599

 

وثاقة الراوي وموثوقيّة الرواية:

الجهة الثالثة: في أنّ وثاقة الراوي متى تؤدّي إلى موثوقيّة الرواية، ومتى لا تؤدّي إليها ؟ وأيّ حالة من هذه الحالات تدخل في نطاق الحجّيّة ؟ فنقول:

تارةً: يفترض أنّ الوثاقة التي هي حالة نفسيّة موجبة للتحرّج والتحرّز من الكذب بالغة إلى مستوى يغلب جميع دواعي الكذب على الإطلاق بما فيها أقوى المغريات والدواعي للكذب التي يمكن افتراضها في نفس المخبر، وهذا يؤدّي إلى القطع بالصدق، وهو خارج عن محلّ البحث، فإنّ كلامنا في الخبر الظنّيّ.

واُخرى: يفترض أنّ الوثاقة لم تبلغ هذه الدرجة، وهذا هو محلّ البحث عن أنّه متى يحصل الظنّ بصدق الخبر على أساس وثاقة المخبر، ومتى لا يحصل. وهذا البحث وإن كان لم يطرق حتّى الآن، ولكنّه بحث مثمر كما سوف يظهر، ومن السهل لنا طرقه بعد أن عرفنا قيام ذلك على أساس حساب الاحتمالات.

ولا يخفى أنّ هذه الوثاقة ليست هي العامل الوحيد الذي يجب حسابه في حصول الظنّ، بل لابدّ من ضمّها إلى حساب حال مزاحمها: من داعي الكذب، كي تخرج النتيجة النهائيّة، فلو فرض القطع بغالبيّة داعي الكذب في نفس هذا المخبر على مستوى الوثاقة الموجودة لديه حصل القطع بالكذب، ولو فرض القطع بعدم داعي الكذب في نفسه، أو مغلوبيّته لما يمتلكه من الوثاقة حصل القطع بالصدق، وكلّ هذا خارج عن محلّ الكلام، ولابدّ من نشوء شكّ في المقام كي يكون خبره محطّاً للبحث عن الحجّيّة، ويتصوّر للشكّ في صدق خبر الثقة أحد مناشئ ثلاثة:

المنشأ الأوّل: الضيق في جانب الوثاقة أو احتماله، وذلك في نفس الوثاقة، أو في اقتضائها لعدم الكذب:

أمّا الضيق في نفس الوثاقة، فكما لو لم تكن وثاقته قائمة على أساس الدين،

600

بل كانت قائمة على أساس علم الأخلاق، وكان يبني علم الأخلاق على أساس المصلحة والمفسدة لا على أساس الحسن والقبح، ففي المورد الذي يعتقد هذا الشخص عدم المفسدة في الكذب لا يكون في نفسه تحرّج عن الكذب. أو كانت وثاقته قائمة على أساس الدين وحرمة الكذب، لكنّه كان يرى أنّ الكذب في جعل المعجز للنبيّ(صلى الله عليه وآله)، أو الأئمّة(عليهم السلام)، ونقل فضائلهم ومصائبهم ـ مثلاً ـ ليس حراماً؛ لأنّه ترويج للدين، والكذب في ترويج الدين غير حرام، من قبيل ما عن بعض العامّة: من أنّه إنّما يحرم الكذب على النبيّ(صلى الله عليه وآله) لا الكذب له، ونحن ننقل المعاجز له كذباً، وهو كذب له لا عليه، فلا يشمله قوله: «من كذب عليّ فليتبوّء مقعده من النار».

ومهما احتملنا في مورد مّا خروجه عن دائرة وثاقة الراوي للضيق فيها، لم يكن خبره فيه حجّة حتّى لو قيل بأنّ الوثاقة بما هي حالة نفسيّة موضوع للحجّيّة لا بما هي مورثة للوثوق بالرواية والكشف الفعليّ. (ومقصودنا بالكشف الفعليّ هنا عدم انتفاء كشف الوثاقة من ناحية المزاحم الداخليّ، أعني: داعي الكذب. وأمّا انتفاؤه من ناحية تأثير المزاحم الخارجيّ ووجود أمارة معارضة، فهذا ما سوف نبحثه مستقلاًّ عن هذه الجهة إن شاء الله ).

والوجه فيما قلناه: من عدم الحجّيّة في المقام حتّى على مبنى الاكتفاء بالوثاقة بمعنى الحالة النفسيّة واضح؛ لأنّ أصل الوثاقة في هذا المورد غير محرزة بحسب الفرض.

وأمّا الضيق في اقتضاء الوثاقة، فمقصودنا منه: أن يفرض أنّ الحالة النفسيّة الثابتة لهذا الشخص ليست عبارة عمّا يوجب التحرّز عن أصل الكذب، وإنّما له حالة التحرّج عن تكرّر الكذب وتكثّره على اختلاف درجات ذلك. ولا يبعد أن يقال: إنّ مَن لا يتحرّج عن أصل الكذب لا يصدق عليه عرفاً ثقة، أو ـ على

601

الأقلّ ـ يشكّ في ذلك، ولايشمله دليل الحجّيّة.

المنشأ الثاني: الشكّ في جانب المزاحم الداخليّ وهو داعي الكذب، بأن يشكّ في أصل وجوده، أو في نسبته إلى درجة الوثاقة في نفس هذا الشخص، للجهل بمرتبة الداعي أو الوثاقة. وعندئذ تارةً يفرض أنّه لا يحصل الظنّ بصدق خبره (والكلام كلّه بقطع النظر عن المزاحم الخارجيّ المانع عن حصول الظنّ)، واُخرى يفرض أنّه يحصل الظنّ بصدق خبره، أي: في نفسه لا بالاعتضاد بقرينة خارجيّة:

أمّا الفرض الأوّل: فكما لو عرفنا ـ مثلاً ـ أنّه لو وجد في هذا المورد لدى هذا الشخص داعي الجاه والعظمة الموجب للكذب لكان غالباً على وثاقته، لكن شككنا شكّاً متساوي الطرفين في وجود هذا الداعي وعدمه، أو عرفنا وجود هذا الداعي لكن شككنا في درجة الوثاقة شكّاً متساوي الطرفين، فدار أمرها بين درجة غالبة على هذا الداعي، أو درجة مغلوبة له، أو علمنا بكون درجة الوثاقة في نفسها غالبة أو مغلوبة لكن احتملنا احتمالاً متساوي الطرفين طروّ حالة نفسيّة على الراوي في زمان نقله لهذا الحديث تجعل وثاقته مغلوبة أو غالبة، وحجّيّة خبر مثل هذا الشخص في هذا الفرض وعدمها تترتّب على أنّ الموضوع للحجّيّة هل هو وثاقة الراوي بما هي حالة نفسيّة له، أو وثاقته بما هي تعطي الكشف للخبر. فعلى الأوّل يكون حجّة، وعلى الثاني لا يكون حجّة؛ لانتفاء الكشف حتّى في نفسه وبقطع النظر عمّا يعارض كشفه؟ والصحيح هو الثاني، فإنّ حديث: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان»، ظاهر في الثاني:

أمّا أوّلاً: فلأنّ كلمة الثقة بنفسها يفهم منها عرفاً أخذها بعنوان الطريقيّة والكاشفيّة لا بعنوان الموضوعيّة بما هي تعبّداً.

وأمّا ثانياً: فلأنّ ظاهر التعليل بالوثاقة في ذيله هو التعليل المتفاهم في نظر

602

العرف المقرّب للحكم المعلّل في نظرهم، لا التعليل التعبّديّ الصرف، فإنّ الظاهر من التعليلات والغالب فيها كونها للتقريب إلى الذهن وتوجيه الحكم بما يستحسنه العقلاء، وإن كان قد يتّفق أنّ التعليل ليس لذلك، وإنّما هو لأجل إعطاء ضابط كلّيّ.

