287

بحث القطع

4

 

 

أقسام القطع

 

 

○ أقسام القطع الموضوعىّ.

○ قيام الأمارات والاُصول مقام القطع.

○ تقسيم القطع الموضوعىّ بلحاظ متعلّقه.

○ خاتمة في أقسام الظنّ.

 

 

 

289

 

 

 

 

قسّم القطع إلى قسمين: طريقىّ، وموضوعىّ، فالأوّل ما كان الحكم ثابتاً بقطع النظر عنه سواء كان متعلّقاً بنفس الحكم كما في القطع بحرمة شرب الخمر، أو كان متعلّقاً بموضوعه كما في القطع بخمريّة هذا المائع مع كون الحكم ثابتاً للخمر الواقعىّ بلادخل القطع فيه، والثاني ما كان دخيلاً في الحكم، كما لو أوجب المولى إكرام معلوم العدالة، فأصبح العلم بالعدالة دخيلاً في وجوب الإكرام. وقد يكون قطع واحد طريقيّاً وموضوعيّاً بلحاظ حكمين، كما لو جعل القطع بخمريّة مائع ـ الذي يعتبر بلحاظ حرمة الشرب طريقيّاً ـ موضوعاً لوجوب الخروج من المكان الذي يوجد فيه ذاك المائع.

وما ذكرناه من انقسام القطع إلى طريقىّ وموضوعىّ ممّا لا إشكال فيه، ولكن يقع الكلام والإشكال في جهات:

 

أقسام القطع الموضوعيّ

 

الجهة الاُولى: في انقسام القطع الموضوعىّ إلى أقسام أربعة كما في كلام الشيخ الأعظم والمحقّق الخراسانىّ(قدس سرهما). ووجه التقسيم: أنّ القطع تارة يؤخذ موضوعاً لحكم الشرع بما هو صفة لشخص مع قطع النظر عن كاشفيّته عن متعلّقه، واُخرى يؤخذ موضوعاً له بما هو كاشف وطريق إلى متعلّقه. وعلى كلا الفرضين تارة يكون تمام الموضوع بلا دخل متعلّقه في الحكم، فيكون الحكم ثابتاً حتّى مع فرض خطئه، واُخرى يكون الموضوع مركّباً منه ومن متعلّقه، فلا حكم في فرض الخطأ.

وقد اُورد على هذا التقسيم: أنّ كاشفيّة القطع هي عين القطع، وليست صفة زائدة على ذات القطع كثقل الجسم ـ مثلاً ـ الذي هو صفة للجسم، وليس عين الجسم، فلا معنىً لأخذ القطع موضوعاً للحكم تارة بلحاظ كاشفيّته، واُخرى بقطع النظر عن كاشفيّته وبما هو

290

صفة من الصفات؛ فإنّ هذا يساوق فرض أخذ القطع موضوعاً للحكم بقطع النظر عن نفسه تارة وبالنظر إلى نفسه اُخرى، وأخذ الشيء بقطع النظر عن نفسه لا معنىً له، وليس من قبيل أخذ الجسم موضوعاً لحكم تارة بلحاظ ثقله، واُخرى بقطع النظر عن ثقله.

وكأنّ المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) تصدّى لتوضيح هذا التقسيم بنحو لا يرد عليه هذا الإشكال، فقال: «إنّ القطع لمّا كان من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة؛ ولذا كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره، صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة بإلغاء جهة كشفه، أو اعتبار خصوصيّة اُخرى فيه معها...».

فكأنّه يشير في صدر كلامه بقوله: «إنّ القطع من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة» إلى أنّ القطع لو كان من الصفات الانتزاعيّة كالفوقيّة والتحتيّة، والاُبوّة والبنوّة، ونحو ذلك ممّا تكون هويّتها عين انتزاعها وإضافتها، لصحّ القول: إنّه لا معنىً لافتراضه موضوعاً تارة بلحاظ هذه الإضافة والانتزاع، واُخرى بلحاظ آخر، لكن الواقع: أنّه من الصفات المتأصّلة في المحلّ بذاتها وبغضّ النظر عن انتزاع من هذا القبيل، فحاله من هذه الناحية حال اللون مثلاً، ولكنّه يختلف عنه من ناحية أنّه ـ إضافة إلى حاجته إلى محلّ يتأصّل فيه ـ يكون بحاجة إلى طرف يضاف إليه وهو المعلوم، فحاله حال الحبّ والبغض ونحو ذلك ممّا هو من الصفات التي هي حقيقيّة وغير انتزاعيّة من ناحية، وذات إضافة من ناحية اُخرى. فتارة يؤخذ القطع موضوعاً بما له من إضافة، أي: بحيثيّة إضافته إلى المعلوم، وهذا هو القطع الموضوعىّ الطريقىّ لوحظ فيه جانب من جانبي القطع، وهو جانب إضافته إلى المعلوم، واُخرى يؤخذ موضوعاً بلحاظ جانبه الآخر، وهو كونه صفة متأصّلة في شخصيّة القاطع، وهذا هو القطع الموضوعىّ الصفتىّ.

هذا. وكلام المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) مشتمل على تعبيرين بالإمكان أن يصاغ من كلّ منهما جواب مستقلّ عن الإشكال: أحدهما التعبير بأنّ القطع من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة، وقدعرفت كيفيّة صياغة الجواب من هذا التعبير، والثاني قوله: «ولذا كان العلم نوراً لنفسه، ونوراً لغيره» فبالإمكان صياغة جواب مستقلّ من هذا التعبير؛ لتصحيح

291

تقسيم القطع الموضوعىّ إلى الطريقىّ والصفتىّ (1).

وذلك بأن يقال: إنّ العلم ـ كما اشتهر عند الفلاسفة ـ نور في نفسه، ونور لغيره، فالعلم له جنبتان نوريّتان: نوريّة ذاتيّة، ونوريّة لغيره. فتارة يؤخذ موضوعاً بلحاظ نوريّته الاُولى، واُخرى بلحاظ نوريّته الثانية. فالأوّل هو الموضوعىّ الصفتىّ، والثاني هو الموضوعىّ الطريقىّ.

ويرد على هذا البيان: أنّ مقصود الفلاسفة من كون العلم نوراً في نفسه: كونه نفس النور، أي: الظهور.

وبتعبير آخر حضور باقي الأشياء في النفس ليس بذاتها، بل بواسطة العلم بها الموجد لصورتها في النفس، في حين أنّ العلم لا يحتاج حضوره في النفس إلى تعلّق العلم به؛ لأنّه بنفسه من موجودات عالم النفس المجرّدة كالحبّ والبغض والإرادة وغير ذلك.

وعليه نقول: لو اُخذ العلم موضوعاً للحكم بما هو فرد لطبيعىّ الحاضر في النفس ومن هذه الحيثيّة ـ وغُضَّ النظر عن خصوصيّة كاشفيّته لغيره ـ فما أكثر الاُمور الحاضرة للنفس كالحبّ والبغض وغيرهما، فيكون الموضوع في الحقيقة مطلق ما هو الحاضر في النفس ومن موجودات عالم النفس المجرّدة، وهذا خلاف الفرض. ولو اُخذ العلم موضوعاً بلحاظ نوريّته لغيره وكاشفيّته، فهذا هو القطع الموضوعىّ الطريقىّ، ولم نتعقّل قسمين للقطع الموضوعىّ(2). هذا هو تعليقنا على الصياغة الثانية.

 


(1) وإن كان ظاهر عبارته(قدس سره) أنّه يقصد بالتعبير الثاني التوضيح والتأكيد لنفس ما ذكره في صدر الكلام، فكأنّه يقول: إنّ العلم بنفسه نور متأصّل في النفس، وله إضافة إلى المعلوم باعتباره نوراً لغيره.

(2) جاء في ذيل عبارة الكفاية قوله: «صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة بإلغاء جهة كشفه، أو اعتبار خصوصيّة اُخرى فيه معها». وهذا يعني: أنّ صفتيّة القطع الموضوعىّ تتصوّر في نظر صاحب الكفاية باُسلوبين:

أحدهما: إلغاء جهة الكشف، والاقتصار على الجانب الآخر الموجود في القطع.

