471

وبكلمة اُخرى: أنّ الأمر بوجوب الاحتياط تكليف مولوي بلزوم الاحتياط، لكنّه من المحتمل بشأنه كونه غير متضمّن لغرض وملاك واقعي؛ وذلك بأن لا يكون مطابقاً للواقع، إلّا أنّ العقل يحكم بلزوم الامتثال والخروج عن العهدة عند الشكّ في الملاك، وهذا قانون عقلي لا مناص عنه، وبتطبيقه على محلّ الكلام نستنتج وجوب امتثال التكليف المولوي بوجوب الاحتياط، فإن لم يفعل وصادف مخالفة الواقع كان عاصياً، وإلّا كان متجرّياً، فيعاقب على التجرّي إن قلنا بعقاب المتجرّي، وإن لم نقل به كما لا يقول به المحقّق النائيني (رحمه الله) فالعقاب إنّما يكون في خصوص ترك الاحتياط المصادف للواقع. وأمّا دعوى أنّ ضمّ ما لا يعاقب عليه الى ما لا يعاقب عليه لا ينتج ما يعاقب عليه، فليست برهاناً من البراهين، فإنّ ضمّ ما لا يكون ملاكاً مستقلاً الى ما لا يكون ملاكاً مستقلاً قد ينتج ملاكاً مستقلاً.

ثمّ إنّنا لسنا بحاجة الى كل هذا؛ لأنّنا ننكر قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) كليّة، وننكرها في خصوص موارد الشكّ قبل الفحص. ومن هنا نقول بأنّ العقاب يكون على مخالفة التكليف الواقعي.

متى يثبت العقاب؟

التنبيه الرابع: بعد البناء على أنّ العقاب على المخالفة قبل الفحص يكون على الواقع نتكلّم في أنّه هل يثبت العقاب على الواقع على تقدير وجود أمارة على طبقه بحيث لو فحص لظفر بها، أو أنّه يثبت العقاب عليه مطلقاً؟

ذكر المحقّق النائيني (رحمه الله)(1): أنّه إن كان الوجه في تنجيز الواقع ووجوب الفحص هو العلم الإجمالي، فالعقاب ثابت على الواقع مطلقاً؛ لأنّه قد تنجّز الواقع بنفس العلم الإجمالي المتعلّق به من دون توسيط للأمارة في تنجيزه، وأمّا إذا كان الوجه في ذلك هو الدليل الشرعي الدالّ على الحكم الطريقي الشرعي، وهو إيجاب الاحتياط والفحص شرعاً، فهذا ينجّز الواقع بتوسيط الأمارة؛ لأنّه دلّ الدليل على وجوب الفحص عن الأمارة والاحتياط بلحاظها، فالعقاب على الواقع إنّما يكون لو كان في الواقع أمارة على طبقه لو فحص لظفر بها، وإلّا لكان هذا الحكم الطريقي بلا روح.


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 333، وفوائد الاُصول: ج 4، ص 101.

472

أقول: يمكن قلب المطلب تماماً بأن يدّعى أنّه إن كان الوجه في تنجيز الواقع هو العلم الإجمالي فالعقاب على الواقع إنّما يكون لو كانت هناك أمارة على طبقه، بدعوى: أنّ العلم الكبير منحلّ بالعلم الصغير في دائرة الأمارات. وإن كان الوجه في ذلك هو دليل الفحص ولزوم الاحتياط شرعاً فالعقاب على الواقع ثابت مطلقاً؛ لأنّ دليل الفحص ثابت سواءٌ كانت هناك أمارة في الواقع أم لا، وهذا على عكس ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره).

وتوضيح حقيقة الحال في المقام هو: أنّ تنجيز الواقع تارة يفرض كونه عن طريق العلم الإجمالي، واُخرى يفرض ثابتاً في نفسه من ناحية إنكار قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) في المقام وإن فرض الشكّ بدويّاً، وثالثة يفرض من ناحية الحكم الطريقي الشرعي بوجوب الاحتياط والفحص:

أمّا على الفرض الأوّل فبناءً على مبنى المحقّق النائيني(قدس سره) يتعيّن إنكار العقاب على الواقع لو لم تكن أمارة على طبقه؛ وذلك لأنّ المفروض عنده أنّ العلم الإجمالي الكبير المتعلّق بالواقع قد انحلّ بالعلم الإجمالي الصغير المتعلّق بالواقع في دائرة الأمارات، وعليه فنقول: إنّ احتمال ثبوت الواقع في نفس الشخص التارك للفحص يكون بوجهين:

الأوّل: احتمال ثبوت ذات الواقع.

والثاني: احتمال ثبوت الواقع الذي دلّت عليه أمارة.

أمّا الاحتمال الأوّل فالمفروض عدم منجّزيّته؛ لانحلال العلم الإجمالي الكبير المتعلّق بذات الواقع بالعلم الإجمالي الصغير(1).

وأمّا الاحتمال الثاني فالمفروض عدم مطابقته للواقع، إذن فلا معنى للعقاب على الواقع. نعم، لا بأس بالقول بالعقاب بملاك التجرّي، لا العقاب على الواقع بناءً


(1) لا يخفى أنّ الانحلال إنّما يكون بعد الفحص والظفر بموارد الأمارات، أمّا قبله فالعلم الصغير لا يحلّ الكبير؛ لأنّ أطرافه منتشرة في كل أطراف الكبير، وبكلمة اُخرى: ليس أحد العلمين قبل الفحص أصغر من الآخر، وإنّما الفرق في المعلوم، فالمعلوم في العلم الثاني هو التكاليف الموجودة ضمن الأمارات، وفي العلم الأوّل هو ذات التكاليف، وإن شئت فعبّر عنهما بعلم واحد محدّد بحدّين: حدّ التكاليف الإلزاميّة، وحدّ دلالة الأمارات عليها وهو بحدّه الأوّل منجّز ولا يكون بحدّه الثاني منجّزاً إلّا بعد تسليم حجيّة أخبار الثقاة، ومن الواضح منجزيّة العلم في المقام حتّى على فرض إنكار حجيّة تلك الأخبار.

473

على القول بكون التجرّي موجباً لاستحقاق العقاب، وأمّا بناءً على ما هو مختار المحقّق النائيني (قدس سره) من إنكار استحقاق المتجرّي للعقاب، فلا يوجد هنا عقاب أصلاً.

وأمّا على الفرض الثاني، فإن أنكرنا قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) كبرويّاً كما هو الصحيح، فمرجع ذلك الى الاعتراف بثبوت مولويّة المولى وحقّ الطاعة له حتّى في ظرف الشكّ، وهذا مساوق لثبوت حقّ العقاب للمولى عند مخالفة حكمه حتّى في ظرف الشكّ ما لم يأذن هو في المخالفة، وعليه فيثبت العقاب على الواقع وإن لم تكن أمارة على طبقه.

وإن آمنّا بالقاعدة كبرويّاً وأنكرنا صغراها في المقام بأن قلنا: إنّ البيان هنا ثابت. فإن اُريد بالبيان هنا نفس الشكّ قبل الفحص، فالعقاب ـ أيضاً ـ ثابت على الواقع مطلقاً؛ إذ مرجع ذلك الى أنّ حقّ المولويّة ـ وبالتالي حقّ العقاب عند المخالفة ـ يثبت بمجرّد ثبوت الاحتمال قبل الفحص. وإن اُريد به الأمارة التي هي في معرض الوصول ـ ومرجع ذلك الى أنّ عدم التمسّك قبل الفحص بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) ليس من باب الجزم بخروج المورد عن تحت تلك القاعدة، بل من باب كون المورد شبهة مصداقيّة للقاعدة ـ فالعقاب على الواقع ـ عندئذ ـ إنّما يكون لو وجدت الأمارة التي هي في معرض الوصول واقعاً، وإلّا فلا عقاب على الواقع؛ لثبوت قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) واقعاً.

وأمّا عقاب التجرّي فهو ـ أيضاً ـ غير ثابت هنا لو أردنا بذلك عقاب التجرّي بالملاك الذي مضى منّا في بحث التجرّي، توضيح ذلك: أنّه مضى منّا في مبحث التجرّي أنّ عقاب التجرّي يكون بنفس ملاك عقاب المعصية، وذلك الملاك هو: عبارة عن مخالفة التكليف المنكشف بانكشاف منجِّز سواء كان ذلك التكليف ثابتاً في الواقع أو لا؛ لأنّ حقّ المولويّة عبارة عن عدم مخالفة ما انكشف من تكليف له ولو لم يكن ذلك التكليف موجوداً وكان الانكشاف خطأً، ونقول هنا: إنّ عقاب التجرّي بهذا النحو الذي عرفت غير ثابت هنا؛ إذ المفروض عدم ثبوت حقّ المولويّة عند عدم البيان، والبيان لم يكن ثابتاً في الواقع، فلم يكن للمولى حقّ الطاعة، فلا يكون له حقّ العقاب عند المخالفة.

نعم، المعترف بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) المدّعي كون البيان عبارة عن الأمارة التي هي في معرض الوصول والمفروض عدمها في المقام يكون في فسحة من ناحية دعوى ملاك آخر لعقاب التجرّي في المقام، فقد يدّعي ثبوت عقاب

474

التجرّي بملاك آخر بأحد نحوين:

الأوّل: أن يحكم عقله العملي بأنّ ارتكاب ما يحتمل كونه ظلماً للمولى ظلم له بدرجة أخفّ، أي: أنّ للمولى حقّ أن لا يُرتكب ما يحتمل كونه ظلماً له، والمفروض أنّ العبد كان يحتمل كون مخالفته للحكم المشكوك ظلماً للمولى، بأن تكون الأمارة على طبق الواقع ثابتة، فيكون البيان تاماً، فيكون حقّ المولويّة ثابتاً.