وعلى هذا فلابدّ أن تكون العبرة بالوثاقة بما لها من الكشف، حتّى يكون تعليلاً بأمر يناسب الحكم في نظر العقلاء ومقبولاً بالنظر إلى ارتكازاتهم، فيكون تقريباً للحكم إلى نظرهم. أمّا لو فرض أخذها بما هي حالة نفسيّة، إذن لم يكن هذا إلّا تعبّداً صرفاً، لا تعليلاً متفاهماً عند العرف.

وأمّا ثالثاً: فلأنّ كلمة المأمون في قوله: «فإنّهما الثقتان المأمونان» قرينة على المطلب؛ إذ لو كان احتمال كذبه في هذا الحديث مساوياً لاحتمال صدقه كيف يصدق أنّه مأمون في هذا الحديث عن الكذب ؟!

وإن شئت مصداقاً لهذا الفرض فيما بأيدينا من الأخبار، قلنا: إنّ أحد الرواة المشهود بوثاقتهم هو رفاعة، وهو ينقل حديثاً في جواز استعباد أطفال الكفّار بالسبي وبيعهم(1). وبالمراجعة إلى أحواله يظهر أنّه كان تاجراً نخّاساً، فقد يحرز بذلك داعي الكذب في شأنه بدرجة تغلب على بعض درجات الوثاقة باعتبار أنّ عيشه وعمله مبنيّان على النخاسة، فيحتاج إلى مثل هذه الرواية في مقام التحفّظ على أساس عيشه، وتجارته، والتحفّظ على ماء وجهه بين الناس، والتخلّص من ذمّ الناس إيّاه. فمع فرض الشكّ في كون وثاقته بدرجة تغلب على هذا الداعي شكّاً متساوي الطرفين يسقط خبره عن الحجّيّة.

وأمّا الفرض الثاني ـ وهو فرض حصول الظنّ من الخبر ـ: فهذا لا إشكال في حجّيّته إن كان الظنّ مستنداً إلى الوثاقة بخلاف ما لو لم يكن مستنداً إليها؛ وذلك


(1) راجع الوسائل، ج 11، ب 50 من جهاد العدوّ، ح 6، ص 100.

603

لما مضى: من أنّ الوثاقة إنّما اُخذت باعتبار ما لها من الكاشفيّة لا بما هي حالة نفسيّة، فإذا كان الظنّ مستنداً إليها كانت لها الكاشفيّة، وإلّا فلو قلنا بالحجّيّة وجعلت الوثاقة شرطاً كانت شرطيّته تعبّداً محضاً، وبما هي حالة نفسيّة. أمّا فرض كون مقياس الحجّيّة مجرّد موثوقيّة الحديث مع إسقاط الوثاقة عن الحساب، فهذا ما سنوضّح بطلانه في بحث مستقلّ عن هذه الجهة إن شاء الله.

يبقى الكلام في تشخيص الضابط بين القسمين، أعني: الظنّ المستند إلى الوثاقة، والظنّ الغير مستند إليها، والضابط لذلك يمكن بيانه بنحوين:

النحو الأوّل: أن يقال ـ بعد فرض حصول الظنّ من الخبر ـ: إنّ كلّ داع من دواعي الكذب يكون الاحتمال منصبّاً عليه ابتداءً لابدّ أن يفترض أنّ الوثاقة لها دخل في الظنّ بعدم تأثير هذا الداعي عن طريق غلبتها على بعض حصص الداعي المحتمل، وإلّا فالظنّ الناشئ من الخبر ليس مستنداً إلى الوثاقة.

إذن فلو استبعدنا داعياً من دواعي الكذب عن غير طريق الجزم بغلبة وثاقة الراوي عليه يجب أن نرى أنّ الاحتمال هل انصبّ على هذا الداعي ابتداءً، أو انصبّ ابتداءً على الجامع بينه وبين داع آخر أو دواعي عديدة، لعدم احتمال اجتماع تلك الدواعي، إمّا للتضادّ فيما بينها، أو لاستبعاد اجتماعها على حدّ استبعاد اجتماع الصدف المتماثلة استبعاداً قطعيّاً أو اطمئنانيّاً ؟ فإن كان الاحتمال منصبّاً على الجامع، وفرضنا غلبة الوثاقة على بعض حصص الجامع كفى ذلك في استناد الظنّ إلى الوثاقة، ولو كان استبعاد الحصص الاُخرى عن غير طريق الجزم بغلبة الوثاقة عليها.

وإن كان الاحتمال منصبّاً على نفس ذاك الداعي ولم نجزم بغلبة الوثاقة عليه، أو كان الاحتمال منصبّاً على الجامع ولم نجزم بغلبة الوثاقة على بعض حصصه، ولكن مع ذلك ظننّا بصدق الخبر؛ للظنّ بعدم داعي الكذب، أو للظنّ بغلبة الوثاقة

604

عليه، فالظنّ هنا غير مستند إلى الوثاقة.

ولكن الصحيح عدم تماميّة هذا الضابط، فإنّه يكفي في استناد الظنّ إلى الوثاقة عرفاً أن يكون سهيماً في استبعاد بعض دواعي الكذب.

النحو الثاني: أن يقال ـ بعد فرض حصول الظنّ في الخبر ـ: إنّه يجب أن نرى أنّ الوثاقة هل كانت مؤثّرة في استبعاد بعض دواعي الكذب، أو لا ؟ فإن كانت مؤثّرة في ذلك ولو ضمناً صحّ إسناد الظنّ إلى الوثاقة حتّى مع فرض علّة اُخرى للاستبعاد كافية ـ لو بقيت وحدها ـ للقطع بعدم ذاك الداعي، وحتّى لو فرض أنّ بعض الدواعي الاُخرى المنصبّ عليها الاحتمال ابتداءً لم يستند استبعادها إلى الوثاقة، وإنّما استبعدت بعامل آخر تماماً.

وإن لم تكن كذلك لم يسند الظنّ إلى الوثاقة.

ومثال القسم الثاني هو: ما لو علمنا بوثاقة شخص لكن علمنا أنّه ابتلى صدفة في زمان إخباره بحالة نفسيّة من انبساط وميل إلى الكذب ـ مثلاً ـ تجعل وثاقته مغلوبة لأيّ داع من دواعي الكذب، وهذا لا ينافي أصل ملكة الوثاقة كما أنّ غلبة بعض الدواعي المهمّة للكذب على الوثاقة لا ينافي أصل ملكة الوثاقة، ولا توجب أيضاً تلك الحالة النادرة وكذا ذاك الداعي المهمّ النادر حصوله قصور الوثاقة ذاتاً عن الرادعيّة عن مثل هذا الكذب، ولذا ترى أنّه يشعر في حين ارتكابه لهذا الكذب بالاشمئزاز الروحي، والتأثّر على ما يصدر منه من الكذب، وهذا هو نتيجة عدم قصور وثاقته ذاتاً عن الردع عن هذا الكذب، وإنّما لم تؤثّر فعلاً في الردع لابتلائها بالمزاحم: من تلك الحالة، أو الداعي المهمّ.

فإذا علمنا أنّ هذا الراوي الثقة ابتلى في حين روايته بتلك الحالة النفسيّة التي تجعل وثاقته مغلوبة لأيّ داع من دواعي الكذب لكنّنا ظننّا مع ذلك بصدق خبره من باب الظنّ بعدم تحقّق داعي الكذب في هذا الخبر في نفسه بقطع النظر عن

605

الوثاقة، ففي مثل هذا المورد لا يكون الظنّ مستنداً إلى الوثاقة، ولا يكون خبره حجّة.

وأمّا مثال القسم الأوّل الذي يكون الظنّ فيه مستنداً إلى الوثاقة، فنذكر لذلك أمثلة ثلاثة:

المثال الأوّل: أن يفرض القطع بغالبيّة درجة وثاقته على أيّ داع للكذب يحتمل وجوده في المقام، ولكن نحتمل طروّ حالة في نفسه في زمان نقله لهذا الخبر صدفة تجعلها مغلوبة لأيّ داع من دواعي الكذب، وكان هذا الاحتمال ضعيفاً لكون طروّ مثل هذه الحالة صدفة نادرة، والغالب في الوثاقة دفعها لمثل هذه الحالات وغلبتها عليها، وفي مثل ذلك لا إشكال في أنّه يسند الظنّ بالصدق إلى الوثاقة.