وهذا يرد عليه إشكال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من أنّه لو اقتصر على الجانب الآخر وهو نوريّته لنفسه ـ وهي بمعنى كونه من موجودات عالم النفس المجرّدة الحاضرة بذاتها لدى النفس ـ لزم ترتّب الحكم على مثل الحبّ والبغض أيضاً، وهذا خلف.

292

أمّا الصياغة الاُولى المستفادة من صدر كلام صاحب الكفاية، فيرد عليها: أنّ إضافة العلم إلى المعلوم إن قصد بها إضافته إلى المعلوم بالذات، وهو الصورة الحاصلة لدى النفس، فهي إضافة إشراقيّة كإضافة الوجود إلى الماهيّة، لا إضافة مقوليّة التي هي عبارة عن النسبة المتكرّرة بين شيئين متباينين خارجاً كالأبوّة والبنوّة والفوقيّة والتحتيّة، والإضافة الإشراقيّة ليست إضافة بين شيئين متباينين إلّا بالتحليل، وهي عين ظهور المضاف إليه وإشراقه، إذن فهذه الإضافة هنا عين الانكشاف والعلم، وليست شيئاً آخر وراءه كي يقسّم العلم الموضوعيّ بلحاظه إلى قسمين: تارة بأخذه بعين الاعتبار، واُخرى بغضّ النظر عنه.

وإن قصد بها الإضافة إلى المعلوم بالعرض التي هي إضافة مجازيّة، فهذه كانت إضافة بين أمرين متباينين خارجاً وليست إشراقاً، ولكن ليس كلّ علم مشتملاً على هذه الإضافة؛ إذ ربّما لا يكون هناك معلوم بالعرض أصلاً كما في موارد الخطأ، فلا يتمّ تقسيم العلم الموضوعىّ بلحاظه إلى قسمين، إلّا في خصوص العلم المصادف للواقع. فهذا التقسيم إنّما هو يتعقّل على مبنى المحقّق النائينىّ(رحمه الله) القائل: إنّ العلم الموضوعىّ الطريقىّ


وثانيهما: عدم قصر النظر على جهة الكشف، فجهة الكشف ملحوظة، ولكن الجهة الاُخرى ملحوظة أيضاً، وهذا يكفي في أن يتّضح عدم قيام الأمارات والاُصول مقامه؛ فإنّ الدافع إلى هذا التقسيم في الحقيقة هو: أنّ قيام الأمارات والاُصول مقام الموضوعىّ الصفتىّ بدليل الحجّيّة غير معقول، في حين هناك مجال للبحث عن قيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ بنفس دليل الحجّيّة بدعوى أنّ دليل الحجّيّة قد أعطاها طريقيّة، والعلم إنّما كان موضوعاً بنكتة طريقيّته، ونفس النكتة موجودة في الحجج الشرعيّة. وهذا الفارق كما ترى لا يتوقّف على فرض إلغاء جهة الكشف في الموضوعىّ الصفتىّ، بل يكفي فيه دخل جهة اُخرى غير الكشف في الحكم ولو إضافة إلى الكشف؛ فإنّ دليل الحجّيّة بما هو لا يفي بتأمين تلك الجهة الاُخرى.

ويرد على هذا البيان: أنّ نوريّة العلم لنفسه، أو قل: حضوره لدى النفس ليس أمراً وراء كاشفيّته، بل هو متمّم للكاشفيّة؛ فإنّ العلم إنّما يجعل الاُمور الاُخرى حاضرة لدى النفس بالعرض وبالصور، ومنكشفة لديها باعتبار حضوره هو بالذات لدى النفس. فلحاظ هذا الجانب لا يعني لحاظ أمر آخر غير الكاشفيّة مضافاً إلى الكاشفيّة كي يترتّب على ذلك وضوح عدم قيام الحجج الاُخرى مقامه ـ مثلاً ـ ولو في خصوص ما لو لم تكن تلك الحجّة من المعلومات الحضوريّة لدى النفس كالظنّ ـ مثلاً ـ الذي هو كالعلم في كونه من المعلومات الحاضرة لدى النفس.

293

يجب أن يكون ـ دائماً ـ جزء الموضوع، أي: إنّ الواقع ـ أيضاً ـ دخيل في الحكم في موارد العلم الموضوعىّ الطريقىّ دائماً، في حين لا يقول بذلك صاحب الكفاية(رحمه الله). على أنّ لازم هذا البيان كون ظاهر دليل موضوعيّة العلم ـ لولا القرينة ـ هو الصفتيّة؛ لأنّ الطريقيّة تعني رفع اليد عن إطلاق الدليل لصورة الخطأ، إذن فمقتضى الإطلاق هو حمله على الصفتيّة الثابتة في كلا قسمي العلم، على عكس ما ذكره الشيخ الأعظم وصاحب الكفاية في تعليقته على الرسائل: من أنّ مقتضى الظهور الأوّليّ لدليل موضوعيّة العلم هو الطريقيّة(1).

هذا. ولنا وجهان في تصوير تقسيم القطع الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ مع التحفّظ على انقسام كلّ منهما إلى كونه جزء الموضوع وتمامه: الأوّل منهما عرفىّ، والثاني بحاجة إلى تدقيق عقلىّ:

أمّا التصوير العرفىّ فهو: أن يقال: صحيح أنّ العلم بنفسه انكشاف، ولكن له ملازمات


(1) أقول: لم أر في تعليقة المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) ما يدلّ على دعوى ظهور دليل الموضوعيّة في الطريقيّة، كما لم أر في الرسائل ما يدلّ على ذلك، عدا أنّه ذكر(رحمه الله) في فرض موضوعيّة الظنّ أنّ الغالب في الظنّ الموضوعىّ كونه موضوعاً بما له من الكشف لا بما هو صفة. فلعلّه(رحمه الله)ينظر إلى هذه العبارة في دعوى ذهاب الشيخ إلى أنّ ظاهر دليل الموضوعيّة هو الكاشفيّة، ولعلّه ينظر فيما نسبه إلى تعليقة المحقّق الخراسانيّ إلى إمضاء التعليقة لهذه العبارة بعدم التعليق عليها.

وعلى أىّ حال، فقد يقال بإمكان دفع كلا إشكاليه(رحمه الله) في الجملة: بأن يفترض أنّ المقصود بالإضافة هي إضافة العلم إلى المعلوم بالذات؛ إذ نقول ـ حينئذ ـ: إنّ الإشكال إنّما يتّجه لو أردنا تقسيم العلم الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ عن طريق افتراض أنّه تارة يؤخذ في الموضوع جانب الطريقيّة، واُخرى يغضّ النظر عن ذلك، فيقال ـ مثلاً ـ: إنّ الطريقيّة التي هي عبارة عن الإضافة الإشراقيّة ليست شيئاً إضافيّاً إلى العلم كي يمكن غضّ النظر عنها. ولكن هناك اُسلوب آخر لصاحب الكفاية للتقسيم كما مضى: وهو أن نفترض أنّ جانب الطريقيّة والإضافة الإشراقيّة دائماً ملحوظ، لكن تارة نلحظ مع ذلك جانب تأصّله في نفسه وإضافته إلى النفس إضافة اللون إلى الجسم والعرض إلى المحلّ، وبهذا يكون صفة خاصّة من الصفات لا وجه لقيام الحجج الشرعيّة مقامه، ولو في خصوص غير ما لو كانت تلك الحجّة صفة خاصّة للنفس ـ أيضاً ـ كالظنّ، واُخرى نقصر النظر إلى حيثيّة الإضافة الإشراقيّة، وهذا هو الصفتىّ الطريقىّ.

ويرد عليه سنخ ما مضى: من أنّ كون العلم صفة متأصّلة في النفس ـ أيضاً ـ عبارة اُخرى عن انكشاف المعلوم لدى النفس. وليست التجزئة إلى جانب الإضافة وجانب كونه صفة حقيقيّة للنفس عدا تحليل عقلىّ لنفس الانكشاف، فيعود القول: إنّ العلم ليس عدا محض الانكشاف، فلا معنىً لأخذه تارة بلحاظ الكشف، واُخرى بلحاظ الانكشاف.

