330

وعلى أىّ حال، فهذه الأخبار لا تدلّ على مدّعى المحقّق النائينىّ(رحمه الله) من جعل الطريقيّة، بل إمّا تدلّ على جعل الحكم التكليفىّ، أو لا تدلّ على لسان خاصّ أصلاً.

وقد تلخّص من تمام ما ذكرناه: أنّ مبنى المحقّق النائينىّ(رحمه الله) ـ من جعل الطريقيّة الذي فرّع عليه اُموراً كثيرة: من تقديم الأمارات على الاُصول، وقيام الأمارة مقام كلا قسمي القطع، وغير ذلك ـ ممّا لا أساس له، ولم يدلّ عليه دليل أصلاً.

 

وفاء لسان الحجّيّة بالقيام مقام القطع

البحث الثالث: في أنّ اللسان المفروض في البحث الثاني هل يفي بقيام الأمارات والاُصول مقام كلا قسمي القطع، أو لا؟ ولنا هنا كلامان: كلام في نفسه، وكلام مع المحقّق النائينىّ(قدس سره).

أمّا الأوّل: فهو أنّ العبارات الواردة في أدلّة الحجّيّة ليس فيها ما يفي بقيامها مقام كلا قسمي القطع لا في باب الاُصول ولا في باب الأمارات:

أمّا الاُصول: ففي مثل البراءة الأمر واضح لا غبار عليه، والاستصحاب سيأتي تحقيق الحقّ فيه في محلّه ممّا يتّضح به عدم قيامه مقام القطع الموضوعىّ(1).

وأمّا الأمارات فليس فيما مضى من الطوائف الثلاث ما يمكن أن يقال بدلالته على قيامها مقام القطع بكلا قسميه عدا ما ورد من قوله(عليه السلام): «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا، قد عرفوا بأنّا نفاوضهم سرّنا، ونحملهم إيّاه إليهم» فيمكن أن يقال: إنّ هذا يدلّ على حرمة إظهار الشكّ من حيث العمل فيما يرويه الثقات، ووجوب ترتيب أثر العلم، وعدم الشكّ، وهذا بإطلاقه شامل لكلا قسمي الأثر العقلىّ والشرعىّ بالبيان الماضي عند الحديث عمّا أفاده المحقّق الخراسانىّ(قدس سره).

إلّا أنّ هذا الحديث لو راجعنا سنده فظهر صحّته(2)، يكفيه عدم تماميّته من حيث الدلالة على أصل الحجّيّة؛ فإنّ الظاهر من ذيل الحديث: أنّه ليس المقصود بالثقات مطلق


(1) لو فسّر اليقين والشكّ في رواية الاستصحاب: بمعناهما الاستقلالىّ والمطابقىّ، لأصبحت دليلاً على قاعدة اليقين لا الاستصحاب، ولو فسّرا بمعنى المتيقّن والمشكوك ـ وهو الملائم لمورد الرواية ـ إذن لم تدلّ على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعىّ.

(2) يوجد في سنده علىّ بن محمّد بن قتيبة وأحمد بن إبراهيم المراغىّ، ولم تثبت وثاقتهما. والحديث موجود في وسائل الشيعة 27 / 49 ـ 50، باب 11 من صفات القاضي، الحديث 40.

331

ثقاة الشيعة، بل المقصود ثقاته هو بمعنى الأشخاص الخاصّين الذين وثق بهم، واعتمد عليهم خارجاً في مفاوضة السرّ والوساطة بينه وبين الشيعة في إيصال أوامره إليهم، فالحديث أجنبىّ عن حجّيّة خبر الثقة. هذا مع قطع النظر عمّا مضى من احتمال كون ذلك إرشاداً إلى أهميّة الحكم.

وأمّا الثاني: فهو أنّ المحقّق النائينّي(رحمه الله) حيث قد اختار فيما مضى من البحث الثاني أنّ الأمارة جعلت علماً، واعتبرت طريقاً بالتعبّد، اختار هنا قيامها مقام كلا قسمي القطع؛ لأنّ القطع الموضوعىّ ـ أيضاً ـ قطع، وقد افترضنا أنّ الأمارة جعلت من قبل الشارع قطعاً، فيترتّب عليها آثار القطع الموضوعىّ أيضاً.

أقول: إنّ شمول الدليل لموارد القطع الموضوعىّ وعدمه موقوف على مطلب في مبحث الحكومة لم يظهر لنا مختار المحقّق النائينىّ(قدس سره) فيه.

توضيح ذلك: أنّ المحقّق النائينىّ قد صرّح في كلماته بأنّ الحكومة تارة تكون بلحاظ عقد المحمول، كما في قاعدة لا ضرر ولا حرج، واُخرى بلحاظ عقد الموضوع، كما في لا شكّ لكثير الشكّ، ولا ربا بين الوالد وولده، والطواف في البيت صلاة. وصرّح ـ أيضاً ـ بالنسبة إلى القسم الأوّل بأنّ الحكومة تكون فيه بملاك النظر، وأمّا بالنسبة إلى القسم الثاني، فهل الحكومة تكون فيه بملاك النظر مطلقاً، فلو قال ـ مثلاً ـ: «العصير العنبىّ خمر، فهو حرام»، لم تثبت نجاسته بذلك إن لم تكن قرينة على كونه ناظراً في هذا الكلام إلى مسألة النجاسة أيضاً، وإنّما تتمّ الحكومة في فرض ثبوت قرينة على النظر ولو كانت تلك القرينة هي الإطلاق في مورد تمّت مقدّماته، أو لا تكون بملاك النظر مطلقاً، فنثبت الحكومة حتّى مع عدم النظر، أو أنّ هناك تفصيلاً في المقام؟ لم يظهر بنحو الجزم مختاره(قدس سره) في ذلك في تمام كلماته بالنسبة إلى الحكومة في موارد كثيرة متفرّقة، وبعض كلماته تشهد للقول بالحاجة إلى النظر، وبعضها تشهد للخلاف، ولا يستفاد منها شيء محصّل في ذلك. ويأتي منّا ـ إن شاء الله ـ تحقيق ذلك في محلّه.

ونقول هنا: إنّه إن لم نشترط النظر في الحكومة في عقد الموضوع، كان قوله ـ مثلاً ـ: «خبر الواحد علم» حاكماً على أدلّة أحكام العلم الموضوعىّ، كما أنّه حاكم على أدلّة

332

أحكام ما تعلّق به العلم، وأمّا إذا اشترطناه فيها، فلا تتمّ الحكومة فيما نحن فيه؛ لعدم قيام قرينة على النظر إلى أحكام القطع الموضوعىّ، ولا يصحّ جعل الإطلاق قرينة على ذلك.

وتوضيح ذلك: أنّ قول الشارع: «الأمارة علم» تارة يفرض بمعنى التنزيل منزلة العلم في الآثار، وعندئذ لا إشكال في استفادة الإطلاق من كلامه بلحاظ الآثار؛ إذ ترتّب الآثار مدلول مطابقىّ لكلامه، ويجري الإطلاق بلحاظ المدلول المطابقىّ، لكنّ هذا خلاف فرض جعل الطريقيّة.

واُخرى يفرض بمعنى اعتبار الأمارة علماً على نحو مجاز السكّاكىّ (وهذا هو المفروض في جعل الطريقيّة)؛ فإنّ المدلول المطابقىّ للكلام من اعتبار الأمارة علماً لا شكّ فيه كي يتمسّك بالإطلاق، وما فيه الشكّ من ترتّب آثار القطع الموضوعىّ وعدمه ليس مدلولاً مطابقيّاً للكلام، وإنّما يستفاد ترتّب الآثار بالنظر الذي صار منشأً لجعل الطريقيّة واعتبار الأمارة علماً، فهو تابع سعة وضيقاً لدائرة ذلك النظر، وهو ليس مدلولاً مطابقيّاً للكلام حتّى تثبت سعته بالإطلاق.

هذا في أمارة وردت في مورد كان للعلم فيه أثران: أثر القطع الطريقىّ، وأثر القطع الموضوعىّ، وأمّا في أمارة وردت في مورد لم يكن له إلّا أثر القطع الموضوعىّ، فيمكن أن يقال: إنّ النظر إلى أثر القطع الموضوعىّ لم يكن مدلولاً مطابقيّاً، لكنّه ملازم لما هو مدلول مطابقىّ، وهو اعتبار هذه الأمارة علماً؛ إذ لولاه لكان هذا الاعتبار لغواً، فنثبت هذا الاعتبار بالإطلاق، ويدلّ ذلك بالملازمة على ترتّب أثر القطع الموضوعىّ.

ولكنّ التحقيق: عدم تماميّة هذا الإطلاق؛ وذلك لأنّ كلّ إطلاق مقيّد ـ بتقييد لبّيّ كالمتّصل ـ بثبوت الأثر، وثبوت الأثر هنا موقوف على النظر، فلا يمكن إثبات النظر بنفس الإطلاق، ولا يمكن الاستدلال على ثبوت الأثر بالإطلاق؛ لأنّه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة(1).

 


(1) والصحيح: أنّ أصل فرض كون الجعل والاعتبار موجباً لسريان الأثر الذي موضوعه هو الفرد الوجدانىّ إلى الفرد الاعتبارىّ غير صحيح ما لم يرجع إلى التنزيل، أو يفرض أنّ الموضوع من أوّل الأمر كان هو

333

تنبيهات

وينبغي التنبيه على اُمور:

الأوّل: لا إشكال في أنّ حكومة دليل حجّيّة الأمارة على أدلّة أحكام ما تعلّق به العلم إنّما تكون بلحاظ مرحلة التنجيز من دون تحقّق توسعة وضيق في مرحلة الواقع، ومن هنا لا بأس باستعمال مصطلح الحكومة الظاهريّة في المقام، بأن يقال: إنّ حكومة الأمارات على الأحكام الواقعيّة بالنسبة إلى قيامها مقام القطع الطريقىّ حكومة ظاهريّة.