والمثال الثاني: أن يفرض أنّ أصل وجود الداعي للكذب مشكوك، وأنّه على فرض وجوده يكون مردّداً بين الغالب على الوثاقة والمغلوب لها، إمّا للشكّ في درجة الداعي، أو في درجة الوثاقة، أو في الحالة النفسيّة للراوي في وقت الرواية، فيحصل الظنّ بالصدق؛ لأنّه على تقدير عدم الداعي للكذب، وعلى أحد تقديري وجوده يكون صادقاً، وعلى تقدير واحد من تقديري وجوده يكون كاذباً، فالظنّ هنا نشأ من عاملين، أحدهما: احتمال عدم داعي الكذب في نفسه، والثاني: احتمال غلبة الوثاقة.

المثال الثالث: أن يفرض كون الداعي الكذبي على فرض وجوده مردّداً بين دواع عديدة يكون ما ثبت للراوي من الوثاقة غالباً على أكثرها، فلا نحتاج في حصول الظنّ بالصدق إلى عامل احتمال عدم داعي الكذب، بل هو حاصل حتّى بقطع النظر عنه.

المنشأ الثالث: في فرض تساوي درجة الوثاقة وداعي الكذب الذي وجد

606

صدفة. وعندئذ لو بنينا على مبنى الفلاسفة: من استحالة الترجيح بلا مرجّح حتّى في الاختياريّات، فالنتيجة: أنّ هذا الشخص لا يخبر أصلاً، فلا يبقى موضوع للشكّ في صدقه وكذبه، إلّا إذا وجد مرجّح تكوينيّ في أحد المبادئ العالية بحسب ما يقولون، واحتمال وجود مرجّح للصدق مساو لاحتمال وجود مرجّح للكذب، فيتساوى احتمال صدقه وكذبه، ولا يبقى كشف للخبر.

ولو بنينا على ما هو الصحيح: من عدم استحالة ذلك في الاختياريّات، وأنّ المختار يرجّح أحد الطرفين على الآخر من دون مرجّح، فقد يخبر هذا الشخص بلا حاجة إلى فرض المرجّح في المبادئ العالية، ويتساوى احتمال صدقه وكذبه، ولا يبقى للخبر كشف.

وعلى أيّة حال، فلو قلنا بموضوعيّة الوثاقة بما هي حالة نفسانيّة للحجّيّة كان خبره حجّة، ولو قلنا بما هو الصحيح: من أنّ الوثاقة اُخذت في موضوع الحجّيّة من باب الكشف، فمبدأ حجّيّة خبر الثقة لا ينطبق في المقام.

 

الوثاقة والعدالة:

الجهة الرابعة: في أنّه هل يشترط في حجّيّة خبر الثقة كونه ثقة في جميع أعماله وهو العدل، فلو كان فاسقاً لنقص في عمله، أو نقص في اعتقاده عن تقصير لم يكن خبره حجّة، أو تكفي في الحجّيّة وثاقته في إخباره ؟

الصحيح: أنّ دليلي الحجّيّة ـ وهما السنّة والسيرة ـ شاملان للفاسق الثقة في إخباره:

أمّا السنّة: فلأنّ حديث «العمريّ وابنه ثقتان» ظاهره كما مضى الانحلال، أي: أنّ كلّ من كان ثقة في شيء يعتمد على كلامه في ذلك الشيء، فالثقة في الفتوى ـ مثلاً ـ يؤخذ بفتواه، والثقة في الحديث يؤخذ بحديثه. وهذا مطلق يشمل فرضي

607

العدالة والفسق، فإن قلنا: إنّ هذا الحديث بنفسه يفيد القطع أو الاطمئنان، أخذنا بإطلاقه، وإن قلنا بالاحتياج إلى مجموع أحاديث الباب لحصول القطع أو الاطمئنان، وفيها ما لا يدلّ على أزيد من حجّيّة خبر العادل(1)، قلنا: ثبتت بمجموع تلك الأخبار حجّيّة حديث «العمريّ وابنه ثقتان»؛ لأنّ رواته جميعاً عدول، فهو قدر متيقّن ممّا استفدناه بالقطع من مجموع الأخبار: من الحجّيّة في الجملة، وعندئذ نتمسّك أيضاً بإطلاقه لإثبات حجّيّة خبر مطلق الثقة.

وأمّا السيرة: فتثبت بالنسبة لخبر الثقة غير العادل بنفس بيان ثبوتها في خبر العادل، وما مضى: من المؤيّدات جلاًّ أو كلاًّ يأتي هنا، وقد نقل الشيخ الطوسيّ(قدس سره)عن الفقهاء والأصحاب أنّهم يعملون جيلاً بعد جيل بأخبار الثقات المنحرفين، والفاسدي المذهب.

فقد تلخّص: أنّ دليل الحجّيّة شامل لخبر الثقة الفاسق.

نعم، يبقى الكلام فيما يعارض هذا الدليل، وهو آية النبأ، حيث أوجبت بمنطوقها


(1) وهو أكثر الروايات الماضية، فإنّنا إذا استثنينا الحديث الأوّل، والسادس، والسابع، والحادي عشر من الأحاديث التي ذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) تماميّة دلالتها مع مرسلتي الاحتجاج اللتين ذكرناهما تحت الخطّ، فباقي الروايات التامّة دلالتها على حجّيّة خبر الواحد لا تدلّ على أكثر من حجّيّة خبر العدل، ولا يتخيّل أنّ التوقيع الشريف: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ...» دلّ على حجّيّة كلّ الروايات، فإنّ هذا الحديث لم يدلّ على حجّيّة خبر الرواة فحسب، بل أعطى مقاماً عامّاً للرواة تدخل فيه حجّيّة رواياتهم، ومنصب ولاية الفقيه مطلقاً أو في الجملة، ومنصب الفتوى والقضاء؛ إذ مقتضى الإطلاق الرجوع إليهم في كلّ هذه المقامات، ولا شكّ بحسب الارتكاز المتشرّعيّ في أنّ مقاماً من هذا القبيل تدخل تحته هذه المناصب لا يمكن أن يثبت للفاسق. إذن فالحديث منصرف إلى الإنسان العادل، وبالتالي حجّيّة الخبر المستفادة من هذا الحديث لا تكون لأكثر من خبر العادل.

608

التبيّن عن نبأ الفاسق، وهو بيان لعدم حجّيّته كما مضى، فقد يقال: يقع التعارض بين الآية ودليل حجّيّة خبر الثقة بالعموم من وجه، ومادّة الاجتماع هي الثقة الفاسق، فإن كان هذا داخلاً في معارضة الآية للدليل الظنّيّ السند، وهو حديث «العمريّ وابنه ثقتان» مثلاً الذي تفرض حجّيّته تعبّداً؛ لكونه داخلاً في القدر المتيقّن من مفاد أخبار الحجّيّة، تقدّمت الآية عليه، فقد سقط دليل الحجّيّة في المقام، وإلّا بأن فرضنا هذا الحديث ـ مثلاً ـ قطعيّ الصدور أو مطمأنّاً بصدوره، فقد تعارضا وتساقطا، والمرجع عندئذ هو أصالة عدم الحجّيّة.