294

في الخارج وجوديّة، أو عدميّة، كخلاص النفس من عذاب التردّد، ووجدانها لبرد اليقين، وصيرورتها مطمئنّة ساكنة وغير ذلك. فتارة يؤخذ العلم موضوعاً بما هو انكشاف مع قطع النظر عن ملازماته، وهذا هو العلم الموضوعىّ الطريقىّ، واُخرى يكون بعض ملازماته دخيلاً في الحكم مع الانكشاف أو بدلاً منه، وهذا هو الصفتىّ. وكلّ منهما يمكن أخذه تمام الموضوع أو جزءه، وظاهر دليل موضوعيّة العلم ـ لولا القرينة ـ هو الطريقيّة لا الصفتيّة؛ لأنّ دخل شيء آخر ـ غير الانكشاف بدلا منه أو منضمّاً إليه ـ خلاف ظاهر الدليل الذي جعل الموضوع هو العلم، وهو في حقيقته عبارة عن الانكشاف لا الملازمات.

وهذا الوجه مأخوذ من تمثيل الشيخ الأعظم(قدس سره) للقطع الصفتىّ بما لو نذر التصدّق في كلّ يوم ما دام متيقّناً بحياة ولده، فإنّ غرض الناذر عادة فيما يحرص عليه من كونه متيقّناً وقاطعاً بحياة ولده هو سكون نفسه واطمئنان خاطره.

ولو وجد في مورد ما ما دلّ على أخذ العلم موضوعاً على وجه الصفتيّة ـ وإن كنّا لم نجد ذلك إلى الآن ـ كان محمولاً على القطع الصفتىّ بهذا المعنى.

وأمّا التصوير الدقّي العقلىّ، فهو أن يقال: إنّ للعلم نسبتين إلى النفس: إحداهما نسبة كونه فيها كما هو شأن كلّ عرض بالنسبة إلى معروضه، والاُخرى نسبة كونه انكشافاً لها، وهذا أمر زائد على كونه فيها كما برهن عليه في الفلسفة. فلو فرض محالاً ثبوت العلم في الحجر الذي لا يفهم شيئاً، كان العلم ثابتاً فيه، ولم يكن ثابتاً له. فلو اُخذ العلم موضوعاً بما هو ثابت في النفس وغضّ النظر عن جانب ثبوته للنفس، كان هو العلم الصفتىّ، أمّا لو أخذ فيه جانب الانكشاف للنفس وحده، أو مع الجانب الأوّل، فهذا هو العلم الموضوعىّ الطريقىّ.

ولايقال: إنّ جانب الانكشاف للنفس داخل في هويّة العلم، فغضّ النظر عنه غضّ للنظر عن أصل العلم.

فإنّه يقال: إنّ جانب الانكشاف للنفس لاينفكّ خارجاً عن العلم بالنسبة إلينا، لكنّه

295

ليس داخلاً في هويّة العلم؛ ولذا نرى انفكاكه عنه في علم الله تعالى؛ لأنّ علمه ليس انكشافاً لذاته، وإنّما هو عين ذاته. والظاهر من دليل أخذ العلم موضوعاً هو موضوعيّته بعنوان كونه له وفيه معاً لا بعنوان كونه فيه فقط(1).

 


(1) أقول: من الملحوظ أنّه (رضوان الله عليه) قام في هذا الوجه بتكلّف تسمية العلم الذي جمع فيه بين جانب الصفتيّة وجانب الطريقيّة بالموضوعىّ الطريقىّ، في حين أنّه في التصوير الأوّل لم يفعل ذلك، بل فرض ما جمع فيه لحاظ الجانبين داخلاً في الصفتىّ، هذا لا لشيء إلّا لكي يصحّ القول: إنّ ظاهر دليل موضوعيّة العلم هو الطريقيّة لا الصفتيّة؛ إذ إنّه(رحمه الله)فرض أنّ ظاهر دليل موضوعيّة العلم هو موضوعيّته بوصفه للنفس وفي النفس، فاضطرّ إلى تسمية ما لوحظ فيه كلا الجانبين بالطريقىّ؛ كي يصحّ القول: إنّ ظاهر دليل موضوعيّة العلم هو الموضوعىّ الطريقىّ، في حين أنّه في التصوير السابق ليس ظاهر دليل موضوعيّة العلم دخل ملازماته في الموضوع؛ ولذا جعل فرض الجمع بين لحاظ جانب الانكشاف ولحاظ الملازمات داخلاً في الصفتىّ.

والواقع: أنّ أصل فكرة تقسيم العلم الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ نشأت من مسألة أنّ دليل جعل الحجج الشرعيّة كواشف ـ مثلاً ـ يكون أوفى بقيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ ـ لأنّه لو حظ فيه الكشف فحسب ـ من قيامها مقام الصفتىّ؛ لأنّه دخل فيه عنصر غريب عن الكشف من دون فرق في ذلك بين دخل عنصر الكشف ـ أيضاً ـ وعدمه، إذن فكان الأولى به (رضوان الله عليه) أن يبقي العلم الذي لوحظ فيه كلا الجانبين داخلاً في الصفتيّة، وينكر على هذا التصوير ظهور دليل موضوعيّة العلم في الطريقيّة، ويدّعي ظهوره في الصفتيّة.

على أنّنا لو سلّمنا ظهور دليل موضوعيّة العلم في النظر إلى كلا الجانبين الكشفىّ والصفتىّ، وسمّينا ذلك بالعلم الموضوعىّ الطريقىّ، فقدنا أصل الدافع إلى البحث عن هذا التقسيم؛ فإنّ دليل حجّيّة الأمارات ـ مثلاً ـ لن يكون أقرب إلى إقامة الأمارة مقام العلم الموضوعىّ الطريقىّ منه إلى إقامتها مقام الصفتىّ؛ إذ لو كان ذلك الدليل قد أعطى الأمارة جانب الكشف فحسب، إذن لا تقوم مقام العلم الموضوعىّ الطريقىّ الذي استظهرنا دخل كلا الجانبين فيه. ولو كان قد أعطاها كلا الجانبين، إذن كان وضوح قيام الأمارة مقام الصفتىّ المحض بمستوى وضوح قيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ.

هذا. وهناك وجه آخر لتقسيم العلم الموضوعىّ إلى الطريقىّ والصفتىّ يمكن بيانه على مذاق من يرى أنّ الأمارة أو الأصل طريق وكشف بمعنىً من المعاني؛ ولهذا يفترضه قائماً مقام الموضوعىّ الطريقىّ، ويناقش في إطلاق قيامه مقام العلم مطلقاً حتّى الصفتىّ.

وذلك بأن يقال ـ بعد أن افترضنا أنّ الأمارة أو الأصل داخل في مصاديق الكشف: إمّا بتوسيع في معنى الكشف كما لو قصدنا به مطلق الحجّيّة مثلاً، أو بدعوى الحكومة في جانب دليل الأمارة أو الأصل بجعله منزّلاً منزلة الكشف، أو بجعله فرداً تعبّديّاً للكشف ـ: لا إشكال في أنّ هذا الفرد مصداق آخر للكشف غير العلم، فالعلم مصداق حقيقىّ بطبعه، وهذا مصداق تنزيلىّ أو تعبّدىّ أو حقيقىّ بواسطة التعبّد. وعليه، فإذا جعل العلم موضوعاً لحكم، فتارة يجعل موضوعاً له بما له من الكاشفيّة بالمعنى الجامع بين القسمين الحقيقىّ والتعبّدىّ، فيستظهر ـ حينئذ ـ قيام الفرد التعبّدىّ مقام الفرد الحقيقىّ؛ لاشتماله على نفس الجامع، واُخرى يجعل موضوعاً له لا بلحاظ الجامع بين الكاشفين، بل بلحاظ هذه الصفة بالخصوص، أي: هذا الفرد من الكاشف الذي له

296

هذا. وقد اتّضح ممّا حقّقناه: أنّ ما ذكره المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) من إنكار انقسام القطع الموضوعىّ إلى ما اُخذ بنحو الصفتيّة وما اُخذ بنحو الكاشفيّة ناشئ من عدم الالتفات إلى تمام جهات المطلب.