الثاني: أن يحكم عقله العملي بأنّ للمولى قبل الفحص حقّاً آخر على العبد غير حقّ الطاعة أخفّ منه وهو: حقّ الجامع بين الاحتياط والفحص، فعند ترك العبد لذلك يستحقّ العقاب.

وأمّا على الفرض الثالث فلو قلنا: إنّ وجوب الاحتياط والفحص ينجّز الواقع ابتداءً فالعقاب ثابت على الواقع مطلقاً. ولو قلنا: إنّه ينجّز الواقع بتوسيط الأمارة فالعقاب ثابت عليه على تقدير وجود الأمارة.

والصحيح: هو أنّ وجوب الاحتياط والفحص وإن كان حكماً ظاهريّاً في طول حجّيّة الأمارة، ولذا لا يجب الفحص عن الأمارة مع فرض القطع بعدمها أو عدم حجيّتها، إلّا أنّ الأحكام الظاهريّة كلّها تنجّز الواقع ابتداءً ولو فرضت طوليّة، والمقصود بكونها طوليّة هو: كون بعضها أحكاماً تعيّن وظيفة العبد على تقدير الشكّ في بعضها الآخر كما في المقام، باعتبار أنّ الشكّ في الأمارة أوجب الفحص والاحتياط.

ويظهر ما ذكرناه من كون الأحكام الظاهريّة ولو كانت طوليّة منجّزة للواقع ابتداءً بذكر مقدّمتين:

الاُولى: أنّ الأحكام الظاهريّة إنّما هي ناشئة من نفس ملاكات الأحكام الواقعيّة عند التزاحم في مقام الحفظ كما بيّنا ذلك مفصلاً في مبحث الجمع بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة.

والثانية: أنّ الأحكام الظاهريّة الطوليّة لا توجد طوليّة بين ملاكاتها، وهذا ما يظهر من المقدّمة الاُولى؛ لأنّه إذا كان المفروض أنّ ملاك الأحكام الظاهريّة دائماً هو ملاك الواقع إذن فلا معنى لفرض الطوليّة بين ملاكات الأحكام الظاهريّة، بل هي في عرض واحد من حيث الملاك، فإنّ ملاك الجميع إنّما هو ملاك الواقع.

فإن قلت: إذن فكيف جاءت الطوليّة بين تلك الأحكام؟!

قلت: الطوليّة إنّما هي بلحاظ أوعية التزاحم وظروفها، لا بلحاظ نفس

475

المتزاحم، فإنّه تارة يفرض الشكّ في الحكم الإلزامي مثلاً من ناحية احتمال كذب خبر الثقة، فهنا يقع التزاحم بلحاظ هذا الاحتمال بين ملاك الإلزام وملاك الترخيص، ونفرض أنّ المولى قدّم ملاك الإلزام بجعل حجيّة خبر الثقة. واُخرى يفرض الشكّ في الحكم الإلزامي بعد الفراغ عن حجيّة خبر الثقة مثلاً من ناحية اُخرى، وهي الشكّ في أصل وجود خبر الثقة، فهذا شكّ جديد وتزاحم جديد في وعاء جديد يحتاج الى حكم جديد، فيحكم بوجوب الاحتياط والفحص مثلاً أو بالبراءة، وقد يكون الحكم الظاهري في المرحلة الثانية مخالفاً له في المرحلة الاُولى، حيث إنّ الغرض الإلزامي بلحاظ الاحتمال الأوّل مثلاً كان يهتمّ به المولى، ولكنّه بلحاظ الاحتمال الثاني للخلاف لا يهتمّ به المولى، كما قد يكون الحكمان في المرحلتين متماثلين.

وعلى أيّ حال، فالأحكام الظاهريّة كلّها تنجّز الواقع ابتداءً؛ لكونها جميعاً ناظرة الى حفظ ملاكات الواقع والترجيح بينها عند التزاحم من دون طوليّة بين ملاكاتها، فوجوب الاحتياط والفحص في المقام نجّز ابتداءً الواقع بدون توسيط الأمارة، فالعقاب ثابت على الواقع مطلقاً.

وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه: أنّ العقاب على مخالفة الواقع قبل الفحص ثابت سواءٌ كانت هناك أمارة على طبقه في معرض الوصول أو لا.

بعض التطبيقات لوجوب الفحص

التنبيه الخامس: أنّ ما ذكرناه من تنجّز الواقع قبل الفحص قد يطرأ عليه الخفاء في بعض الموارد:

المورد الأوّل: ما إذا كان المكلّف غافلاً رأساً في مورد من الموارد عن احتمال وجود التكليف فيه وإن كان ملتفتاً إجمالاً الى وجود أحكام إلزاميّة مربوطة به أو الى احتمال ذلك، فقد يتوهّم أنّه هنا لا معنى لتنجّز الواقع؛ لأنّ التنجّز فرع الوصول ولو بأدنى مراتب الوصول من الشكّ والاحتمال، وأمّا مع عدم الوصول حتّى بهذه الدرجة فلا معنى للتنجّز.

والتحقيق: أنّه إن تكلّمنا بلحاظ عالم الثبوت فمن الممكن عقلاً تنجّز الواقع على العبد في مثل هذا الفرض، فإنّه يكفي في تعقّل التنجّز عليه واستحقاقه للعقاب على الترك ذلك الالتفات الإجمالي.

وإن تكلّمنا بلحاظ عالم الإثبات فجميع أدلّة التنجيز الماضية ثابتة هنا، فلو

476

قيل مثلاً بأنّ المنجّزيّة تكون من ناحية العلم الإجمالي، فالعلم الإجمالي الملتفت إليه إجمالاً يكفي عقلاً في تنجيزه. ولو قيل بعدم جريان (قبح العقاب بلا بيان) قبل الفحص، فهنا ـ أيضاً ـ يحكم العقل بعدم قبح العقاب لما كان له من التفات إجمالي الى احتمال وجود أحكام إلزاميّة. ولو قيل بوجوب الفحص من ناحية أخبار وجوب التعلّم فنفس التفاته الإجمالي الى احتمال وجود تكاليف، أو القطع به كاف في دخوله تحت إطلاق دليل وجوب التعلّم حتّى بلحاظ ما هو غافل عنه بالفعل.

المورد الثاني: ما إذا كان الوقت وسيعاً فقد يقال: إنّ له أن يترك الفحص في أوّل الوقت، وإن فرض حصول الغفلة له في آخره لم يعاقب ـ عندئذ ـ على الترك؛ لأنّه في أخر الوقت كان غافلاً، وفي أوّل الوقت لم يكن يجب عليه الفحص والتعلّم لسعة الوقت، فعلى ماذا يعاقب؟! ومن هنا ذهب المحقّق الاصفهاني (قدس سره)(1) الى عدم العقاب في مثل هذا المورد.

لكنّ التحقيق هو: التفصيل بين ما إذا كان جازماً بأنّه سوف لا تحصل له الغفلة أو كان غافلاً عن ذلك، فهنا يجوز تأخير الفحص وما إذا كان محتملاً لطروّ الغفلة عند التأخير فضلاً عن الجزم به، فإنّه ـ عندئذ ـ يحكم العقل بلزوم الفحص، وإذا لم يفحص وآل الأمر الى ترك الواجب كان مستحقّاً للعقاب على الترك، ولم يكن شكّه في حصول الغفلة بتأخير التعلّم وعدمه مؤمِّنا له؛ لأنّ المؤمِّن إنّما هو الشكّ في أصل التكليف لا الشكّ في أنّه هل يلتفت بعد هذا فيفحص ويعمل أو لا.

المورد الثالث: ما إذا كان الواجب مؤقّتاً ولم يمكن الفحص والتعلّم في الوقت لضيق الوقت ونحوه، فأيضاً يمكن توهّم عدم وجوب التعلّم قبل الوقت؛ لأنّه قبل الوقت لم يحصل وجوب حتّى يترشّح ذلك الى التعلّم، وبعد الوقت لا يقدر على التعلّم فلا عقاب عليه.

وينبغي إخراج موردين عن محل البحث:

الأوّل: ما إذا كان يتمكّن في الوقت من الاحتياط، فهنا لا إشكال في عدم وجوب التعلّم قبل الوقت، فإذا لم يتعلّم يلزمه الاحتياط في الوقت.

والثاني: ما إذا لم يكن ترك التعلّم قبل الوقت مفوّتاً لأصل القدرة على الواجب في الوقت، وإنّما كان مفوِّتاً للامتثال القطعي له، كما إذا كانت أطراف العلم الإجمالي


(1) راجع نهاية الدراية: ج 2 بحسب الطبعة المقسّمة إلى ثلاثة أجزاء، ص 311.

477

كثيرة لا يسع الوقت لتمامها وهو قادر على الإتيان بأيّ واحد منها شاء، فهو قادر حتماً على الإتيان بالتكليف الواقعي وإن لم يقدر على تحصيل الامتثال القطعي، ففي هذا الفرض يكون التكليف ثابتاً وفعليّاً في ظرفه، وفي مثل ذلك يحكم العقل قبل الوقت بالإتيان بما يمكّنه من الموافقة القطعيّة لذلك التكليف الثابت الفعلي في ظرفه، كما يحكم العقل بلزوم الإتيان بما يمكّنه من الموافقة القطعيّة لتكليف فعلي في الحال.