والجواب ـ بعد غضّ النظر عن أنّ كون الاصطلاح الثابت اليوم للفاسق ثابتاً في زمان نزول الآية غير معلوم، فلعلّ المقصود به في الآية لم يكن هو الفاسق بهذا المعنى المصطلح وهو العاصي مثلاً، وإنّما المقصود به في الآية هو الفسق بمعناه اللغويّ وهو الانحراف، وعلى هذا تكون دعوى كون المقصود الظاهر بمناسبة الحكم والموضوع الانحراف فيما حكم بالتبيّن فيه وهو النبأ غير بعيدة ـ: أنّ هذه الآية معلّلة بقوله: ﴿أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة ...﴾، والجهالة فيها إمّا أن نقول بظهورها في الجهالة العمليّة، أي: السفاهة والعمل غير العقلائيّ، أو نقول بظهورها في الجهالة الاعتقاديّة، أي: خلاف العلم، أو نقول بإجمالها بينهما.

فإن قلنا بالأوّل سقطت الآية عن الدلالة؛ إذ التعليل عندئذ يوجب اختصاص الحكم بكلّ خبر كان العمل به غير عقلائيّ ويعدّ سفهيّاً، وخبر الثقة غير العادل إن لم نقل بكون العمل به عقلائيّاً جزماً، فلا أقلّ من أنّنا غير جازمين بسفهيّته في نظر العقلاء ورفضهم للعمل به.

وإن قلنا بالثالث سقطت الآية أيضاً عن الدلالة؛ لأنّ المفروض أنّ كلمة الجهالة مجملة بين احتمالين، وأنّها على أحد الاحتمالين ـ وهو احتمال كون المراد بها السفاهة ـ غير دالّة على المقصود.

609

وإن قلنا بالثاني فالآية عندئذ وإن دلّت على عدم حجّيّة خبر الفاسق والنسبة بينه وبين الثقة عموم من وجه، لكن إذا لاحظنا التعليل رأينا أنّ النسبة بين التعليل ودليل حجّيّة خبر الثقة إنّما هي العموم المطلق؛ لأنّ التعليل يدلّ على عدم حجّيّة كلّ خبر غير علميّ، ومن المعلوم أنّ خبر الثقة غير العلميّ أخصّ من ذلك، فيقدّم دليل حجّيّته على هذا التعليل، وبعد هذا لا يبقى مجال للتمسّك بإطلاق الحكم المعلّل في الآية، وهو قوله: ﴿إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا﴾، بدعوى أنّه يشمل الفاسق الثقة، فيعارض دليل حجّيّة خبر الثقة بالعموم من وجه؛ وذلك لأنّ المفروض أنّه ثبت بواسطة التعليل أنّ عدم الاعتماد على خبر الثقة ليس لأجل فسقه إهانة له مثلاً، وإنّما هو لعلّة كون الخبر غير علميّ، وقد فرض تقديم دليل حجّيّة خبر الثقة على هذا التعليل، ومعنى ذلك أنّه ثبت أنّ هذه العلّة لا تصلح للعلّيّة في مقابل الوثاقة، وإنّما تصلح للعلّيّة في غير فرض الوثاقة، فبضمّ هاتين المقدّمتين إحداهما إلى الاُخرى، وهما: كون العلّة في عدم الاعتماد على خبر الفاسق هي عدم العلم، وعدم صلاحيّة ذلك للعلّيّة في فرض الوثاقة، يسقط شمول إطلاق الحكم بعدم الاعتماد المعلّل بهذه العلّة لخبر الفاسق الثقة عن الحجّيّة.

وإن غضضنا النظر عن هذه النكتة التي بيّنّاها بواسطة التعليل قلنا: إنّ هذه الآية لا تصلح رادعة عن السيرة، وإنّما السيرة تكشف عن مخصّص لها، فإنّها لو صلحت للردع لوقع الارتداع، وقد أثبتنا استقرار سيرتهم في زمان الإمام(عليه السلام)على العمل بخبر الثقة الفاسق، ولا يحتمل كون عملهم به من باب العصيان. ولا تصلح الآية لإسقاط هذه السيرة مع فرض استقرارها عن الحجّيّة، فإنّها إمّا سيرة عقلائيّة، فتكشف كشفاً قطعيّاً عن رضا المعصوم؛ إذ لولا رضاه لكان يردع بمقدار يوجب ارتداع المتديّنين. وإمّا سيرة المتشرّعة وهي في طول ثبوت الحكم من قبل المعصوم، فأيضاً تكشف كشفاً قطعيّاً عن حجّيّة خبر الثقة الفاسق.

610

 

الخبر المعارض لأمارة غير حجّة:

الجهة الخامسة: في أنّه إذا كان خبر الثقة بذاته مورثاً للظنّ المستند إلى الوثاقة لكنّه تعارض مع أمارة اُخرى غير حجّة، وأوجب ذلك سقوطه عن إيراث الظنّ، فهل يبقى على حجّيّته، أو لا ؟

وهذا التعارض ينقسم إلى قسمين: فإنّه تارةً يفرض تعارضه مع أمارة اُخرى، وانتفاء الظنّ الحاصل منه بلحاظ حالة شخصيّة لشخص خاصّ لا يشترك فيه نوع العقلاء، وإنّما يكون ناشئاً عن انحراف ذاك الشخص عن الحالة العقلائيّة المتعارفة. واُخرى يفرض تعارضه مع أمارة اُخرى، وانتفاء الظنّ الحاصل منه في نظر نوع العقلاء، فكلّ عاقل يطّلع على تلك الأمارة المعارضة لا يبقى له عادة ظنّ ناشئ من هذا الخبر.

أمّا القسم الأوّل: فكما لو كان الشخص وهميّاً بحسب حالته النفسيّة، فيعتمد على اُمور وهميّة، فالرؤيا مثلاً تورث له الظنّ بالحكم، ففي مقام الكشف يوقع المعارضة بين الرؤيا وخبر الثقة، ويسقط خبر الثقة عن الكشف.

أو لم يكن وهميّاً في نفسه، ولكن أثّرت فيه اُمور خارجيّة أوجبت له عقدة نفسيّة، كما لو ابتلى صدفة في حياته بأخبار كاذبة كثيرة واردة من الثقات فحصلت له العقدة تجاه خبر الثقة، فأوجبت تلك العقدة إيقاعه للمعارضة بين خبر الثقة، وأدنى أمارة مخالفة بنحو ينتفي في نفسه الظنّ الناشئ من خبر الثقة.

نعم، لو فرض أنّ رؤيته لتلك الأخبار الكاذبة أوجبت تغيير موضوع حساب الاحتمالات في خبر الثقة في ذهنه، فبالرغم من أنّ الناس يعتقدون أنّ الثقة يصدق بمقدار تسعين من المئة ـ مثلاً ـ يعتقد هذا الشخص أنّه يصدق بمقدار سبعين من المئة، وأنّ كلّ مَن اطّلع على ما اطّلع عليه من كذب الثقات لصدّقه في

611

ذلك، فينتفي من نفسه الظنّ إذا تعارض خبر الثقة مع أمارة اُخرى تكشف أيضاً بمقدار سبعين من المئة، كان هذا خارجاً عمّا نحن فيه؛ إذ هو يعتقد أنّ زوال كاشفيّة هذا الخبر ليس بملاك خاصّ في نفس هذا الشخص، بل هو بملاك عامّ لو اطّلع عليه كلّ عاقل لصدّقه، وإنّما الكلام في المقام يكون فيما إذا فرض أنّه بالرغم من موافقته لسائر العقلاء في النسبة المئويّة لصدق خبر الثقة يختلّ في ذهنه تأثير حساب الاحتمالات، وينتفي الظنّ بالتعارض مع أدنى أمارة لأجل ماله من عقدة نفسيّة تجاه خبر الثقة ناشئة من اجتماع أخبار الثقات الكاذبة صدفة لديه، نظير العقدة النفسيّة التي قد تحصل للإنسان تجاه الطبيب بالرغم من علمه بإصابته للواقع غالباً، وذلك من ناحية ابتلائه صدفة في حياته الشخصيّة بأخطاء الأطبّاء.