بقي هنا شيء، وهو: أنّ المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) زاد على أقسام القطع الصفتىّ القطع المأخوذ بما هو صفة للمقطوع به: بأن كان جزء الموضوع أو تمامه.

ويرد عليه: أنّه إن قصد بذلك أخذه بما هو صفة للمعلوم بالذات، فهذا ليس قسماً جديداً؛ فإنّ كلّ قطع اُخذ موضوعاً بما هو صفة للقاطع قد لوحظ فيه صفتيّته للمقطوع به بالذات حتماً؛ إذ لولا ذلك للزم ترتّب الحكم على القطع بأىّ شيء من الأشياء. وكلّ قطع اُخذ موضوعاً بما هو صفة للمقطوع به قد لوحظت فيه صفتيّته للقاطع حتماً؛ إذ لولا ذلك لزم توجّه الحكم إلى هذا الشخص بمجرّد حصول القطع لشخص آخر.

وإن قصد بذلك أخذه بما هو صفة للمعلوم بالعرض، ورد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا عين الكاشفيّة على تفسيره(رحمه الله) ؛ إذ فسّر الكاشفيّة بأخذ القطع بما له من إضافة إلى المقطوع به، وهذا عبارة اُخرى عن كونه صفة للمقطوع به.

وثانياً: أنّ هذا يلزمه اختصاص ما اُخذ بما هو صفة للمقطوع به بجزء الموضوع،


خصوصيّة تميّزه من الفرد الآخر كما هو شأن كلّ فرد يجمعه جامع مع فرد آخر، فيستظهر عدم قيام الفرد التعبّدىّ مقامه. وبهذا البيان اتّضح: أنّ هذا التفسير لتقسيم العلم الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ ينبع من حاقّ عقليّة الدافع إلى أصل هذا البحث.

وهذا أنسب بمثال النذر الذي ذكره الشيخ الأعظم(رحمه الله) من الوجه الذي استلهمه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من هذا المثال؛ ذلك لأنّ مجرّد كون هدف الناذر حصول الطمأنينة وسكون النفس ـ مثلاً ـ لايجعل هذه الملازمات داخلة في موضوع النذر، وإنّما هي دواع إلى النذر، فلما ذا يعتبر العلم الذي كان متعلّقاً للنذر صفتيّاً، والعلم الذي جاء موضوعاً في بعض الأدلّة الشرعيّة طريقيّاً؟! في حين يكون من حقّ الشيخ الأعظم(رحمه الله) أن يقول: إنّ العلم الذي هو كشف إذا جعل موضوعاً في لسان الشارع الذي جعل الأمارة كشفاً أيضاً، فإنّي أستظهر من ذلك أنّه جعله موضوعاً بما هو كشف في مذاقه، والكشف في مذاقه يشمل الأمارة. أمّا الناذر حينما يكون موضوع نذره هو العلم، فإنّما يقصد طبعاً الفرد الحقيقىّ لا الجامع بين الحقيقىّ والتعبّدىّ. ودليل الوفاء بالنذر إنّما يدور مدار مقصود الناذر، فلا معنىً لقيام الأمارة هنا مقام العلم.

297

ولا يتصوّر فيه أن يكون تمام الموضوع؛ إذ لو كان القطع خطأً، لما كان وصفاً للمقطوع به بالعرض(1).


(1) أقول: لو أنّ المحقّق الخراسانىّ(قدس سره) قصد بإضافة العلم إلى المعلوم ـ حينما قال: إنّ العلم من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة ـ إضافته إلى أحد المعلومين الذاتىّ أو العرضىّ، وقصد بأخذ العلم كوصف للمعلوم المعلوم الآخر من المعلومين، لم يرد عليه الإشكال الأوّل من الإشكالين اللذين ذكرهما اُستاذنا الشهيد على الشقّ الثاني في كلامه.

أمّا ما ذكره في الشقّ الأوّل من كلامه: من أنّ صفتيّة العلم للمعلوم بالذات مأخوذة حتماً في العلم الصفتىّ الذي اُخذ كصفة للعالم، وكذلك العكس، وإلّا لزم ترتّب الحكم على القطع بأىّ شيء أو على حصول القطع لأىّ شخص، فقد ينقض عليه بأنّه على هذا يبطل أصل تقسيم القطع الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ؛ إذ حتّى في الطريقىّ لابدّ أن تلحظ صفتيّته للقاطع والمقطوع به، وإلّا لزم ترتّب الحكم على حصول القطع بأىّ شيء لأىّ شخص.

فإن أجيب عن ذلك بأنّ في الصفتيّة عنصراً آخر غير عنصر الكشف لهذا أو الكشف عن هذا، ويكفي في تخصيص الطريقىّ بشخص القاطع وخصوص المقطوع به أخذه بما هو كشف لهذا أو كشف عن ذاك.

قلنا: هذا بنفسه قد يدفع الإشكال عن المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) ؛ إذ بإمكانه أن يفرض أخذ خصوصيّة الكشف لهذا القاطع في القطع الصفتىّ الذي اُخذ كصفة للمقطوع به، أو أخذ خصوصيّة الكشف عن هذا المقطوع في القطع الصفتيّ الذي اُخذ كصفة للقاطع؛ كي لا يلزم ترتّب الحكم على القطع بكلّ شيء أو على قطع كلّ إنسان، وفي نفس الوقت لاتتداخل الأقسام.

والواقع: أنّ امتياز الصفتيّة من الطريقيّة لابدّ أن يكون بأحد اُسلوبين: إمّا بافتراض وجود عنصر غريب عن الكاشفيّة في الصفتىّ، أو بافتراض كون المقصود بالكشف في الطريقىّ الجامع بين الكشف الوجدانىّ والكشف التعبّدىّ.

فإن فرض الأوّل، فنحن لا نتصوّر معنىً للصفتيّة بلحاظ المعلوم؛ فإنّ الصفتيّة بلحاظ العالم إنّما تتصوّر لوجود عنصر غريب عن الكشف إمّا هو إحدى ملازمات القطع كسكون النفس، أو هو النسبة الظرفيّة. وهذان هما الوجهان اللذان اختارهما اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) كما مضى. أمّا بلحاظ المعلوم فهو لم يتّصف بأىّ صفة عدا نفس الانكشاف.

وإن فرض الثاني، فهذا النوع من التقسيم إلى الصفتيّة والطريقيّة لا يتلاءم مع تقسيم الصفتيّة بعد ذلك إلى كونها صفة للعالم أو صفة للمعلوم؛ لأنّه لم يقصد بالصفتىّ إلّا ذاك القطع الذي لوحظ فيه خصوص الكشف الخاصّ لا الجامع بين الكشفين.

والواقع: أنّ الهدف من هذا التقسيم كما عرفت كان هو دعوى أقربيّة دليل حجّيّة الأمارة والأصل إلى إثبات قيامها مقام الطريقىّ منه مقام الصفتىّ. والنكتة في ذلك: كون الطريقىّ ملحوظاً في الموضوع بما هو كاشف، والأمارة والأصل كاشفان أيضاً، والصفتىّ ملحوظاً بما هو للعلم من خصوصيّة مفقودة في الأمارة. وقد عبّر الشيخ الأعظم عن هذا بتعبير: أنّه صفة للقاطع، ولا أظنّ أنّه كان هناك نظر إلى خصوصيّة العالم في مقابل المعلوم حتّى يقال إنّه: (وقد يلحظ فيه كونه صفة للمعلوم). فالحقيقة: أنّ تقسيم الصفتىّ إلى كونه صفة للعالم أو للمعلوم ليس إلّا ترفاً في البحث العلمىّ، وإنّما أصل المقصود كان هو أنّ العلم تارة يكون موضوعاً بخصوصه بحيث لا تقوم الأمارة أو الأصل مقامه، واُخرى يكون موضوعاً بما له من الكشف، فيقومان مقامه.