إذن فالإشكال إنّما تكون له صورة فنّيّة فيما إذا كانت القدرة على الامتثال موقوفة على التعلّم قبل الفحص بحيث يكون ترك التعلّم رافعاً لموضوع التكليف الذي هو القدرة، فيقال ـ عندئذ ـ: إنّه لا محذور في ترك التعلّم؛ لأنّه لا يؤدّي بنا الى مخالفة التكليف، بل يرفع موضوع التكليف، وحفظ موضوع التكليف غير واجب عقلاً.

وهذا في الحقيقة داخل في بحث المقدّمات المفوّتة، وأجوبة الأصحاب عن ذلك كانت ترجع تارة الى المناقشة في الصغرى ببيان أنّ هذا ليس داخلاً في باب المقدّمة قبل الوقت، واُخرى إلى المناقشة في الكبرى ببيان أنّه لا مانع من وجوب المقدّمة قبل حلول وقت وجوب ذي المقدّمة.

أمّا القسم الأوّل من الجواب فهو ما قد يقال كما في الكفاية(1) من فرض إرجاع الأمر الى مثل الواجب المعلّق والمشروط، ففيما نحن فيه يقال: إنّ من بلغ سنّ التكليف لا يدري أنّ أيّ حكم من الأحكام سوف يصبح فعليّاً بشأنه في زمن قريب، وأيّ حكم سوف يفوته للجهل أو الغفلة مثلاً لو ترك التعلّم، فيجب عليه تعلّم الأحكام من أوّل أزمنة البلوغ هرباً من الوقوع في ورطة المخالفة الناشئة من ترك التعلّم، ويكون المبرّر لهذا الوجوب هو أنّ تمام الواجبات يكون وجوبها ثابتاً عليه من أوّل البلوغ، فترشّح الوجوب منها الى التعلّم.

وهذا الوجه قد يتكلّم فيه بلحاظ مرحلة الثبوت، واُخرى بلحاظ مرحلة الإثبات.

أمّا بلحاظ مرحلة الثبوت فالبحث في مثل هذه الصناعات من الواجب المعلّق والمشروط قد مضى في مبحث مقدّمات الواجب فلا نعيده هنا، وإنّما نتعرّض هنا لكلام المحقّق العراقي(قدس سره) مع جوابه؛ لاختصاصه بخصوص مثل ما نحن فيه من


(1) ج 2، ص 259 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

478

مسألة التعلّم وعدم تأتّيه في تمام المقدّمات المفوّتة، وذلك الكلام هو عبارة عن إشكاله على المحقّق الخراساني القائل باستحالة الترتّب، فقد أورد عليه المحقّق العراقي (رحمه الله)بأنّ لازم القول بوجوب الواجبات من أوّل البلوغ تبريراً لوجوب التعلّم هو الالتزام بالترتّب؛ لأنّ صوم شهر رمضان مثلاً واجب من أوّل البلوغ وقضاءه وتكفيره ـ أيضاً ـ واجب من أوّل البلوغ على تقدير تركه لصوم شهر رمضان، مع أنّ قضاءه وتكفيره يستحيل أن يجتمع مع صوم شهر رمضان؛ إذ مع الإتيان بالصوم لا يمكن قضاؤه وتكفيره، وهذا هو أمر بالضدين على وجه الترتّب(1).

أقول: إن كان المحقّق الخراساني (رحمه الله) يستظهر وجوب ذات الصوم بعد شهر رمضان وذات الإطعام لستّين مسكيناً مثلاً على من أفطر في شهر رمضان، فهذا ليس مضادّاً لصوم شهر رمضان. نعم، وقوع كليهما في الخارج متّصفاً بصفة الوجوب غير ممكن، لكنّ هذا ليس داخلاً في الأمر بالضدّين.

وإن كان يستظهر وجوب عنوان التدارك مثلاً، فعندئذ يقع التضادّ بين متعلّقي الحكمين، لكنّ المحقّق الخراساني (رحمه الله) لم يكن يقول بأنّ الأمر بالمهمّ يتنافى مع الأمر بالأهمّ من باب أنّ الأمر به أمر بإيجاد مقدّمة وجوبه، وهو ترك الأهمّ فيتنافيان، بل هو يصرّح بأنّ الأمر بالشيء لا يترشّح الى مقدّمة وجوبه، وإنّما يقول بأنّ الأمر بالضدّين تحريك نحو أمر غير مقدور، وأنّ الأمر بكلّ واحد من الضدّين تبعيد عن الضدّ الآخر، والأمر بذلك الضدّ الآخر تقريب نحوه، فيتنافيان. وهذا كما ترى إنّما يكون في مورد تقارن فاعليّة الحكمين ومحركيّتهما للمكلّف الى ذات العملين المتضادّين، لا فيما إذا كانت محرّكيّة الأمر بالمهمّ بعد سقوط الأمر بالأهمّ كما فيما نحن فيه، فإنّ باعثيّة الأمر بالقضاء لذات القضاء إنّما هي بعد مضيّ زمان صوم شهر رمضان. وكذلك باعثيّة الأمر بالكفّارة لفعل الكفّارة إنّما هي بعد تحقّق المعصية المكفّر عنها.

ثمّ إنّنا قلنا: إنّ كلام المحقّق العراقي (قدس سره) لا يأتي في تمام المقدّمات المفوّتة، وإنّما يكون مختصّاً بما يكون من قبيل ما نحن فيه؛ وذلك لأنّنا إذا تكلّمنا مثلاً في غسل المستحاضة قبل الفجر بناءً على كونه شرطاً في صحّة صومها، فليس من اللازم أن نلتزم بوجوب القضاء في زمان وجوب صوم شهر رمضان حتّى يأتي إشكال


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 110.

479

الترتّب؛ إذ من الممكن الالتزام بوجوب القضاء بعد شهر رمضان قبيل الفجر بمقدار كاف للغسل. وإنّما يأتي هذا الكلام في مثل التعلّم مثلاً، حيث إنّه يفترض وجوب تعلّم أحكام القضاء من قبل شهر رمضان ومن أوّل البلوغ مثلاً، باعتبار أنّ تأخيره يؤدّي الى الغفلة والفوت ونحو ذلك.

وأمّا بلحاظ مرحلة الإثبات فبعد تسليم تلك الصناعات من الواجب المشروط والمعلّق يأتي إشكال إثباتي: وهو أنّ ظاهر أدلّة الأحكام كون وجوباتها مشروطة، وعدم تقدّم زمان الوجوب فيها على الزمان المخصوص للواجب، وإرجاع الشرط الى المادة مثلاً خلاف الظاهر. وهذا الإشكال لا يمكن دفعه إلّا بالتمسّك بإطلاق أخبار وجوب التعلّم بناءً على تماميّتها، بأن يقال: إنّنا نستكشف من إطلاق أخبار وجوب التعلّم لما يكون متوقّفاً على التعلّم قبل الوقت تحقّق الوجوب قبل الوقت لو انحصر الجواب بذلك.

والتمسّك بهذا الإطلاق لا يتمّ إلّا بتماميّة أمرين:

الأمر الأوّل: دعوى كون إطلاق دليل وجوب التعلّم شاملاً لكل ما هو واجب في نفسه بغض النظر عن توقّفه على التعلّم ولو فرض عدم وجوبه بالفعل لو ترك التعلّم لتوقّفه على التعلّم.

والأمر الثاني: دعوى كون إطلاق دليل التعلّم آبياً عن التخصيص، وأنّ مثل قوله: ﴿للّه الحجّة البالغة(1) ـ الظاهر في أنّ كلّ مخالفة تنشأ من ترك التعلّم يفحم العبد بها من قبل المولى، ويقال له: لِمَ لم تعمل؟ فيقول: لم أعلم، فيقال له: لِمَ لم تتعلّم؟ فتكون لله الحجّة البالغة ـ يأبى عن التقييد، وكيف تكون للّه الحجة البالغة مع فرض التقييد الموجب لكثرة وقوع المخالفة، والمفحم للمولى من قبل العبد عند مساءلته عنها بدلاً من إفحام العبد من قبل المولى؟!

وأمّا إذا قلنا بعدم إبائه عن التخصيص فيُخصّص بظهور دليل اشتراط الواجب بالشرط الذي لم يحصل بعد في كون الشرط راجعاً الى الهيئة لا المادّة، فإنّ هذا الظهور أقوى من ذاك الإطلاق في نفسه لو لم نقل بكونه باعتبار سياقه مثلاً إطلاقاً مستحكماً آبياً عن التقييد والتخصيص.

وأمّا القسم الثاني من الجواب: فهو أنّنا سلّمنا عدم كون الوجوب فعليّاً قبل


(1) سورة 6، الأنعام، آية 149.

480

زمان الواجب، ولكن يقال مع ذلك بلزوم الإتيان بالمقدّمات المفوّتة، وذلك بأحد وجهين: إمّا باعتبار أنّ الملاك فعليّ والذي يسقط بترك التعلّم هو الخطاب، وتفويت الملاك ولو مع فرض سقوط الخطاب بالعجز ـ أيضاً ـ قبيح، والعقل لا يفرّق في قبح تفويت الملاك بين كون المفوّت شيئاً في الوقت، أو شيئاً في خارج الوقت بأن يفوّت قبل الوقت ملاكاً سوف يصبح فعليّاً في وقته.

وإمّا باعتبار الالتزام بأنّ وجوب التعلّم وجوب نفسي تهيّوئي، وفي الحقيقة لا تقابل بين هذين الوجهين، فإنّ الوجوب النفسي التهيّوئي من نتائج افتراض إطلاق الملاك في الوجه الأوّل على تفصيل موكول الى محلّه من مبحث المقدّمات المفوّتة.

