304

الثبوت أصلاً. فما أتعبوا به أنفسهم الزكيّة في مقام تشخيص ما هو المجعول في باب الأمارات والاُصول من الطريقيّة والمنجّزيّة وغير ذلك بداعي البحث الثبوتيّ في غير محلّه. نعم، تنتج تلك الألسنة بحسب مقام الإثبات في مقام تقديم الأمارات والاُصول بعضها على بعض، وكذلك في القيام مقام القطع الموضوعىّ الطريقىّ.

بقي هنا شيء، وهو: أنّ ما ذكرناه من اختصاص قاعدة قبح العقاب بلا بيان بفرض عدم العلم باهتمام المولى بالحكم على تقدير ثبوته في ظرف الشكّ أمر وجدانىّ لنا، أمّا إذا أنكر ذلك شخص، وكان له وجدان غير وجداننا يحكم بعدم الفرق بين الصورتين وجريان القاعدة في كلا الفرضين، قلنا بالنسبة إليه: إنّ مقتضى الجمع بين هذا الوجدان المزعوم له والوجدان الحاكم بتنجّز الواقع بمثل أمر المولى بالاحتياط والتحفّظ عليه ـ بعد فرض ثبوت هذا الوجدان لذاك الشخص ـ هو أن يلتزم بكون التنجيز من العناوين القصديّة سنخ التعظيم الذي يحصل بمثل القيام لو كان بقصد التعظيم، فيقال: بأنّ إنشاء الحكم الظاهرىّ بداعي التنجيز يكون منجّزاً للواقع، وهذا هو الذي يعبّر عنه المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) بالحكم الطريقىّ.

ثُمّ إنّ تمام ما مضى من البحث إنّما كان بالنسبة إلى الأمارات والاُصول الشرعيّة دون مطلق الاُصول، فإنّ هذا المبحث عقدناه للجواب عمّا عرفته من الشبهة، وهي غير جارية في الاُصول العقليّة.

 

2 ـ قيامها مقام القطع الموضوعىّ الطريقىّ

 

المقام الثاني: في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الموضوعىّ المأخوذ على وجه الكاشفيّة وعدمه، بعد الفراغ ممّا مضى في قيامها مقام القطع الطريقىّ الصرف.

والبحث هنا ليس في أصل إمكان إقامتها مقام القطع ثبوتاً؛ إذ من الواضح أنّه لا إشكال في إمكانها.

والشبهة التي وردت في قيامها مقام القطع الطريقىّ لا ترد هنا؛ إذ تلك الشبهة نشأت من أنّ أثر القطع الطريقىّ عقلىّ، وهو التنجيز والتعذير، فيدّعى أنّ العقل أدرك اختصاص

305

التنجيز بالقطع مثلاً، وأنّه عند عدم القطع تثبت قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فقيام الأمارة والأصل الشرعىّ مقامه يعني التخصيص في حكم العقل، وهو مستحيل. أمّا في المقام فأثر القطع الموضوعىّ قد ثبت بالشرع، وبإمكان الشارع نفسه أن يقيم شيئاً آخر مقامه، كما هو واضح، كما لا إشكال في أنّ بإمكانه إيصال قيام الأمارة والأصل مقام القطع الموضوعىّ بدليل خاصّ.

وإنّما الكلام في المقام يقع في أنّ نفس دليل حجّيّة الأمارة والأصل تعبّداً الذي دلّ على قيامهما مقام القطع الطريقىّ هل يكفي لإثبات قيامهما مقام القطع الموضوعىّ الطريقىّ، أو لا؟(1).

 


(1) ولنستذكر هنا خلاصة عمّا مضى من مبحث تقسيم القطع الموضوعىّ إلى الطريقىّ والصفتىّ، فنقول: قد مضى فيما سبق: أنّ القطع هو عين الطريقيّة والكاشفيّة، ومن هنا وقع الإشكال في كيفيّة تصوير انقسام القطع الموضوعىّ إلى الموضوعىّ بما هو طريق، والموضوعىّ بما هو صفة، وكان لتصوير ذلك طريقان:

الأوّل: افتراض أخذ عنصر زائد على الطريقيّة في الصفتىّ بدلاً من الطريقيّة، أو إضافة إليها، إمّا بدعوى تحليل نفس القطع إلى الطريقيّة وشيء آخر كما عن صاحب الكفاية(رحمه الله)الذي ذكر أنّ القطع من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة، أو بإدخال عنصر غريب عن القطع من ملازمات القطع في الحساب، كسكون النفس واطمئنان الخاطر كما عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

الثاني: افتراض أنّ المقصود بالطريقىّ ما لوحظ فيه الجامع بين الطريق التكوينىّ والطريق التعبّدىّ، فيقابله الصفتىّ، وهو ما لو حظ فيه خصوص الطريقيّة التكوينيّة. ومن هنا يتّضح أنّ الصفتىّ بالتصوير الثاني قد يكون طريقيّاً بالتصوير الأوّل.

وعليه فتارة يقع الكلام في قيام الأمارات والاُصول مقام الموضوعىّ الطريقىّ بالتصوير الثاني.

واُخرى في قيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ بالتصوير الأوّل.

وثالثة في قيامها مقام الموضوعىّ الصفتىّ بمعنى أخذ شيء غريب عن الطريقيّة فيه.

أمّا قيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ بالتصوير الأوّل، أو الصفتىّ بمعنى أخذ شيء غريب عن الطريقيّة فيه، فهما مبحوثان في المتن. وأمّا قيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ بالتصوير الثاني ـ أي: ما إذا لو حظت في الموضوع الطريقيّة بالمعنى الجامع بين الطريق التكوينىّ والطريق الشرعىّ ـ فبقدر ما نؤمن بفرضيّة إرادة الجامع لا تبقى حاجة إلى مزيد بحث في قيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ؛ إذ المفروض من أوّل الأمر أنّ دليل موضوعيّته قد جعل الموضوع هو الجامع بينه وبين الحجّة الشرعيّة، فكلّ ما كان داخلاً في ذاك الجامع فلا محالة يقوم مقام الفرد الأوّل، فإذا كان الموضوع هو جامع التنجيز والتعذير مثلاً، واُخذ القطع في الموضوع بوصفه فرداً من أفراد هذا الجامع، فكيف لا يقوم مقامه الفرد الآخر من الأصل أو الأمارة؟ وإذا كان الموضوع هو جامع الكشف الحجّة ـ مثلاً ـ المتواجد في القطع وفي الأمارة، فلم لا تقوم الأمارة مقامه؟! ولعلّ مقصود الشيخ الأعظم(رحمه الله) من القطع الموضوعىّ الطريقىّ كان هذا المعنى؛ ولذا أرسل قيام الأمارات والاُصول مقامه إرسال المسلّمات، ولم يكلّف نفسه الشريفة البحث عن ذلك والبرهنة عليه. نعم، الظاهر أنّ محطّ بحث الأصحاب

306

ثُمّ إنّ دليل التنزيل تارة يفرض أنّ لسانه لسان إقامة المظنون مقام الواقع، بمعنى جعل حكم على طبق الأمارة بعنوان أنّه هو الواقع؛ ولذا يسمّى بالواقع الجعلىّ، واُخرى يفرض أنّ لسانه لسان إقامة الظنّ منزلة القطع بالواقع.

أمّا القسم الأوّل: فلا إشكال في أنّه إنّما يفيد قيام الظنّ مقام القطع الطريقىّ البحت بالبيان الماضي دون قيامه مقام الموضوعىّ الطريقىّ؛ إذ إنّ هذا بحاجة إلى تنزيل مفقود في المقام، فلم ينزّل الظنّ بالواقع والقطع بالظاهر منزلة القطع بالواقع في آثاره الشرعيّة.

وأمّا القسم الثاني: فهو الذي يبحث فيه عن أنّه هل يمكن إقامة الأمارات والاُصول مقام القطع بكلا قسميه بهذا اللسان، أو لا؟ فالتقريب الابتدائىّ لقيامهما مقامهما معاً هو: أنّ القطع له آثار عقليّة كالتنجيز والتعذير، وآثار شرعيّة، وهي التي جعل القطع موضوعاً لها. ومقتضى إطلاق تنزيل الظنّ منزلة القطع قيامه مقامه في كلا قسمي الأثر.

ولكن المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) ذهب إلى عدم إمكان ذلك، ونبيّن مرامه(قدس سره) في ضمن اُمور ثلاثة:

الأوّل: أنّ عمليّة إقامة الظنّ مقام القطع الطريقىّ لا يمكن أن تكون عبارة عن تنزيل نفس الظنّ منزلة العلم في أثره من الكاشفيّة والتنجيز والتعذير؛ لأنّ هذه الآثار التكوينيّة أو العقليّة ليست بيد الشارع، وإنّما للحاكم تنزيل شيء منزلة شيء آخر في أحكام نفسه لا في الأحكام العقليّة أو التكوينيّة. وإنّما تكون عمليّة إقامة الظنّ مقام القطع الطريقىّ عبارة عن تنزيل المظنون منزلة الواقع، بمعنى جعل حكم على طبقه بعنوان أنّه هو الواقع، فإذا قال الشارع في مقام جعل الظنّ منزلة القطع الطريقىّ: نزّلت الظنّ منزلة القطع، يجب أن يحمل على أخذ الظنّ والقطع على وجه الآليّة، وأنّ النظر إنّما هو إلى المظنون والمقطوع؛ كي يرجع إلى ما ذكرناه.

هذا. وفرض عدم إمكان جعل الآثار العقليّة من التنجيز والتعذير مباشرة هو مبنى


الذين أطنبوا في الكلام في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الموضوعىّ الطريقىّ وعدمه هو الموضوعىّ الطريقىّ بالتصوّر الأوّل، هذا.

ولو كان الموضوع هو جامع الكشف الحجّة وهو يشمل الأمارة ولا يشمل الأصل، فالأمر بلحاظ الأصل يلتحق بالبحث الوارد في القيام مقام الموضوعىّ الطريقىّ بالتصوير الأوّل.