وكما لو كانت حركة حساب الاحتمالات سريعة في ذهنه، فهذا قسم ثالث يوجب أيضاً انتفاء كشف خبر الثقة من نفسه بتعارضه مع بعض الأمارات من دون موافقة سائر العقلاء معه في ذلك، كما لو فرض أنّه أخبره ثقة بشيء، وسمع أيضاً همهمة من ثقة آخر مقترنة ببعض القرائن، فأوجب ذلك له الظنّ بأنّ هذا الثقة كذّب ذاك الثقة مع أنّ حساب الاحتمالات في ذلك لم يتوفّر بنحو يوجب هذا الظنّ في متعارف العقلاء، وكان ذلك بنحو أوجب انتفاء الظنّ من نفسه الحاصل من خبر الثقة الأوّل.

وقد نقل السيّد الاُستاذ عن بعض أنّه كان يحصل له القطع بالحكم الشرعيّ عن اتّفاق الشيخ الأنصاريّ، والسيّد ميرزا حسن الشيرازيّ، والشيخ ميرزا محمّد تقي الشيرازيّ على فتوى من الفتاوى، فنقول: إنّ هذا الشخص لو اطّلع على توافق اثنين من هؤلاء على فتوى حصل له الظنّ بالصحّة، فلو تعارض ذلك مع خبر الثقة فقد يسقط خبر الثقة في نظره عن الكشف.

وخلاصة الكلام: أنّه متى ما كان انتفاء الكشف في خبر الثقة بأمر من هذا

612

القبيل، أي: بالمعارضة لأمارة مّا بحسب حالة شاذّة لهذا الشخص، فهل يبقى خبر الثقة حجّة، أو لا ؟ التحقيق: بقاؤه على الحجّيّة، ولا نحتاج في ذلك إلى تكلّف إثبات انطباق السيرة على ذلك حتّى يناقش فيه أو لا يناقش، بل يكفينا إطلاق حديث «العمريّ وابنه ثقتان» ونحوه، وليست هناك قرينة على خلاف هذا الإطلاق: من ارتكاز عقلائيّ، فإنّ جعل الحجّيّة لخبر الثقة رغم تزاحمه بمثل هذه الأمارات لغلبة صدقه على صدقها إن لم يكن عليه ارتكاز العقلاء، فلا أقلّ من عدم الارتكاز العقلائيّ على خلافه.

وأمّا القسم الثاني: فكما لو تعارض خبر الثقة مع أخبار عديدة من غير الثقات، أو مع الشهرة، أو نحو ذلك من الأمارات الظنّيّة، ففقد ما كان له من الكشف بحسب نظر العقلاء، فعندئذ هل يكون هذا الخبر حجّة، أو لا ؟ تارةً يستشكل في حجّيّته ثبوتاً، واُخرى يستشكل فيها إثباتاً:

أمّا الإشكال الثبوتيّ: فبتقريب أنّ مبنانا في الأحكام الظاهريّة يكون على الطريقيّة لا السببيّة، وعليه فلا يعقل ثبوتاً جعل الحجّيّة لهذا الخبر؛ لأنّ جعلها له دون نقيضه ترجيح بلا مرجّح. وبكلمة اُخرى: إنّ ملاك الحجّيّة غير موجود في المقام؛ لأنّ ملاكها الكشف، وهو غير ثابت لهذا الخبر، فإنّ نسبة هذا الخبر ونقيضه إلى الواقع على حدّ سواء.

وأمّا الإشكال الإثباتيّ: فتقريبه أنّ الوثاقة كما عرفت اُخذت بما لها من الكشف لا بما هي حالة نفسيّة، ومع قطع النظر عن الكشف يصبح التعليل بالوثاقة تعليلاً تعبّديّاً صرفاً، والمفروض أنّ الخبر فيما نحن فيه غير كاشف بالفعل، واقتضاء الكشف غير الكشف.

وربّما يجاب عن الإشكالين بأنّ من الممكن افتراض أنّ المولى رأى أنّ الموافق للواقع في أخبار الثقات المعارضة للشهرة ـ مثلاً ـ أكثر من الموافق للواقع

613

في تلك الشهرات، فيعقل ثبوتاً جعله للحجّيّة لخبر الثقة المعارض للشهرة. كما ينتفي بذلك أيضاً الإشكال الإثباتيّ؛ لأنّ الكشف المأخوذ في الدليل يحمل على الكشف لدى المولى، فلو كان المولى يرى أنّ صدق خبر الثقة المعارض للشهرة أكثر من صدق الشهرة المعارضة له فالكشف ثابت في المقام، ولو اطّلع العبد على ذلك عرف كاشفيّة خبر الثقة.

ولا يرد على هذا التقريب: ما نقوله في بعض الأحيان: من أنّه ليس البناء على إعمال الغيب في مقام بيان الأحكام الشرعيّة، فإنّ ما قلناه إنّما هو بالنسبة للموضوعات الخارجيّة للأحكام، فلو قال السائل مثلاً: (هل أغتسل في هذا اليوم ؟) فقال الإمام: (نعم)، لم يحمل ذلك على أنّه(عليه السلام) كان يعلم بعلم الغيب بكونه مجنباً، فأمره بالغسل، إنّما يحمل على استحباب الغسل في ذلك اليوم. وأمّا بالنسبة لنفس الأحكام، وحدودها وملاكاتها التي يكون حسابها على المولى، فلابدّ للمولى من النظر إلى تمام الجهات ولو بإعمال الغيب حتّى يحكم.

كما أنّه لا يرد على هذا التقريب: أنّه بعد فرض تقيّد الحكم بالكاشفيّة يكون التمسّك هنا بالإطلاق تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، فإنّ إحراز الكاشفيّة بمعنى غلبة الصدق في نظر المولى غير متحقّق لنا، فكيف نتمسّك بالإطلاق ؟ أو إحراز ذلك من نفس الإطلاق فيستبطن الدور.

والجواب على ذلك من قبل صاحب هذا الوجه: أنّ هذا المخصّص اللبّيّ ـ مثلاً ـ أحرزه نفس المولى، فإطلاق كلامه كإطلاق قوله: (أكرم جيراني) الدالّ على عدم وجود عدوّ له في جيرانه، إذا علم أنّه لا يريد إكرام عدوّه.

ولكن التحقيق: أنّ هذا التقريب وإن دفع الإشكال الثبوتيّ، لكنّه لا يدفع الإشكال الإثباتيّ، فإنّ ظاهر الدليل كان هو أخذ الوثاقة بما لها من الكشف، فالكشف لابدّ أن يكون مستنداً إلى الوثاقة كي يدخل الخبر في إطلاق دليل حجّيّة

614

خبر الثقة، والكشف بالنحو الذي بيّن في هذا التقريب لا يكون ناشئاً من الوثاقة، وإنّما المفروض أنّ المولى اطّلع على هذه الأخبار فرأى أنّ موافقتها للواقع أكثر من موافقة الأمارة الاُخرى المعارضة له. أمّا لو فرضنا المولى إنساناً اعتياديّاً غير مطّلع على ذات الواقع، ومحتاجاً في الكشف إلى عنوان الوثاقة، فسوف لن يرى أنّ النسبة المئويّة في الصدق في جانب خبر الثقة المعارض للشهرة ترجّح على النسبة المئويّة في الصدق في جانب الشهرة المعارضة له.