وهنا ـ أيضاً ـ تارة يقع الكلام في مقام الثبوت، واُخرى في مقام الإثبات.

أمّا مقام الثبوت لهذين الوجهين فيرجع الى مبحث المقدّمات المفوّتة. والمختار هناك تماميّة الوجهين.

وأمّا بحسب مقام الإثبات فلا يمكن استفادة إطلاق الملاك من دليل الواجب؛ لما مرّ غير مرّة، ويأتي توضيحه ـ إن شاء اللّه ـ في بحث التعادل والتراجيح من أنّه إذا سقط الخطاب بلحاظ المدلول المطابقي لا يمكن التمسّك بمدلوله الالتزامي، فحيث إنّ البعث والتحريك الذي هو مدلول مطابقي للخطاب ساقط عن العاجز يكون مدلوله الالتزامي وهو الملاك غير ثابت، فينحصر وجه إثبات إطلاق الملاك في التمسّك بإطلاق دليل التعلّم بناءً على شموله لكل ما هو واجب بغضّ النظر عن العجز من ناحية ترك التعلّم، أي: ولو كان وجوبه متوقّفاً على التعلّم، فمفاد دليل وجوب التعلّم هو أنّ كلّ تعلّم يؤدّي الى امتثال واجب، فهو لازم سواء صار واجباً في طول التعلّم، أم كان واجباً بغضّ النظر عن التعلّم.

المورد الرابع: ما يكون من قبيل التمام في مقام القصر، وكذلك مسألة الجهر والإخفات ممّا يكون عمل الجاهل فيه صحيحاً، فيكون هنا إشكال في وجوب التعلّم، وترتّب العقاب على المخالفة الناشئة من ترك التعلّم. وذلك الإشكال: هو أنّ المطلوب إن كان هو الجامع بين القصر والتمام مثلاً ولو في خصوص حال الجهل، فقد أتى المكلّف بما هو المطلوب، فلماذا يعاقب بعقاب العصيان؟! وإن كان المطلوب هو خصوص القصر فكيف يصحّ منه التمام؟!

والذي يظهر من الفقهاء (قدس سرهم): هو عدم البناء على هذا الإشكال، حيث جمعوا بين الإفتاء بالصحّة والإفتاء باستحقاق العقاب. والكلام في ذلك تارة يقع ثبوتاً في

481

إمكان تصوير صورة يجتمع فيها استحقاق العقاب مع الصحّة، واُخرى يقع إثباتاً في وجود الدليل على ذلك وعدمه بعد إثبات الإمكان. ونحن هنا نقتصر على البحث الثبوتي، وأمّا البحث الإثباتي فهو موكول الى مسألة الجهر والإخفات، وصلاة المسافر من كتاب الصلاة.

فنقول: قد ذكرت في مقام تصوير الجمع بين استحقاق العقاب مع صحّة العمل عدّة فرضيّات.

الفرضيّة الاُولى: ما في الكفاية من فرض تحليل مصلحة القصر الى أصل المصلحة وحدّها، فأصل المصلحة يكون في الجامع بين القصر والتمام، والدرجة الزائدة منها مختصّة بالقصر، والمقدار الزائد يكون بدرجة الإلزام، ويكون ذلك المقدار غير ممكن الاستيفاء بعد أن استوفى أصل المصلحة بالإتيان بالتمام، فالتمام منه صحيح؛ لاشتماله على أصل المصلحة، ولا يجب إعادة العمل لفرض عدم إمكان استيفاء الباقي، ومع ذلك يكون معاقباً؛ لأنّه هو الذي فوّت الباقي(1).

ثمّ أشكل على نفسه بأنّه يلزم من ذلك صحّة التمام حتّى في حال العلم، فدفع هذا الإشكال بإدخال فرضيّة جديدة في المقام: وهي أنّ أصل المصلحة إنّما هو في الجامع بين التمام في حال الجهل والقصر، لا الجامع بين القصر ومطلق التمام(2).

وقد اُوردت على هذا التصوير عدّة إشكالات:

الإشكال الأوّل: ما في الدراسات، وكأنّه موجود في أجود التقريرات بشكل مغمور، وهو عبارة عن مجرّد الاستبعاد، بدعوى: أنّ ما يتصوّر عقلائيّاً التضادّ بينها وعدم اجتماعها هي محصّلات الملاكات، وأمّا فرض التضادّ بين نفس الملاكات بحيث إذا استوفى العبد الملاك الأوّل لا يمكنه أن يستوفي الملاك الثاني، فهذا ممّا يستبعد عقلائيّاً، ويكون أشبه بأنياب الأغوال، ولم نَرَ مثل هذا الشيء في حياتنا الاعتياديّة(3).


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 261 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

(2) راجع الكفاية: ج 2، ص 262 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

(3) راجع الدراسات: ج 3، ص 315، والمصباح: ج 2، ص 507، وراجع ـ أيضاً ـ أجود التقريرات: ج 2، ص 335.

482

ويرد عليه: أوّلاً: أنّ هذا الأمر شايع يتفق كثيراً في حياتنا الاعتياديّة فلماذا نستبعده؟! فمثلاً: قد يكون هناك طعامان مشتركان في مصلحة الشبع، إلّا أنّ أحدهما مشتمل على لذّة تفوق لذّة الطعام الآخر، ولو شبع الشخص بالطعام الآخر غير اللذيذ لم يلتذّ ـ عندئذ ـ بأكل الطعام اللذيذ بذاك المستوى من الالتذاذ الفائق.

وثانياً: أنّنا نفرض التضادّ بين نفس المحصِّلين للملاك، بأن نقول: إنّ الواجب المحصِّل للملاك ليس هو مطلق القصر، بل القصر المقيّد بعدم مسبوقيّته بالتمام، وهذا يضادّ التمام المأتي به سابقاً. والقول بأنّه كيف يعقل تقييد صلاة القصر الواجب بعدم المسبوقيّة بالتمامّ يشبه القول بأنّه كيف يعقل تقييد صلاة العصر الواجب بالمسبوقيّة بالظهر مثلاً.

ومرجع هذين الإيرادين الى إيراد واحد وهو: أنّ الوجه في استغرابه للتضادّ بين الملاكات من دون التضادّ بين المحصِّلات هو: أنّه لم يُرَ مثل ذلك في مورد من الموارد، فأصبح ذلك في ذهنه بعيداً وغريباً، ونحن نقول: نعم، لا يوجد تضادّ بين الملاكات إلّا ويوجد تضادّ بين المحصِّلات، لكنّ التضادّ بين المحصِّلات قد يكون ذاتياً وقد يكون عرضيّاً ناشئاً من نفس التضادّ بين الملاكات الموجب لتقييد أحد المحصِّلين بعدم الآخر، فإن كان المقصود إنكار التضادّ بين الملاكات بمعنى: أنّ التضادّ دائماً يكون بين المحصّلات تضادّاً ذاتيّاً، ورد عليه الإشكال الأوّل وهو: أنّنا نرى في الخارج كثيراً أنّ التضادّ يكون بين نفس الملاكات، وإن كان المقصود أنّه لا بدّ من تضادّ بين المحصّلات ولو تضادّاً عرضيّاً بملاك تقييد أحدهما بعدم الآخر ناشئاً من التضادّ بين الملاكات، فهذا ثابت فيما نحن فيه، وهذا هو الإشكال الثاني(1).

 


(1) يمكن تصوير الجواب الثاني بنحو مستقلّ عن الجواب الأوّل، وذلك بأن يفترض التضادّ بين المحصّلين ذاتياً وغير ناشئ من التضادّ بين الملاكين، بأن يفترض أنّ الواجب المحصّل للملاك الزائد ليس هو مطلق القصر، بل القصر المقيّد بعدم مسبوقيّته بالتامّ، لا بنكتة التضادّ بين الملاك الذي يحصل بالتمام وملاك القصر، بل بنكتة: أنّ ذاك الملاك الزائد لم يكن موجوداً في نفسه، إلّا في القصر غير المسبوق بالتمام، من قبيل أنّ ملاك صلاة العصر مثلاً ليس موجوداً إلّا في صلاة العصر المسبوقة بصلاة الظهر، ومن الواضح: أنّ القصر المقيّد بعدم المسبوقيّة بالتمامّ يكون بهذا القيد ضدّاً للتمام في ذاته، وليس هذا القيد في طول التضادّ بين الملاكين.

483

الإشكال الثاني: ما في تقرير الشيخ محمد علي الكاظمي(قدس سره) من أنّ مصلحة القصر إن لم تكن مقيّدة بعدم المسبوقيّة بالتمام فلماذا لايعيدها قصراً؟! وإن كانت مقيّدة بذلك فلا مصلحة فيه عند الإتيان بالتامّ، والمفروض أنّه أتى بالتامّ، فهو لم يترك ما فيه المصلحة فلماذا يعاقب(1)؟!

والجواب: أنّ هذا خلط بين قيد الوجوب وقيد الواجب، فإنّ القصر إنّما يكون مقيّداً بعدم المسبوقيّة بالتمام على حدّ تقيّد الصلاة بالوضوء، لا على حدّ تقيّد الحج بالاستطاعة، والذي يكون مقيّداً بعدم المسبوقيّة بالتمام إنّما هو ترتّب المصلحة خارجاً على القصر، لا اتصاف القصر بكونه ذا مصلحة، والمحقّق النائيني (قدس سره) هو الذي حقّق ونقّح مصطلحات الاتّصاف بالمصلحة وترتّب المصلحة، وبيّن الفرق ووضّح جوانب المطلب بشكل دقيق، فلا يحتمل صدور مثل هذا الإشكال منه هنا، فلعلّ هنا قصوراً في عبارة التقرير أدّى الى إفادة العبارة مثل هذا المعنى، ويكون المقصود الحقيقي ما يرجع الى الإشكال الثالث.