307

الشيخ(رحمه الله)، وصاحب الكفاية جرى هنا على وفق مبنى الشيخ، وسجّل على الشيخ بطلان قيام الأمارات والاُصول مقام كلا قسمي القطع بدليل الحجّيّة، واختار صاحب الكفاية نفس هذا المبنى في بحث الاستصحاب، ولكنّه اختار في بحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ جعل نفس التنجيز والتعذير مباشرة.

الثاني: أنّ عمليّة إقامة الظنّ مقام القطع الموضوعىّ عبارة عن لحاظ الظنّ والقطع مستقلّين وتنزيل نفس الظنّ منزلة نفس القطع؛ إذ الظنّ والقطع ـ عندئذ ـ لم يلحظا مرآة إلى المظنون والمقطوع وكان الحكم الشرعىّ ثابتاً لذات القطع والظنّ.

الثالث: أنّ الجمع بين اللحاظ الآلىّ والاستقلالىّ جمع بين المتضادّين، ولا يمكن ذلك.

إذن لا يمكن أن يكون قوله: الظنّ بمنزلة القطع متكفّلاً لكلا التنزيلين.

بقيت هنا عبارة للمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) ينبغي شرحها، وهي قوله: «نعم لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما، يمكن أن يكون دليلاً على التنزيلين، والمفروض أنّه ليس».

ولا ينبغي تفسير هذه العبارة بفرض جامع بين اللحاظ الآلىّ والاستقلالىّ؛ فإنّ المفهوم الجامع بين مفهومي اللحاظ الآلىّ والاستقلالىّ ليس لحاظاً آليّاً ولا استقلاليّاً حتّى يتمّ به كلا التنزيلين، وإنّما هو بنفسه مفهوم يلحظ.

والذي ينبغي أن يفسّر به هذا النصّ هو: أنّه لو كان هناك مفهوم جامع بين العلم والمعلوم، ومفهوم جامع بين الظنّ والمظنون، فنزّل الثاني منزلة الأوّل، تحقّق بذلك كلا التنزيلين. هذا. وما ذكره صاحب الكفاية(رحمه الله): من أنّ الجمع بين التنزيلين يستلزم الجمع بين اللحاظين يكون بظاهره خلطاً بين العنوان والحقيقة أو المفهوم والمصداق؛ ذلك لأنّ الذي ينظر إلى العلم أو الظنّ تارة آليّاً، واُخرى استقلاليّاً إنّما هو نفس العالم والظانّ؛ فإنّ العلم والظنّ ليست لهما مرآتيّة إلّا لنفس العالم والظانّ، فتارة ينظر إلى المعلوم والمظنون من خلال المرآة، فيكون نظره إلى العلم والظنّ آليّاً، واُخرى ينظر إلى نفس العلم والظنّ بالاستقلال.

أمّا الشخص الآخر ـ والمفروض في المقام أنّه هو المولى ـ فهو إنّما يلحظ عنوانالعلم والظنّ ومفهومهما لاواقعهما ومصداقهما، ولحاظه للمفهومين لا محالة يكون مستقلّاً

308

ـ دائماً ـ في قبال ما يقصد بآليّة المرآة وفنائها. نعم، قد يلحظ العنوانين فانيين في أفرادهما لا في أفراد المظنون والمقطوع، واُخرى يلحظهما غير فانيين فيها، وهذا مطلب آخر غير مربوط بما نحن فيه.

نعم، يمكن توجيه كلامه(قدس سره): بأن يفترض أنّه(رحمه الله) لايقصد الآليّة والاستقلاليّة بالنسبة إلى التصوّر، وإنّما المقصود هو الآليّة والاستقلاليّة في القصد، بمعنى الصراحة والكناية. فتارة يكون مقصوده الجدّيّ، هو نفس العلم والظنّ كما هو مفاد المدلول الاستعمالىّ، وهذا هو الصراحة، واُخرى يكون مقصوده الجدّيّ المعلوم والمظنون، فيكون الكلام كناية عن قيام المظنون منزلة المعلوم، فلو فرض الجمع بين التنزيلين، لزم الجمع بين الصراحة والكناية.

والشاهد من كلام المحقّق الخراسانىّ(قدس سره) على إرادة هذا المعنى على الرغم من أنّه عبّر مراراً بتعبير اللحاظ الآلىّ والاستقلالىّ ما جاء مرّة واحدة منه في بحث الاستصحاب من التعبير بالكناية(1).

ثُمّ إنّ إشكال استحالة الجمع بين الصراحة والكناية في المقام هو فرع تسليم إمكان الكناية هنا في نفسها: بأن لا نشترط في باب الكناية كون المعنى الكنائىّ المقصود من


(1) هذا إشارة إلى ما جاء في الكفاية في بحث الاستصحاب ص 287 بحسب طبعة المشكينىّ، حيث قال: «إنّما يلزم لو كان اليقين ملحوظاً بنفسه وبالنظر الاستقلالىّ، لاما إذا كان ملحوظاً بنحو المرآتيّة وبالنظر الآلىّ، كما هو الظاهر في مثل قضيّة (لا تنقض اليقين) حيث تكون ظاهرة عرفاً في أنّها كناية عن لزوم البناء والعمل بالتزام حكم مماثل للمتيقّن تعبّداً إذا كان حكماً، ولحكمه إذا كان موضوعاً...».

إلّا أنّ ما جاء في تعليقة صاحب الكفاية(رحمه الله) على رسائل الشيخ الأعظم(قدس سره) ربّما لايلائم هذا التوجيه الذي ذكره اُستاذنا الشهيد لكلام صاحب الكفاية؛ ذلك لأنّه(رحمه الله) قد أورد في تلك التعليقة على مسألة كون الجمع بين التنزيلين جمعاً بين اللحاظين: أنّ هذا إنّما يتمّ إذا كان دليل الاعتبار مع لحاظ، أمّا إذا كان من دون ذلك، فلايرد هذا الإشكال.

وأجاب عن ذلك بأنّ هذا الإيراد لا مجال له إذا كان الكلام إنشاءً للتنزيلين؛ إذ إنشاؤه يستحيل أن ينفكّ عن تعيين المنزّل والمنزّل عليه وما فيه التنزيل تصوّراً ولحاظاً. نعم، إذا كان إخباراً عن تنزيل سابق تمّ فيه اللحاظ فلا يلزم الجمع بين لحاظين في خطاب واحد؛ لإمكان حكاية هذا الكلام عن تنزيلين مستقلّين، إلّا أنّه لايوجد دليل على إرادة الإخبار عن كلا التنزيلين إلّا الإطلاق، والإطلاق لا يتمّ عند كون أحدهما قدراً متيقّناً، والقدر المتيقّن في المقام هو التنزيل بلحاظ الحجّيّة، على أنّ الحمل على الإخبار دون الإنشاء خلاف الظاهر.

والسبب في قولنا: (إنّ هذا التعبير ربّما لايلائم توجيه كلام صاحب الكفاية بإرادة الكناية والصراحة) هو وضوح أنّ محذور الجمع بين الكناية والصراحة لا يختصّ بالإنشاء، فهو ثابت في الإخبار أيضاً، في حينأنّه قد يتخيّل ورود محذور الجمع بين اللحاظ الآلىّ والاستقلالىّ في الإنشاء الذي هو ـ في نظر صاحب الكفاية ـ إيجاد للمعنى دون الإخبار الذي ليس إلّا مجرّد الحكاية.

309

لوازم المعنى المطابقىّ الاستعمالىّ كما في زيد كثير الرماد، أو حكماً لما هو من لوازمه كما في أكرم كثير الرماد، أمّا لو اشترطنا ذلك، فالكناية في المقام في ذاتها غير معقولة؛إذ ليس تنزيل المظنون منزلة المقطوع لازماً لتنزيل الظنّ منزلة القطع، ولا حكماً لما يلزمه، أمّا الأوّل فواضح؛ لعدم أىّ ملازمة بين التنزيلين، وأمّا الثاني فلأنّه إنكان المراد بالمظنون المظنون بالذات ـ وهي الصورة الذهنيّة الملازمة للظنّ ـ فليس هو موضوعاً لهذا التنزيل، وإن كان المراد به المظنون بالعرض وهو الحكم الواقعىّ، فلا تلازم بينه وبين الظنّ.

والمحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) على الرغم من أنّه ذهب إلى اشتراط اللزوم في باب الكناية قال بإمكان الكناية في المقام؛ وذلك بدعوى أنّ المراد بالمظنون هو المظنون بالذات، ولكن لا بما هو، بل بما هو فان في المظنون بالعرض، فاللزوم ثابت؛ لأنّ المظنون بالذات يلازم الظنّ، وفي نفس الوقت لا يرى به إلّا المظنون بالعرض على ما هو شأن الفناء، وهو الحكم المجعول من قبل الشارع.

ويرد عليه: أنّه إن نظرنا إلى ظنّنا نظراً فنائيّاً، قلنا بهذا النظر: إنّه لا تلازم بين المظنون والظنّ؛ إذ لا نرى بهذا الظنّ إلّا المظنون بالعرض الذي هو قابل للانفكاك عن الظنّ، وإن نظرنا إليه بالنظر المستقلّ، لم يكن المظنون حكماً مجعولاً من قبل الشارع.

والصحيح: أنّ أصل ما جعله شرطاً في الكناية من اللزوم ممّا لا وجه له؛ فإنّ الذي يقوّم الكناية ـ وهو الانتقال من المدلول الاستعمالىّ إلى معنى آخر كي يصبح من الصحيح جعله مدلولاً جدّياً للكلام ـ تكفي فيه المناسبة، وهي غير منحصرة في اللزوم، ومن المناسبات نفس الكاشفيّة والمنكشفيّة، إلّا أن تفرض كلمة الكناية اصطلاحاً خاصّاً لفرض اللزوم، وعندئذ يرد عليه:

أنّنا لانحتاج فيما نحن فيه لإثبات المطلوب إلى تلك الكناية، بل نحتاج إلى ما هو أعمّ منها.