وأمّا حكومة دليل حجّيّة الأمارات على أدلّة أحكام القطع الموضوعىّ لو قلنا بها، فليست حكومة ظاهريّة، وإن كان ذلك ظاهر كلام المحقّق النائينىّ(رحمه الله) وصريح كلام المحقّق الإصفهانىّ(قدس سره). فإذا قامت الأمارة على حياة ولد زيد مع فرض حكم الشارع على زيد بالتصدّق عند العلم بحياته(1)، لم يكن وجوب التصدّق الثابت له حكماً ظاهريّاً، بل هو حكم واقعىّ، ويكون موضوع وجوب التصدّق واقعاً أعمّ من علمه بحياة ولده وقيام


الجامع بين الفرد الوجدانيّ والفرد التعبّديّ. فإذا فرض الأوّل، كفانا إطلاق التنزيل لو كان الدليل لفظيّاً فيه إطلاق، وإذا فرض الثاني، لم نحتج في الحكومة إلى النظر، وإن لم يفرض لا هذا ولا ذاك، لم تقم الأمارة مقام القطع الموضوعىّ.

(1) كنت قد كتبت العبارة هنا هكذا: (فإذا قامت أمارة على حياة ولد زيد الناذر للتصدّق عند العلم بحياته)، ثُمّ قرأتها بحضور اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، فأمرني بتبديلها إلى ما هو موجود فعلاً في المتن. وذكر في وجه ذلك: أنّ مثال النذر وقع في كلام الشيخ الأعظم(قدس سره)، لكنّ التحقيق: أنّه بناء على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعىّ لا تقوم مقامه في باب النذر؛ وذلك لأنّ الموضوع لجعل الناذر إنّما هو القطع بحياة ولده، والشارع أمضى في دليل وجوب الوفاء بالنذر نفس ما جعله الناذر على نفسه، أي: جعل مثل جعله عليه، ولا معنى لحكومة دليل حجّيّة الأمارة على جعل الناذر، ولاعلى جعل الشارع: أمّا الأوّل فلأنّه لا معنى لحكومة كلام شخص على كلام جاعل آخر، وأمّا الثاني فلأنّ المفروض أنّ جعل الشارع في دليل الوفاء بالنذر إنّما كان بعنوان إمضاء جعل الناذر وبعنوان إيجاب الوفاء بالنذر، فالحكومة على هذا الجعل إنّما تكون بتبع الحكومة على جعل الناذر ونذره التي قد عرفت عدمها. نعم، لو ورد دليل على أنّ التصدّق عند قيام الأمارة على حياة الولد وفاء بالنذر تعبّداً، قلنا بوجوبه، لكنّ هذا غير ما هو المفروض في المقام: من أنّ الدليل إنّما دلّ على أنّ الأمارة القائمة على حياة الولد علم، فهذا إنّما يحكم على دليل وجوب الوفاء بالنذر بتبع حكومته على نذر الناذر، وقد قلنا: إنّ حكومته على نذر الناذر غير معقولة، فبالتالي لا تعقل حكومته على دليل وجوب الوفاء بالنذر؛ إذ لم يفرض التصدّق في هذا الدليل وفاءً بالنذر.

334

الأمارة عنده على حياته؛ إذ لو لم نفترض أنّ صورة قيام الأمارة على حياة الولد من دون علم بالحياة قد خرجت واقعاً من موضوع عدم وجوب التصدّق، ودخلت في موضوع وجوب التصدّق، لزم من ذلك أن يكون الحكم الواقعىّ ـ لمن لم يعلم بحياة ولده، ولكن قامت عنده الأمارة على حياة ولده ـ هو عدم وجوب التصدّق، وهذا الحكم واصل إليه بالقطع واليقين؛ لأنّ موضوعه ـ وهو عدم العلم ـ ثابت له وجداناً، فكيف يعقل جعل الحكم الظاهرىّ بشأنه؟!

ويمكن هنا فرض إشكال على ما ذكرناه: من دعوى الحكومة الواقعيّة، وهو: أنّهم ملتزمون بسقوط الأمارتين وكذا الأصلين عند العلم الإجمالىّ بكذب أحدهما، بلا فرق بين ما يترتّب عليها من آثار القطع الطريقىّ وما يترتّب عليها من آثار القطع الموضوعىّ، في حين أنّه لو كانت الحكومة بلحاظ آثار القطع الموضوعىّ واقعيّة، يلزم عدم سقوطهما بهذا اللحاظ؛ إذ محذور جعل الحجّيّة لكليهما هو لزوم طرح الحكم المعلوم بالإجمال، وهذا المحذور منتف بالنسبة إلى آثار القطع الموضعىّ بناءً على كون الحكومة واقعيّة؛ لأنّ الحكومة الواقعيّة تصرّف في نفس دائرة موضوع الحكم الواقعىّ، فلا يلزم طرح حكم أصلاً، في حين أنّ هذا خلاف ما هو المسلّم عندهم.

والتحقيق في المقام: أنّنا بالنسبة إلى الاُصول نلتزم بذلك ولا نتحاشى منه؛ لأنّ الاُصول إنّما تتساقط في أطراف العلم الإجماليّ للزوم طرح حكم إلزامىّ، فلا بأس بجريانها إذا لم يلزم من ذلك طرح حكم إلزاميّ، سواء لزم منه طرح حكم غير إلزاميّ، كما في مستصحبي النجاسة مثلاً، أو لم يلزم منه طرح حكم أصلاً، كما في المقام. وتحقيق ذلك يأتي في محلّه إن شاء الله.

وأمّا بالنسبة إلى الأمارات، فالمحذور الموجب للتساقط إضافة إلى لزوم طرح الحكم الإلزامىّ هو التكاذب الناتج عن حجّيّة مثبتات الأمارات والموجب لعدم إمكان الجمع بينهما، وهذا يثبت حتّى في غير موارد الحكم الإلزامىّ، ولكن بالنسبة إلى آثار القطع

335

الموضوعىّ بالإمكان أن يقال: لا محذور في الجمع بين التعبّدين: بأن يتعبّد الشخص بكونه عالماً بكذا، ويتعبّد بكونه عالماً بخلافه ـ أيضاً ـ على حسب اختلاف الأمارتين.

والتحقيق هنا: التفصيل بين ما إذا كان علمه بكذا موضوعاً لحكمه، وعلمه بخلافه موضوعاً لخلاف ذلك الحكم، فعندئذ يقع التعارض والتساقط، وما إذا لم يكن كذلك، فنلتزم بعدم التساقط بالنسبة إلى آثار القطع الموضوعىّ(1).

الثاني: تترتّب على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعىّ وعدمه ثمرات، لذكر كلّ واحد منها موضع خاصّ في الاُصول، إلّا أنّ هنا ثمرة لم يذكروها في موضع من مواضع الاُصول، فنحن نذكرها هنا: وهي عبارة عن جواز أو عدم جواز إسناد الحديث إلى الإمام مع عدم العلم بصدقه. والوجه في عدم الجواز أحد أمرين:

الأوّل: حرمة الكذب بمعنى الخبر المخالف للواقع، فنحن نعلم إجمالاً بأنّ هذا الإسناد أو نفيه كذب.

والثاني: حرمة إسناد ما لم يعلم أنّه من الشارع إليه، وهذا عنوان آخر غير الكذب، وهو المصطلح عليه بالتشريع؛ فإنّه أحد قسمي التشريع، وهو التشريع القولىّ في قبال التشريع العملىّ.

أمّا تطبيق حرمة الكذب على المقام وعدمه، فليس متفرّعاً على قيام الأمارات مقام القطع الموضوعىّ وعدمه، وإنّما هو متفرّع على حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات وعدمه، فالخبر الذي ينقل شيئاً عن الإمام(عليه السلام) يدلّ بالملازمة على أنّ إسناد ذلك الشيء إلى الإمام ليس كذباً، وهذا إخبار في الموضوعات، فبناءً على حجّيّة خبر الواحد في


(1) لايخفى أنّنا إن تصوّرنا القطع الموضوعىّ المأخوذ على وجه الكاشفيّة بالمعنى الذي احتملنا أن يكون مراد الشيخ الأعظم(رحمه الله): وهو أن يكون موضوع الحكم ابتداءً جامع الحجّة، أو جامع الكاشف الشامل للفرد التعبّديّ، فمتى ما تمّ التساقط بالنسبة إلى آثار القطع الطريقىّ، كان التساقط بالنسبة إلى آثار القطع الموضوعىّ واضحاً؛ إذ مع فرض التساقط بالنسبة إلى آثار القطع الطريقىّ لم تتمّ الحجّة أو الكاشف كي يكون موضوعاً لآثار القطع الموضوعىّ.

336

الموضوعات يثبت عدم انطباق حرمة الكذب في المقام، وبناءً على عدم حجّيّته فيها يأتي في المقام إشكال حرمة الكذب.

وأمّا تطبيق حرمة التشريع القولىّ على المقام وعدمه، فهو متفرّع على ما نحن فيه؛فإنّ إسناده إلى الإمام إسناد إليه بغير علم تكويناً، فإن قلنا بقيام الأمارة مقام العلم الموضوعىّ، فإسناده إليه إسناد عن علم تعبّديّ، فتنتفي الحرمة بهذا العنوان، وإلّا ـ كما هو الصحيح ـ ثبتت حرمة التشريع في المقام. وعلى هذا فلا يجوز إسناد شيء ممّا ورد في أخبارنا من خصوصيّات الصراط ـ مثلاً ـ والجنّة والنار وغير ذلك من الاُمور إلى الإمام(عليه السلام) ما لم يكن متواتراً عنه(عليه السلام)(1).

الثالث: لو قلنا بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعىّ، فكما يترتّب عليها آثار العلم، وينتفي بها آثار عدم العلم، هل يترتّب عليها ـ أيضاً ـ آثار عدم الشكّ، وينتفي عنها آثار الشكّ، أو لا؟

الظاهر من كلام المحقّق النائينىّ(رحمه الله): هو ذلك.

والتحقيق في المقام: أنّ مجرّد قيام الأمارة مقام العلم الموضوعىّ لا يكفي في انتفاء آثار الشكّ بها؛ فإنّ الشكّ ليس عبارة عن عدم العلم مفهوماً وإن كان مساوقاً له مورداً،وإنّما هو أمر وجودىّ في مقابل العلم، وهو حالة نفسيّة خاصّة من الترديد والتحيّر، كما أنّ العلم ـ أيضاً ـ حالة نفسيّة خاصّة، فنحتاج في نفي آثار الشكّ بها إلى أحد أمرين:

الأوّل: أن يستظهر ذلك من الدليل في عرض استظهار ترتّب آثار العلم عليها.

