانكشاف وانكشفت له حقائق الاُمور، وحقيقة الطاعة والعصيان، يستحيل أن يعصي سنخ استحالة أكل القاذورات من قبل من يعرف حقيقة القاذورات، أو سنخ استحالة المخالفة أو ترك الطاعة من قبل من تجلّى على قلبه الله سبحانه وتعالى وأشرق عليه.

ومن هنا يتّضح سرّ اشتراط العصمة في الإمامة وعدم اشتراطها في حجيّة فتوى الفقيه ولا في قيادته.

وبهذا اتّضح خطأ ما يقوله بعض الخبثاء: من أنّ الشيعة قد ظهر لديهم أخيراً خطأ ما كانوا يقولون به من شرط العصمة في الإمامة؛ ولهذا عدلوا عن ذاك الرأي، وأصبحوا ينتخبون الوليّ الفقيه للولاية والقيادة من دون شرط العصمة ولا ادّعائها للفقهاء، في حين أنّ الإمامة إن هي إلّا عبارة عن القيادة والولاية.

ووجه الخطأ أنّ الإمامة المصطلحة لديهم ليست مجرّد القيادة، أو إدارة

245

دفّتي الحكم أو ما إلى ذلك، بل الإمام هو الوسيط بين الله وبين الخلق كالرسول في استلام الأحكام، وهذا لا يكون إلّا لمن انكشفت له الاُمور بما فيها عظمة الله وحقيقة الأحكام وحقيقة الطاعة والعصيان، وهو الذي بيمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء. وقد آمنوا ـ حسب ما فهموه من دلالة أئمّتهم إيّاهم ـ بشرط العصمة في الإمام كشرط العصمة في النبيّ، واستمرّ إيمانهم بذلك إلى يومنا هذا، ولم يعدلوا عنه. وليست ولاية الفقيه عبارة عن الإمامة المصطلحة عندهم، وإن كانت الولاية أو القيادة بمعنى من المعاني تسمّى بالإمامة، إلّا أنّ هذا ليس هو عهد الله بالمعنى الذي يفهمونه من قوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾(1).

وبهذا البيان اتّضح أنّ الخلاف بين الشيعة والسنّة في شرط النصّ عن الله في تعيين شخص الإمام ليس منصبّاً على نقطة واحدة، بل نتج هذا الخلاف عن الخلاف في تصوير الموضوع، وهو معنى الإمامة، فأحدهما يتكلّم عن معنىً والآخر يتكلّم عن معنىً آخر لا يمكن أن يشخّص مصداقه إلّا من قبل الله عزّ وجلّ.

 

 

* * *

 


(1) س 2 البقرة، الآية: 124.

246

 

السبيلان المعقولان لتعيين القائد

 

لا سبيل معقول لتعيين الوليّ أو القائد للمجتمع إلّا أحد سبيلين: إمّا التعيين من قبل الله تعالى، وإمّا التعيين بالشورى والانتخاب. أمّا التعيين الاعتباطي أو الإلزام من غير مُلزم ومن قبل نفس من يريد أن يتأمّر على الناس فليس إلّا عملاً دكتاتوريّاً مرفوضاً من قبل كلّ عاقل.

ونشير هنا إلى أنّ شيئاً من السبيلين غير منطبق على الخلفاء الثلاثة الأوائل:

أمّا الأوّل فواضح؛ فإنّ أتباع الخلفاء الثلاثة لا يدّعون تعيّنهم بنصّ إلهي، فهم بإجماع المسلمين لم يعيّنوا من قبل الله تعالى وبتبليغ رسول الله(صلى الله عليه وآله).

وأمّا الثاني ـ وهو الانتخاب والشورى ـ فأيضاً لا ينطبق؛ فإنّ أبابكر عيّن في السقيفة وبتعيين من قبل أهل السقيفة، ثمّ اُخذت البيعة له بالتدريج، والمبايعون بين من بايع برغبة ومن بايع بإكراه ومن بايع بروح المتابعة للجناح المسيطر فعلاً، وهذا كلّه غير الانتخاب العامّ.

وأمّا عمر فقد عُيّن من قبل أبي بكر كما يحدّثُنا التاريخ.

وأمّا عثمان فقد عُيّن من قبل شورى سداسيّة معيّنة من قبل عمر.

وبهذا يثبت فساد مكتب الخلافة على كلا التقديرين.

 

أساس الشورى وردّه

 

يقع البحث فيما يلي عن أصل المدرستين: مدرسة التنصيص من قبل الله سبحانه بواسطة رسوله(صلى الله عليه وآله) كما تدّعيه الشيعة، ومدرسة الشورى المتبنّاة أخيراً من قبل المفكّرين والمثقّفين الجدد من السنّة، فنقول: إنّ مدرسة الشورى