وقد يخطر بالبال الإيراد على المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) بمنع عدم إمكان الجمع بينالتنزيلين واللحاظين؛ وذلك ـ على رغم افتراضنا أنّ التنجيز والتعذير غير قابلين للجعل مباشرة ـ باعتبار أنّهما قابلان للجعل بالتبع: بأن يجعل المولى المظنون منزلة المعلوم،

310

فبالتبع سينتج الظنّ نتيجة العلم من التنجيز والتعذير، فليقصد بقوله: (نزّلت الظنّ منزلة القطع) تنزيله منزلته في الأثر الشرعىّ والعقلىّ معاً بلا كناية ولا لحاظ آلىّ؛ إذ بإمكانه ترتيب كلا الأثرين ولو كان أحدهما بالمباشرة والثاني بالتبع، فوزان هذا التعبير هو وزان قوله: (الناس مسلّطون على أموالهم) حيث نقول: إنّه يشمل بالإطلاق الحكم التكليفىّ، وهو حلّيّة التصرّف الاستهلاكىّ، والحكم الوضعىّ، وهو السلطة على البيع، على الرغم من أنّ السلطة على البيع ليست مجعولة بالأصالة كالحلّيّة، وإنّما هي بتبع جعل آخر، وهو تنفيذ البيع.

ولايقال: إنّ هذا البيان إنّما يتعقّل في الإخبار، أمّا مع استظهار كون قوله: (نزّلت الظنّ منزلة القطع) إنشاء، فلا يتمّ ذلك؛ لأنّ المفروض استحالة جعل الظنّ منزلة القطع في الآثار العقليّة، إلّا بأن يفرض أنّ المقصود هو إنشاء جعل المظنون منزلة المقطوع كي يصبح الظنّ بالتبع بمنزلة القطع، لكنّ هذا عبارة عن الكناية، فرجع المحذور مرّة اُخرى.

فإنّه يقال: إنّ هذا الإشكال نشأ من تخيّل أنّ عالم الثبوت كعالم الإثبات؛ فإنّ إنشائيّة الكلام وإخباريّته مرتبطة بعالم الإثبات لا بعالم الثبوت كي يكون إنشاء شيء مستلزماً لجعله ثبوتاً بالأصالة لا بالتبع كما هو إثباتاً متعلّق به بالأصالة لا بالتبع.

والجواب عن هذا الإيراد: أنّ قياس المقام بمثل: (الناس مسلّطون على أموالهم) قياس مع الفارق؛ لأنّ التنجيز والتعذير ليسا مترتّبين على جعل الشارع للمظنون منزلة المقطوع بلاتوسّط أمر تكوينىّ كي يكونا مجعولين بالتبع، كما هو الحال في ترتّب سلطنة المالك مباشرة على تنفيذ البيع، وإنّما يترتّبان عليه بتوسّط العلم به الذي هو أمر تكوينىّ، فالذي قام حقيقة مقام العلم بالواقع الحقيقىّ إنّما هو العلم بالواقع التنزيلىّ لاالظنّ بالواقع الحقيقىّ، فلا يمكن ثبوت إطلاق من هذا القبيل لمثل قوله: (نزّلت الظنّ منزلة القطع).

والتحقيق في مقام الإيراد على المحقّق الخراسانىّ(قدس سره) ذكر جوابين:

الأوّل: أنّ بالإمكان فرض قيام الظنّ مقام القطع بكلا قسميه من دون جمع بين اللحاظين؛ وذلك بأن يقصد بهذا الكلام بالمطابقة قيام الظنّ مقام القطع الموضوعىّ فحسب، ولكنّ إطلاق قيامه مقام القطع الموضوعىّ يدلّ بالالتزام على قيامه مقام القطع الطريقىّ؛ وذلك لأنّ دليل قيام الظنّ مقام القطع الموضوعىّ كما يدلّ على قيامه مقامه في

311

الأحكام الواقعيّة كجواز الائتمام ـ مثلاً ـ في العلم بالعدالة، كذلك يدلّ بالإطلاق على قيامه مقامه في إنهاء الأحكام الطريقيّة التنجيزيّة والتعذيريّة، كأصالة الاحتياط وأصالة البراءة الشرعيّتين، وقاعدة الفراغ والتجاوز، وغير ذلك من الأحكام الطريقيّة المغيّاة بالعلم، وصحيح أنّ هذا لايكون مستلزماً لتنجيز الواقع والتعذير عنه؛ إذ إسقاط المنجّزات والمعذّرات الشرعيّة لا يستلزم عقلاً التعذير أو التنجيز، ولكنّنا لا نحتمل فقهيّاً ثبوت سقوط الاُصول الشرعيّة بالنسبة إلى شيء من دون قيام حجّة عليه نفياً أو إثباتاً، وبهذا يثبت المطلوب(1).

الثاني: أنّنا لنسلّم أنّ حمل قوله مثلاً: (الظنّ كالقطع) على التنزيل بالمعنى المصطلح بلحاظ كلا قسمي القطع يورّطنا في مشكلة الجمع بين لحاظين؛ إذ إنّ حكم القطع الموضوعىّ يمكن إثباته للظنّ بالتنزيل، أمّا حكم القطع الطريقىّ، فلا يثبت بهذا التنزيل، لا بالأصالة؛ لأنّ المفروض عدم إمكان جعل المنجّزيّة والمعذّريّة، ولا بالتبع؛ لأنّ المفروض أنّ ترتّب التنجيز والتعذير على الظنّ يكون بواسطة الأمر التكوينىّ، وهو العلم بالواقع التنزيليّ، فنضطرّ إلى حمله على إرادة تنزيل المظنون منزلة الواقع، وهذا هو الجمع بين اللحاظين. إلّا أنّ التنزيل بالمعنى المصطلح لا يتعقّل في القطع الطريقىّ في موارد الشبهات الحكميّة حتّى بعد الحمل على إرادة تنزيل المظنون منزلة الواقع؛ إذ ما معنى تنزيله منزلة الواقع في الحكم، في حين أنّ الواقع هو الحكم، وهو المعنىّ بثبوته ظاهراً؟! فليس الهدف هو تنزيل المظنون منزلة الواقع في الحكم، وإنّما الهدف افتراض المظنون كأنّه هو الواقع، أي: أن يحكم المولى ظاهراً على وفق المظنون، إذن فالمفهوم من قوله: (الظنّ كالقطع) هو التشبيه لا التنزيل، والتشبيه من الممكن شموله لكلا قسمي الأثر


(1) أقول: إنّ هذا الإشكال ـ وإن كان وارداً على المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) على مستوى أنّه ادّعى استحالة دلالة دليل التنزيل على كلا التنزيلين، فثبت بهذا البيان عدم استحالة ذلك ـ لا يناسب عمليّاً ما بيدنا من منهج البحث؛ ذلك لأنّ هذا إنّما يتمّ فيما إذا استظهرنا من دليل التنزيل تنزيل الظنّ ابتداءً منزلة القطع الموضوعىّ، ثُمّ أردنا أن نتعدّى إلى تنزيله منزلة القطع الطريقىّ، فهذا بيان لطيف لإثبات التعدّي.

ولكن الواقع هو العكس؛ إذ نستظهر ابتداءً من دليل التنزيل تنزيل المظنون منزلة الواقع، أو قل: تنزيل الظنّ منزلة القطع بالنظر الآلىّ، ونلتمس وجهاً للتعميم والتعدّي إلى تنزيل الظنّ منزلة القطع الموضوعىّ، وهذا البيان لايفيد ذلك، فبحدود ما هو المفترض خارجاً من كون المتيقّن من مفاد الأدلّة إنّما هو الحجّيّة يكون إشكال المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) على التعميم مازال باقياً على قوّته.

312

بلا حاجة إلى الجمع بين اللحاظين أو الصراحة والكناية، فيكون معنى قوله: (الظنّ كالقطع) هو أنّ الظنّ يشبه القطع، أي: إنّ من يظنّ بشيء، فعليه أن يعمل بنحو كأنّه قاطع به سواء بلحاظ الآثار الشرعيّة أو بلحاظ الآثار العقليّة، وهذا لا بأس به، ولا يهمّنا في ذلك الفرق الموجود بين الأثرين: من أنّ الأثر الشرعىّ يترتّب مباشرة على الظنّ، والأثر العقلىّ يترتّب في الواقع على العلم بالحكم الظاهرىّ لا على الظنّ بالحكم الواقعىّ.

وهذا نظير ما لو قال المولى لعبده: إن رزقت ولداً، فاصنع ما يصنعه عبد فلان حينما يرزق ولداً، فإنّ هذا ليس تنزيلاً بالمعنى المصطلح؛ إذ ليس لهذا المولى حكم على ذاك العبد حينما يرزق ولداً حتّى يسريه بالتنزيل إلى مورد كلامه، وإنّما حكم ذاك العبد مرتبط بمولاه، ولكنّه تشبيه وبيان لوجوب فعل ما يشبه فعل ذاك العبد على هذا العبد.

وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ جعل الحكم المماثل بتنزيل المؤدّى منزلة الواقع غير معقول؛ إذ ليس للواقع حكم مماثل يسري إلى المؤدّى، وإنّما الواقع هو الحكم الذي يراد جعل مثله، فيصحّ التشبيه لا التنزيل.

هذا. وقد أشكل المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) على ما مضى ـ من تقريبه لعدم إمكان فهم كلا التنزيلين من دليل واحد للزوم الجمع بين اللحاظين ـ بوجهين في تعليقته على الرسائل: أحدهما إشكال على تقدير واحد، والآخر إشكال على كلّ تقدير:

أمّا الوجه الأوّل: فهو إشكال على تقدير بيان التنزيل بلسان الإخبار دون الإنشاء، وتوضيح ذلك: أنّه لو فرض تحقّق كلا التنزيلين بإنشاء واحد: وهو إنشاء جعل الظنّ كالقطع، والإنشاء بنفسه موجد لمعناه من الجعل على مبنى المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله)، فهذا محال؛ لاستلزامه الجمع بين اللحاظ الآلىّ والاستقلالىّ. أمّا لو جعل ابتداءً الظنّ مقام القطع الموضوعىّ باللحاظ الاستقلالىّ، وجعل ـ أيضاً ـ الظنّ مقام القطع الطريقىّ باللحاظ الآلىّ؛ وذلك بجعلين مختلفين لا بجعل واحد، فلم يلزم الجمع بين اللحاظين، ثُمّ أخبر: بأنّي جعلت الظنّ بمنزلة القطع، وأراد بذلك ما يقتضيه إطلاق الكلام من المفهوم الجامع بين الظنّ الآليّ والاستقلاليّ، والمفهوم الجامع بين القطع الآلىّ والاستقلالىّ، فقد أخبر بقيام كلّ من الظنّ الآلىّ والاستقلالىّ مقام ما يناسبه من القطع، فلا إشكال في المقام.