والثاني: أن تدّعى الملازمة العرفيّة بين ترتّب أثر العلم تعبّداً وانتفاء أثر الشكّ تعبّداً، فبمجرّد استظهار أحدهما من الدليل يستفاد الآخر بالملازمة.


(1) أمّا الإخبار عن تلك الخصوصيّة من دون نسبتها إلى الإمام، فحرمته ـ من ناحية حرمة الكذب ـ وعدمها فرع حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات وعدمها، كما عرفت. وحرمته من ناحية حرمة الإخبار بغير علم فرع مجموع أمرين:

الأوّل: أن نقول: إنّ الحرمة لا تختصّ بالإسناد إلى الإمام بغير علم، بل تشمل مطلق الإخبار بغير علم.

والثاني: أن نقول بعدم قيام الأمارة مقام العلم الموضوعىّ.

337

 

3 ـ قيامها مقام القطع الموضوعىّ الصفتىّ

 

المقام الثالث: في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الموضوعىّ المأخوذ على وجه الصفتيّة وعدمه.

لا إشكال في عدم قيامها مقامه بناءً على ما اخترناه: من عدم قيامها مقام القطع الموضوعىّ المأخوذ على وجه الكاشفيّة؛ إذ ليس المفروض ورود دليل خاصّ على قيامها مقام الموضوعىّ الصفتىّ، وإنّما الكلام يقع في أنّ نفس دليل قيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ لو آمنّا به هل يتكفّل بقيامها مقام الموضوعىّ الصفتىّ ـ أيضاً ـ أو لا؟

أفاد المحقّق النائينىّ(رحمه الله): أنّ دليل حجّيّة الأمارة إنّما دلّ على اعتبار الكاشفيّة فيها، فهي إنّما تقوم مقام القطع الطريقىّ والقطع الموضوعىّ المأخوذ على وجه الكاشفيّة، دون القطع المأخوذ على وجه الصفتيّة.

وبكلمة اُخرى: أنّ دليل حجّيتها إنّما أعطاها تعبّداً جنبة الكشف دون جنبة الصفة الخاصّة.

ويرد عليه: ما مضى من أنّ الكشف بنفسه هو القطع، فلامعنىً لتقسيم القطع الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ بهذا النحو حتّى يقال: إنّ الدليل إنّما دلّ على قيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ دون الصفتىّ.

والتحقيق في المقام: أنّه لابدّ من كون تقسيم القطع الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ بما مضى منّا من أحد الوجهين: (العرفىّ، والدقّىّ الفنّىّ). وعندئذ فإن كان الدليل المدّعى دلالته على قيامها مقام القطع المأخوذ على وجه الكاشفيّة عبارة عن السيرة العقلائيّة، فلابدّ في تحقيق البحث هنا من النظر إلى أنّ السيرة هل هي قائمة في كلا الموضعين، أو لا ؟ وهذا راجع إلى من يدّعي هذه السيرة بالنسبة إلى القطع الموضوعىّ الطريقىّ. أمّا نحن فلا نرى سيرة في المقام حتّى ننظر إلى عموميّتها أو اختصاصها بالموضوعىّ

338

الطريقىّ، ولكن مع ذلك نقول ـ على فرض تسليم السيرة ـ: إنّه إن اختير في مقام تقسيم القطع الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ الوجه الثاني الذي قلنا: إنّه دقّيّ عقلىّ، وهو الفرق بين عنوان (له) وعنوان (فيه)، فبما أنّ هذا وجه دقّيّ لا يلتفت إليه العرف نقول: إنّ مقتضى ما هو المناسب لحالة العقلاء المتعارفين عموميّة سيرتهم لكلا القسمين؛ لعدم خصوصيّة في نظرهم بالنسبة إلى أحدهما.

ولو اختير في مقام التقسيم الوجه الأوّل الذي هو وجه عرفىّ، فقيامها مقام القطع الصفتىّ بحاجة إلى مؤونة زائدة: وهي ثبوت السيرة بلحاظ تلك الخصوصيّة الملازمة للقطع إضافة إلى ثبوت السيرة بلحاظ ذات القطع، فتسليم السيرة بلحاظ ذات القطع لا يستلزم تسليمها بلحاظ تلك الخصوصيّة، بل يكون تسليمها بهذا اللحاظ من باب تسليم باطل في باطل.

وأمّا إن كان الدليل المدّعى دلالته على قيامها مقام القطع المأخوذ على وجه الكاشفيّة هو الدليل اللفظىّ، كما لو فرض أنّ الشارع قال: «اعتبرت الأمارة علماً»، فأيضاً يتّجه التفصيل بين الوجه العرفىّ في التقسيم والوجه الدقيق العقلىّ، فعلى الأوّل يكون قيامها مقام القطع الصفتىّ بحاجة إلى مؤونة زائدة، وهي تنزيلها ـ مثلاً ـ منزلة تلك الخصوصيّة الملازمة، وعلى الثاني يكون ظاهر قوله: «اعتبرت الأمارة علماً» اعتبارها علماً بما فيه من كلتا الجهتين، أعني: عنوان (له) وعنوان (فيه)(1).

 


(1) أمّا لو اخترنا في مقام تقسيم القطع الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ ما احتملنا كونه مقصوداًللشيخ الأعظم(رحمه الله) ـ: من أنّه إذا كان القطع موضوعاً بما هو مصداق لجامع الحجّة، أو لجامع الكاشف الشامل للوجدانىّ والتعبّديّ، سمّيناه بالموضوعىّ الطريقىّ، وإذا كان موضوعاً بما هو قطع، سمّيناه بالموضوعىّ الصفتىّ ـ فهنا أيضاً يكون قيام الأمارة مقام الموضوعىّ الصفتىّ بحاجة إلى مؤونة زائدة، في حين أنّ قيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ مستفاد من نفس دليل موضوعيّة القطع؛ لأنّنا افترضنا: أنّه إنّما دلّ على موضوعيّة القطع بما هو مصداق لجامع الحجّة، أو لجامع الكشف الوجدانىّ والتعبّديّ.

339

 

تقسيم القطع الموضوعىّ بلحاظ متعلّقه

 

الجهة الثالثة: في تقسيم القطع الموضوعىّ بلحاظ متعلّقه. فالقطع الموضوعىّ تارة يقسّم بلحاظ نفسه وقد مضى، واُخرى يقسّم بلحاظ متعلّقه، وذلك على خمسة أقسام بحسب عالم التصوّر؛ لأنّ القطع الموضوعىّ تارة يكون متعلّقاً بأمر خارجىّ، كما لو فرض القطع بخمريّة المائع موضوعاً لحرمة شربه مثلاً، واُخرى يكون متعلّقاً بالحكم الشرعىّ.

والقسم الأوّل: لا إشكال فيه ولا كلام.

والثاني: ينقسم إلى أربعة أقسام؛ لأنّ القطع المتعلّق بحكم تارة يكون موضوعاً لخلاف ذلك الحكم. واُخرى يكون موضوعاً لضدّه. وثالثة لمثله. ورابعة لنفس ذلك الحكم.

والقسم الأوّل: لا إشكال فيه ولا كلام، وإنّما الإشكال والكلام في بقيّة الأقسام.

ولايخفى أنّ البحث عن القسم الثاني ـ وهو أخذ القطع بحكم موضوعاً لضدّه، كما لو قال: «إن قطعت بوجوب الصلاة، حرمت عليك» ـ مرجعه إلى البحث عن إمكان الردع عن حجّية القطع وعدمه، وقد مضى ـ وفاقاً للمحقّقين(قدس سرهم) ـ عدم إمكانه لا لما أفادوه في وجه ذلك، بل لأنّ الردع عنها: إمّا بحكم حقيقىّ، أو بحكم طريقىّ، وكلّ واحد منهما غير ممكن ببرهان يخصّه سبق منّا ذكره. نعم، استثنينا فرضاً نادراً على تقدير القول بتعليقيّة حقّ الطاعة، أي: قابليّته للإسقاط، وهو فرض ما إذا تعلّق غرض المولى بحصّة خاصّة من الفعل: وهي الإتيان به بداعي المحرّكيّة الشخصيّة على أساس حبّ العبد لمولاه، لا بداعي التنجيز العقلىّ والتحريك المولوىّ، فعندئذ يتمّ الردع عن حجّيّة القطع بإسقاط المولى لحقّ طاعته. ويمكن أن يقال: إنّ ذاك الفرد النادر خارج في المقام عن محلّ البحث، بناءً على أن يكون المقصود من أخذ القطع بالحكم موضوعاً لضدّه أخذه موضوعاً لجعل واعتبار ضدّ ذاك الحكم، ولا يشمل فرضه موضوعاً لسقوط حقّ الطاعة.

340

أخذ القطع بالحكم موضوعاً لمثله

وأمّا البحث عن إمكان أخذ القطع بالحكم موضوعاً لمثله، كما لو قال: «إن قطعت بحرمة شرب الخمر، حرم ذلك عليك بحرمة اُخرى»، فمرجعه إلى ما مضى من بحث إمكان حرمة التجرّي بعنوان يشمل المتجرّي والعاصي معاً؛ فإنّ ذاك العنوان عبارة عن عنوان العلم بالحرمة مثلاً، فيتّحد مع بحثنا هنا، إلّا أنّ البحث هنا أعمّ منه من حيث شموله لفرض كون متعلّق القطع حكماً غير إلزامىّ بخلافه هناك، والعجب من السيّد الاُستاذ حيث اختار في البحث السابق عدم الإمكان، واختار هنا الإمكان، مع أنّه لا فرق بينهما إلّا بحسب العنوان، ولعلّ السهو من المقرّر.

وما قيل أو يمكن أن يقال في وجه الاستحالة وجوه أربعة:

الأوّل: ما ذكره السيّد الاُستاذ في ذاك البحث: من أنّ القطع بالحرمة لو كان رادعاً للعبد، كفى عن التحريم الجديد، ولو لم يردعه، فلا أثر للتحريم الجديد؛ فإنّه كالتحريم الأوّل المقطوع به.

وقد مضى فيما سبق الإيراد عليه: بأنّ التحريم الثاني له قابليّة للردع حتّى بشأن من لم يرتدع بالتحريم الأوّل؛ إذ ربّ من لا يرتدع بتحريم واحد وعقاب واحد لكن يرتدع بتحريمين وعقابين، وربّ من يستعدّ لمعصية ولا يستعدّ لمعصية أكثر أو أقوى.