والصحيح مع ذلك هو حجّيّة خبر الثقة وإن عارضته أمارة اُخرى غير حجّة فانتفى كشفه في مورده، فإنّه ليس في ذلك محذور ثبوتيّ ولا إثباتيّ: أمّا المحذور الثبوتيّ فيكفي في دفعه التقريب السابق. وأمّا المحذور الإثباتيّ ـ وهو أخذ الكشف في دليل الحجّيّة ـ فندفعه بتقريب جديد. وتوضيحه: أنّ خبر الثقة في نفسه كاشف باعتبارين:

الأوّل: كشفه باعتبار مورده الخاصّ، وهذا الكشف تنتفي فعليّته بالتعارض مع أمارة اُخرى مثله في درجة الظنّ، بل في الحقيقة إنّ تعبيرنا بأنّ هذا الخبر يقتضي الكشف ولكن لم يصل اقتضاؤه إلى مرحلة الفعليّة لوجود المانع مسامحة في الكلام، والواقع أنّه بهذه المعارضة ينتفي أصل المقتضي للكشف؛ إذ الكشف في الأمارات الظنّيّة قائم على أساس حساب الاحتمالات المرتكز على أساس العلم الإجماليّ، والوجه في حصول الكشف الظنّيّ هو ثبوت المنكشف على تقدير أكثر أطراف العلم الإجماليّ، كما لو فرضنا أنّ دواعي الصدق في الثقة ثلاثة، وداعي الكذب واحد، فإذا أخبرنا بخبر علمنا إجمالاً بتحقّق أحد الدواعي الأربعة، والعلم الإجماليّ ينقسم على أطرافه بالتساوي، فيحصل الظنّ بالصدق بقدر ثلاثة أرباع اليقين، ولنفرض أنّ الأمارة التي عارضت خبر الثقة ـ وهي الشهرة مثلاً ـ توجد أسباب ثلاثة لموافقتها للواقع، وسبب واحد لمخالفتها، فإذا دلّ الخبر على شيء،

615

ودلّت الشهرة على نقيضه كان لنا علمان إجماليّان أحدهما في جانب الخبر،والآخر في جانب الشهرة، وهما يتفاعلان في علم إجماليّ ثالث عدد أطرافه عبارة عن حاصل ضرب أطراف أحد العلمين في أطراف الآخر مع استثناء ما يتحصّل بالضرب من الصور غير المعقولة، وهذا العلم الإجماليّ الثالث هو الذي يقتضي تحديد قيمة الأطراف، وقد فرضنا في هذا المثال أنّ أطراف كلّ واحد من العلمين الأوّلين أربعة، فحاصل الضرب ستّة عشر، وفروض موافقة الشهرة والخبر في المطابقة للواقع أو المخالفة له غير معقولة؛ لأنّ المفروض تناقض مدلوليهما، فتستثنى ستّة فروض، ثلاثة منها في صالح الخبر، وهي فروض اجتماع أحد دواعي الصدق الثلاثة في الخبر مع سبب المخالفة للواقع في الشهرة، وثلاثة منها في صالح نقيض الخبر، وهي فروض اجتماع أحد الأسباب الثلاثة لموافقة الشهرة للواقع مع داعي الكذب في الخبر، فلم يبق هناك اقتضاء للكشف الظنّيّ للخبر، على شرح وتحقيق مربوط بأبحاث حساب الاحتمالات وليس هنا محلّه، فنقتصر على ما ذكرناه من الإشارة.

الثاني: كشفه باعتباره دخيلاً في تكوين العلم الإجماليّ بصدق مقدار خاصّ، فهو جزء الكاشف عن ذلك المقدار الخاصّ، توضيح ذلك: أنّنا نفترض أنّ لدينا مئة خبر من أخبار الثقات، وقد وقع التعارض بين مدلول خمسين منها ومدلول خمسين شهرة، ولا مانع ثبوتاً من جعل المولى الحجّيّة للأخبار المعارضة للشهرة، ولو من باب علمه تعالى بأنّ هذه الأخبار مطابقة للواقع دون ما يعارضها من الشهرة، لكن بحسب عالم الإثبات لم يثبت لنا عدا حجّيّة خبر الثقة الذي يكون لوثاقته كشف، ومعنى ذلك أنّنا نفرض المولى شخصاً متعارفاً يحتاج إلى الكشف من ناحية الوثاقة دون مولانا تبارك وتعالى العالم بكلّ شيء، فنرى أنّه هل تكون هذه الأخبار الخمسون للثقات لها جنبة كشف بالنسبة له، أو لا ؟ والجواب بالإيجاب؛ وذلك لأنّ العلم الإجماليّ بصدق عشرة من مئة ثقة ـ مثلاً ـ المستنتج بقانون

616

المنطق الذاتيّ تكون هذه الأخبار الخمسون جزء العلّة في تكوينه، وهذا الكشف له استناد إلى الوثاقة باعتبار أنّه لولا وثاقتهم لم يحصل العلم بصدق عشرة منهم.

ويتدخّل في تحقّق هذا العلم الإجماليّ المضعّف الكيفيّ، فلو استبدلنا هذه الأخبار الخمسين بالشهرات الدالّة على نقيضها لم يحصل ذلك العلم؛ لفقدان ما كان من المضعّف الكيفيّ، وهو وحدة سنخ الأمارات.

نعم، لو غضّ النظر عن المضعّف الكيفيّ ولوحظ ما يحصل من الظنّ بواسطة المضعّف الكمّيّ فنسبة حصول الظنّ إلى هذه الأخبار الخمسين ونقيضها المستفاد من الشهرات على حدّ سواء، ولا يفترق الكشف بالاستبدال. وبكلمة اُخرى: تتساوى نسبة هذه الأخبار ونقيضها إلى الواقع والكشف عنه، ولا نعني بعدم تأثير الخبر في الكشف عدا تساوي نسبته هو ونقيضه إلى الواقع، فيتمّ عندئذ الإشكال الإثباتيّ، وقد اتّضح بذلك أنّ الإشكال الإثباتيّ إنّما يتوجّه بقطع النظر عن المضعّف الكيفيّ، أمّا بالنظر إليه فلا يبقى موضوع للإشكال.

إن قلت: إنّ المضعّف الكيفيّ يؤثّر في تقوية ظنّ الصدق بالنسبة لكلّ واحد واحد من الأخبار، فيصير كلّ واحد من الأخبار الخمسين أرجح من الشهرة الدالّة على نقيضه، فيحصل الظنّ بصدق كلّ واحد بخصوصه، فلماذا سلّمتم عدم الكشف بالاعتبار الأوّل، أعني: اعتبار المورد؟!

قلت: نفرض قوّة كلّ واحدة من الشهرات في نفسها، أي: من جهات اُخرى خارجيّة بحيث يحصل التعادل بينها وبين خبر الثقة بما له من الكشف الإضافيّ الذي اكتسبه من المضعّف الكيفيّ(1).

 


(1) لا يخفى أنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عدل عن هذا الرأي في بحث الطهارة، فردّ ما اختاره هنا لدى تعرّضه لمسألة مطهّريّة ماء الورد بأنّ ظهور دليل الحجّيّة في الانحلال،

617


وملاحظة كلّ فرد فرد، وعدم فرض أفراد كثيرة في المقام، كلّ هذا دليل على أنّ الملحوظ هو كاشفيّة خبر الثقة في كلّ مورد مورد لا كاشفيّته باعتبار العموم المجموعيّ وتدخّله في تكوّن ذلك العلم الإجماليّ، فإطلاق دليل الحجّيّة قاصر عن الشمول للخبر المبتلى بالمزاحم في الكشف. هذا ما أفاده في ذاك البحث، ولكنّه لم يطبع في كتابه(رحمه الله)المسمّى بــ (بحوث في شرح العروة الوثقى).

أقول: إنّ هذا المقدار من البيان لم يكن كافياً للعدول عن مبنى القول بحجّيّة خبر الثقة المعارض بأمارة ظنّيّة غير حجّة، بل كان لابدّ أيضاً لكي يتمّ هذا العدول أن يبطل ما ذكره هنا: من الاستشهاد بالأخبار العلاجيّة.

وعلى أيّة حال، فالإشكال الذي أورده في بحث الطهارة على ما ذكره هنا متين. وحتّى لو غضضنا النظر عنه يمكن أن يقال: إنّ احتمال دخل إيراث الخبر للظنّ بصدق مورده، وهو الكشف الأوّل في حجّيّة الخبر وارد، ولو بنكتة أنّ الكشف الثاني في موارد الأخبار المظنونة الصدق أقوى، ولم يعلم ثبوت السيرة على عدم اشتراط ذلك في حجّيّة الخبر، ولم يعلم كون خبر ثقة من هذا القبيل كان كثير الابتلاء به في زمان الأئمّة(عليهم السلام)، كي يجري التقريب السابق لإثبات السيرة، ولم يعلم كون مثل قوله: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان» ظاهراً عرفاً في دخل الكشف الثاني فحسب دون الأوّل.