وبكلمة اُخرى نقول: إنّ مقتضى الإطلاق للإخبار هو ثبوت التنزيل في كلتا الحالتين

313

للظنّ (حالة كونه ملحوظاً آليّاً، وحالة كونه ملحوظاً استقلاليّاً)، ونفس اللحاظين الآلىّ والاستقلالىّ قد تحقّقا عند الجعلين قبل هذا الإخبار، فلم يلزم الجمع بين لحاظ آلىّ ولحاظ استقلالىّ.

ثُمّ استدرك هو(رحمه الله) في تعليقته على الرسائل على هذا البيان بأنّه: صحيح أنّ إشكال الجمع بين اللحاظين لا يرد على تقدير الإخبار، ولكن يبقى الدليل على ثبوت كلا التنزيلين هو الإطلاق، ولا إطلاق في المقام؛ لوجود القدر المتيقّن في المقام، وهو إقامة الظنّ مقام القطع الطريقيّ، وذلك يضرّ بتماميّة الإطلاق ومقدّمات الحكمة.

أقول: نحن قد حقّقنا في محلّه عدم مضرّيّة وجود القدر المتيقّن بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، سواء كان من الخارج أو في مقام التخاطب. ولكن مع ذلك نقول في المقام بعدم إمكان التمسّك بالإطلاق لإثبات التنزيل بكلا اللحاظين، لالوجود القدر المتيقّن كما قال، بل لأنّ ما يثبته الإطلاق هو إلغاء الخصوصيّات، ومقصودنا فيما نحن فيه هو الجمع بين الخصوصيّات، فليس حال الإطلاق في المقام حال الإطلاق في (أحلّ الله البيع) للبيع العقدىّ والمعاطاتىّ مثلاً، فلو قال: (أحلّ الله البيع)، كان مقتضى إطلاق الكلام عدم دخل المعاطاتيّة والعقديّة في الحكم، وهذا ينتج سريان الحكم إلى العقدىّ والمعاطاتىّ معاً. أمّا فيما نحن فيه، فسريان الحكم إلى كلّ من الظنّ الآلىّ والاستقلالىّ ليس نتيجة عدم دخل الآليّة والاستقلاليّة في الحكم، وإنّما هو نتيجة دخل كلتيهما في الحكم، والإطلاق لا يفيد ذلك.

نعم هنا كلام، وهو: أنّ في قوله: (أحلّ الله البيع) كما يحتمل عدم دخل المعاطاتيّة والعقديّة في الحكم كذلك يحتمل دخل كلتيهما في الحكم؛ لأنّ بيان الحكم الذي يكون في عالم الثبوت بنحو العموم بلسان الإطلاق إثباتاً ليس مخالفاً للبيان العرفىّ، فيمكن أن يتوهّم أنّ هذا بعينه يأتي في المقام، فيقال: صحيح أنّ الإطلاق لم يقتض الكشف عن دخل الآليّة والاستقلاليّة في الحكم، لكنّهما كانتا دخيلتين في عالم الثبوت، ولم يذكرهما المولى في عالم الإثبات، كما فرضنا أنّ العقديّة والمعاطاتيّة دخيلتان في عالم الثبوت، ولم يذكرهما المولى في مقام الإثبات، على ما هو شأن بيان ما هو عامّ ثبوتاً بلسان الإطلاق إثباتاً الذي قلنا: إنّه ليس مخالفاً للبيانات العرفيّة.

314

والجواب: أنّ الكشف عن المعاطاتيّة والعقديّة لم يكن شرطاً لفهم سريان الحكم إلى كلّ من العقدىّ والمعاطاتىّ؛ إذ كون الحكم ثابتاً على ذات البيع كاف للسريان إليهما، وعندئذ يقال: إنّ بيان الحكم العامّ بلسان الحكم المطلق الثابت على الجامع أمر عرفىّ. وهذا بخلاف ما نحن فيه؛ فإنّه ما لم يكشف عن الآليّة لم يفهم سريان الحكم من الظنّ إلى المظنون، وما لم يكشف عن الاستقلاليّة لا يفهم ثبوت الحكم لنفس الظنّ، فلابدّ من الكشف عن الآليّة والاستقلاليّة، وقد فرضنا أنّ وظيفة الإطلاق ليست هي الجمع بين الخصوصيّات.

وأمّا الوجه الثاني: فهو إشكال على كلا تقديري الإخبار والإنشاء، وبيانه: أنّ بالإمكان استفادة نتيجة التنزيلين من دون التورّط في الجمع بين اللحاظين؛ وذلك لأنّ قوله: (الظنّ كالقطع) لا يدلّ بالمطابقة إلّا على تنزيل واحد، وهو تنزيل المظنون منزلة الواقع، فليس هناك جمع بين لحاظين، ولكنّنا نستفيد بالدلالة الالتزاميّة أنّ القطع بهذا الواقع التنزيلىّ منزّل منزلة القطع بالواقع الحقيقىّ، وهذا يفيد نتيجة قيام الظنّ بالواقع مقام القطع به؛ فإنّ القطع بالواقع التنزيلىّ ملازم للظنّ بالواقع الحقيقىّ.

أمّا الوجه في هذه الدلالة الالتزاميّة، فالظاهر من عبارته في التعليقة على الرسائل أنّه هو مجرّد دعوى فهم العرف، فالعرف يرى أنّه إذا كان المظنون واقعاً تعبّداً، فالقطع به قطع بالواقع ـ أيضاً ـ تعبّداً، وذلك من قبيل أنّه لو كان ابن زيد بمنزلة ابني، فابن ابنه بمنزلة حفيدي.

إلّا أنّ المنقول عن المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) الذي هو تلميذ للمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله): أنّه فسّر عبارة اُستاذه في الكفاية بتفسير آخر: وهو ثبوت الملازمة بدلالة الاقتضاء، وصون كلام الحكيم من اللغويّة.

توضيح ذلك: أنّ صاحب الكفاية(رحمه الله) فرض الكلام فيما إذا كان القطع جزءاً للموضوع إلى صفّ الواقع، فيقال ـ عندئذ ـ: إنّ تنزيل المظنون منزلة الواقع من دون تتميم الأمر بتنزيل آخر لغو؛ إذ الواقع لم يكن إلّا جزءاً للموضوع، فلا يترتّب على المظنون أثر الواقع ما لم يحرز الجزء الآخر، فيدلّ ذلك بدلالة الاقتضاء على أنّ الجزء الآخر ـ أيضاً ـ قد نزّل شيء منزلته، والشيء المناسب لذلك هو القطع بالواقع التنزيلىّ، فهذا منزّل منزلة القطع

315

بالواقع الحقيقىّ ؛ كي يتمّ بذلك الموضوع، ويترتّب الأثر، وتنتفي اللغويّة.

وعلى أيّة حال، فقد أورد صاحب الكفاية(رحمه الله) على ذلك في كفايته ما يمكن شرحه في ضمن بيان أمرين:

الأوّل: أنّ تنزيل القطع بالواقع التنزيلىّ منزلة القطع بالواقع الحقيقىّ يكون في طول تنزيل المظنون منزلة الواقع، لا بمعنى الطوليّة بحسب عالم الدلالة؛ لكون الدلالة الالتزاميّة في طول الدلالة المطابقيّة كما قد يتراءى من بعض عبائر الكفاية، بل بمعنى الطوليّة بين ذات التنزيلين؛ لكون فعليّة تنزيل القطع بالواقع التنزيلىّ فرع فعليّة طرفه، وهو القطع بالواقع التنزيلىّ الذي هو في طول نفس الواقع التنزيلىّ الذي هو في طول تنزيل المظنون منزلة الواقع.

والثاني: أنّ الحكم الواحد لئن كان ينحلّ بحسب تعدّد أفراد الموضوع، فمن الواضح أنّه لا يعقل انحلاله على أجزاء الموضوع، فوجوب إكرام العالم العادل لا ينحلّ إلى حكمين باعتبار العلم والعدالة، ومن هنا يتّضح أنّ التنزيلين بلحاظ جزئي الموضوع لا يعقل فيهما الطوليّة زماناً أو رتبة؛ لأنّهما بروحهما تنزيل واحد؛ لما عرفت من عدم انحلال الحكم بلحاظ أجزاء موضوعه حتّى يترتّب أحد أفراد الحكم على ما نزّل منزلة جزء الموضوع، والتنزيل إنّما هو عبارة عن إسراء الحكم، فلابدّ من كون التنزيلين في عرض واحد، فبتنزيل الجزء الأوّل لا يترتّب الحكم؛ كي يتمّ التنزيل حقيقة؛ كي تصل النوبة إلى التنزيل الآخر الذي هو في طوله.

وبتعبير آخر: أنّ تنزيل شيء منزلة أحد جزئي الموضوع لا يعقل إلّا إذا كان الجزء الآخر ثابتاً حقيقة، أو بتنزيل في عرض ذلك التنزيل.

وأورد المحقّق العراقىّ(رحمه الله) على ما في الكفاية: أنّ تنزيل شيء منزلة جزء الموضوع لا يعني تنزيله منزلته في الحكم الفعلىّ؛ كي يقال: إنّ الحكم إنّما يترتّب على مجموع الجزءين لا على أحدهما، بل يعني تنزيله منزلته في الحكم التعليقىّ، أي: في ترتّب الحكم عليه على تقدير تحقّق الجزء الآخر، وهذا أمر معقول، فقد ينزّل المولى بعد هذا التنزيل شيئاً آخر منزلة الجزء الآخر؛ ليخرج ذلك الحكم التعليقىّ عن التعليق إلى الفعليّة، ولا ضير في ذلك.