الثاني: ما ذكره المحقّق النائينىّ(رحمه الله) هنا وفي بحث التجرّي: من أنّ النسبة بين الحرام الأوّلىّ ومقطوع الحرمة كانت عموماً من وجه، ولكن في نظر القاطع الذي لا يحتمل خطأ قطعه النسبة هي العموم المطلق، ولا يمكن ثبوت حكمين متماثلين على موضوعين بينهما عموم مطلق، وإن أمكن ذلك في العامّين من وجه؛ ذلك لأنّ أثر التعدّد يظهر في العامّين من وجه في مادّتي الافتراق، وإن كان يرجع الأمر في مادّة الاجتماع إلى التأكّد. أمّا إذا كانت النسبة عموماً مطلقاً، فالتأكّد في تمام موارد الخاصّ خلف فرض تعدّد الحكم، والحفاظ على تعدّده يعني اجتماع المثلين، وهو مستحيل، إذن فحينما يعتقد القاطع كون النسبة عموماً مطلقاً لا يستطيع أن يصدّق بالحكم الخاصّ، وبالتالي لا يكون

341

الحكم الخاصّ قابلاً للوصول، فيلغو(1).

وقد مضى في بحث التجرّي ذكر هذا الوجه مع جوابه، وهو منع كون النسبة بينهما عموماً مطلقاً حتّى في نظر القاطع؛ إذ القاطع ـ أيضاً ـ يرى خطأ قطع الآخرين، ويعلم أنّ مادّة الافتراق ثابتة من كلا الجانبين، إلّا أنّه يتخيّل أنّ ما قطع هو به الآن من مادّة الاجتماع.

الثالث: ما لم يذكروه دليلاً على الاستحالة، ولكنّه يتمّ دليلاً عليها بناءً على مبناهم في باب التأكّد: من أنّ اجتماع حكمين متماثلين غير معقول، فيسقط كلا الجعلين في مادّة الاجتماع، ويثبت جعل ثالث متأكّد.

وهو أنّه لو فرض أنّ القطع بثبوت الحكم لولا القطع موضوع لثبوت الحكم عند القطع بذاك الحكم اللولائىّ، فهذا خارج عمّا نحن فيه؛ إذ هما حكمان على موضوعين متباينين. ولو فرض أنّ القطع بثبوت حكم فعلىّ موضوع لثبوت حكم فعلىّ، فهذا هو محلّ الكلام، ونقول: إنّه تارة يفترض أنّ القطع بالحكم الأوّل ليس تمام الموضوع للحكم الثاني، بل نفس الحكم الأوّل ـ أيضاً ـ دخيل في الحكم الثاني وجزء لموضوعه، واُخرى يفترض عدم دخل الحكم الأوّل في الحكم الثاني:

أمّا الفرض الأوّل فمحال؛ إذ لا يعقل فيه التعدّد؛ للزوم اجتماع المثلين، ولا الوحدة والتأكّد؛ لأنّ الحكمين مختلفان رتبة؛ لأنّ أحدهما مأخوذ في موضوع الآخر، ويتوقّف عليه الآخر.

وأمّا الفرض الثاني فإمّا أن نفرض فيه أنّ متعلّق القطع هو الحكم المتأكّد، أو أنّه هو الحكم البسيط، فعلى الثاني لزم اجتماع المثلين في نظر القاطع، وعلى الأوّل لزم الخلف؛ لأنّ المفروض أنّ الحكم الثاني مترتّب على القطع، فلا يعقل كونه متعلّقاً لذاك القطع، على


(1) لايخفى أنّ التفصيل بين فرض العموم من وجه، وفرض العموم المطلق في المقام ليس إلّا مجرّد بحث لفظىّ غير مشتمل على محتوىً معقول؛ وذلك لأنّ واقع الأمر هو: أنّه بناءً على استحالة اجتماع المثلين حتّى في الاعتباريّات لا يمكن أن يكون العلم بحكم موضوعاً لمثله بالمعنى الحقيقىّ للكلمة، سواء في موارد العامّ والخاصّ المطلقين أو العموم من وجه، ففي مورد الاجتماع قد تساقط الحكمان في كلا الفرضين، وتولّد حكم ثالث مؤكّد في كلا الفرضين. نعم، يمكن أن يعبّر بتعبير: (إنّ العلم بالحكم أصبح موضوعاً لمثله) بشيء من المسامحة، باعتبار أنّ الحكمين كأنّهما اندكّا في مورد الاجتماع، وحقّقا التأكيد، وذلك في كلا الفرضين. إذن فالتفصيل بين الفرضين تفصيل بلا محتوى. وقد ذكرت هذا بمحضر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فصدّقه.

342

ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من بيان استحالة كون القطع شرطاً لمتعلّقه.

وهذا الوجه الذي ذكرناه هنا يكون من سنخ ما ذكر في بحث المقدّمة الداخليّة بناءً على تصويرها؛ إذ يقال فيها باتّصافها بالوجوب الغيرىّ كالمقدّمة الخارجيّة.

ويورد على ذلك: أنّ الأجزاء بنفسها متّصفة بالوجوب النفسىّ، فيلزم اجتماع المثلين.

ويجاب عن ذلك بالالتزام بالتأكّد.

ويورد على ذلك استحالة التأكّد؛ لأنّ الحكم الغيرىّ موقوف على ثبوت الحكم النفسىّ؛ إذ لولا الوجوب النفسىّ، لما اتّصفت المقدّمة بالوجوب، فهما حكمان طوليّان، وليسا في رتبة واحدة كي يعقل التأكّد.

وتصوّر السيّد الاُستاذ: أنّ المقصود من هذا الإشكال إثبات أنّ الحكمين ثابتان ومتحقّقان بحالهما من التعدّد، ولا تأكّد في البين، فأورد عليه: أنّ محذور اجتماع المثلين ناشئ من ضيق فم الزمان الثابت هنا، لا من وحدة الرتبة حتّى يدفع بتعدّدها.

وهذا اشتباه منه؛ فإنّ المقصود من الإشكال ليس ما تصوّره، وإنّما المقصود عدم معقوليّة الحكمين لا بنحو التأكّد؛ لتعدّد الرتبة، ولا بنحو التعدّد؛ لضيق فم الزمان.

والجواب عن هذا الوجه هو النقاش في المبنى، فمختارنا في باب التأكّد: أنّ التأكّد إنّما يتحقّق في ملاك الحكم، فيحصل حبّ شديد مثلاً، ولا يعقل التأكّد في الاعتباريّات، ولا مانع من اجتماع المثلين في الاعتباريّات أصلاً، فنفس الحكمين أعني: الجعلين والاعتبارين يبقيان على حالهما من التعدّد.

وهذا الجواب يرد على ما مضى من الوجه الثاني أيضاً (1).


(1) وبالإمكان استيعاب كلّ الشقوق المحتملة في المقام بأن يقال: إذا افترضنا الحكمين من سنخ الوجوب أو الحرمة أو الاستحباب أو الكراهة، فبناءً على الإيمان بمرحلة وسط بين مرحلة الحبّ والبغض ومرحلة الإبراز، وهي: مرحلة الجعل والاعتبار يأتي كلام اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من عدم الاستحالة في اجتماع المتماثلين في الاعتباريّات. وبناءً على عدم الإيمان بذلك ينبغي أن يقصد بكون العلم بالحكم موضوعاً لما يماثله: كون العلم بمرتبة من الحبّ ـ مثلاً ـ موضوعاً لمرتبة إضافيّة، ومن الواضح إمكان ذلك، أمّا لو قصد: كون العلم بالحبّ موضوعاً لحبّ آخر من دون حصول التأكّد، فمن الواضح استحالته.

أمّا لو كان الحكمان عبارة عن الإباحة، فبناءً على الإيمان بمرتبة الجعل والاعتبار في الإباحة، فمن الواضح معقوليّة تعدّده في العامّين من وجه، وكذا العموم المطلق لو كان جعل الحكم الخاصّ قبل جعل العامّ. وبناءً على عدم الإيمان بذلك لا يتصوّر تعدّد أو تأكّد في المقام.

343

وأمّا بالنسبة إلى المقدّمة الداخليّة، فبناءً على ما ذكر من الطوليّة بين الوجوب الغيرىّ والنفسىّ يستحيل التأكّد؛ لأنّ هذه الطوليّة بناءً على تسليمها ثابتة في ذلك حتّى بالنسبة إلى الحبّ، فلا يعقل التأكّد في ملاك الحكم، لكنّا أنكرنا في محلّه الطوليّة بين الوجوب الغيرىّ والنفسىّ، فلا يستحيل التأكّد من هذه الجهة.

نعم، هنا وجه آخر لاستحالته: وهو أنّه لايكون هناك ملاكان للحكم حتّى يلتزم بالتأكّد، وإنّما هناك ملاك واحد. وإشكال اجتماع المثلين لا يكون صحيحاً، لا بلحاظ ذات الوجوب النفسىّ والغيرىّ، ولا بلحاظ الملاك:

أمّا الأوّل: فلما ذكرناه: من أنّ الحقّ عدم استحالة اجتماع المثلين في الاعتباريّات.

وأمّا الثاني: فلما ذكرناه: من عدم تعدّد الملاك، وأنّه على فرض تعدّده لا مانع من التأكّد لمنع الطوليّة.

الرابع: ما لم يذكره القوم أيضاً، لكنّه يتمّ على ما عرفت من مبناهم في مسألة التأكّد، وحاصل هذا الوجه: أنّه لو فرض عدم التأكّد، لزم اجتماع المثلين، ولو فرض التأكّد، كان محالاً، مع قطع النظر عمّا مضى من إشكال تعدّد الرتبة.