الإشكال الثالث: ما في أجود التقريرات من أنّ مصلحة الجامع ومصلحة الخصوصيّة إن فرضتا مترابطتين لا يمكن التفكيك بينهما، لزم عدم صحّة التمام؛ لعدم واجديّته لمصلحة الخصوصيّة، وإن فرض الاستقلال لزم تعدّد العقاب مع أنّ تعدّد العقاب في المقام واضح البطلان(2).

أقول: إنّ تعدّد العقاب ـ سواء كان بمعنى تعدّد المستحَق بأن يفرض العقاب المستحَقّ على معصية واحدة عشرة أسواط مثلاً، ويكون معنى استحقاق عقابين استحقاق عشرين سوطاً مثلاً، أم بمعنى تعدّد الاستحقاق كما إذا فرض أنّ العقاب المستحَقّ على معصية واحدة ليس له حدّ، فللمولى أن يعاقب أيّ مقدار شاء، فلا معنى لتكثّر المستحَقّ بتكثّر المعصية، وإنّما يتأكّد بذلك نفس الاستحقاق ـ يكون ملاكه عبارة عن تعدّد ملاك العقاب الذي هو عبارة عن حقّ المولويّة المخالَف. وفي


نعم، هذا الوجه في الحقيقة يختلف عن حرفيّة كلام المحقّق الخراساني؛ لأنّه كان يفترض التضادّ بين الملاكين بمعنى: أنّ تحصيل ملاك الجامع مستقلاً هو الذي يمنع عن إمكانية تحصيل الزائد بعد ذلك؛ لأنّ الزائد بوحده غير قابل للتحصيل.

(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 102.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 335.

484

ذلك تصويران:

التصوير الأوّل: أن يقال: إنّ حقّ المولويّة أمر بسيط غير قابل للشدّة والضعف أبداً، فحقّ المولى في أيّ حكم من أحكامه يساوي حقّه في أي حكم آخر، وعليه فملاك تعدّد العقاب إنّما هو ملاك كمّي وهو: أن يوجد هنا حكمان ويخالف العبد كلا الحكمين.

التصوير الثاني: أن يقال: إنّ حقّ المولويّة يشتدّ ويضعف تبعاً لشدّة غرض المولى وضعفه، فعقاب إراقة دم الحسين عليه الصلاة والسلام لا يكون مساوياً لعقاب إراقة دم كافر ذمّي، وعليه فالملاك الكيفي ـ أيضاً ـ يؤثّر في كثرة العقاب أو شدّة استحقاقه الى صفّ الملاك الكمّي.

وهذا التصوير الثاني هو الصحيح، وعليه يظهر أنّ فرضيّة المحقّق الخراساني لا توجب زيادة في استحقاق العقاب عمّا إذا انكرت تلك الفرضية؛ وذلك لأنّه لم يَفرض هو غرضاً جديداً وزائداً على الغرض الموجود في صلاة القصر، وإنّما حلّل الغرض الموجود في صلاة القصر الى جزءين، ففرض أحدهما في الجامع والآخر في الخصوصيّة، وهذا لا يؤثّر في الحساب شيئاً بعد أخذ الملاك الكيفي بعين الاعتبار الى جانب الملاك الكمّي.

نعم، لو أخذنا بالتصوير الأوّل لأمكن أن يقال: إنّ هذه الفرضيّة جعلت المعصية من حيث الكمّ متعدّدة، فأوجبت تعدّد العقاب. لكن مع ذلك نقول: إنّ هذا لا يوجب إشكالاً على المحقّق الخراساني (رحمه الله)؛ لأنّه إن اُريد استبعاد تعدّد العقاب في نفسه فهذا جزاف، وإن اُريد استبعاد كون عقاب الجاهل التارك للصلاة رأساً أكثر من عقاب الجاهل الذي صلّى تماماً، فلا معنى لهذا الاستبعاد، بل من المناسب أن يكون عقاب التارك للصلاة رأساً أكثر، وإن اُريد استبعاد كون عقاب الجاهل التارك أكثر من عقاب العالم التارك، فلَمْ يَلْزَمْ هنا كون عقابه أكثر منه؛ لأنّ الملاك الكمّي الموجود لتعدّد العقاب وهو تعدّد الحقّ بتعدّد الغرض ومتعلّقِه موجود حتّى في حال العلم، إلّا أن يفرض أنّه يشترط في الملاك الكمّي إمكان تعدّد التحريك، وهذا في العالم غير موجود؛ لأنّه لا يصحّ منه التمام، لكن من يفرض مثل هذا الفرض لا معنى لاستبعاده لأكثريّة عقاب الجاهل من عقاب العالم، وفي الحقيقة تكشف هذه النتيجة عن بطلان أحد تلك المباني، لا عن بطلان كلام المحقّق الخراساني (رحمه الله).

485

الإشكال الرابع: ما ذكره المحقّق الاصفهاني (رحمه الله)(1) من منافاة هذه الفرضية التي وضعها هنا للفرضية التي وضعها في كيفية تصوير صحّة إعادة الصلاة مع الجماعة بعدما صلاّها منفرداً من أنّ عمل المكلّف ليس علة لتحقّق الغرض، وإنّما هو مقدّمة إعداديّة، فيمكن أن يؤتى قبل حصول الغرض بفرد آخر فيختار اللّه أحبّهما إليه مثلاً، كما في بعض الأخبار، من قبيل أنّ المولى يعطش فيطلب الماء من عبده فيأتي له بالماء ثم يأتي له بماء آخر أبرد وأطيب قبل أن يشرب الماء الأوّل.

بيان المنافاة هو: أنّ صلاة التمام التي أتى بها هذا الجاهل إن أوجدت المصلحة والغرض فكيف يمكن إعادتها جماعة قبل ارتفاع الجهل؟! وإن كانت مجرّد مقدّمة إعدادية ولم تتحقّق المصلحة بعدُ فلماذا لا يمكن إعادتها قصراً بعد ارتفاع الجهل فيختار اللّه الثاني، ولم تستوفِ بعدُ مصلحة الجامع حتّى يقال: إنّ المصلحة الزائدة لا يمكن استيفاؤها بعد استيفاء أصل المصلحة؟!

ويرد عليه: أنّه يمكن أن يفرض أنّ التمام له أثران: أحدهما الإعداد لأصل المصلحة، وثانيهما إبطال إعداد القصر، وإشكال المحقّق الاصفهاني (قدس سره) نشأ من الأخذ بحرفيّة كلام المحقّق الخراساني (رحمه الله) حيث فرض أنّ استيفاء أصل المصلحة يمنع عن استيفاء المصلحة الزائدة.

الإشكال الخامس: ما ذكره نفس المحقّق الخراساني (رحمه الله) وأجاب عنه.

أمّا الإشكال فهو: أنّ التمام بناءً على هذا مانع عن الإتيان بصلاة القصر صحيحة، وعدم التمام مقدّمة لصلاة القصر الواجبة، فهو واجب فنقيضه وهو الإتيان بالتمام حرام، فلا يمكن التقرّب به.

وأمّا الجواب: فهو أنّ التمام والقصر وإن كانا ضدّين لكن عدم أحد الضدّين ليس مقدّمة للضدّ الآخر كما ثبت في بحث مقدّمة الواجب.

وأورد عليه المحقّق الاصفهاني (قدس سره)(2) بأنّ التضادّ إنّما هو بين معلولي التمام والقصر وهما الملاكان، ومن المعلوم أنّ عدم علّة أحد الضدّين يكون أحد أجزاء علّة الضدّ الآخر.

أقول: إنّ جواب المحقّق الخراساني (قدس سره) عن الإشكال وإن لم يكن صحيحاً لما


(1) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 316.

(2) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 316.

486

ذكره المحقّق الاصفهاني (رحمه الله) لكن يمكن الجواب عن الإشكال:

أوّلاً: بأنّ المانع عن القصر إنّما هو خصوصية التمام، والمأمور به والمقرِّب إنّما هو الجامع، وفي مثل هذا الفرض يمكن اجتماع الأمر والنهي.

وثانياً: بأنّ التمام يمكن أنّ يكون مانعاً في خصوص حالة الجهل، وعليه فكما يحتمل أن يكون المانع هو التمام مقيّداً بكونه في حالة الجهل، أو مجموع التمام والجهل كذلك يحتمل أن يكون المانع هو الجهل مقيّداً بكونه في حالة الإتيان بالتمام، وعليه فالتمام ليس هو المانع عن صحّة القصر حتّى يكون حراماً.

ولكن يرد على هذا الثاني: أنّ التمام ـ عندئذ ـ وإن لم يكن هو المانع، لكنّه من مقدّمات المانع؛ لكون المانع مقيّداً به حسب الفرض، فيرجع الإشكال، فالعمدة هو الجواب الأوّل.

وقد ظهر من تمام ما ذكرناه أنّ جوهر كلام المحقّق الخراساني (رحمه الله)صحيح ولو مع الاحتياج الى إجراء بعض التعديلات في بعض تفاصيله.