298

 

قيام الأمارات والاُصول مقام القطع

 

الجهة الثانية: في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع بأقسامه وعدمه:

والكلام تارة يقع في قيامها مقام القطع الطريقىّ الصرف.

واُخرى في قيامها مقام القطع الموضوعىّ المأخوذ على وجه الكاشفيّة.

وثالثة في قيامها مقام القطع الصفتىّ. فهنا مقامات ثلاثة:

 

1 ـ قيامها مقام القطع الطريقىّ الصرف

 

المقام الأوّل: في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الطريقىّ الصرف فيما له من المنجّزيّة والمعذّريّة.

قد وقع التسالم بينهم (من غير من حكم بثبوت العقاب على نفس مخالفة الأمارات والاُصول) على قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الطريقىّ. والمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله)قد نازع في ذلك بالنسبة الى الاُصول، لكن كلامه راجع إلى بحث لفظىّ، وبحسب المعنى يعترف بذلك.

ولنتكلّم الآن في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع فيما له من المنجّزيّة، ويظهر من ذلك الكلام بالنسبة إلى المعذّريّة.

وقد ذكر في كلماتهم إشكال على هذا الأمر المتسالم عليه بداعي الفنّ لابداعي الإبطال الحقيقي: وهو أنّ لنا قاعدتين متقابلتين:

قاعدة حجّيّة القطع الراجعة إلى عدم قبح العقاب مع البيان، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان. ولا يعقل قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الطريقيّ، إلّا بأن تكون مخرجة للمورد عن القاعدة الثانية، ومدخلة له تحت القاعدة الاُولى، وهذا ما لا يكون؛ لأنّ الأمارة والأصل ليست بياناً للحكم الواقعىّ، فما زال الحكم الواقعىّ ثابتاً في دائرة ما لم يبيّن، ودليل حجّيّة الأمارات والاُصول إنّما أثبت الحكم الطريقىّ لا الحكم الواقعىّ، وبما أنّ

299

الحكم الطريقىّ ليس وراءه في غير فرض المصادفة للواقع شيء من مبادئ الحكم من الحبّ والبغض والمصلحة والمفسدة، إذن فلا عقاب عليه، وإنّما العقاب على الواقع، والمفروض عدم تماميّة البيان بالنسبة إليه.

ولو التزمنا بثبوت العقاب على نفس مخالفة الأمارة والأصل إمّا بدعوى السببية، أو بدعوى استحقاق العقاب على مخالفة الحكم الطريقىّ. فهذا ليس قياماً للأمارة والأصل مقام القطع الطريقىّ؛ فإنّ القطع الطريقىّ ينجّز الواقع، وهذا لم ينجّز الواقع. هذا مع ما سيأتي في محلّه ـ إن شاء الله ـ من بيان بطلان هذين المبنيين.

وهذا الإشكال إنّما يتوجّه بناءً على مبنى القوم: من إسناد الحجّيّة إلى القطع، ودعوى قاعدة اُخرى في قبال قاعدة حجّيّة القطع: وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أمّا بناءً على ما هو المختار: من أنّ الحجّيّة ليست هي من شأن القطع بما هو قطع، بل من شأن مولويّة المولى، وأنّ حقّ مولويّة المولى كما يشمل أحكامه المقطوعة كذلك يشمل أحكامه المشكوكة، فمن احتمل وجود حكم للمولى، ولم يقطع بأنّه يرضى بتركه عند الشكّ ـ بالنحو الذي سنجمع به بين الحكم والرضا بتركه في بحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعيّ ـ وجب عليه عقلاً الطاعة والعمل بالحكم المحتمل.

أقول: بناءً على هذا المبنى لا يبقى موضوع للإشكال في منجّزيّة الأمارة والأصل؛ لأنّ نفس الاحتمال لحكم منجّز بحسب الفرض، ولا مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. فيرجع البحث فيما نحن فيه إلى تصوير وجه قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الطريقىّ في التعذير لا في التنجيز. وتصويره في غاية السهولة بناءً على ما سيأتي في بحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ من إمكانيّة اجتماع الحكم مع الرضا بتركه عند الشكّ. ونقول في المقام: إنّ العقل إنّما يحكم بوجوب الطاعة للحكم المشكوك فيما إذا لم يحصل القطع برضا المولى بمخالفة حكمه عند الشكّ، ودليل الأمارة أو الأصل أثبت رضاه بها.

أمّا لو بنينا على مباني القوم من قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وأنّ القطع حجّة بذاته بلحاظ كونه بياناً بخلاف الشكّ، فهنا يتّجه الإشكال: في أنّ الأمارة والأصل كيف ينجّزان الواقع على رغم من أنّ الشكّ في الواقع مازال محفوظاً؟! فبناءً على هذه المباني لابدّ من استئناف البحث، فنقول:

300

قد يجاب عن هذه الشبهة بمبنى المحقّق النائينىّ(رحمه الله): من جعل الطريقيّة، فيقال: إنّ البيان قد تمّ باعتبار أنّ الأمارة جعلت علماً وطريقاً تعبّداً، فالعقاب بلا علم قبيح، ولكن العلم قد حصل ولو بفرده التعبّدىّ، فقد انتهى موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وتحقيق الحال في مبنى جعل الطريقيّة وتصويره ثبوتاً، وتوجيهه إثباتاً سيأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث قيام الأمارات مقام القطع الموضوعىّ الطريقىّ. ونقول هنا: إنّ هذا الجواب لو تمّ فإنّما يتمّ في باب الأمارات المدّعى فيها جعل الطريقيّة دون الاُصول التنزيليّة فضلاً عن غير التنزيليّة، فلابدّ في مقام دفع الشبهة من التفتيش عن نكتة لاستحقاق العقاب، وتنجّز الواقع تعمّ تمام الموارد. وربّما يظهر بعد فهم تلك النكتة أنّ ضمّ جعل الطريقيّة إليها كضمّ الحجر إلى جنب الإنسان.

هذا. وأجاب المحقّق العراقىّ(رحمه الله) عن الشبهة في المقام بجوابين:

الأوّل: أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان تختصّ بما إذا لم نقطع بأنّ المولى على تقدير ثبوت الحكم المشكوك لا يرضى بتركه في ظرف الشكّ. وعلى هذا الأساس نقول بوجوب النظر في المعجز عند الشكّ في النبوّة؛ وذلك للقطع بعدم الرضا بالفوت على تقدير ثبوت الواقع. ودليل حجّيّة الأمارة أو الأصل يورث القطع بذلك. أمّا كيف يورث القطع بذلك، فظاهر عبارة المحقّق العراقىّ(رحمه الله) هو أنّ دليل حجّيّة الأمارة أو الأصل يحفظ الحكم في مورد الشكّ بجعل الاحتياط ونحوه، وهذا يدلّنا على اهتمام المولى بحكمه إلى حدّ لا يرضى بفواته عند الشكّ؛ فإنّ هذا الحفظ في الحقيقة معلول لذلك الاهتمام.

ونحن نوافق على أصل اختصاص قبح العقاب بلا بيان بما إذا لم نعلم باهتمام المولى بالحكم بدرجة لا يرضى بفواته عند الشكّ لو آمنّا بأصل قاعدة قبح العقاب بلا بيان، إلّا أنّه يرد على ظاهر كلام المحقّق العراقىّ في كيفيّة إثبات العلم بهذا الاهتمام عن طريق دليل الأمارة والأصل: أنّ هذا دور؛ فإنّ حفظ المولى للحكم بدليل الحكم الظاهرىّ يتوقّف على منجّزيّة الحكم الظاهرىّ للحكم الواقعىّ، في حين أنّ هذا التنجيز يتوقّف بحسب الفرض على علمنا باهتمام المولى بالحكم إلى حدّ لا يرضى بتركه عند الشكّ، وهذا العلم يتوقّف بدوره على حفظ المولى للحكم ؛ إذ افترض المحقّق العراقىّ(رحمه الله) أنّنا نكتشف اهتمام المولى بالحكم من حفظه له بدليل الاحتياط ـ مثلاً ـ عن طريق الإنّ.