316

ويرد عليه: أنّ هذا التخريج في خصوص ما نحن فيه غير وارد؛ لأنّ تنزيل المظنون منزلة الواقع إنّما هو حكم ظاهرىّ، فلو فرض حقّاً أنّه إجراء لنفس الحكم التعليقىّ الثابت على الواقع كما هو المفروض إرادته بكلمة التنزيل، قلنا: إنّ الحكم التعليقىّ الثابت على الواقع قبل التنزيل الثاني إنّما هو معلّق على العلم بالواقع، في حين أنّه لا يعقل تعليق حكم المظنون الذي نزّل منزلة الواقع على العلم بالواقع؛ إذ مع العلم به ينتفي أصل التنزيل الأوّل الذي كان حكماً ظاهريّاً.

فلو فرض المحقّق العراقىّ(رحمه الله) أنّ ما هو المعلّق عليه الحكم الذي جعل بالتنزيل الأوّل عبارة عن القطع بالواقع الحقيقىّ، لم يناسب ذلك كون التنزيل الأوّل حكماً ظاهريّاً.

ولو فرض أنّ ما هو المعلّق عليه لذلك الحكم عبارة عن القطع بالواقع الجعلىّ، ورد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا خلف فرض التنزيل؛ لأنّ التنزيل عبارة عن إسراء نفس حكم المنزّل عليه إلى المنزّل، وحكم المنزّل عليه هو الحرمة المعلّقة على القطع بالواقع الحقيقىّ.

وثانياً: أنّ هذا خلف لما هو المفروض من الاحتياج بعد التنزيل الأوّل إلى تنزيل جديد؛ إذ بمجرّد العلم بالواقع الجعلىّ يتحقّق ما علّق عليه الحكم، وهو القطع بالواقع الجعلىّ، فيصير الحكم فعليّاً بلا حاجة إلى تنزيل جديد. أو قل: إنّ قوله: (جعلت الحرمة لمظنون الخمريّة على تقدير القطع بالواقع الجعلىّ) يكون في الحقيقة متكفّلاً لكلا التنزيلين.

وثالثاً: أنّه على هذا الوجه يلزم تعليق الحرمة على القطع بتلك الحرمة، والمحقّق العراقىّ(رحمه الله) لايجوّز تعليق الحكم على القطع به.

وجه اللزوم: أنّ المفروض أنّ الحرمة علّقت على القطع بالواقع الجعلىّ، وليس جعل الواقع إلّا عبارة عن التنزيل، وليس التنزيل إلّا عبارة عن إسراء الحكم ـ وهو الحرمة ـ إلى المنزّل عليه، وهذا عبارة عن جعل الحرمة، فلزم كون الحرمة معلّقة على القطع بالحرمة.

ولو فرض المحقّق العراقىّ(رحمه الله) أنّ ما هو المعلّق عليه الحكم المجعول بالتنزيل الأوّل عبارة عن الجامع بين القطع بالواقع الحقيقىّ والقطع بالواقع الجعلىّ، ورد عليه:

أوّلاً: أنّ المعلّق عليه الحكم الواقعىّ قبل التنزيل الأوّل كان هو القطع بالواقع الحقيقيّ،

317

والمفروض أنّ تحوّله بالتنزيل الثاني إلى الجامع بين القطع بالواقع الحقيقىّ والقطع بالواقع الجعلىّ إنّما صار بعد التنزيل الأوّل، إذن فمقتضى جرّ نفس الحكم بالتنزيل الأوّل كون المعلّق عليه الحكم المجعول به هو القطع بالواقع الحقيقىّ دون الجامع بين القطعين، إلّا أن يفترض أنّ للتنزيل نظراً إلى الحكم الواقعىّ المتأخّر عنه، وهو مستحيل.

وثانياً: أنّه إن اُريد بالجامع الجامع بين القطع بالواقع الحقيقىّ ونفس عنوان القطع بالواقع الجعلىّ، لم تكن حاجة إلى التنزيل الثاني؛ لكفاية القطع بالواقع الجعلىّ ـ عندئذ ـ في فعليّة الحكم.

وإن اُريد به الجامع بين القطع بالواقع الحقيقىّ وما كان منزّلاً منزلته بحيث اُخذ في الفرد الثاني من الجامع عنوان التنزيل، فعندئذ وإن كنّا نحن بحاجة إلى التنزيل الثاني، لكنّ التنزيل الأوّل على هذا ليس تنزيلاً حتّى لو تنزّلنا عن الإشكال الأوّل؛ لأنّنا لو تنزّلنا عن الإشكال الأوّل، وافترضنا المعلّق عليه الحكم الواقعىّ هو الجامع، فإنّما هو الجامع بين القطع بالواقع وواقع ما نزّل منزلته، وهو القطع بالواقع الجعلىّ، لا الجامع بين القطع بالواقع وعنوان ما نزّل منزلته.

وثالثاً: أنّه لا يعقل التعليق على الجامع بين القطع بالواقع الحقيقىّ والقطع بالواقع الجعلىّ؛ لعدم معقوليّة التعليق على الفرد الثاني ولو في ضمن الجامع؛ لاستلزامه أخذ القطع بالحرمة في موضوع تلك الحرمة.

وقد تحصّل بكلّ هذا: أنّ إشكال المحقّق العراقىّ(رحمه الله) على ما أورده في الكفاية كردّ لما جاء في تعليقته على الرسائل غير تامّ.

نعم، الصحيح: أنّ كلام صاحب الكفاية الذي أورده على ما في تعليقته على الرسائل ـ أيضاً ـ غير تامّ، سواء حمل ما في التعليقة على دعوى الملازمة العرفيّة، أو حمل على دعوى دلالة الاقتضاء.

أمّا على الأوّل وهو دعوى الملازمة العرفيّة؛ فلأنّه بالإمكان أن يقتصر أوّلاً في الاستفادة منها لتنزيل طولىّ على مورد ما إذا كان الواقع موضوعاً مستقلّاً للحكم، والعلم به موضوعاً لحكم آخر، فالدليل ينزّل المظنون منزلة الواقع بالمطابقة، وينزّل العلم بالواقع التنزيلىّ منزلة العلم بالواقع الحقيقىّ بالملازمة العرفيّة، وهما تنزيلان مستقلّان بلحاظ

318

حكمين متعدّدين، فلا ضير في فرض الطوليّة بينهما، ثُمّ نتعدّى من هذا المورد إلى مورد ما إذا كان كلّ من الواقع والعلم جزء الموضوع بمثل عدم احتمال الفصل(1).

وأمّا على الثاني وهو دعوى دلالة الاقتضاء، فهي تكون ابتداءً في مورد ما إذا كان كلّ منهما جزء الموضوع، ويتعدّى إلى غيره بعدم الفصل، إلّا أنّنا حتّى لو سلّمنا أنّ المناسب والمستظهر عرفاً هو تنزيل القطع بالواقع التنزيلىّ (لا الظنّ بالواقع الحقيقىّ) منزلة القطع بالواقع الحقيقىّ، فاستحالة ذلك عقلاً تجعلنا ننتقل إلى تنزيل الظنّ بالواقع الحقيقىّ ـ مثلاً ـ منزلة القطع به؛ إشباعاً لدلالة الاقتضاء لا أن نرفع يدنا من أصل دلالة الاقتضاء.

وأمّا أصل تقريب صاحب الكفاية(رحمه الله) لاستفادة التنزيلين المذكور في تعليقته، فأيضاً هو غير صحيح، سواء قصد بذلك دعوى الملازمة العرفيّة، أو قصد دعوى دلالة الاقتضاء.

أمّا إذا قصد دعوى الملازمة العرفيّة؛ فلأنّ فرض فهم العرف للملازمة إنّما ينتهي إلى حجّيّة شرعيّة لو كان بمستوىً أوجب دلالة التزاميّة للكلام، وفيما نحن فيه ليس الأمر كذلك؛ فإنّ العرف لا ينتقل ذهنه من تصوّر تنزيل المظنون منزلة الواقع إلى تصوّر كون القطع بالواقع الجعلىّ منزّلاً منزلة القطع بالواقع الحقيقىّ فضلاً عن أن يفهم ذلك بالدلالة الالتزاميّة من الكلام، ومجرّد افتراض أن لو ألفت شخص نظره إلى ذلك لاعتقد بالملازمة بين التنزيلين، لا يكفي لتماميّة الدلالة الالتزاميّة، ولو شكّ في الظهور العرفىّ والدلالة الالتزاميّة، كفى الشكّ في عدم ترتيب آثار القطع الموضوعىّ على القطع بالواقع الجعلىّ.

وأمّا إذا قصد دعوى دلالة الاقتضاء؛ فلأنّه يكفي لعدم اللغويّة شمول دليل تنزيل المظنون منزلة الواقع لموارد كون الواقع تمام الموضوع، وأمّا إطلاقه لموارد كون الواقع جزء الموضوع، فلايوجب التمسّك بدلالة الاقتضاء؛ لأنّ الإطلاق ـ دائماً ـ مقيّد بقيد لبّيّ كالمتّصل بثبوت الفائدة وعدم اللغويّة، فإثبات تحقّق القيد بنفس الإطلاق تمسّك


(1) ويكمّل هذا التقريب بدعوى أنّنا نتصوّر التنزيلين فيما تعدّينا إليه بشكل غير طولىّ: بأن يكونا عبارة عن تنزيل المظنون منزلة الواقع، وتنزيل الظنّ بالواقع منزلة القطع به مثلاً، لا تنزيل القطع بالواقع التنزيلىّ منزلة القطع بالواقع الحقيقىّ، وإلّا لعاد إشكال الطوليّة. ففائدة الاقتصار أوّلاً على مورد ما إذا كان كلّ منهما موضوعاً مستقلّاً لحكم، ثُمّ التعدّي بعدم الفصل إلى ما إذا كان كلّ منهما جزء الموضوع هي: إنّه لو ادّعي أنّ طرف الملازمة العرفيّة إنّما هو تنزيل القطع بالواقع التنزيلىّ (لا الظنّ بالواقع الحقيقىّ) منزلة القطع بالواقع، لم يضرّنا هذا الادّعاء؛ لأنّنا إنّما استفدنا من هذه الملازمة أوّلاً في حكمين مستقلّين لا ضير في الطوليّة بلحاظهما، ثُمّ تعدّينا إلى غير المورد بعدم الفصل بشكل لم يكن فيه إشكال الطوليّة.