على أنّنا ننكر في المقام التفكيك خارجاً بين الكشفين بالمقياس الرياضي فهما متلازمان؛ إذ لو فرضنا أنّ تبديل الروايات الخمسين بالشهرات أعطى احتمال تواجد الواقع قوّة بجهات خارجيّة بقدر ما فقدنا القوّة الناتجة من المضعّف الكيفيّ، فالكشف الرياضيّ بالاعتبار الثاني أيضاً لم يختلف عنه عمّا قبل التبديل، إذن فنسبة هذه الأخبار ونقيضها إلى الكشف عن الواقع على حدّ سواء في كلا الاعتبارين، فبالتالي فقدنا الكشف

618


بكلا الاعتبارين. نعم، المضعّف الكيفيّ يمتاز بتأثيره في تولّد العلم الإجماليّ غير المطابق للحساب الرياضيّ بصدق عشرة مثلاً، ولكن حجّيّة خبر الثقة لم تكن قائمة على أساس تولّد هذا العلم أصلاً، فإنّ تأثير هذا العلم في الجعل الذي يكون على شكل القضيّة الحقيقيّة بعيد؛ لأنّه ليس ممّا يقرّب المولى إلى أهدافه الواقعيّة، وإنّما الذي يقرّبه إليها هو مقدار الكشف الرياضيّ.

فقد اتّضح: أنّ هذا الوجه المختار لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لحلّ الإشكال في المقام غير تامّ.

وقد اختار اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في دورته المتأخّرة القول بعدم حجّيّة خبر الثقة المعارض بأمارة أقوى منه غير حجّة على ما نقل عنه في تقرير السيّد الهاشميّ حفظه الله(1)، وذلك بدعوى عدم شمول السيرة العقلائيّة لمثل هذا الخبر؛ لأنّ الوثاقة التي هي ملاك الحجّيّة عقلائيّاً إنّما هي ملحوظة باعتبار الكشف المنكسر في المقام، وعدم تماميّة تقريب الاستدلال بسيرة المتشرّعة فيه، وانصراف السنّة اللفظيّة عنه. ولم يرد في تقرير السيّد الهاشميّ ردّ على الدليل الذي ذكره اُستاذنا في الدورة السابقة والذي ردّه في بحث الطهارة كما قلنا.

وبالإمكان أن يقال: إنّناقد فرغنا فيما سبق عن عدم ورود ما مضى: من الإشكال الثبوتيّ في المقام: من أنّ نسبة الكشف إلى مفاد الخبر ونقيضه على حدّ سواء، فلا يعقل ثبوتاً جعل الحجّيّة له التي هي بملاك الكشف والطريقيّة؛ وذلك لما مضى: من الجواب عليه بأنّ من الممكن افتراض أنّ المولى رأى أنّ الموافق للواقع في أخبار الثقات المعارضة للشهرة مثلاً أكثر من الموافق للواقع من تلك الشهرات، فيعقل ثبوتاً جعله للحجّيّة لخبر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع بحوث في علم الاُصول للسيّد الهاشميّ، ج 4، ص 426.

619


الثقة المعارض للشهرة. إذن لم يبق في المقام عدا الإشكال الإثباتيّ، وهو ما يستظهر من الدليل: من أنّ الوثاقة اُخذت بما لها من الكشف وقد انتفى الكشف في المقام بسبب المعارضة للشهرة.

وبالإمكان الجواب على هذا الإشكال بأنّ المفهوم من أخذ الوثاقة وإن كان عرفاً هو أخذها بما لها من الكشف عند النصّ، ولكن يكفي في إشباع هذا الاتّجاه العرفيّ في فهم الكلام ما لها من الكشف النوعيّ الثابت حتّى عند المعارضة للشهرة، فإنّ الذي ينتفي بمعارضة الشهرة ـ مثلاً ـ إنّما هو الظنّ الشخصيّ، وكذلك الظنّ النوعيّ بلحاظ مجموع الأمارتين المتعارضتين، أو قل: الظنّ النوعيّ، بمعنى كون الخبر مفيداً للظنّ لغالب الناس، ولكنّه على أيّ حال لم ينتف الظنّ النوعيّ بلحاظ ذات خبر الثقة بمعنى كون خبر الثقة غالباً مفيداً للظنّ، أو كونه في ذاته غالب المطابقة للواقع، ولا موجب لانصراف الإطلاق عن ذلك إلّا دعوى مخالفته للسيرة والارتكاز العقلائيّين. والواقع: أنّه لو كان دليلنا على حجّيّة خبر الثقة منحصراً بالسيرة لما أمكن حلّ الإشكال الإثباتيّ؛ لعدم وضوح ثبوت سيرة على حجّيّة خبر الثقة المعارض بأمارة غير حجّة تساويه أو تفوقه في الكشف، وبالتالي تكسر الظنّ الذي كان المفروض أن يتولّد ببركة الخبر، ولكن ليس هناك ارتكاز لعدم الحجّيّة أيضاً كي يسقط به إطلاق الدليل اللفظيّ. وتوضيح ذلك: أنّنا لو تكلّمنا في السيرة العقلائيّة، فصحيح أنّ السيرة العقلائيّة إن فسّرت بمعنى عملهم في معاشهم بخبر الثقة كان من الواضح عدم شمولها لخبر ثقة انكسر الظنّ الناشئ منه بمعارضته لأمارة اُخرى غير حجّة، ولكن حينما نفسّر السيرة العقلائيّة بمعنى أنّهم بما هم موالي يجعلون الحجّيّة لخبر الثقة، أو بمعنى أنّ المولويّات المجعولة من قِبَل العرف والعقلاء مجعولة في دائرة الأحكام الواصلة بخبر الثقة، فالسيرة العقلائيّة والارتكاز العقلائيّ بهذا المعنى إن لم

620

وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه: أنّ خبر الثقة حجّة ولو كان معارضاً لأمارة اُخرى غير حجّة أوجبت انتفاء كشفه.

ويؤيّد ذلك بعض الأخبار العلاجيّة، حيث جاء فيه الترجيح بموافقة الكتاب، وبعد فرض التساوي من هذه الناحية بمخالفة العامّة، فإنّ هذا دليل على أنّ الخبر المخالف للكتاب كان في نفسه حجّة حتّى في فرض تعارضه مع الخبر الموافق


يكونا قائمين على حجّيّة خبر الثقة المعارض لأمارة غير حجّة مساوية له في الكشف أو أقوى منه كما هو الحال في حجّيّة الظهور، فلا إشكال في عدم استبعاد العقلاء لحجّيّة هذا النوع من الخبر كاستبعادهم لحجّيّة التفاؤل، والقرعة، والاستخارة، كي يمنع ذلك عن انعقاد الإطلاق للدليل اللفظيّ.

وأمّا سيرة أصحاب الأئمّة فاكتشاف ثبوتها على حجّيّة خبر الثقة المعارض للأمارة غير الحجّة المساوية له في الكشف أو الأقوى منه بالتقريب الذي مضى عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في إثبات السيرة على أصل حجّيّة خبر الثقة مشكل؛ لعدم وضوح كثرة الابتلاء وقتئذ بخبر ثقة من هذا القبيل كي يتمّ هنا ذاك التقريب.

فتحصّل إلى هنا: أنّ هذا التقريب لحلّ الإشكال في المقام كفيل بحلّ الإشكال الإثباتيّ بلحاظ الدليل اللفظيّ لا بلحاظ السيرة، ونضمّ هذا التقريب إلى ما مضى: من الجواب على الإشكال الثبوتيّ، كي ندفع بمجموعهما الإشكال الثبوتيّ والإثباتيّ معاً.