الفرضية الثانية: ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره)(1) من أنّه يوجد عندنا واجبان مستقلاّن: أحدهما أصل الصلاة، والثاني الإخفات فيها مثلاً، فإذا صلّى جهراً صحّت صلاته؛ لأنّها واجب مستقل وكان معاقباً؛ لأنّه ترك واجباً آخر، وأمّا عدم صحّة الجهر منه في حال العلم فيفرض المحقّق النائيني (رحمه الله) في تفسيره أنّ العلم بالوجوب الاستقلالي للإخفات يوجب انقلابه الى الوجوب الضمني، وذلك لا بمعنى انقلاب ملاك الوجوب الاستقلالي الى ملاك الوجوب الضمني، بل بمعنى أنّه يضاف ملاك آخر وهو ملاك الوجوب الضمني الى الملاك الأوّل الاستقلالي، وفي مقام الخطاب يندكّ الوجوب الاستقلالي في الوجوب الضمني، وهذا مبنيّ على مبنىً نقّحه هو (قدس سره)من أنّه مهما اجتمع طلبان مع اشتمال أحدهما على مزيّة اندكّ غير ذي المزيّة في ذي المزيّة، فمهما اجتمع ملاك الوجوب والاستحباب مثلاً اندكّ الاستحباب في ضمن الوجوب، ومهما اجتمع ملاك الوجوب التعبّدي والوجوب التوصّلي اندكّ الوجوب التوصّلي في الوجوب التعبّدي.

وقد يناقش في هذه الفرضية بعدّة وجوه:


(1)راجع فوائد الاُصول: ج4، ص103 - 105. وأجودالتقريرات: ج2، ص 337 -339.

487

الأوّل: ما ذكره المحقّق العراقي (قدس سره)(1) من أنّ هذا معناه أخذ عدم العلم بشيء في موضوع المعلوم وكون العلم بشيء رافعاً للمعلوم، وهذا محال، إذ يلزم ـ عندئذ ـ من كونه عالماً بالوجوب الاستقلالي أن لا يعلم به، مع أنّ المفروض أنّه عالم به.

والجواب عنه: هو ما حقّقناه في مسألة أخذ العلم بحكم في موضوع نفسه من تحليل الحكم الى الجعل والمجعول، وفرض أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول، فإنّه لا يكون محالاً؛ لأنّه يرجع الى أخذ العلم بشيء في موضوع شيء آخر، وكذلك الأمر في أخذ عدم العلم بالجعل في موضوع المجعول.

الثاني: أنّه يلزم من ذلك عدم قابلية الخطاب النفسي الاستقلالي للتنجّز؛ لأنّه ما لم يعلم به تجري قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، وإذا علم به ارتفع التكليف ولو بمعنى ارتفاع موضوع مجعوله، وجعل خطاب لا يقبل التنجّز لغو.

وهذا الإشكال بهذا المقدار يمكن الجواب عنه بأنّ عدم الوصول وعدم العلم ليس مساوقاً للتأمين؛ لأنّ عدم وصوله من تبعات ترك الفحص، فلا تجري الاُصول المؤمّنة ويكون منجّزاً للزوم الفحص.

الثالث: أن يجري تعديل على صيغة الإشكال الثاني بأن يقال: إنّ التكليف وإن كان قابلاً للتنجيز، لكنّه لا يقبل المحرّكيّة؛ إذ ظاهر عبائر الفقهاء أنّ عدم العلم المأخوذ في موضوع هذا الخطاب ليس هو ما يناسب الشكّ والتردّد الفعلي بأن يصحّ التمام من الجاهل الشاكّ في الحكم، وإنّما هو عدم العلم المساوق للغفلة وإن كانت مستندة الى تقصيره في ترك الفحص، والخطاب في فرض الجهل المساوق للغفلة لا يقبل المحرّكيّة. وهذا الإشكال يدور مدار تحقيق هذه النكتة فقهياً وهي: أنّ موضوع الحكم هل هو عدم العلم المساوق للغفلة، أو عدم العلم بالمعنى المناسب مع التردّد والشكّ؟

الرابع: أنّه يرد عليه إشكال تعدّد العقاب الذي أورده هو على المحقّق الخراساني (رحمه الله)، وإشكاله لم يكن وارداً على المحقّق الخراساني (قدس سره)؛ لأنّه لم يزد على الملاك المتّفق عليه شيئاً وإنّما حلّل وجزّأ ذاك المتّفق عليه الى مرتبتين، وأمّا المحقّق النائيني(رحمه الله) فقد زاد على الملاك المتّفق عليه وهو الملاك الموجود في


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 487.

488

الجامع ملاكاً نفسياً مستقلاً في الإخفات(1).

وهذه الإشكالات الأربعة ترجع الى أصل الفرضية.

وهناك إشكال آخر يرجع الى تفاصيلها: وهو أنّه (رحمه الله) التزم بانقلاب الخطاب النفسي عند العلم به الى الخطاب الضمني، وذلك ليس من باب انقلاب الملاك، فهو يرى أنّ الملاكين اجتمعا معاً، بل من باب استحالة اجتماع الوجوبين وقاعدة اسّسها المحقّق النائيني (رحمه الله) وهي: أنّه متى ما اجتمع وجوبان، أو طلبان اكتسب كل منهما ما يفقده من مزيّة الآخر، وتحصّل طلب واحد واجد لمزايا الطرفين، فلو اجتمع طلب عبادي استحبابي مع طلب وجوبيّ توصّليّ تحصّل من ذلك وجوب تعبّدي، وفي المقام الوجوب الضمني هو الواجد للمزيّة، وهي: ربط صحّة الأجزاء الاُخرى به، فيندكّ فيه الوجوب الاستقلالي، وتحقيق هذه القاعدة وتفصيلها موكول الى بحث الواجب المطلق والمشروط، وإنّما نذكر هنا بنحو الفتوى: أنّ لدينا إشكالاً مبنائيّاً في المقام حيث إنّنا نرى بطلان هذه القاعدة.

ويمكن أن يورد إشكال آخر إضافة الى بطلان القاعدة، وهو: أنّه بناءً على أنّ الوجوب الضمني يتعلّق بالحصّة الخاصّة المقيّدة بسائر الأجزاء كما هو ظاهر كلمات المحقّق النائيني (رحمه الله) في مبحث الأقلّ والأكثر الارتباطيين، وأنّ الوجوب النفسي يتعلّق بذات الشيء، لا تنافي بين الوجوبين لاختلاف متعلّقهما، فلم يلزم اجتماعهما على مورد واحد، فإنّ متعلّق الوجوب النفسي هو ذات الإخفات، ومتعلّق الوجوب الضمني الحصّة الخاصّة من الإخفات المنّضمة الى سائر الخصوصيات والأجزاء، أي: أنّ هذا الواجب بحسب الحقيقة جزء من الوجوب المتعلّق بذلك الواحد الاعتباري، فهذا الجزء بما هو مندمج في ذلك الواحد الاعتباري يكون واجباً ضمنيّاً، وبما هو مستقل يكون متعلّقاً لوجوب آخر.

ولكنّ هذا الإشكال(2) قابل للدفع، وذلك بأن يقال: إنّنا وإن قلنا سابقاً: إنّ


(1) لعلّ المقصود هو الاعتراض الجدلي على المحقّق النائيني (رحمه الله)باعتباره هو صاحب الإشكال على المحقّق الخراساني بتعدّد العقاب، وإلّا ورد عليه: أنّه إن قصد إنكار تعدّد العقاب في ذاته فهو جزاف، وإن قصد استبعاد كون عقاب الجاهل أشدّ من العالم، قلنا: إنّ الملاك الجديد موجود حتّى بشأن العالم، وعدم الخطاب إنّما هو لفرض الاندكاك في الوجوب الضمني.

(2) إن كان الإشكال عبارة عن أنّ اتّصاف الأجزاء بالوجوب كان باعتبار الوحدة

489

الأجزاء تكون موصوفة بالوجوب باعتبار الوحدة الاعتباريّة، إلّا أنّ هذه الوحدة الاعتباريّة أمر ذهني وفان في واقع الأجزاء، فالمنظور إليه واحد وهو هذا الجزء وإن كان المنظور به تارة هو الواحد الاعتباري، واُخرى هو العنوان التفصيلي.

الفرضية الثالثة: هي الالتزام بالترتّب مسامحة أو حقيقة، فيعاقب لترك الأهمّ ويصحّ عمله لثبوت الأمر به بنحو من الأنحاء.

أمّا الترتّب المسامحي فهو: أن يلتزم بأمرين: أحدهما متعلّق بالجامع، والثاني بأحد الفردين وهو الصلاة الإخفاتيّة أو القصر مثلاً، لا بالإخفات كما كان يقوله المحقّق النائيني (رحمه الله)، وأحد فردي الجامع مترتّب على الجهل بالأمر الثاني، وهذا ينسجم روحه مع فرضية المحقّق الخراساني (رحمه الله)، إلّا أنّه (رحمه الله) كان يفرض تعدّد المطلوب بحسب عالم الملاك فقط، وهذه الفرضية تفرض تعدّد المطلوب ملاكاً وخطاباً. ويمكن أن يورد على هذه الفرضية اعتراضان:

الاعتراض الأوّل: ما يقتنص من مباني المحقّق النائيني (رحمه الله) حيث إنّه(رحمه الله)حقّق في بحث المطلق والمقيّد استحالة تعلّق الأمر بالجامع مع تعلّق أمر آخر بأحد فرديه؛ لأنّ الأمر بالجامع يدلّ على الترخيص في التطبيق على الفرد الآخر، وهذا ينافي الإلزام بهذا الفرد، وبهذا برهن (رحمه الله)على وحدة الحكم في مثل (اعتق رقبة) و (اعتق رقبة مؤمنة)، فأثبت به شرط حمل المطلق على المقيّد وهو المنافاة بينهما، بل جعل


الاعتباريّة في حين أنّ الوجوب الاستقلالي ليس كذلك ـ وهذا الإشكال يتّجه على مسلك المحقّق النائيني (رحمه الله) وعلى مسلك اُستاذنا الشهيد وإن اختلفا في أنّ الأوّل يرى الوحدة الاعتباريّة مستمدّة من تقيّد الأجزاء بعضها بالبعض، والثاني يرى الوحدة الاعتباريّة مستمدّة من لحاظ عنوان المجموعيّة ـ فجوابه ما ورد في المتن: من أنّ الوحدة الاعتباريّة أمر ذهني وفان في واقع الأجزاء، فالمنظور إليه واحد وإن كان المنظور به متعدّداً.