319

بالمطلق في الشبهة المصداقيّة للقيد المتّصل، وهو واضح البطلان.

بقي في المقام تحقيق الحال في الكبرى التي طرحها صاحب الكفاية في كفايته: من أنّه متى ما اُريد تنزيل شيئين منزلة جزئي الموضوع، يجب أن يكون التنزيلان عرضيّين لاطوليّين.

فنقول:

تارة يراد تنزيل مجموع الجزءين منزلة مجموع الجزءين، بحيث لا يكفي التلفيق من أحد الجزءين الأصليّين مع أحد الجزءين التنزيليّين في تحقّق الحكم، وعندئذ لابدّ من اتّحاد التنزيليين رتبة وزماناً وسنخاً، بل وحدة التنزيل.

واُخرى يراد تنزيل الجزءين بشكل يمكن التلفيق، وعلى هذا الفرض نتكلّم في صورتين:

الصورة الاُولى: ما لو اُريد تنزيل شيئين منزلة جزئي الموضوع مع عدم كون أحد الجزءين عبارة عن القطع بالواقع، بل كان كلّ منهما أمراً واقعيّاً كالاجتهاد والعدالة في جواز التقليد مثلاً، وعندئذ تارة يفرض أنّ التنزيلين من سنخ واحد: بأن كان كلاهما واقعيّين أو كلاهما ظاهريّين(1)، واُخرى يفرض التنزيلان متخالفين في السنخ: بأن كان أحدهما ظاهريّاً والآخر واقعيّاً.

فإن فرضناهما من سنخ واحد، أمكن أن يكون التنزيلان عرضيّين، وأمكن أن يكونا طوليّين، وليس من الضروريّ أن يكونا عرضيّين؛ وذلك لما مضى عن المحقّق العراقىّ(رحمه الله): من إمكان التنزيل بلحاظ الحكم التعليقىّ، فمن الممكن أن ينزّل الكرم ـ مثلاً ـ منزلة العدالة، فيثبت بالنسبة إليه جواز التقليد معلّقاً على الاجتهاد، ثُمّ تنزّل الهاشميّة ـ مثلاً ـ منزلة الاجتهاد فيما له من جواز التقليد مهما انضمّ إلى جامع العدالة والكرم.

وإن فرضناهما من سنخين، فهنا لابدّ أن يكون التنزيل الظاهرىّ في طول التنزيل الواقعيّ؛ لأنّ التنزيل الظاهرىّ عبارة عن جعل حكم مماثل للواقع، والتنزيل الواقعىّ


(1) أفاد اُستاذنا الشهيد (رضوان الله عليه): أنّ التنزيل إذا كان يلائم الواقع ويجتمع معه، فهو ظاهرىّ، وإذا كان متكفّلاً لتغيير في دائرة الواقع، فهو واقعىّ، ومقتضى إطلاق الأدلّة الواقعيّة ـ دائماً ـ هو حمل التنزيل على كونه ظاهريّاً، فيحمل على الظاهريّة، إلّا إذا لم يمكن حمله عليها؛ لعدم الشكّ في الواقع، أو أمكن حمله عليها، لكنّه كان خلاف الظاهر كما إذا لم يكن موضوعه الشكّ. انتهى.

320

يتصرّف في دائرة المماثل (بالفتح)، وهو مقدّم على المماثل (بالكسر).

الصورة الثانية: هي ما كان مورد بحثنا في المقام، وهو تنزيل المظنون منزلة الواقع، وتنزيل شيء آخر منزلة القطع بالواقع. ولا إشكال هنا في أنّ تنزيل المظنون منزلة الواقع ظاهرىّ؛ لكون موضوعه الشكّ، وقابليّة كونه بنحو يكون بداعي التحفّظ على الواقع، فيجتمع مع الواقع. كما أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ التنزيل الآخر تنزيل واقعىّ؛ إذ إنّ عدم القطع بالواقع معلوم، ولا شكّ في ذلك حتّى يجعل حكم ظاهرىّ بداعي التحفّظ على الواقع.

وعليه نقول: إنّ تنزيل المظنون منزلة الواقع الذي هو تنزيل ظاهرىّ يجب أن يكون في طول التنزيل الآخر؛ لما مضى: من أنّ التنزيل الظاهرىّ يكون بمعنى جعل حكم ظاهراً مماثل للواقع، والتنزيل الواقعىّ مربوط بتحديد حدود المماثل (بالفتح)، وهو مقدّم على المماثل (بالكسر). ومن هنا يجب أن يكون ما نزّل منزلة القطع بالواقع الحقيقىّ غير القطع بالواقع الجعلىّ، بناءً على أنّ القطع بالحكم لا يمكن أن يكون موضوعاً لنفس ذلك الحكم.

وعلى أىّ حال، فقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ الطوليّة المذكورة في التعليقة على الرسائل غير معقولة، كما أنّ لزوم العرضيّة المذكورة في الكفاية غير صحيح. وإنّما الذي ينتج في المقام هو الطوليّة على عكس الطوليّة المذكورة في التعليقة، أي: إنّ تنزيل المظنون منزلة الواقع هو الذي يكون في طول التنزيل الآخر، لا العكس.

نعم، لو غفلنا عن اختلاف التنزيلين سنخاً في المقام، وتخيّلنا أنّهما معاً ظاهريّان، فالنتيجة بناءً على هذا هو إمكان العرضيّة وإمكان الطوليّة أيضاً: بأن يكون تنزيل المظنون منزلة الواقع في طول التنزيل الآخر، أمّا العكس فغير ممكن؛ إذ لو علّق الحكم الثابت بالتنزيل للمظنون على القطع بالواقع، استحال وصوله إلّا بفرض اجتماع الضدّين؛ إذ الظنّ والقطع ضدّان لا يجتمعان، ولو علّق على شيء آخر لم تتحقّق المماثلة بين الحكم الواقعىّ والحكم الثابت بالتنزيل.

فقد تحصّل: أنّه بعد فرض هذه الغفلة لا تصحّ ـ أيضاً ـ الطوليّة المذكورة في التعليقة، ولا لزوم العرضيّة المذكورة في الكفاية، بل يمكن العرضيّة، ويمكن الطوليّة بعكس الطوليّة المذكورة في التعليقة.

321

هذا تمام الكلام في هذا المقام بعد فرض البناء على مبنى المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله): من أنّ التنجيز والتعذير في الأمارات لا يمكن إلّا بجعل حكم تكليفىّ، بعد ضمّ ذلك إلى دعوى أنّ لسان دليل حجّيّة الأمارات هو تنزيل الظنّ منزلة القطع.

ولابدّ لنا من البحث في كلا هذين الأمرين، فيقع البحث:

أوّلاً: فيما هو الممكن في باب الأمارات والاُصول من العمليّة التي يترتّب عليها تنجّز الواقع والعذر عنه.

وثانياً: فيما هو الواقع من تلك الألسنة الممكنة.

وبعد ذلك نبحث ـ إن شاء الله ـ عن أنّ ما هو الواقع من تلك الألسنة، هل يتكفّل قيام الأمارة أو الأصل مقام القطع بكلا قسميه (الطريقىّ والموضوعىّ المأخوذ على وجه الكاشفيّة)، أو لا؟ فهنا أبحاث ثلاثة:

 

الألسنة الممكنة لجعل الحجّيّة ثبوتاً

البحث الأوّل: فيما هو الممكن من ألسنة الحجّيّة المترتّب عليه التنجيز والتعذير.

وقد اشتهر أنّ ذلك لا يمكن إلّا بجعل حكم تكليفىّ.

وغاية ما يمكن أن يقال في وجه ذلك: إنّ آثار القطع من الكاشفيّة والتنجيز والتعذير بعضها تكوينىّ، وهو الأوّل، وبعضها عقلىّ، وهو الأخيران، والشارع لا يمكنه أن يوجد بالتشريع الأمر التكوينىّ أو الأمر العقلىّ.

والتحقيق: أنّه لو اُريد إيجاد نفس هذه الآثار وحقيقتها بالجعل، فهذا واضح الاستحالة، ولا نظنّ بأحد الالتزام بذلك، ولو اُريد إيجاد عناوينها اعتباراً وفرضاً من قبيل التبنّي في مجتمع يرى ذلك، فيجعل شخصاً بالجعل والاعتبار ابناً له، فهذا لا ينبغي الإشكال في إمكانه.

نعم، ينبغي الكلام في أنّه هل يترتّب على ذلك التنجيز والتعذير الحقيقيّان، أو لا؟ وفي تحقيق ذلك لابدّ من التفتيش عن نكتة التنجيز والتعذير حتّى يرى أنّ هذه النكتة هل هي موجودة في هذا الجعل والاعتبار، أو لا؟ فنقول:

إن سلكنا ما مضى منّا في المقام الأوّل من المسلك القائل بأنّ قاعدة قبح العقاب ليس

322

موضوعها خصوص عدم البيان، بل موضوعها عدم شيئين: أحدهما البيان، والآخر العلم بأنّ أهميّة الحكم عند المولى تكون بنحو لا يرضى بتركه عند الشكّ، كما لو غرق شخص، وكان فرض وجوب إنقاذه هو فرض كونه ابناً للمولى، ونحن نعلم أنّه لا يرضى بترك إنقاذ ابنه حتّى عند الشكّ، فنكتة التنجّز في ظرف الشكّ هي: العلم بعدم رضا المولى بمخالفة الحكم في ظرف الشكّ على فرض وجوده.

وهذه النكتة تنكشف بمثل قوله: جعلت الظنّ قطعاً، أو جعلته منجّزاً، أو نحو ذلك من الألسنة المناسبة للتعبير بها عن أهميّة الحكم في ظرف الشكّ على تقدير وجوده. فترتّب التنجيز على هذه الألسنة يكون بما لها من جهة الكشف لا بما لها من جهة الإيجاد كما تخيّل.