301

ولكنّنا لو أوّلنا هذا الوجه لإثبات اهتمام المولى بالحكم بمايلي، أصبح وجهاً متيناً، وهو أن يقال: إنّ اكتشافنا لاهتمام المولى بالحكم بدليل الحكم الظاهرىّ يكون سنخ اكتشاف المعنى من اللفظ بالدلالة العرفيّة السياقيّة، فقوله ـ مثلاً ـ: «قف عند الشبهة» يدلّ دلالة لفظيّة على اهتمامه بحكمه عند الشكّ على تقدير وجوده. كما أنّ الأمر ـ مثلاً ـ يدلّ دلالة لفظيّة على الإرادة الجدّيّة للوجوب. وهذه النكتة سارية في تمام موارد الأمارات والاُصول لإثبات استحقاق العقاب على مخالفة الواقع. وضمّ جعل العلم والطريقيّة إليها ضمّ للحجر إلى جنب الإنسان. فلو جعل المولى الأمارة علماً من دون أن يقصد بذلك الاهتمام بحكمه في ظرف الشكّ، لم ينقطع العذر. ولو دلّ الدليل على اهتمام المولى بذلك، انقطع العذر سواء كان ذاك الدليل بلسان الإخبار عن اهتمامه، أو بلسان جعل العلم، أو جعل الاحتياط، أو الحكم المماثل، أو غير ذلك.

الثاني: ما يظهر بمقدّمتين:

الاُولى: أنّ عدم الشيء إنّما يسند إلى وجود المانع عند وجود المقتضي، وإلّا اُسند إلى عدم المقتضي لا إلى وجود المانع.

والثانية: أنّ الحكم الواقعىّ مقتض للعقاب على مخالفته، وعدم البيان مانع عن ذلك.

واستنتج(رحمه الله) من هاتين المقدّمتين: أنّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان إنّما هو عدم البيان على تقدير وجود الحكم في الواقع لا مطلق عدم البيان. وهذه هي نكتة الجواب في المقام؛ إذ يقال: إنّ الخطاب الواصل بدليل الأمارة أو الأصل إن كان موافقاً للحكم الواقعىّ، إذن هو بيان للحكم الواقعىّ الناشئ عن مبادئ الحكم الحقيقيّة، وإن كان مخالفاً له، فهو صرف إنشاء بلا روح. وقد عرفت أنّ موضوع البراءة العقليّة إنّما هو عدم البيان على تقدير وجود الحكم في الواقع. وهذا الموضوع منتف بهذه الأمارة أو الأصل؛ لتحقّق البيان على تقدير تحقّق الحكم واقعاً.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّه لو كان مراده بالبيان فيما يسلّمه من قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو ما يكون وظيفة للمولى، ومن الشؤون الراجعة إليه من ذكره لكلام يدلّ على حكمه، وجعل ذلك في معرض الوصول، للزم أن لا يقول بجريان البراءة العقليّة في الشبهات الموضوعيّة؛ لأنّ

302

البيان بقدر ما هو راجع إلى شأن المولى تامّ في المقام، فما كان على المولى بما هو مولى إنّما هو بيان الكبرى وقد فعله، وأمّا تشخيص الموضوع، فهو من شأن المكلّف، وليس من شأن المولى(1)، في حين هو ملتزم بالبراءة العقليّة حتّى في الشبهات الموضوعيّة.

ولو كان مراده بالبيان علم المكلّف بالحكم، فمن الواضح أنّ المكلّف لا يعلم بالحكم حتّى على تقدير ثبوت الحكم في الواقع. والخطاب الظاهرىّ الواصل إنّما يتكفّل البيان على تقدير ثبوت الحكم بالمعنى الأوّل لا البيان بالمعنى الثاني.

وثانياً: أنّه لو سلّمنا محالاً ثبوت العلم للمكلّف على تقدير ثبوت الحكم واقعاً مع أنّه ليس عالماً على جميع التقادير، فالبراءة العقليّة ثابتة بشأنه؛ لأنّه لا يعلم بتحقّق ذلك التقدير الذي هو على ذاك التقدير عالم بالحكم، إذن فهذا العلم لا يكفي لوصول الحكم؛ إذ هو بنفسه غير واصل.

وأمّا ما استنتجه من المقدّمتين: «من أنّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان إنّما هو عدم البيان على تقدير وجود الحكم في الواقع»، فهو في غير محلّه؛ فإنّه لو فرض في المقدّمة الاُولى أنّ ذات وجود المانع متوقّف على وجود المقتضي، لصحّ هذا الاستنتاج؛ إذ لازم ذلك أنّه لا يعقل عدم البيان إلّا على تقدير وجود الحكم في الواقع، فلو فرض ثبوت البيان على ذلك التقدير، لم يبق موضوع للقاعدة، لكن المفروض في المقدّمة الاُولى إنّما هو توقّف مانعيّة المانع على وجود المقتضي دون ذات المانع. أمّا ما هو المانع هل هو عدم البيان على تقدير الواقع، أو مطلق عدم البيان؟ فهذا ما لا تتكفّله المقدّمتان.

هذا. وما ذكرناهما من المقدّمتين ليستا موجودتين في كلام المحقّق العراقىّ(رحمه الله)، وإنّما ذكرناهما توضيحاً لمرامه(قدس سره). وتحقيق المقدّمة الاُولى موكول إلى محلّه. أمّا المقدّمة الثانية، فهي غير صحيحة؛ إذ ليس عدم البيان مانعاً عن العقاب، وإنّما البيان داخل في مقتضي العقاب سواء قلنا بمبنى الأصحاب من إسناد الحجّيّة إلى القطع بوصفه قطعاً


(1) وكذلك لزم عدم جريان البراءة العقليّة في الشبهات الحكميّة لو احتملنا أنّ المولى قد قام بما عليه وبما هو من شأنه من البيان، إلّا أنّ البيان اختفى بسبب ظلم الظالمين مثلاً. وهذا النقض الثاني قد يمكن التخلّص منه في بعض الموارد إذا افترضنا أنّ البيان الذي يرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان عبارة عن علمنا بإبراز الشارع للحكم على تقدير وجوده، ففي مورد النقض الثاني لو فرض عدم علم من هذا القبيل، ارتفع النقض، لكن يبقى في الأقل النقض الأوّل.

303

ووصولاً، أو قلنا بإسنادها إلى مولويّة المولى، وخصّصنا حقّ المولويّة بفرض البيان(1).

وقد تحقّق من جميع ما ذكرناه: أنّ الوجه المتين في مقام دفع ما ترد من الشبهة على مباني القوم ما مضى: من أنّ دليل حجّيّة الأمارة والأصل يدلّ على اهتمام المولى بالحكم بحيث لا يرضى بفواته حتّى في ظرف الشكّ بالتقريب الذي بيّناه. وحاصل هذا الوجه:

أنّ إنشاء الحكم على قسمين: الإنشاء الواقعىّ، والإنشاء الظاهرىّ، وهما من حيث الدلالة التصوّريّة سيّان، ولكنّهما يختلفان في الدلالة التصديقيّة، فالدّلالة التصديقيّة للأوّل هي ثبوت الإرادة الجدّيّة وروح الحكم في عالم الثبوت، والدلالة التصديقيّة للثاني ليست هي ثبوت الإرادة الجدّيّة وروح الحكم في عالم الثبوت، وإنّما هي الاهتمام بالحكم الواقعىّ على تقدير ثبوته، وهذا هو السرّ في تنجيز الحكم الواقعىّ بالحكم الظاهرىّ سواء قلنا في الحكم الظاهرىّ بجعل الحكم المماثل، أو بجعل الطريقيّة، أو بجعل المنجّزيّة، أو بأىّ شيء آخر، فلو فرض كون جعل الحكم الظاهرىّ لابهذا الداعي، بل بداعي أنّ شخصاً ما بذل ديناراً للمولى ـ مثلاً ـ لقاء جعله لهذا الحكم، لم يكن له أثر في تنجيز الواقع بأىّ لسان كان من ألسنة الحكم الظاهرىّ، وإن فرض كونه بداعي الاهتمام بالواقع وعدم الرضا بفوته عند الشكّ، كان موجباً لتنجيز الواقع بأىّ لسان كان من تلك الألسنة؛ فإنّ كلّ واحد منها مناسب عرفاً لإبراز هذا الاهتمام، ولا فرق بينها بحسب عالم