توضيح ذلك: أنّهم يقولون في مثل قوله: «أكرم العالم، وأكرم الهاشمىّ» بتأكّد الحكم في العالم الهاشمىّ، بمعنى: أنّ ثبوت كلا الجعلين في العالم الهاشمىّ محال؛ للزوم اجتماع المثلين، وسقوط أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، فيتساقطان، ويتحقّق حكم ثالث مؤكّد في مادّة الاجتماع، فالحكمان الأوّلان لم يبقيا على إطلاقهما، بل اختصّا بغير مادّة الاجتماع، وثبت لمادّة الاجتماع حكم ثالث. وهذا لا يمكن الالتزام به فيما نحن فيه؛ وذلك لأنّه لو قيل بسقوط إطلاق الحكمين، لزم كون الحكم الأوّل مختصّاً بغير فرض القطع به،والحكم الثاني مختصّاً بغير فرض مصادفة القطع للواقع، وكلا هذين الأمرين محال:

أمّا الأوّل: فعلى مبناهم من استحالة كون القطع بالحكم مانعاً عن الحكم.

وأمّا الثاني: فلعدم قابليّة هذا الحكم للوصول؛ لأنّ القاطع ـ دائماً ـ يرى قطعه مصادفاً للواقع، فلا يرى موضوع هذا الحكم متحقّقاً، فلا يصل إليه الحكم حتّى يكون قابلاً

344

للمحرّكيّة، فيلغو(1).

هذا. ولكن قد مضى أنّ الحقّ عندنا عدم استحالة اجتماع المثلين في الجعل والاعتبار، فتحصّل: أنّه لامانع من أخذ القطع بالحكم موضوعاً لمثله.

 

أخذ القطع بالحكم موضوعاً لنفسه

بقي الكلام في إمكان أخذ القطع بالحكم موضوعاً لمتعلّقه وعدمه.

فنقول: تارة يفرض أخذ القطع بالحكم موضوعاً لمتعلّقه شرطاً، واُخرى يفرض أخذه موضوعاً لذلك مانعاً. وقد خلط الأصحاب في المقام بين أخذه كشرط في متعلّقه، وأخذه مانعاً عن متعلّقه، وقصدوا بأخذه في متعلّقه: الجامع بين الأمرين؛ ولذا حينما ذكر الشيخ الأعظم(رحمه الله) ـ كتعليق على ما يقال ردّاً على الأخباريّين الذين منعوا العمل بالعلم الناشئ من حكم العقل: من أنّ هذا يعني الردع عن حجّيّة العلم، وهو غير ممكن ـ ذكر الشيخ الأعظم أنّ بالإمكان حمل هذا على العلم الموضوعىّ، فلا يعود الردع إلى الردع عن حجّيّة العلم، فليس هذا دعوى لأمر محال(2).

أوردوا عليه(رحمه الله) أنّ هذا يعني: أخذ العلم موضوعاً في متعلّق نفسه، وهو مستحيل، في حين أنّ هذا لا يعني شرطيّة العلم لمتعلّقه، بل يعني: مانعيّة العلم الناشئ من العقل عن متعلّقه.

والأولى هو تفكيك البحثين أحدهما عن الآخر، فأوّلاً نبحث عن مدى إمكان شرطيّة العلم لمتعلّقه، ثُمّ نبحث ما إذا كانت أدلّة استحالة ذلك تسري إلى فرض المانعيّة أيضاً. إذن فالبحث يقع في مقامين:


(1) أمّا بناءً على عدم استحالة كون القطع بالحكم مانعاً عن الحكم، فمن الممكن الالتزام بسقوط الإطلاق من أحد الطرفين، وهو الحكم الأوّل دون كلا الطرفين، ولا يلزم ترجيح بلا مرجّح؛ لاستحالة التقييد في هذا الطرف دون ذاك الطرف.

(2) كأنّ هذا إشارة إلى ما ذكره الشيخ الأعظم في بحث انقسام القطع إلى الطريقيّ والموضوعيّ من التمثيل للقطع الموضوعيّ بقوله: «وقد يدلّ دليل ذلك الحكم على ثبوته لشيء بشرط حصول القطع به من سبب خاصّ أو شخص خاصّ، مثل ما ذهب إليه بعض الأخباريّين: من عدم جواز العمل في الشرعيّات بالعلم غير الحاصل من الكتاب والسنّة» راجع فرائد الاُصول ص 23 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

345

أخذ العلم شرطاً في متعلّقه

المقام الأوّل: في أخذ العلم شرطاً في متعلّقه.

قد برهنوا على استحالة ذلك بلزوم الدور؛ لأنّ العلم بشيء متوقّف على متعلّقه، فإذا توقّف متعلّقه عليه،لزم الدور. ولعلّ أوّل من استدلّ بهذا الوجه هو العلّامة(قدس سره) في مقام ردّ المصوّبة من العامّة، وبعد ذلك جاء الإشكال والبحث في هذا الدليل. ومنشأ الإشكال في ذلك عدم صحّة التوقّف الأوّل؛ إذ العلم من موجودات عالم النفس، فهو متقوّم بما في النفس من المعلوم بالذات دون ما في الخارج، فالمتوقّف على العلم غير المتوقّف عليه العلم؛ لأنّ الأوّل هو المعلوم بالعرض، والثاني هو المعلوم بالذات. ويشهد لما ذكرنا من عدم تقوّم العلم بما في الخارج: أنّه ربّما يحصل العلم وليس له ما بإزاء في الخارج أصلاً، ويكون مخالفاً للواقع(1).

ومن هنا غيّر المحقّق النائينىّ(رحمه الله) نمط الاستدلال، واستدلّ بما حاصله: لزوم التهافت بين طبيعة العلم ومتعلّقه.

وتوضيحه: أنّ طبيعة العلم تقتضي الكشف عمّا فرض ثبوته بغضّ النظر عن العلم، وهذه طبيعة ذاتيّة له ككاشفيّته لا تعلّل بشيء، وهذا يتناقض مع طبيعة متعلّقه حيث فرضناه متوقّفاً على العلم ومترتّباً عليه(2).

 


(1) من الملحوظ أنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لم يجعل عدم إصابة العلم للواقع في بعض الأحيان دليلاً مباشراً لعدم توقّف العلم على الوجود الخارجيّ للمعلوم، وإنّما جعله شاهداً لعدم تقوّم العلم بالوجود الخارجىّ للمعلوم. والسبب في ذلك ما ذكره(رحمه الله): من أنّه لو جعل هذا دليلاً مباشراً لعدم توقّف العلم على الوجود الخارجىّ للمعلوم، لأمكن أن يورد عليه: أنّ العلم المتعلّق بشخص الحكم يستحيل تخلّفه عنه، وإذا لم يكن في الواقع حكم، فهذا العلم في الحقيقة لم يتعلّق بذاك الشخص من الحكم، والشيء الذي ليس بموجود يستحيل تعلّق العلم بشخص ذاك الشيء.

(2) لايوجد في أجود التقريرات إشارة إلى هذا الوجه أصلاً، لا في بحث القطع، ولا في بحث التعبّديّ والتوصّلىّ، كما أنّ فوائد الاُصول للشيخ الكاظمىّ ـ أيضاً ـ لم يذكر هذا الوجه في بحث القطع، ولا يحضرني الجزء الأوّل من الفوائد فعلاً؛ لكي أرى هل ذكر ذلك في بحث التعبّديّ والتوصّلىّ، أو لا؟

والظاهر: أنّ المحقّق النائينىّ(رحمه الله) اعتمد على نفس برهان الدور على ما يبدومن أجود التقريرات، وذكر أنّ هذا الوجه مصبّه الأصلىّ هو مرحلة فعليّة المجعول، فهي تتوقّف على العلم توقّف الحكم على موضوعه، والعلم يتوقّف عليها توقّف العلم على المعلوم، فتستحيل فعليّة المجعول، وإذا استحال المجعول، استحال الجعل؛ فإنّ نسبة المجعول إلى الجعل نسبة الوجود إلى الإيجاد، وإذا استحال الوجود، استحال الإيجاد. ثُمّ أضاف(رحمه الله) وجهاً


346

وهذا الوجه وجه وجدانىّ، وليس برهانيّاً، وهو وجه متين.

وبالإمكان أن نذكر في المقام وجهين برهانيّين لإثبات عدم إمكان أخذ العلم بالحكم شرطاً في متعلّقه:

الوجه الأوّل: أنّ الهدف من إيجاد المولى لهذا الحكم لو كان هو تحريك العبد: بأن يقع أحياناً في سلسلة علل علم المكلّف به، فيتحرّك به بواسطة العلم، قلنا: إنّ هذا الهدف لن يتحقّق أبداً؛ إذ من المستحيل وقوع وجود هذا الحكم في سلسلة علل علم المكلّف به؛ لأنّ هذا يستلزم الدور؛ إذ هذا يعني توقّف علم المكلّف عليه توقّف المعلول على علّته، في حين أنّه هو متوقّف على علم المكلّف توقّف الحكم على موضوعه.

أمّا لو لم يكن الهدف ذلك، كما لو كان المولى يكتفي بما قد يتّفق من حصول العلم للمكلّف بالحكم من دون أن يقع ذلك الحكم في سلسلة علل حصول العلم، إذن فيلغو إيجاد هذا الحكم؛ إذ ليس هو المحرّك للعبد، وإنّما المحرّك له هو علمه الذي سيحصل حتّى لو لم يوجد المولى ذلك الحكم. ولا يتأتّى هنا الإشكال الذي ذكرناه على السيّد الاُستاذ فيما سبق: من فرض حرمة التجرّي، حيث قلنا: إنّ هذه الحرمة تؤكّد الحرمة التي يعتقد بها المتجرّي، فقد توجب ردعه عن المعصية على الرغم من أنّ الحرمة الاُولى لم تكف لردعه؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ الحكم المتوقّف على العلم هنا ليس حكماً جديداً يؤكّد أثر الحكم الأوّل المعتقد به في تحريك العبد، بل المفروض أنّه هو نفس الحكم الذي تعلّق به العلم.

هذا هو الوجه الأوّل من الوجهين البرهانيّين اللذين يمكن ذكرهما في المقام، إلّا أنّ


آخر صبّه رأساً على مرحلة الجعل: وهو أنّه يلزم من أخذ العلم في متعلّقه ما هو روح الدور في مرحلة الجعل: من تقدّم الشيء على نفسه، وليس الدور، وتعبير الأصحاب بالدور مبنىّ على المسامحة؛ وذلك لأنّ الجاعل على وجه القضايا الحقيقيّة يرى بمنظار الجعل الموضوع مفروض الوجود ومفروغاً منه، فإذا كان الموضوع هو العلم بالحكم، فهو يرى العلم بالحكم بمنظار الجعل مفروض الوجود ومفروغاً منه سابقاً، وبالتالي يرى الحكم كذلك؛ فإنّ العلم بالحكم بعد الحكم؛ إذ انقسام الحكم إلى العلم به وعدمه من الانقسامات اللاحقة، والجاعل الذي يرى الحكم بمنظار الجعل مفروغاً منه سابقاً كيف يجعله مرة اُخرى؟!