وإن كان الإشكال عبارة عن صِرف أنّ الواجب الضمني هو الحصّة المقيّدة بالاقتران بباقي الأجزاء، والواجب الاستقلالي هو ذات الإخفات مثلاً ـ وهذا الإشكال يتّجه على مسلك المحقّق النائيني فحسب ـ فالجواب: أنّ الواجب الاستقلالي في المقام ـ أيضاً ـ هو الحصّة؛ لأنّ المفروض أنّه واجب في واجب أي: أنّه متحصّص بأن يكون في ظرف الواجب الآخر، وإنّما لا يعدّ جزءاً على مسلك المحقّق النائيني رغم التحصيص؛ لأنّ التحصيص لم يكن من كلا الطرفين، أي: أنّ باقي الأجزاء والقيود لم تكن محصّصة به. وأمّا على مسلك المحقّق العراقي من أنّ الوجوب يطرأ على الأجزاء بما هي متكثّرة فلا موضوع للإشكال أصلاً.

490

هذا أساساً في بحث اجتماع الأمر والنهي لامتناع اجتماعهما على تفصيل لا يسعه المقام، وعلى هذا المبنى لا يصحّ في المقام تعلّق أمر بالجامع وأمر آخر بالفرد لنفس النكتة.

ويرد عليه: أنّ المطلق لم يدلّ بالمطابقة على الترخيص في التطبيق على كل فرد حتّى يكون ظاهراً في الترخيص المطلق مثلاً، وإنّما دلّ بالالتزام على ذلك من باب سعة المأمور به الذي اُخذ بنحو صرف الوجود، فهو إنّما يدلّ على عدم المانع من قبل شخص هذا الأمر لا مطلقاً، وبكلمة اُخرى: أنّ الترخيص وضعي بمعنى تحقّق الامتثال للمطلق بعتق الرقبة الكافرة، لا تكليفي مساوق للإذن في رفع اليد عن المقيّد رأساً حتّى ينافي الإلزام التعييني.

الاعتراض الثاني: ما ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله)(1) من أنّ الجامع في المقام إنّما هو جامع بين صلاة القصر وصلاة التمام الصادرة من الجاهل بوجوب صلاة القصر، وهذه الحصّة الخاصّة تكون في طول الأمر، فكيف يعقل كون الأمر متعلّقاً بجامع شامل لهذا الفرد الذي هو في طوله؟! وهذا الاعتراض غير صحيح:

أمّا أوّلاً: فلإمكان فرض تقييد صلاة التمام باعتقاد وجوب صلاة التمام كما هو واقع المطلب، لا بالجهل بالأمر، وهذه الحصّة تكون في طول وجوب التمام الخيالي لا في طول الأمر.

وأمّا ثانياً: فلِما ذكره نفس المحقّق العراقي (رحمه الله): من أنّ صلاة التمام بناءً على تقيّدها بالجهل بالأمر فهي مقيّدة بالجهل بالأمر الثاني، أي: الأمر بالفرد لا بالجهل بالأمر الأوّل، فهي في طول الأمر الثاني لا الأوّل، ولا مانع من أخذها في متعلّق الأمر الأوّل.

وأمّا ثالثاً: فلأنّنا لو سلّمنا أنّ حصّة التمام قيّدت بعدم العلم بالأمر الأوّل، فما يمكن أن يقال: إنّه متأخّر رتبة عن الأمر الأوّل، إنّما هو العلم بالأمر الأوّل، لا عدم العلم به، ولا نسلّم بقانون: أنّ أحد النقيضين إذا كان متأخّراً عن شيء رتبة فنقيضه ـ أيضاً ـ متأخّر عنه رتبة.

وأمّا رابعاً: فلِما سبق منّا في بحث التعبّدي والتوصّليّ من أنّ الاستحالة إنّما


(1) لم أجده في المقالات، ولا في نهاية الأفكار، ولا في تعليق الشيخ العراقي (رحمه الله)على فوائد الاُصول.

491

هي في أخذ ما يتوقّف على الأمر في موضوع ذلك الأمر، لا في أخذه في متعلّقه كما هو المفروض في المقام.

وأمّا الترتّب الحقيقي: فبدعوى وجود أمرين مترتبين: أمر بالأهمّ وهو الأمر بصلاة القصر، وأمر بالمهمّ وهو الأمر بصلاة التمام على تقدير عدم الإتيان بصلاة القصر، وبما أنّ كبرى الترتّب قد نقّح إمكانها في محله، يتصوّر في المقام تعدّد الأمر تطبيقاً لتلك الكبرى. وقد اعترض على هذا التطبيق بعدّة اعتراضات. وتطويل الكلام فيها راجع الى بحث الترتّب، إلّا أنّنا نقتصر هنا على المهمّ من تلك الاعتراضات وهي:

1 ـ ما أفاده المحقّق النائيني (رحمه الله)(1): وهو أنّ من شروط الترتّب كون التضادّ اتفاقيّاً لا دائميّاً كما في الحركة والسكون، ومقامنا من قبيل الحركة والسكون، أي: أنّ التضادّ بين الجهر والإخفات دائمي.

والسيّد الاُستاذ كأنّه وافق على الصغرى أعني كون التضادّ دائميّاً في المقام، واقتصر في مقام الإشكال على الكبرى. فذكر أنّ نكتة الإمكان لا يفرّق فيها بين كون التضادّ دائميّاً أو اتفاقيّاً، فإنّ طلب الضدّين على وجه الترتّب إن قلنا: بأنّه يؤدّي الى طلب الجمع بين الضدّين فهو محال على كل حال، وإلّا فليس بمحال على كلّ حال(2).

والصحيح: أنّه مضافاً الى عدم تماميّة الكبرى كما حقّق في بحث الترتّب تكون الصغرى ـ أيضاً ـ غير تامّة؛ لأنّ الترتّب في الحقيقة بين الصلاة الجهريّة والصلاة الإخفاتيّة، لا بين الجهر والإخفات كما سنحقّقه ـ إن شاء اللّه ـ في دفع الإشكال الثاني، وليس بين الصلاتين تضادّ دائمي، بل ولا اتّفاقيّ.

2 ـ ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه الله)(3) ـ: أيضاً ـ: وهو أنّ من شروط الترتّب كون الضدّين لهما ثالث، وإلّا فلا يعقل الأمر بأحدهما في طول ترك الآخر؛ لأنّ ترك الآخر


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 1، ص 372 بحسب طبعة جماعة المدرسين في قم، وأجود التقريرات: ج 1، ص 310 - 311.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 1، ص 310 في الهامش .

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 1، ص 372 بحسب طبعة جماعة المدرسين في قم، وأجود التقريرات: ج 1، ص 311.

492

مساوق لفعل ذلك الضدّ، ففي طول تركه لا معنى للأمر بهذا الضدّ والبعث نحوه، ومقامنا من هذا القبيل؛ لإنّ الجهر والإخفات لا ثالث لهما.

وأجاب السيّد الاُستاذ: بأنّ الترتّب ليس بين الجهر والإخفات، وإنّما هو بين القراءة الجهريّة والقراءة الإخفاتيّة، ولهما ثالث وهو ترك القراءة(1).

أقول: إنّ كلاّ من الإشكال والجواب غير صحيح في المقام، فإنّ الترتّب بحسب الدقّة ليس بين الجهر والإخفات ولا بين القراءتين، بل بين الصلاة الجهريّة والصلاة الإخفاتيّة.

والبرهان على ذلك: أنّ الأمر بالقراءة أمر ضمني، فلا بدّ من تعدّد الأمر الاستقلالي بالصلاة الذي هو في ضمنه؛ إذ لو اتحدّ الأمر بالصلاة وتعدّد الأمر بالقراءة أو بالجهر والإخفات، فإمّا أنّ الأمرين بالقراءة أو بالجهر والإخفات أو أحدهما استقلالي، وهذا خلف؛ لأنّنا لسنا بصدد تصوير واجب مستقل كما مضى في الفرضية الثانية، وإمّا أنّهما معاً ضمنيّان، وعندئذ فالأمر بالصلاة قد اشتمل على أمرين ضمنيين: الأمر بالقراءة الإخفاتيّة، والأمر بالقراءة الجهريّة، فإن لم يؤخذ ترك إحدى القرائتين قيداً لا في الواجب ولا في الوجوب لزم الجمع بين القراءتين، وهذا خلف المفروض. وإن اُخذ ترك إحداهما قيداً (ولنفرضه ترك القراءة الاخفاتيّة) فالتقييد يكون بأحد أنحاء ثلاثة:

الأوّل: أن يؤخذ قيداً في الوجوب للأمر النفسي الاستقلالي المتعلّق بالكلّ، وهذا محال، فإنّ هذا معناه أن يقيّد الأمر بالكلّ المشتمل على القراءتين بترك إحداهما.