(1) الظاهر: أنّ كلام المحقّق العراقىّ(رحمه الله) لا علاقة له بالمقدّمتين، وإنّما هو يعتقد أنّ البراءة العقليّة على تقدير ما تتوقّف على عدم البيان على ذاك التقدير، فالبراءة العقليّة على تقدير ثبوت الحكم واقعاً تتوقّف على عدم البيان على ذاك التقدير، فإذا كان البيان على ذاك التقدير تامّاً، فاحتمال الحكم احتمال للحكم المنجّز، واحتمال الحكم المنجّز منجّز. ولم يشر من قريب أو بعيد إلى البرهنة على كون البراءة على تقدير ما متوقّفة على عدم البيان على ذاك التقدير لا عدم وصول البيان بالفعل ولو نتيجة لعدم وصول ذاك التقدير، فكأنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) إنّما ذكر المقدّمتين كتوجيه لهذا المدّعى: بأن تكون المقدّمتان برهاناً على هذا المدّعى، وإلّا فكلام المحقّق العراقىّ(رحمه الله) ليست فيه أي إشارة أو قرينة إلى الاعتقاد ببرهان من هذا القبيل.

وعلى أىّ حال، فيرد عليه ـ مضافاً إلى ما عرفت من كونه مدّعىً بلا برهان، وإلى ما عرفت من أنّ المقصود بالبيان لو كان هو ما يناسب شأن المولى، لزم عدم جريان البراءة العقليّة في الشبهات الموضوعيّة، ولو كان هو العلم، فهو غير موجود حتّى على ذاك التقدير ـ أنّه هل يقصد ببيان الحكم بيان نفس الحكم حقيقة، أو يقصد به بيان اهتمام المولى بالحكم في ظرف الشكّ على تقدير وجوده، وعدم رضاه بفوته في ظرف الشكّ لو كان موجوداً؟ فإن فرض الأوّل، فنحن نمنع كون دليل الحكم الظاهرىّ بياناً للحكم الواقعىّ بهذا المعنى على تقدير مصادفته للواقع، سواء كان المقصود بالبيان إبراز الحكم بالشكل المناسب لشأن المولى، أو المقصود به علمنا بالحكم. وإن فرض الثاني، فهذا رجوع إلى الوجه السابق، وليس وجهاً جديداً.

304

الثبوت أصلاً. فما أتعبوا به أنفسهم الزكيّة في مقام تشخيص ما هو المجعول في باب الأمارات والاُصول من الطريقيّة والمنجّزيّة وغير ذلك بداعي البحث الثبوتيّ في غير محلّه. نعم، تنتج تلك الألسنة بحسب مقام الإثبات في مقام تقديم الأمارات والاُصول بعضها على بعض، وكذلك في القيام مقام القطع الموضوعىّ الطريقىّ.

بقي هنا شيء، وهو: أنّ ما ذكرناه من اختصاص قاعدة قبح العقاب بلا بيان بفرض عدم العلم باهتمام المولى بالحكم على تقدير ثبوته في ظرف الشكّ أمر وجدانىّ لنا، أمّا إذا أنكر ذلك شخص، وكان له وجدان غير وجداننا يحكم بعدم الفرق بين الصورتين وجريان القاعدة في كلا الفرضين، قلنا بالنسبة إليه: إنّ مقتضى الجمع بين هذا الوجدان المزعوم له والوجدان الحاكم بتنجّز الواقع بمثل أمر المولى بالاحتياط والتحفّظ عليه ـ بعد فرض ثبوت هذا الوجدان لذاك الشخص ـ هو أن يلتزم بكون التنجيز من العناوين القصديّة سنخ التعظيم الذي يحصل بمثل القيام لو كان بقصد التعظيم، فيقال: بأنّ إنشاء الحكم الظاهرىّ بداعي التنجيز يكون منجّزاً للواقع، وهذا هو الذي يعبّر عنه المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) بالحكم الطريقىّ.

ثُمّ إنّ تمام ما مضى من البحث إنّما كان بالنسبة إلى الأمارات والاُصول الشرعيّة دون مطلق الاُصول، فإنّ هذا المبحث عقدناه للجواب عمّا عرفته من الشبهة، وهي غير جارية في الاُصول العقليّة.

 

2 ـ قيامها مقام القطع الموضوعىّ الطريقىّ

 

المقام الثاني: في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الموضوعىّ المأخوذ على وجه الكاشفيّة وعدمه، بعد الفراغ ممّا مضى في قيامها مقام القطع الطريقىّ الصرف.

والبحث هنا ليس في أصل إمكان إقامتها مقام القطع ثبوتاً؛ إذ من الواضح أنّه لا إشكال في إمكانها.

والشبهة التي وردت في قيامها مقام القطع الطريقىّ لا ترد هنا؛ إذ تلك الشبهة نشأت من أنّ أثر القطع الطريقىّ عقلىّ، وهو التنجيز والتعذير، فيدّعى أنّ العقل أدرك اختصاص

305

التنجيز بالقطع مثلاً، وأنّه عند عدم القطع تثبت قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فقيام الأمارة والأصل الشرعىّ مقامه يعني التخصيص في حكم العقل، وهو مستحيل. أمّا في المقام فأثر القطع الموضوعىّ قد ثبت بالشرع، وبإمكان الشارع نفسه أن يقيم شيئاً آخر مقامه، كما هو واضح، كما لا إشكال في أنّ بإمكانه إيصال قيام الأمارة والأصل مقام القطع الموضوعىّ بدليل خاصّ.

وإنّما الكلام في المقام يقع في أنّ نفس دليل حجّيّة الأمارة والأصل تعبّداً الذي دلّ على قيامهما مقام القطع الطريقىّ هل يكفي لإثبات قيامهما مقام القطع الموضوعىّ الطريقىّ، أو لا؟(1).

 


(1) ولنستذكر هنا خلاصة عمّا مضى من مبحث تقسيم القطع الموضوعىّ إلى الطريقىّ والصفتىّ، فنقول: قد مضى فيما سبق: أنّ القطع هو عين الطريقيّة والكاشفيّة، ومن هنا وقع الإشكال في كيفيّة تصوير انقسام القطع الموضوعىّ إلى الموضوعىّ بما هو طريق، والموضوعىّ بما هو صفة، وكان لتصوير ذلك طريقان:

الأوّل: افتراض أخذ عنصر زائد على الطريقيّة في الصفتىّ بدلاً من الطريقيّة، أو إضافة إليها، إمّا بدعوى تحليل نفس القطع إلى الطريقيّة وشيء آخر كما عن صاحب الكفاية(رحمه الله)الذي ذكر أنّ القطع من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة، أو بإدخال عنصر غريب عن القطع من ملازمات القطع في الحساب، كسكون النفس واطمئنان الخاطر كما عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

الثاني: افتراض أنّ المقصود بالطريقىّ ما لوحظ فيه الجامع بين الطريق التكوينىّ والطريق التعبّدىّ، فيقابله الصفتىّ، وهو ما لو حظ فيه خصوص الطريقيّة التكوينيّة. ومن هنا يتّضح أنّ الصفتىّ بالتصوير الثاني قد يكون طريقيّاً بالتصوير الأوّل.

وعليه فتارة يقع الكلام في قيام الأمارات والاُصول مقام الموضوعىّ الطريقىّ بالتصوير الثاني.

واُخرى في قيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ بالتصوير الأوّل.

وثالثة في قيامها مقام الموضوعىّ الصفتىّ بمعنى أخذ شيء غريب عن الطريقيّة فيه.