أقول: إنّ هذا التقريب الثاني: وهو تقريب روح الدور بالبيان الذي ذكره المحقّق النائينىّ(رحمه الله)يبطل ـ أيضاً ـ بما أورده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على تقريب الدور: من أنّ العلم إنّما يتقوّم بالمعلوم بالذات، ولا يتقوّم بالمعلوم بالعرض، فليس العلم بالحكم بعد الحكم.

347

هناك إشكالاً يرد على هذا الوجه سيأتي ذكره ـ إن شاء الله ـ عن قريب.

الوجه الثاني: هو أنّه لا إشكال في أنّ العلم بفعليّة الحكم متوقّف على العلم بموضوعه، وليس من قبيل العلم بالمعلولات التكوينيّة الاُخرى التي قد يكون العلم بها هو المولّد للعلم بالعلّة على طريقة الإنّ؛ فإنّ الحكم الذي هو أمر اعتبارىّ لا يعقل الإحساس به مباشرة ثُمّ الانتقال منه إلى موضوعه، بل المعقول هو العكس: بأن يعلم العبد بموضوعه، فيعلم به، ولو فرض أنّ نبيّاً من الأنبياء أخبره بفعليّة الحكم في شأنه، نقلنا الكلام إلى علم النبىّ ـ مثلاً ـ بذاك الحكم، فهو يتوقّف على علمه بموضوعه(1)، فإذا اتّضح: أنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بموضوعه، قلنا: إذن لو كان العلم بنفسه داخلاً في موضوع الحكم، لكان هذا يعني: أنّ العلم بالحكم يتوقّف على العلم بالعلم بالحكم، والعلم بالعلم هو عين العلم؛ لأنّ العلم من المعلومات الحضوريّة لدى النفس، فيستحيل تعلّق علم آخر به؛ إذ ما هو منكشف بذاته لامعنىً لانكشافه بواسطة الصورة؛ لاستحالة انكشاف المنكشف، إذن فتوقّف العلم بالحكم على العلم به يعني توقّف الشيء على نفسه. ولو تنزّلنا وافترضنا إمكانيّة تعلّق العلم الحصولىّ بما هو منكشف لدى النفس حضوراً، قلنا: إنّ العلم بالعلم متوقّف على العلم الأوّل؛ إذ كما أنّ العلم بالمحسوسات الخارجيّة فرع الإحساس بها كذلك العلم بالوجدانيّات فرع وجدانها، وبهذا يثبت الدور؛ لأنّ العلم بالحكم توقّف على العلم بهذا العلم، في حين أنّ العلم الثاني متوقّف على العلم الأوّل، إذن فحكم من هذا القبيل غير قابل للوصول؛ لأنّ قابليّته للوصول تستبطن الدور، والحكم الذي لا يقبل الوصول يلغو.

إلى هنا اتّضح: أنّ أخذ العلم بشيء في متعلّقه بمعنى اتّحاد ما تعلّق به العلم وما ترتّب على العلم بالمعنى الدقيق لكلمة الاتّحاد مستحيل.

يبقى الكلام في أنّه لو اتّفق للمولى كون غرضه متعلّقاً بجعل حكم بحيث يختصّ بدائرة العالمين بالحكم، أفهل يوجد له طريق للوصول إلى هذا الهدف من دون الابتلاء بالمحاذير السابقة، أو لا؟


(1) بل لا يمكن في المقام حصول العلم بالحكم عن طريق إخبار النبىّ؛ لأنّ النبىّ لا يخبر بفعليّة الحكم إلّا إذا تحقّق موضوعه، والمفروض أنّ علم المكلّف بالحكم داخل في موضوعه، إذن لا يخبر النبىّ بفعليّة الحكم إلّا وقد فرض علم المكلّف سابقاً، ومعه يلغو الإخبار.

348

والواقع: أنّ البراهين الماضية ما تمّ منها لا يثبت عدا استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع متعلّقه بنحو يتّحد بالدقّة ما تعلّق به العلم مع ما توقّف على العلم. ولدينا وجهان لعلاج الموقف بشكل لا يعود أخذ العلم بالحكم في موضوع متعلّق الحكم إلى الاتّحاد الحقيقىّ بين ما تعلّق به العلم وما توقّف عليه:

الوجه الأوّل: أنّ بإمكان المولى أخذ العلم بالجعل في مرتبة المجعول، فلم يكن ما تعلّق به العلم عين ما ترتّب على العلم بالدقّة حتّى يلزم محذور، وفي نفس الوقت قد توصّل المولى إلى غرضه من اختصاص حكمه بدائرة العالمين.

ولافرق في ذلك بين أن نتصوّر الفرق بين الجعل والمجعول بالشكل المتعارف ذكره، أو نختار معنىً أدقّ وأعمق يأتي بيانه في محلّه إن شاء الله.

ولننهج هنا في مقام البيان المنهج المتعارف ذكره حيث يقال: إنّ الشارع لمّا جعل وجوب الحجّ على المستطيع مثلاً ـ ولنفرض أنّه في ذلك الحين لم يكن أحد مستطيعاً ـ فلاإشكال في أنّه وجد بذلك في عالم التشريع حكم لم يكن موجوداً قبله، وهذا هو المسمّى بالجعل، ولكنّا لو وجّهنا سؤالاً إلى أىّ إنسان في ذلك الزمان عن أنّه هل يجب عليك الحجّ ـ والمفروض بشأنه عدم الاستطاعة ـ لأجاب بالنفي، ولو سألناه عن ذلك بعد استطاعته، لأجاب بالإيجاب، إذن قد تحقّق بشأنه بعد تماميّة الجعل وجوب عند اتّصافه بالاستطاعة، وهذا الوجوب لم يكن موجوداً بشأنه قبل استطاعته، وهذا هو المسمّى بالمجعول.

إذن فالمجعول غير الجعل، وعليه فلا مانع من أخذ العلم بالجعل شرطاً لتحقّق المجعول. وقد ذكرنا للسيّد الاُستاذ هذا العلاج، أعني: أخذ العلم بالجعل موضوعاً للمجعول، فأجاب عنه بما ذكر في (الدراسات): من أنّ جعل الحجّ ـ مثلاً ـ على المستطيع ليس جعلاً بشأن زيد، إلّا إذا استطاع زيد، والجعل إنّما يكون جعلاً بشأن شخص ما حينما يكتمل بشأن ذاك الشخص كلّ شرائط المجعول، والمقصود من أخذ العلم بالحكم في متعلّق الحكم ليس هو أخذ العلم بحكم أحد في متعلّق حكم شخص آخر، وإلّا فإمكانه بمكان من الوضوح، وإنّما المقصود هو: أخذ العلم بحكم شخص في متعلّق حكم ذلك الشخص، وعليه فقد عاد المحذور؛ لأنّ جعل وجوب الحجّ ـ مثلاً ـ لا يكون جعلاً لهذا

349

الشخص إلّا باستطاعته، واستطاعته مساوقة لتحقّق المجعول في حقّه(1).

ويرد عليه: أنّنا نقصد بأخذ العلم بالجعل في متعلّق المجعول: أخذ العلم بجعل (لم يقع فاصل بينه وبين كونه جعلاً بشأن زيد عدا العلم به) في متعلّق المجعول، أو قل: أخذ العلم بجعل لو علم به لكان جعلاً بشأنه في متعلّق المجعول. وبهذا ينتهي المحذور(2).

 


(1) لا ندري هل المقصود بذلك إرجاع الأمر إلى المحذور بلحاظ المجعول والفعليّة، أي: أصبح في الحقيقة العلم بالحكم الفعليّ، أو قل بالمجعول موضوعاً للحكم الفعليّ أو المجعول، أو المقصود بذلك إبقاء المحذور في دائرة الجعل، بأن يقال: إذا اُخذ العلم بجعل وجوب الحجّ على زيد ـ مثلاً ـ في موضوع الوجوب الفعليّ للحجّ على زيد، لم يعد المتوقّف على العلم بالجعل هو المجعول فحسب كي يخلو من المحذور، بل أصبح نفس الجعل بشأن زيد متوقّفاً عليه؛ لأنّ كون الجعل جعلاً بشأن زيد متوقّف على تحقّق كامل أجزاء موضوع الجعل التي منها علمه بالجعل؟

(2) أقول: إنّ هذا الوجه وهو أخذ العلم بالجعل شرطاً في موضوع المجعول صحيح أنّه كاف لعلاج مشكلة الدور، ومشكلة التهافت بين طبيعة العلم وطبيعة المعلوم، ومشكلة عدم قابليّة الحكم للوصول لتوقّف العلم به على العلم به، ولكنّه لا يكفي لعلاج ما مضى نقله عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من محذور لزوم تقدّم الشيء على نفسه في منظار الجعل، فالجاعل الذي يفرض العلم بالجعل مفروغاً منه سابقاً وبالتالي يفرض نفس الجعل مفروغاً منه كيف ينشئ الجعل مرة اُخرى؟!

نعم، قد عرفت أنّ هذا الوجه في ذاته غير صحيح؛ إذ الفراغ من العلم بالجعل لا يستلزم عدا الفراغ من المعلوم بالذات، وهو وجود الجعل في نفس العالم، لا الفراغ من المعلوم بالعرض، وهو ذات الجعل.

بقي علينا شرح الحال فيما أشار إليه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من أنّ هذا الوجه ـ وهو حلّ الإشكال بأخذ العلم بالجعل شرطاً في المجعول ـ يمكن إسراؤه إلى مبناه هو(قدس سره) في تصوير الجعل والمجعول.