الثاني: أن يكون الوجوب الضمني المتعلّق بالقراءة الجهريّة مقيّداً بترك القراءة الإخفاتيّة من دون أن تكون سائر الوجوبات الضمنيّة مقيّدة، وهذا ـ أيضاً ـ غير معقول؛ لأنّ الوجوب الضمني ليس له جعل مستقلّ حتّى يكون له قيد مستقل، بل وجوده وجود تحليلي، والاشتراط في عالم الجعل فرع الوجود في عالم الجعل، والوجوب الضمني ليس له وجود في عالم الجعل، وإنّما يكون له وجود بعد التحليل، وعالم الاشتراط هو عالم الجعل، والموجود في عالم الجعل إنّما هو الأمر الاستقلالي بالكلّ.


(1) راجع أجود التقريرات: ج 1، ص 311.

493

الثالث: أن يؤخذ ترك القراءة الإخفاتيّة قيداً في الواجب الضمني لا في الوجوب، فيكون الوجوب الضمني فعليّاً. وهذا معناه أنّنا بالفعل مكلّفون بالقراءة الإخفاتيّة وبالقراءة الجهريّة المقيّدة بترك القراءة الإخفاتيّة. وهذا كما ترى تكليف بالضدّين وهو غير معقول.

3 ـ ما هو مستفاد من كلمات المحقّق الاصفهاني (قدس سره)(1) وإن كنت أذكره بشيء من التطوير، وحاصله: أنّ الأمر بالصلاة الجهريّة مقيّد بعصيان الأمر بالأهمّ وهو الصلاة الإخفاتيّة، وعصيانه بأحد نحوين: إمّا بتركها الى آخر الوقت، وإمّا بإتيان الصلاة الجهريّة المعجِّزة عن استيفاء المصلحة المطلوبة من الصلاة الإخفاتيّة، فالمأخوذ في موضوع الأمر بالصلاة الجهريّة هل هو العصيان بالنحو الأوّل، أو العصيان بالنحو الثاني؟

فإن قيل بالأوّل لزم عدم صحّة الصلاة الجهريّة في فرض الإتيان بالصلاة الإخفاتيّة في الوقت بعد الإتيان بالصلاة الجهريّة؛ إذ مع إتيانها ينتفي العصيان الذي هو موضوع الأمر بالصلاة الجهريّة، مع أنّ المفروض صحّة الصلاة وعدم الإعادة حتّى لو انكشف له الحال في الوقت.

وإن قيل بالثاني فالعصيان لا يتحقّق إلّا بالإتيان بالصلاة الجهريّة، فكيف يعقل أن يقال: إنّه إن أتيت بالصلاة الجهريّة يجب الإتيان بالصلاة الجهريّة؟! وهذا يساوق تحصيل الحاصل.

والجواب: أنّه يمكن الالتزام بأنّ الشرط هو الجامع بين العصيانين، أي: عدم استيفاء الزائد من الملاك غاية الأمر أنّ الترتّب الاعتيادي نتصوّره بنحو الشرط المقارن، وهذا الترتّب نتصوّره بنحو الشرط المتأخّر؛ إذ لا يمكن أن نأخذ تفويت الملاك بنحو الشرط المقارن؛ لأنّ تفويت الملاك لايتحقّق من هذا المكلّف، إلّا بعد انتهاء صلاته الجهريّة فيستحيل تكليفه بالصلاة الجهريّة، فنحن إنّما نأخذ جامع التفويت شرطاً بنحو الشرط المتأخّر، أي: إن كان سوف يصدر منك التفويت الجامع بين ترك الصلاة الإخفاتيّة الى آخر الوقت وإتيان الصلاة الجهريّة وجب عليك الإتيان بالصلاة الجهريّة. وليس في هذا محذور.


(1) نهاية الدراية: ج 2، ص 315.

494

4 ـ ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه الله)(1): من أنّ الأمر الترتّبي في المقام لا يعقل وصوله فلا يعقل جعله؛ لأنّ الأمر الترتّبي مشروط بعصيان الأمر بالأهمّ، فموضوعه هو العاصي، والجاهل بالحكم لا يُصدّق أنّه عاص، إلّا إذا ارتفع جهله بالحكم، فبمجرّد أن يصل إليه الخطاب يخرج عن كونه جاهلاً، ويخرج عن كونه موضوعاً لهذا الخطاب.

وأجاب عنه السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ: بانّ شرط الخطاب الترتّبي ليس هو العصيان، بل هو ترك الأهمّ وهو الصلاة الإخفاتيّة، وذات الترك قابل للالتفات إليه من قبل الجاهل(2).

ويرد عليه: أنّ هذا الكلام لا يرفع الإشكال وإن فرض أنّه أوجد تبديل عنوان بعنوان؛ وذلك لأنّ الأمر بالصلاة الجهريّة المنوطة بترك الصلاة الإخفاتيّة لو وصل الى المكلّف لالتفت لا محالة الى أنّ الوظيفة الأوّليّة هي الإخفات لا الجهر، ولك أن تقول: إنّ الجاهل بالحكم معناه ـ على ما مرّ سابقاً ـ المعتقد وجوب ما أتى به وهو صلاة الجهر، فلو كان هناك أمر ترتّبي وجب أن يؤخذ في موضوعه الاعتقاد بوجوب الجهر، ومن المعلوم أنّ من اعتقد وجوب الجهر ليس بحاجة الى إعمال مولويّة في المقام وتحريك آخر، وهذا التحريك الآخر لا يصله خارجاً، فالتحريك المولوي تامّ في المرتبة السابقة، ويستحيل ترتّب المحرّكيّة من ناحية هذا الأمر الترتّبي؛ لأنّ وصوله يخرجه عن كونه جاهلاً بالحكم الى كونه عالماً بالحكم. فهذا الإشكال من المحقّق النائيني (رحمه الله)وارد في المقام، وهذا يوجب عدم تصوير الترتّب في المقام وإن تصوّرناه كلية.

هذا هو الإشكال الإجمالي في الترتّب. وهناك ـ أيضاً ـ إشكالات اُخرى حذفناها. وتفصيل ذلك في بحث الترتّب.

هذا تمام الكلام في تصوير الجمع بين العقاب وصحّة العمل في المقام. وبه تمّ الكلام في التنبيه الخامس من تنبيهات مسألة وجوب الفحص في الاُصول المؤمّنة وعدمه.


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 1، ص 373 بحسب طبعة جماعة المدرسين، وأجود التقريرات: ج 1، ص 311 ـ 312.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 1، ص 311 ـ 312. في الهامش .

495

حالة الشكّ في الابتلاء

التنبيه السادس: إذا شكّ في أنّ الحكم الفلاني كأحكام الشكّ في الصلاة مثلاً هل سيدخل في محل ابتلائه أو لا، فهل يجب عليه تعلّم ذلك الحكم أو لا؟!

قد يقال بعدم الوجوب نظراً لاستصحاب عدم الابتلاء ولو بلحاظ ما يأتي؛ لأنّ الاستصحاب كما يجري بلحاظ ما مضى يجري بلحاظ ما يأتي.

وذكر في الدراسات(1): أنّ عدم الابتلاء ليس حكماً شرعيّاً، ولا موضوعاً لحكم شرعي؛ لأنّ وجوب الفحص وعدمه ليس دائراً مدار الابتلاء الواقعي وعدمه، وإنّما هو دائر مدار العلم بعدم الابتلاء وعدمه، فالذي خرج من إطلاق دليل وجوب الفحص هو فرض العلم بعدم الابتلاء؛ لكونه وجوباً طريقيّاً. وعليه فإن قلنا: بأنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً لحكم شرعي لم يجرِ هذا الاستصحاب. وأمّا إذا بنينا على إنكار هذا المبنى وقلنا: إنّه يكفي في جريان الاستصحاب ترتّب الأثر الشرعي على نفس الثبوت الاستصحابي، وأنّه يقوم الاستصحاب مقام العلم الموضوعي، كما يقوم فيما إذا كان المستصحب حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً لحكم شرعي مقام العلم الطريقي، فالاستصحاب هنا جار، فإنّ موضوع عدم وجوب الفحص هو العلم بعدم الابتلاء، والاستصحاب يحقّق لنا ـ تعبّداً ـ العلم بعدم الابتلاء، فيكون حاكماً على دليل وجوب الفحص المغيّى بالعلم بعدم الابتلاء.

نعم، محذور هذا الاستصحاب أنّه يلزم منه تخصيص الأكثر لأخبار وجوب التعلّم؛ إذ يجري هذا في أكثر الأحكام.

أقول: إن فُرض التكليف فعليّاً فلا مجال لهذا الكلام، مثلاً: إذا دخل وقت الصلاة صار الحكم بالجامع بين التمام في الحضر والقصر في السفر فعليّاً، فإذا شكّ في الابتلاء بالسفر وجب عليه تعلّم أحكام صلاة القصر؛ لأنّ التكليف فعلي واستصحاب عدم السفر فيما يأتي لا يثبت أنّه قادر على الامتثال، وسوف يأتي بالوظيفة التماميّة في آخر الوقت بالنحو الصحيح، إلّا بنحو الملازمة العقليّة.

وأمّا إذا كان التكليف مشروطاً غير فعليّ كما في صلاة الزلزلة إذا شكّ في أنّه هل سوف تتّفق في عمره الزلزلة أو لا، فإن قلنا: إنّ موضوع وجوب التعلّم هو الابتلاء


(1) الدراسات: ج 3، ص 312، راجع ـ أيضاً ـ المصباح: ج 2، ص 501 - 502.