وإن لم نسلك هذا المسلك، وقلنا ـ كما لعلّه المشهور ـ: إنّ رفع قاعدة قبح العقاب بلابيان لايكون إلّا بالبيان، فعندئذ لابدّ من أن يكون ترتّب التنجيز على لسان الحجّيّة بما له من جهة الإيجاد، وبما أنّه لاشكّ عند أحد في تنجّز الواقع بقيام أمارة شرعيّة عليه لابدّ لأرباب هذا المسلك من دعوى أنّ المراد بالبيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان ما يعمّ البيان الحقيقىّ وبعض هذه الألسنة: من جعل الطريقيّة، أو المنجّزيّة، أو الحكم التكليفىّ، أو نحو ذلك، أو جميع هذه الألسنة. وأمّا لو اقتصر في تفسير موضوع القاعدة على البيان الحقيقىّ، فارتفاع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بمجرّد قيام الأمارة على رغم عدم العلم من المحالات. وإذا بني على تعميم البيان، وجعل موضوع القاعدة انتفاء أمرين: البيان الحقيقىّ، وبعض هذه الألسنة، فتعيين بعضها في قبال بعض لا يكون ببرهان فنّىّ، وينسدّ هنا باب البحث، ولا يكون تعيين ذلك إلّا بالوجدان، فربّما يعيّن شخص بوجدانه بعض الألسنة، وشخص آخر لساناً آخر، أو يرى ترتّب التنجيز على جميع هذه الألسنة.

لا يقال: إنّ المتعيّن هو لسان جعل الطريقيّة والبيان تعبّداً؛ لأنّه أنسب لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ فإنّ موضوعها هو البيان، ويناسبه جدّاً جعل البيان والطريقيّة.

فإنّه يقال: ليست كلمة البيان واردة فيما نحن فيه في حديث ـ مثلاً ـ كي يفتّش عمّا يناسبه، ويقال: إنّ المراد بالبيان ما يعمّه، وإنّما القاعدة عقليّة ووجدانيّة بحسب الفرض، فيجب أن يرى أنّ الوجدان هل يقبل بترتّب التنجيز على بعض هذه الألسنة؟ وما هو ذاك

323

اللسان الذي يحكم الوجدان بترتّب التنجيز عليه؟

وقد انقدح بما ذكرناه وجوه الخلل فيما أفاده المحقّق النائينىّ(رحمه الله) ؛ إذ إنّه بنى على إمكان التنجيز بغير الحكم التكليفىّ، لكنّه فصّل في ذلك بين جعل الطريقيّة وجعل المنجّزيّة والمعذّريّة. فذكر ـ ردّاً على مقالة المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) في بحث الجمع بين الحكم الواقعىّ والظاهرىّ ـ: أنّ جعل التنجيز والتعذير تخصيص في حكم العقل، وهو لا يجوز، وإنّما المعقول هو تبديل موضوع حكم العقل بجعل الطريقيّة والعلم.

أقول: إن اُريد بجعل التنجيز والتعذير أو الطريقيّة إيجاد واقع هذه الاُمور بالتشريع المباشر، فكلّ ذلك مستحيل، فالتنجيز والتعذير من مختصّات دائرة العقل، ولا تنالهما يد الشرع، كما أنّ الطريقيّة من مختصّات دائرة التكوين، ولا تنالها يد التشريع. ولا نظنّ بالمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) أنّه كان يقصد جعل واقع التنجيز والتعذير، ولا بالمحقّق النائينىّ(رحمه الله) أن يقصد جعل واقع الطريقيّة.

وإن اُريد بذلك اعتبارها وجعل عناوينها، فكلّ هذا ممكن، ولا يستلزم أىّ تخصيص في حكم العقل.

نعم، يبقى الكلام في أنّ التنجيز والتعذير العقليّين يترتّبان على أىّ واحد من هذه الاعتبارات؟ فالمحقّق الخراسانىّ يدّعي ترتّبهما على اعتبار التنجيز والتعذير، والمحقّق النائينيّ يدّعي ترتّبهما على اعتبار العلم والطريقيّة. ولا نعرف وجهاً فنّيّاً يرجّح أحد الرأيين على الآخر. ونحن قد اخترنا أنّهما يترتّبان على كلّ هذه الألسنة وغيرها بما هي تكشف عن اهتمام المولى بالحكم في ظرف الشكّ لا بما توجدها من اعتبارات، أمّا إذا غضضنا النظر عن كشفها عن ذلك، فلا قيمة عمليّة لأيّ شيء من هذه الاعتبارات، ولا يترتّب عليها أثر التنجيز والتعذير إطلاقاً. هذا.

وقد اشتهر الإيراد على المحقّق النائينىّ(رحمه الله): بأنّ جعل الأمارة علماً الذي يعني تنزيلها منزلة العلم عبارة اُخرى عن جعل أحكام العلم من التنجيز والتعذير لها، والمفروض استحالة ذلك، فما معنى جعل الأمارة علماً وطريقاً؟!

إلّا أنّ هذا خلط بين باب التنزيل وباب الاعتبار، فليس مقصود المحقّق النائينىّ(رحمه الله)تنزيل الأمارة منزلة العلم في الآثار، وإنّما مقصوده ـ كما أفاده في بعض كلماته ـ اعتبارها علماً من قبيل المجاز السكّاكىّ، أو التبنّي المتعارف في بعض الأوساط. نعم، يبقى الكلام

324

في أنّ هذا الاعتبار لو لم يترتّب عليه أثر، لكان لغواً، وهو(رحمه الله) يدّعي ترتّب أثر التنجيز والتعذير على ذلك.

وقد أورد المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) على جعل الأمارة علماً بالاعتبار كي يترتّب عليها قهراً التنجيز والتعذير: أنّه لايعقل ترتّب التنجيز والتعذير على اعتبار الأمارة علماً إطلاقاً، سواء فرض أنّ التنجيز والتعذير أثران عقليّان للعلم، أو فرضا أثرين عقلائيّين له كما هو مختار المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله). فإن فرض الأوّل، قلنا: إنّ الأحكام العقليّة لا تتقوّم إلّا بالاُمور الواقعيّة.

وإن فرض الثاني، قلنا: إنّ الأحكام العقلائيّة ليست بنحو القضايا الحقيقيّة ـ كأحكام الشارع ـ كي تشمل الأفراد الخارجيّة والمقدّرة حتّى يقال: إنّ الشارع أوجد لموضوع الحكم العقلائىّ فرداً جديداً، وإنّما حكم العقلاء عبارة عن عملهم الخارجىّ في الموارد الجزئيّة، والعقلاء ليسوا مشرّعين(1).

ويرد عليه: أنّنا تارة نختار الشقّ الأوّل كما هو الصحيح، وهو المشهور بين الاُصوليّين، وهو مختار المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، ونجيب عن الإشكال بأنّ المدّعى ليس هو تقوّم التنجيز والتعذير باُمور اعتباريّة، بل يدّعى تقوّمهما بأمر واقعىّ، وهو نفس اعتبار الشارع الأمارة علماً؛ فإنّ هذا أمر واقعىّ، لا بالمعتبر الذي هو أمر خيالىّ، ويستحيل فلسفيّاً تقوّم الواقعيّات به، فهذا نظير أن تحصل لشخص من تصوّر بحر من زئبق واعتباره حالة نفسانيّة حقيقيّة.

واُخرى نختار الشقّ الثاني، ونجيب عن الإشكال بأنّ العقلاء كثيراً ما يجعلون فيما بينهم قضايا كلّيّة، كجعل وجوب إطاعة أوامر الشخص الفلاني على أنفسهم، كما أنّه كثيراً ما يجعلون فيما بينهم اُموراً جزئيّة بالأعمال الخارجيّة، لكنّه بالتدريج ينعقد في أذهانهم حكم كلّىّ. فقد يدّعى أنّه صدر عنهم العمل الخارجىّ بالنسبة إلى الموارد الجزئيّة التي تمّ في بعضها البيان حقيقة وفي بعضها اعتباراً، وتحقّق من ذلك الحكم الكلّىّ.

وقد تحصّل: أنّ كلام المحقّق النائينىّ(رحمه الله) لايرد عليه الإيراد الأوّل المشهور، ولا الإيراد الثاني الذي نقلناه عن المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله).


(1) نهاية الدراية ج 2 ص 19.

325

والتحقيق في مقام الإيراد على المحقّق النائينىّ(رحمه الله): أن يقال ـ بعد وضوح أنّه ليس المراد بجعل الطريقيّة جعل واقع الطريقيّة والقطع؛ فإنّ هذا واضح الاستحالة، وإنّما المراد جعل عنوان الطريقيّة واعتباره ـ: إنّه إن كان تنجّز الواقع بذلك لكشفه عن أهمّيّة الحكم عند الشكّ على تقدير ثبوته، فهذا لا يفرّق فيه بين جعل الطريقيّة وجعل المنجّزيّة ونحو ذلك، وإن فرض تنجّز الواقع بذلك لا لكشفه عن أهمّيّة الحكم: بأن ادّعي أنّه يتنجّز الواقع بهذا الجعل والاعتبار ولو لم يكن الواقع مهمّاً عند المولى بحيث لا يرضى بتركه عند الشكّ، وإنّما أوجد هذا الاعتبار لأجل أنّه أعطاه شخص ديناراً ـ مثلاً ـ لإيجاده، فعهدة هذه الدعوى على مدّعيها.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ هذا المبحث إنّما صار معركة للآراء لما تخيّلوا ـ كما يبدومن بعض العبائر أو التفريعات ـ من أنّ ترتّب التنجيز على هذه الألسنة يكون لما لها من جهة الإيجاد، وبالالتفات إلى أنّه إنّما يترتّب عليها لما لها من جهة الكشف عن أهميّة الحكم تنحلّ الإشكالات ويسهل الأمر.

هذا. وقد مضى في المقام الأوّل أنّ الأمارات والاُصول كلتاهما تقومان مقام القطع الطريقىّ الصرف، ونقول هنا: إنّ شبهة الفرق بينهما إنّما تبدومن تخيّل كون ترتّب التنجيز على هذه الألسنة يكون لما لها من جهة الإيجاد، فيمكن أن يدّعى الفرق بين لسان ولسان، وأمّا بناءً على ما حقّقناه من كون ذلك بما لها من الكشف، فلا مجال لشبهة الفرق وعدم قيام الاُصول مقام القطع الطريقىّ، فهي تقوم مقامه بعين ملاك قيام الأمارات مقامه بلاإشكال.