فنقول: إنّنا تارة ننساق مع التصوّر المعروف عن المحقّق النائينىّ(رحمه الله): من قياس القضايا التشريعيّة بالقضايا التكوينيّة، فكما أنّ في قولنا: النار محرقة تكون القضيّة الحقيقيّة الراجعة إلى القضيّة الشرطيّة صادقة من أوّل الأمر، ولكن فعليّة الجزاء تتأخّر إلى حين فعليّة الشرط، كذلك وجوب الحجّ على تقدير الاستطاعة يثبت على شكل القضيّة الحقيقيّة والشرطيّة، ويصبح الوجوب فعليّاً عند تحقّق الشرط؛ ولذا نرى أنّه حينما يقول المولى: ﴿لله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً﴾ يثبت الحكم، وفي نفس الوقت لا وجوب على الأفراد غير المستطيعين، وعند ما تتمّ الاستطاعة بشأن أحد يثبت الوجوب له، فالثاني نسمّيه بالمجعول، والأوّل نسمّيه بالجعل. وحينئذ من الواضح صحّة الحلّ الذي قام به اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المقام: من افتراض أنّ العلم بالجعل اُخذ في موضوع المجعول.

واُخرى لا نقبل هذا البيان، ونرى قياس المقام بالاُمور التكوينيّة قياساً مع الفارق، ففي الاُمور التكوينيّة يتحقّق الجزاء في لوح الخارج بتحقّق الشرط، أمّا في باب الأحكام، فلايتحقّق بتحقّق الشرط شيء، لا في لوح الخارج، ولا في لوح نفس المولى، على مستوى الحبّ والبغض، أو على مستوى الاعتبار والجعل: أمّا عدم تحقّق شيء في لوح الخارج، فواضح؛ لأنّ الأحكام ليست من الاُمور الخارجيّة كالاحتراق، وأمّا عدم تحقّق اعتبار آخر، فأيضاً واضح؛ إذ معنى تحقّقه تعدّد الجعل، وهو خلاف المفروض، وأمّا عدم تحقّقه في عالم الحبّ ←

350


والبغض ـ بأن ينقدح حبّ وبغض للفعل يعتبر فعليّة لحبّه أو بغضه للقضيّة الشرطيّة ـ فلوضوح أنّ فعليّة الحكم المجعول على نهج القضيّة الحقيقيّة غير مشروطة بعلم المولى بتحقّق الشرط، ووضوح عدم انقداح حبّ أو بغض جديدين عند عدم علم المولى بتحقّق الشرط.

نعم، قد يقال: إنّ هناك قضيّة تكوينيّة شرطيّة يتحقّق جزاؤها عند تحقّق شرطها، وهي: إنّه لو علم المولى بتحقّق الأمر الفلاني، لأحبّ تحقّق العمل الفلاني، فمتى ما حصل الشرط، وهو علم المولى بتحقّق ذاك الأمر، تحقّق الجزاء.

إلّا أنّ هذا خروج عن المقصود؛ فإنّ الحكم في عالم الحبّ والبغض عبارة عن حبّ القضيّة الشرطيّة حبّاً فعليّاً سواء تحقّق الشرط أو لا، وسواء علم المولى بتحقّق الشرط أو لا، وليس عبارة عن قضيّة شرطيّة شرطها هو العلم بذاك الشرط، وجزاؤها هو الحبّ.

إذن فالذي يتحقّق في باب التشريع عند فعليّة الشرط إنّما هو فاعليّة الحكم وطرفيّة المكلّف لذاك الحكم، لا فعليّة الحكم بالمعنى الدقيق للكلمة، وإن صحّ التعبير عن ذلك بفعليّة الحكم بنوع من المسامحة، أو بافتراض مصطلح خاصّ، ولا مشاحّة في الاصطلاح.

أمّا المجعول بالمعنى الدقيق للكلمة، فهو لا ينفكّ من الجعل؛ فإنّه بالقياس إلى الجعل كالوجود بالقياس إلى الإيجاد، وكما أنّ الإيجاد والوجود خارجاً متّحدان كذلك الجعل والمجعول كما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

وعلى هذا الأساس قد يقال: إنّ الحلّ الذي ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) يتمّ على مبنى مدرسة المحقّق النائينىّ رضوان الله عليه، ولكنّه لا يتمّ على مبناه هو(رحمه الله) ؛ إذ الجعل والمجعول ـ بحسب مبناه ـ أحدهما عين الآخر خارجاً، فلا اثنينيّة في المقام كي نفترض أنّ العلم بالجعل اُخذ في موضوع المجعول، ونتخلّص من محاذير وحدة متعلّق العلم وما يترتّب على العلم، كما لا نستطيع أن نفترض أنّ العلم بالجعل اُخذ في موضوع فاعليّة الحكم وطرفيّة المكلّف للحكم؛ إذ ليس هذا مجعولاً للمولى كي يستطيع أن يدخل في موضوعه بيد التشريع شيئاً.

والجواب: أنّ الجعل والمجعول صحيح أنّهما متّحدان خارجاً، وليس الفرق بينهما إلّا بلحاظ جهة الانتساب إلى الفاعل أو القابل تماماً كالإيجاد والوجود، إلّا أنّ هذا لا يضرّ بتماميّة الحلّ الذي تبنّاه اُستاذنا الشهيد.

توضيح ذلك: أنّه يتصوّر لربط المولى للحكم بالعلم به معنيان:

المعنى الأوّل: أن يقصد بذلك توقيف الجعل ابتداءً على العلم بالمعنى الحقيقىّ لكلمة التوقيف، وهذا يستحيل صدوره عن الجاعل بما هو جاعل حتّى لو غضّ النظر عن المحاذير السابقة؛ فإنّ الجعل عمل للجاعل، والعامل يستحيل أن يجعل عمله بنفس هذا العمل متوقّفاً (بالمعنى الحقيقىّ للتوقّف التكوينىّ) على شيء، فقد يكون عمل فاعل ما متوقّفاً على شيء ابتداءً، كتوقّفه على مقدّمات لولاها لما كان قادراً على ذاك العمل، أو متوقّفاً عليه بسبب تعجيز معجّز له عن ذاك العمل في فرض عدم ذاك الشيء ولو كان المعجّز نفس الفاعل، ولكن لا يعقل كونه معجّزاً لنفسه عن ذلك بنفس هذا العمل، كما هو واضح. إذن فهذا المعنى خارج عن محلّ الكلام أساساً.

المعنى الثاني: أن يقصد بذلك تضييق دائرة الحكم، فبدلاً من أن يجعل وجوب الحجّ على مطلق المستطيع يجعله على المستطيع العالم، وهذا ليس ابتداءً توقيفاً للجعل على العلم، بل تضييق وتحصيص للمفاد

351

بقي علينا أن نشير هنا إلى أنّه يتّضح بالالتفات إلى مسألة الجعل والمجعول ما يرد على ما مضى من الوجه الأوّل من الوجهين البرهانيّين لاستحالة أخذ العلم شرطاً لمتعلّقه: من أنّه إن كان الحكم دخيلاً في حصول العلم به، لزم الدور، وإلّا لزم اللغويّة.

فإنّ هذا يرد عليه: أنّنا نختار الشقّ الثاني، أي: عدم دخل الحكم ـ أعني المجعول ـ في حصول العلم به، فلا يلزم الدور، ولكنّنا نفرض دخل الجعل في تحقّق العلم؛ فلا تلزم اللغويّة أيضاً، فقد تصورّنا بهذا أخذ العلم بالمجعول شرطاً للمجعول بلا لزوم محذور الوجه الأوّل من الوجهين البرهانيّين.

الوجه الثاني: أن يؤخذ العلم بإبراز الحكم شرطاً في الحكم، كما يتّفق ذلك في الموالي العرفيّة، فيقول المولى العطشان ـ مثلاً ـ: من سمع كلامي فليأتني بماء. وهذا الوجه لاحاجة فيه إلى تصوير تعدّد الجعل والمجعول(1).

 


الذي جعله بالعلم، وهذا هو محلّ الكلام، وهذا التضييق والتحصيص يؤدّي قهراً إلى توقّف المجعول على العلم ـ بناءً على تصوّرات مدرسة المحقّق النائينىّ: من افتراض مجعول يولد عند تماميّة الموضوع ـ وإلى توقّف طرفيّة المكلّف لهذا الحكم، أو فاعليّة الحكم بالنسبة إليه، بناءً على تصوّرات اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من أنّ ما يولد بتماميّة الموضوع إنّما هو طرفيّة المكلّف للحكم، أو فاعليّة الحكم بالنسبة إليه، وليست فعليّة الحكم. ومن هنا يتّضح: أنّه لافرق جوهرىّ ـ في خصوص ما نحن فيه ـ يترتّب على الاختلاف بين المبنيين:

فعلى مبنى مدرسة المحقّق النائينىّ(رحمه الله) يكون المجعول أو فعليّة الحكم قد توقّف قهراً على ما ضيّق المولى دائرة الحكم به. فإذا فرض أنّ المولى قد ضيّق دائرة الحكم بالعلم بالمجعول، وردت المحاذير السابقة، وإذا فرض أنّ المولى قد ضيّق دائرة الحكم بالعلم بالجعل، لم يكن هناك محذور.

وعلى مبنى اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) تكون طرفيّة العبد للحكم أو فاعليّة الحكم قد توقّفت قهراً على ما ضيّق المولى دائرة الحكم به، فإن فرض أنّ المولى قد ضيّق دائرة الحكم بالعلم بطرفيّة العبد للحكم وفاعليّة الحكم، وردت المحاذير السابقة، وإن فرض أنّ المولى قد ضيّق دائرة الحكم بالعلم بالجعل، لم يكن هناك محذور.

ولا يجعل المولى ابتداءً فاعليّة الحكم أو طرفيّة المكلّف للحكم متوقّفة على العلم كي يقال: إنّ فاعليّة الحكم أو طرفيّة المكلّف له أمر قهرىّ، وليس تشريعيّاً تناله يد المشرّع بما هو مشرّع، وإنّما الذي يصنعه المولى هو تضييق دائرة حكمه وتحصيصه، ويترتّب على ذلك قهراً توقّف فاعليّة الحكم أو طرفيّة المكلّف له على ما ضيّق المولى دائرة الحكم به.

(1) أقول: قد عرفت أنّ المعتمد في مقام الإشكال على فرض وحدة متعلّق العلم وما يترتّب على العلم أمران:

أحدهما: التهافت بين طبيعة العلم ـ التي تتطلّب النظر إلى المتعلّق وكأنّه مستقلّ عن العلم ـ وبين طبيعة المتعلّق الذي ربط بحسب الفرض بالعلم، وأوقف عليه.