هذا. ولكن الظاهر أنّ دعوى انصراف دليل حجّيّة خبر الثقة عن خبر معارض بأمارة عقلائيّة تسقط كشفه متين، فإنّ المترقّب من العقلاء هو أنّهم لو أرادوا جعل الحجّيّة لخبر الثقة فإنّما يجعلونها في غير هذا المورد، وهذا يكفي للانصراف (بلا حاجة إلى افتراض ارتكاز عدم الحجّيّة كالارتكاز الثابت في التفاؤل والاستخارة)، فإنّ المفهوم عرفاً وعقلائيّاً من دليل الحجّيّة: أنّ الحجّيّة جعلت بنفس النكتة التي لو كان العقلاء يجعلون الحجّيّة لكانوا يجعلونها بتلك النكتة.

621

للكتاب، وترجيح الثاني عليه بموافقة الكتاب، مع أنّ الخبر المخالف للكتاب بمثلالتخالف العموميّ أو الإطلاقيّ ينتفي غالباً كشفه بمعارضته لكشف العموم أو الإطلاق الكتابيّ(1).

وإن لم نسلّم دعوى هذه الغلبة بنحو يوجب الاستشهاد على المطلوب بهذا التقريب أمكننا تأييد المطلوب بهذا الحديث بتقريب آخر، وهو: أنّ هذا الحديث دلّ على أنّه إذا كان أحد المتعارضين موافقاً للكتاب وللعامّة، والآخر مخالف للعامّة وللكتاب قدّم الأوّل على الثاني. فالأوّل في هذا الفرض حجّة مع أنّه معارض بما يساويه في الكشف عادةً أو يتقارب منه؛ إذ الأوّل وإن كان مؤيّداً في قبال الثاني بموافقة الكتاب ومخالفة الثاني له، لكن الثاني أيضاً مؤيّد في قبال الأوّل بمخالفته للعامّة وموافقة الأوّل له، فهاتان أمارتان متساويتان تقريباً(2).

على أنّنا نقول: إنّ ظاهر(3) كلام الإمام(عليه السلام) في هذا الخبر عرفاً هو أنّ كلّ واحد من الخبرين بالرغم من ابتلائه بالمعارض فيه اقتضاء الحجّيّة بحيث لو أمكن جعلهما معاً حجّة لجعلا حجّة، ولكنّه لا يمكن ذلك، فجعلت الحجّيّة مختصّة


(1) هذا غير واضح بعد فرض قيام ديدن الشريعة على التخصيص والتقييد، أو فرض كون هذا جمعاً عرفيّاً، أمّا لو لم نفرض هذا ولا ذاك فقد بطل أصل الجمع بالتخصيص والتقييد، وصار حال المخصّص والمقيّد حال المعارض بالتباين.

(2) قد يقال: إنّه إن تمّ استظهار تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامّة فقد يكون هذا بنفسه شاهداً على أنّهم(عليهم السلام) كانوا يرون أماريّة موافقة الكتاب أقوى من أماريّة مخالفة العامّة.

(3) هذا الاستظهار عندي غير واضح.

622

بأحدهما المرجّح بموافقة الكتاب أو مخالفة العامّة(1).

وليس هذا الخبر بنفسه مبتلى بالمعارضة، كي تكون حجّيّته بنفسه محطّاً لهذا البحث، فلا بأس بالاستشهاد به لمحلّ الكلام.

بقي هنا شيء، وهو: أنّه قد تكثر من قِبَل ثقة الأخبار المعارضة لأمارات اُخرى والروايات المستبعد صدورها من الإمام، وقد ظهر ممّا مضى أنّ خبر الثقة حجّة ولو لم يحصل الظنّ منه لمعارضته لأمارة اُخرى، بل ولو حصل الظنّ بخلافه، لكنّنا نقول هنا: إنّه قد يسقط بحسب مقام الإثبات عن درجة الوثاقة بكثرة ابتلاء أخباره بهذا البلاء، توضيح ذلك: أنّه إن فرض ثبوت وثاقته لنا بالمباشرة بحساب الاحتمالات فقد يقع التزاحم بين ذاك الحساب والحساب الناشئ من ملاحظة هذه الأخبار العجيبة المستبعد مطابقتها للواقع بنحو يختلّ الحساب الأوّل في التأثير، وإن فرض ثبوت وثاقته لنا بمثل شهادة الشيخ أو النجاشيّ(قدس سرهما)، فإن احتملنا أنّ الشيخ أو النجاشيّ كان في شهادته مستنداً إلى حساب للاحتمالات غالب على هذا الحساب الناشئ من ملاحظة هذه الأخبار منه بنحو يوجب العلم بالوثاقة، بحيث لو اطّلعنا على ذاك الحساب لوافقنا على ما يقوله الشيخ أو


(1) هذا التقريب للتمسّك بخبر الترجيح والتقريب الأوّل لو تمّا يأتيان أيضاً في مقبولة عمر بن حنظلة، بينما التقريب الثاني ـ وهو أقوى التقريبات ـ يختصّ بما ينظر إليه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، وهو ما دلّ على تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامّة، ولا يأتي في مثل مقبولة عمر بن حنظلة غير الدالّة على الترتيب بين المرجّحين، ويأتي احتمال كون المقبولة ناظرة إلى افتراض كون ما فيه الترجيح هو المحتفظ رغم المعارضة بكشفه دون ما ليس فيه الترجيح، ولذا جعلت الحجّيّة له لا لمعارضه.

623

النجاشيّ، كان قوله حجّة، وإن اطمأننّا بخلاف ذلك ـ كما هو كذلك عادةً ـ(1)ورأينا أنّ شهادته إمّا ناشئة من عدم اطّلاعه على هذه الأخبار منه، أو غفلته عن هذه النكتة التي حتّى الآن لم تكن ملتفتاً إليها في علم الاُصول، أو تقديمه لذاك الحساب على هذا الحساب باجتهاد غير صحيح عندنا، سقط قوله عن الحجّيّة. وبهذا البيان الذي ذكرناه يسقط بعض المشهودين بوثاقتهم في علم الرجال عن الوثاقة.

 

الخبر الموثوق به بغير وثاقة الراوي:

الجهة السادسة: في أنّه هل يكون الخبر الموثوق به من غير ناحية وثاقة الراوي حجّة، أو لا ؟

وبما أنّ عنوان الموثوق به الوارد في كلامهم لدى الحكم بالحجّيّة فيه شيء من الغموض والإجمال نشقّق المطلب، فنقول: لو كان المراد بالوثوق الاطمئنان الشخصيّ فلا إشكال في حجّيّة الخبر الموثوق به لا بما هو خبر اطمئنانيّ، بل بنفس عنوان الاطمئنان، أي: أنّ الاطمئنان حجّة ولو نشأ من شيء آخر غير الخبر.

وإن كان المراد الاطمئنان النوعيّ فهذا العنوان الضخم مرجعه بحسب التدقيق الفنّيّ إلى كون أمارة مّا لو خلّيت وطبعها لأفادت الاطمئنان بحساب الاحتمالات، ولكن لمزاحمة أمارة اُخرى له أوجبت تغيير الحساب زال الاطمئنان ولم تفد إلّا الظنّ أو الشكّ، فمعنى إفادتها للاطمئنان النوعيّ أنّه لو لم يكن مبتلى بالمزاحم لأفاد الاطمئنان. وبهذا التحليل يسقط عنوان الاطمئنان


(1) لعلّ منشأ هذا الاطمئنان هو أنّ الشاهد لم يكن معاصراً للمشهود له ومعاشراً له، والمشهود له ليس من قبيل زرارة وأضرابه، إضافة إلى ما اُشير إليه في المتن: من أنّ هذه النكتة على ما يبدو كانت مغفولاً عنها حتّى الآن.