هذا تمام الكلام فيما هو الممكن من ألسنة الحجّيّة. وقد عرفت أنّ جميع هذه الألسنة ممكنة.

 

لسان جعل الحجّيّة إثباتاً

البحث الثاني: فيما هو الواقع من تلك الألسنة بعد أن عرفت ثبوتاً أنّ جعل الحجّيّة كما يمكن بجعل الحكم التكليفىّ، كذلك يمكن بجعل الطريقيّة، أو المنجّزيّة، أو بجعل نفس الحجّيّة، أو نحو ذلك.

326

فنقول: أمّا بالنسبة إلى الاُصول، فنذكر هنا إجمالاً: أنّ المتعيّن فيها هو الحكم التكليفيّ إن لم نقل: إنّ ما ورد فيها ليس إلّا إرشاداً إلى أهمّيّة الحكم بنحو لا يرضى المولى بتركه عند الشكّ على فرض وجوده.

وتفصيل الكلام في ذلك يأتي في محلّه إن شاء الله.

وأمّا بالنسبة إلى الأمارات، فالمحقّق النائينىّ(رحمه الله) ذهب إلى أنّ المتعيّن فيها بحسب مقام الإثبات هو جعل الطريقيّة، وتبعه على ذلك السيّد الاُستاذ وغيره. وما استدلّ به(قدس سره) على ذلك يرجع في الحقيقة إلى مقدّمات ثلاث:

الاُولى: أنّ جعل الحجّيّة لا يعقل ثبوتاً إلّا بأحد وجهين: جعل الحكم التكليفىّ، وجعل الطريقيّة، على ما حقّقه(قدس سره) فيما مضى من البحث الأوّل.

الثانية: أنّ عمدة الدليل على حجّيّة أمارات الأحكام ـ أعني خبر الواحد والظهور ـ هي السيرة العقلائية؛ إذ ما عداها ممّا استدلّ به على حجّيّة خبر الواحد إن تمّ فإنّما هو مسوق مساق الإمضاء لطريقة العقلاء، فالعمدة هي السيرة الممضاة ولو بالسكوت وعدم الردع، ومن المعلوم أنّ المستفاد من إمضاء الشارع لسيرة العقلاء إنّما هو جعله لمثل ما جعلوا.

الثالثة: أنّ العقلاء بما هم عقلاء ليسوا مشرّعين وجاعلين للأحكام التكليفيّة، وليس من شأنهم البعث والزجر، وإنّما المعهود منهم هو جعل أحكام وضعيّة: كالملكيّة، والقضاء، والولاية، ونحو ذلك.

وبضمّ هذه المقدّمات بعضها إلى بعض يظهر أنّ المتعيّن فيما نحن فيه بحسب مقام الإثبات هو جعل الطريقيّة؛ وذلك لأنّ المجعول فيما نحن فيه للعقلاء هو الوضعىّ بحكم المقدّمة الثالثة، والحكم الوضعىّ منحصر هنا في جعل الطريقيّة بحكم المقدّمة الاُولى، فتحصّل: أنّ المجعول للعقلاء هو الطريقيّة، فيكون المجعول للشارع ـ أيضاً ـ الطريقيّة، كما ذكر في المقدّمة الثانية من مماثلة جعله لجعلهم. هذا أحسن ما يمكن أن يقال في توضيح مرام المحقّق النائينىّ(قدس سره).

أقول: إنّ المقدّمة الاُولى مضى تحقيقها في البحث الأوّل، كما أنّ الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد بالسيرة يكون تحقيقه موكولاً إلى بحث حجّيّة خبر الواحد. وهنا نبني

327

نحن على فرض صحّة جميع المقدّمات الثلاث: من أنّ جعل الحجّيّة لا يعقل إلّا بأحد الوجهين، وأنّ السيرة العقلائيّة دليل على حجّيّة خبر الواحد، وأنّ ما عداها إن تمّ فهو مسوق لإمضاء طريقة العقلاء، وأنّ العقلاء بما هم عقلاء ليس من شأنهم البعث والزجر وجعل الحكم التكليفىّ. ومع ذلك نناقش فيما استدلّ به(رحمه الله) على جعل الطريقيّة في الأمارات.

وتوضيح ذلك: أنّ الاستدلال بالسيرة العقلائيّة على حجّيّة خبر الواحد يتصوّر بأحد وجهين:

الأوّل: التمسّك بسيرة العقلاء بما هم عقلاء على العمل بخبر الواحد في مقام استيفاء أغراضهم الشخصيّة، أمّا كيف يتمّ الاستدلال بذلك على حجّيّة خبر الواحد في الأغراض المولويّة؟ فبيانه موكول إلى بحث حجّيّة خبر الواحد.

والثاني: التمسّك بسيرتهم بما هم موال لابما هم عقلاء بحتاً، بمعنى: أنّ سيرتهم قامت على أنّ كلّ واحد منهم لو تقمّص قميص المولويّة، لجعل خبر الواحد حجّة على عبده، ورافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فإن فرض التمسّك لإثبات حجّيّة خبر الواحد بالوجه الأوّل، فهذا لا يدلّ على جعل العقلاء للطريقيّة؛ فإنّ سيرة العقلاء على استيفاء أغراضهم الشخصيّة عن طريق العمل بخبر الواحد لا تستبطن جعلاً أصلاً؛ فإنّ العاقل إنّما يتحرّك نحو العمل بخبر الواحد بلحاظ مدى اهتمامه بغرضه، ويجري خارجاً على طبق خبر الثقة، ويعمل به بلا حاجة إلى جعله أوّلاً حجّة على نفسه، ثُمّ العمل به، وإنّما يعمل به ابتداءً. وليس هنا دعوى جعل الطريقيّة أو الحكم التكليفىّ أو غير ذلك إلّا فضولاً من الكلام، ولو قال عاقل حينما أخبره الثقة بمجيء صديقه ـ مثلاً ـ من السفر: إنّي جعلت خبرك طريقاً لي، أو إنّي أوجبت على نفسي العمل بخبرك، ثُمّ عمل به تحصيلاً لغرضه، عدّ خارجاً من زمرة العقلاء.

وإن فرض التمسّك لإثبات حجّيّة خبر الواحد بالوجه الثاني ـ وهو سيرتهم بما هم موال على جعل الحجّيّة لخبر الواحد بالنسبة إلى عبيدهم، لا سيرتهم في أغراضهم العقلائيّة الشخصيّة بما هم عقلاء ـ قلنا: إنّ ما أفاده المحقّق النائينىّ (قدس سره) ـ: من أنّ العقلاء ليس من رأيهم البعث والزجر وجعل الحكم التكليفيّ ـ إنّما هو بالنظر إلى العقلاء بما هم

328

عقلاء، ولا مورد له بالنظر إليهم بما هم موال؛ إذ من الواضح أنّهم بما هم موال كما يناسبهم جعل الطريقيّة كذلك يناسبهم جعل الحكم التكليفىّ(1).

إذن فقد اتّضح بهذا أنّ السيرة العقلائيّة لا تعيّن ما ذهب إليه المحقّق النائينىّ(رحمه الله) من جعل الطريقيّة.

وبعد هذا يجب أن نرجع إلى الأدلّة اللفظيّة لحجّيّة خبر الثقة؛ كي نرى أنّه هل يستفاد منها جعل الطريقيّة، أو لا؟ والظاهر: أنّه لا يستفاد منها ذلك لو بنينا على فحص لنا في سالف الزمان؛ إذ إنّ الأدلّة اللفظيّة الدالّة على حجّيّة خبر الواحد ـ بحسب فحصنا السابق ـ على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما لم يصرّح فيه بحجّيّة الخبر، ولكن ذكر فيه بعض آثار الحجّيّة، فنستكشف من ذلك الحجّيّة، وذلك من قبيل الأخبار العلاجيّة الدالّة على علاج التعارض الذي هو فرع حجّيّة أصل كلّ واحد من الخبرين في نفسه، وكآية النبأ بناءً على دلالتها على حجّيّة خبر الواحد من باب ذكر عدم لزوم التبيّن الذي هو أثر من آثار الحجّيّة بناءً على بعض المباني في تفسير ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ التي سوف يأتي شرحها في محلّه إن شاء الله، وكآية النفر بناءً على دلالتها على حجّيّة خبر الواحد لما فيها من ذكر حسن الحذر الذي هو فرع احتمال العقاب الذي هو من آثار الحجّيّة.

ومن المعلوم أنّ هذا القسم من الأدلّة لا يدلّ على كيفيّة لسان جعل الحجّيّة؛ إذ إنّما استفيدت الحجّيّة منها بذكر آثارها، أمّا ما هو لسان جعل الحجّيّة؟ فغير معلوم.

الثاني: ما دلّ مباشرة على الحجّيّة، لكنّه من حيث لسان جعل الحجّيّة مجمل، فلا يدلّ على أحد الألسنة بالخصوص من جعل الطريقيّة أو غيره، وذلك مثل قوله(عليه السلام): «نعم» في جواب قول السائل: «يونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟»؛ فإنّ هذا إنّما يدلّ على أنّ يونس بن عبد الرحمن ممّن يؤخذ عنه معالم الدين، أمّا أنّ هذا هل هو من باب الحكم التكليفىّ بوجوب الأخذ مثلاً، أو من باب جعله طريقاً، أو غير ذلك؟ فغير معلوم.


(1) وإن تنبّهنا إلى ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في حجّيّة القطع من رجوع الحجّيّة إلى حاقّ المولويّة وحدودها، وقلنا مبنيّاً على ذلك: إنّ هناك وجهاً ثالثاً لتصوير السيرة العقلائيّة في المقام: وهو دعوى أنّ العقلاء جعلوا حدود المولويّات المجعولة لهم عبارة عن حقّ المولويّة والطاعة في الأوامر المعلومة زائداً الأوامر الواصلة بخبر الواحد مثلاً، كان من الواضح ـ أيضاً ـ أنّ المسألة أجنبيّة عن جعل الطريقيّة.