والثاني: عدم قابليّة الحكم للوصول؛ لأنّ العلم به متوقّف على العلم بموضوعه، فإذا كان موضوعه هو العلم

352

هذا تمام كلامنا في بيان وجهين للهروب من إشكالات أخذ العلم بالحكم في متعلّق الحكم.

فلو اتّفق في الشريعة في بعض الموارد اختصاص الحكم بالعالمين بالحكم كما في مسألة الجهر والإخفات والقصر والإتمام ـ بناءً على أنّ المستفاد من روايات الإجزاء فيها هو اختصاص الحكم بالعالم ـ يحمل ذلك على أحد هذين الوجهين.

 

مسلك متمّم الجعل

إنّ المحقّق النائينىّ(رحمه الله) سلك في بيان المهرب من إشكال استحالة موضوعيّة العلم بالحكم لمتعلّقه مسلكاً آخر، وهو مسلك متمّم الجعل.

 


به، توقّف العلم به على العلم بالعلم به، وهذا ما يعود إلى الدور، أو إلى روح الدور، أعني: توقّف الشيء على نفسه.

ولا إشكال في أنّ الوجه الثاني المذكور في المتن باستطاعته أن يحلّ المحذور الثاني، بلا حاجة إلى رجوعه إلى الوجه الأوّل، أو إلى روح الوجه الأوّل: من التمييز بين الجعل والمجعول، أو الجعل وفاعليّة الحكم، فحتّى لو فرضنا أنّ الإبراز الذي يكون العلم به شرطاً في الحكم متعلّق بنفس ما يترتّب على العلم، فالمجعول ـ مثلاً ـ يترتّب على العلم بإبراز المولى للمجعول، أو فاعليّة الحكم تترتّب على العلم بإبراز المولى لفاعليّة الحكم، كان المحذور الثاني مرتفعاً؛ إذ لا يلزم من أخذ العلم بإبراز الحكم في موضوع الحكم عدا توقّف العلم به على العلم بالعلم بإبرازه الراجع إلى توقّف العلم به على العلم بإبرازه، وهذا غير توقّف الشيء على نفسه، وكثيراً ما يتّفق توقّف العلم بشيء على العلم بإبرازه، فمثلاً فيما يخبر المخبر الثقة بقضيّة لا سبيل لنا إلى معرفتها غير إخباره يكون علمنا بتلك القضيّة متوقّفاً على علمنا بإبراز المخبر لها.

إلّا إنّه قد يقال: إنّ هذا الوجه لا يحلّ المحذور الأوّل إلّا بنفث روح الوجه الأوّل فيه: من التمييز بين الجعل والفعليّة، أو الجعل والفاعليّة؛ ذلك لأنّه لو غضّ النظر عن هذا التمييز، لأمكن أن يقال باستحالة توقّف الحكم على العلم بإبراز المولى للحكم؛ لأنّ العلم بشيء يقتضي بطبيعته النظر إلى ذاك الشيء وكأنّه مستقلّ عن العلم وغير متوقّف عليه، فإبراز الحكم يجب أن يفرض مستقلّاً عن العلم وغير متوقّف عليه، وهذا يعني: ثبوت إبراز المولى للحكم بغضّ النظر عن العلم بهذا الإبراز، وطبعاً إبراز المولى للحكم فرع ثبوت الحكم واقعاً، إذن هذا يعني: ثبوت الحكم واقعاً بغضّ النظر عن العلم بهذا الإبراز، في حين أنّ المفروض هو توقّف الحكم على العلم بهذا الإبراز.

وبتعبير آخر: أنّ توقّف الحكم على العلم بالإبراز يستدعي توقّف معلوله، وهو الإبراز على العلم بالإبراز، فقد أصبح متعلّق العلم وهو الإبراز متوقّفاً على العلم، وقد افترضنا استحالته؛ للزوم التهافت بين طبيعة العلم الذي يقتضي النظر إلى المعلوم وكأنّه مستقلّ عنه، وطبيعة المعلوم.

إذن نحن بحاجة إلى نفث روح الوجه الأوّل: من التمييز بين الجعل والفعليّة، أو الجعل والفاعليّة في هذا الوجه؛ كي نقول: إنّ فعليّة الحكم أو فاعليّته توقّفت على العلم بإبراز المولى للجعل.

353

وحاصل رأيه في ذلك: أنّ الجعل ربّما لا يكون مطابقاً لغرض المولى ووافياً بتمام الغرض، وذلك كما فيما نحن فيه؛ إذ لا إشكال في أنّ الغرض: إمّا أن تعلّق بصدور الفعل عن خصوص العالم بالحكم، أو تعلّق بصدور الفعل عن مطلق العالمين والجاهلين، ولكنّ جعله لا يفي باختصاص الغرض بالعالم ولا بالإطلاق: أمّا الأوّل فلما مضى من استحالة أخذ العلم بالحكم شرطاً لذاك الحكم، وأمّا الثاني فلما مضى من عدم تفرقة القوم (ومنهم المحقّق النائينىّ(رحمه الله)) بين أخذ العلم شرطاً أو مانعاً، فيستحيل تقييد الحكم بالجهل أيضاً، وبالتالي يستحيل الإطلاق باستحالة التقييد؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في نظره(قدس سره): تقابل العدم والملكة، فهذا الجعل مهمل لا مطلق ولا مقيّد، ومن هنا احتجنا إلى جعل آخر متمّم للجعل الأوّل لإفادة غرضه، فيجعل وجوب ذاك الفعل مرّة اُخرى مقيّداً بالعلم بالجعل الأوّل أو مطلقاً، فتحصل نتيجة تقييد الجعل الأوّل أو إطلاقه بتقييد الجعل الثاني أو إطلاقه، وهذان الجعلان لبّاً وروحاً جعل واحد؛ لأنّهما مسوقان لغرض واحد. هذا ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله).

ولنا في هذا الكلام بحثان: أحدهما بلحاظ الجعل الأوّل، وثانيهما بلحاظ الجعل الثاني:

البحث الأوّل: في الكلام في الجعل الأوّل، وقد أورد السيّد الاُستاذ على ما مضى نقله في ذلك عن المحقّق النائينىّ(رحمه الله) إيرادين:

أحدهما: أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد صحيح أنّه تقابل العدم والملكة، ففي جانب العدم اُخذت مرتبة من قابليّة الوجود بانتفائها ينتفي ذلك العدم الخاصّ، لكن ليست القابليّة المأخوذة عبارة عن القابليّة الشخصيّة حتّى ينتفي بانتفائها العدم الملحوظ في باب العدم والملكة، بل هي قابليّة كلّيّة؛ ولذا ترى أنّه يصدق على العبد كونه جاهلاً بحقيقة الباري تعالى مع أنّ التقابل بين العلم والجهل تقابل العدم والملكة، ويستحيل علم العبد بحقيقة الباري عزّ اسمه، والسبب في صدق الجهل في المقام هو كفاية مطلق قابليّته للعلم لصدق عنوان الجهل عليه، ولا حاجة في صدقه عليه إلى قابليّته للعلم بشخص هذا الأمر، فكذلك نقول فيما نحن فيه بكفاية القابليّة الكلّيّة للتقييد في صدق الإطلاق، فإذا امتنع في مورد ما التقييد، لم يمتنع الإطلاق، بل تعيّن الإطلاق.

وهذا الكلام من السيّد الاُستاذ (الذي جاء ذكره في تعليقته على المجلّد الأوّل من

354

أجود التقريرات(1) وفي الدراسات) كان مبنيّاً على مبناه السابق: من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، وقد عدل بعد ذلك عن هذا المبنى إلى القول بأنّ التقابل بينهما تقابل التضادّ، وإنّ الإطلاق عبارة عن لحاظ عدم دخل القيد، والتقييد عبارة عن لحاظ دخل القيد، فهما أمران وجوديّان متباينان.

وعلى أىّ حال، فهذا الكلام منه في المقام خلط بين مبحثين لا علاقة لأحدهما بالآخر، فأحدهما بحث اصطلاحيّ صرف، والآخر بحث علمىّ واقعىّ.

توضيح ذلك: أنّ للفلاسفة اصطلاحاً في باب التقابل حيث سمّوا قسماً منه بتقابل التضادّ، والقسم الآخر بتقابل السلب والإيجاب، والثالث بتقابل التضايف، والرابع بتقابل العدم والملكة. وقد ذكر في كلمات القدماء تقابل العدم والملكة. ووقع البحث بين المتأخّرين في فهم مراد القدماء من هذا المصطلح، فذهب بعض إلى أنّ القابلية المأخوذة في باب العدم والملكة قابليّة شخصيّة، وبعض آخر أنّها قابليّة كلّيّة. وليس هذا إلّا بحثاً في المصطلح لا في أمر واقعىّ؛ إذ من الواضح الذي لم يشكّ فيه أحد: أنّ العدم المطلق، والعدم المقيّد بالقابليّة الكلّيّة، والعدم المقيّد بالقابليّة الشخصيّة، كلّها مقابل للوجود، ولا يمكن اجتماع واحد منها مع الوجود. وإنّما الكلام والبحث فيما هو المصطلح عليه في باب العدم والملكة، فلو وردت آية أو رواية تدلّ على أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة بالمعنى المصطلح عند الفلاسفة، كان للتفتيش عن معنى هذه الكلمة، والاستشهاد على كون الملكة المأخوذة ملكة كليّة بمثال العلم والجهل؛ لإطلاق هذا المصطلح عليهما في كلمات الفلاسفة، مجال.

ولكنّ الأمر ليس كذلك، وإنّما ينبغي البحث العلميّ بالنسبة إلى الإطلاق والتقييد عن أمر واقعىّ: وهو أن نرى أنّه ما هي النكتة التي توجب سريان الطبيعة إلى تمام أفرادها؟ هل هي العدم المأخوذ فيه القابليّة الكلّيّة، أو الشخصيّة، أو غير ذلك؟ وقد مضى منّا في بحث المطلق والمقيّد أنّ نكتة السريان إنّما هي ذات عدم التقييد، وأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب.

الثاني: أنّ الإهمال في الحكم محال، بل هو إمّا مطلق أو مقيّد، وقد استنتج ذلك في تعليقته على المجلّد الأوّل من أجود التقريرات(2): من أنّ شوق المولى لا محالة: إمّا أن


(1) ص 104.

(2) ص 103.