أمّا قيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ بالتصوير الأوّل، أو الصفتىّ بمعنى أخذ شيء غريب عن الطريقيّة فيه، فهما مبحوثان في المتن. وأمّا قيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ بالتصوير الثاني ـ أي: ما إذا لو حظت في الموضوع الطريقيّة بالمعنى الجامع بين الطريق التكوينىّ والطريق الشرعىّ ـ فبقدر ما نؤمن بفرضيّة إرادة الجامع لا تبقى حاجة إلى مزيد بحث في قيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ؛ إذ المفروض من أوّل الأمر أنّ دليل موضوعيّته قد جعل الموضوع هو الجامع بينه وبين الحجّة الشرعيّة، فكلّ ما كان داخلاً في ذاك الجامع فلا محالة يقوم مقام الفرد الأوّل، فإذا كان الموضوع هو جامع التنجيز والتعذير مثلاً، واُخذ القطع في الموضوع بوصفه فرداً من أفراد هذا الجامع، فكيف لا يقوم مقامه الفرد الآخر من الأصل أو الأمارة؟ وإذا كان الموضوع هو جامع الكشف الحجّة ـ مثلاً ـ المتواجد في القطع وفي الأمارة، فلم لا تقوم الأمارة مقامه؟! ولعلّ مقصود الشيخ الأعظم(رحمه الله) من القطع الموضوعىّ الطريقىّ كان هذا المعنى؛ ولذا أرسل قيام الأمارات والاُصول مقامه إرسال المسلّمات، ولم يكلّف نفسه الشريفة البحث عن ذلك والبرهنة عليه. نعم، الظاهر أنّ محطّ بحث الأصحاب

306

ثُمّ إنّ دليل التنزيل تارة يفرض أنّ لسانه لسان إقامة المظنون مقام الواقع، بمعنى جعل حكم على طبق الأمارة بعنوان أنّه هو الواقع؛ ولذا يسمّى بالواقع الجعلىّ، واُخرى يفرض أنّ لسانه لسان إقامة الظنّ منزلة القطع بالواقع.

أمّا القسم الأوّل: فلا إشكال في أنّه إنّما يفيد قيام الظنّ مقام القطع الطريقىّ البحت بالبيان الماضي دون قيامه مقام الموضوعىّ الطريقىّ؛ إذ إنّ هذا بحاجة إلى تنزيل مفقود في المقام، فلم ينزّل الظنّ بالواقع والقطع بالظاهر منزلة القطع بالواقع في آثاره الشرعيّة.

وأمّا القسم الثاني: فهو الذي يبحث فيه عن أنّه هل يمكن إقامة الأمارات والاُصول مقام القطع بكلا قسميه بهذا اللسان، أو لا؟ فالتقريب الابتدائىّ لقيامهما مقامهما معاً هو: أنّ القطع له آثار عقليّة كالتنجيز والتعذير، وآثار شرعيّة، وهي التي جعل القطع موضوعاً لها. ومقتضى إطلاق تنزيل الظنّ منزلة القطع قيامه مقامه في كلا قسمي الأثر.

ولكن المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) ذهب إلى عدم إمكان ذلك، ونبيّن مرامه(قدس سره) في ضمن اُمور ثلاثة:

الأوّل: أنّ عمليّة إقامة الظنّ مقام القطع الطريقىّ لا يمكن أن تكون عبارة عن تنزيل نفس الظنّ منزلة العلم في أثره من الكاشفيّة والتنجيز والتعذير؛ لأنّ هذه الآثار التكوينيّة أو العقليّة ليست بيد الشارع، وإنّما للحاكم تنزيل شيء منزلة شيء آخر في أحكام نفسه لا في الأحكام العقليّة أو التكوينيّة. وإنّما تكون عمليّة إقامة الظنّ مقام القطع الطريقىّ عبارة عن تنزيل المظنون منزلة الواقع، بمعنى جعل حكم على طبقه بعنوان أنّه هو الواقع، فإذا قال الشارع في مقام جعل الظنّ منزلة القطع الطريقىّ: نزّلت الظنّ منزلة القطع، يجب أن يحمل على أخذ الظنّ والقطع على وجه الآليّة، وأنّ النظر إنّما هو إلى المظنون والمقطوع؛ كي يرجع إلى ما ذكرناه.

هذا. وفرض عدم إمكان جعل الآثار العقليّة من التنجيز والتعذير مباشرة هو مبنى


الذين أطنبوا في الكلام في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الموضوعىّ الطريقىّ وعدمه هو الموضوعىّ الطريقىّ بالتصوّر الأوّل، هذا.

ولو كان الموضوع هو جامع الكشف الحجّة وهو يشمل الأمارة ولا يشمل الأصل، فالأمر بلحاظ الأصل يلتحق بالبحث الوارد في القيام مقام الموضوعىّ الطريقىّ بالتصوير الأوّل.

307

الشيخ(رحمه الله)، وصاحب الكفاية جرى هنا على وفق مبنى الشيخ، وسجّل على الشيخ بطلان قيام الأمارات والاُصول مقام كلا قسمي القطع بدليل الحجّيّة، واختار صاحب الكفاية نفس هذا المبنى في بحث الاستصحاب، ولكنّه اختار في بحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ جعل نفس التنجيز والتعذير مباشرة.

الثاني: أنّ عمليّة إقامة الظنّ مقام القطع الموضوعىّ عبارة عن لحاظ الظنّ والقطع مستقلّين وتنزيل نفس الظنّ منزلة نفس القطع؛ إذ الظنّ والقطع ـ عندئذ ـ لم يلحظا مرآة إلى المظنون والمقطوع وكان الحكم الشرعىّ ثابتاً لذات القطع والظنّ.

الثالث: أنّ الجمع بين اللحاظ الآلىّ والاستقلالىّ جمع بين المتضادّين، ولا يمكن ذلك.

إذن لا يمكن أن يكون قوله: الظنّ بمنزلة القطع متكفّلاً لكلا التنزيلين.

بقيت هنا عبارة للمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) ينبغي شرحها، وهي قوله: «نعم لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما، يمكن أن يكون دليلاً على التنزيلين، والمفروض أنّه ليس».

ولا ينبغي تفسير هذه العبارة بفرض جامع بين اللحاظ الآلىّ والاستقلالىّ؛ فإنّ المفهوم الجامع بين مفهومي اللحاظ الآلىّ والاستقلالىّ ليس لحاظاً آليّاً ولا استقلاليّاً حتّى يتمّ به كلا التنزيلين، وإنّما هو بنفسه مفهوم يلحظ.

والذي ينبغي أن يفسّر به هذا النصّ هو: أنّه لو كان هناك مفهوم جامع بين العلم والمعلوم، ومفهوم جامع بين الظنّ والمظنون، فنزّل الثاني منزلة الأوّل، تحقّق بذلك كلا التنزيلين. هذا. وما ذكره صاحب الكفاية(رحمه الله): من أنّ الجمع بين التنزيلين يستلزم الجمع بين اللحاظين يكون بظاهره خلطاً بين العنوان والحقيقة أو المفهوم والمصداق؛ ذلك لأنّ الذي ينظر إلى العلم أو الظنّ تارة آليّاً، واُخرى استقلاليّاً إنّما هو نفس العالم والظانّ؛ فإنّ العلم والظنّ ليست لهما مرآتيّة إلّا لنفس العالم والظانّ، فتارة ينظر إلى المعلوم والمظنون من خلال المرآة، فيكون نظره إلى العلم والظنّ آليّاً، واُخرى ينظر إلى نفس العلم والظنّ بالاستقلال.

أمّا الشخص الآخر ـ والمفروض في المقام أنّه هو المولى ـ فهو إنّما يلحظ عنوانالعلم والظنّ ومفهومهما لاواقعهما ومصداقهما، ولحاظه للمفهومين لا محالة يكون مستقلّاً

308

ـ دائماً ـ في قبال ما يقصد بآليّة المرآة وفنائها. نعم، قد يلحظ العنوانين فانيين في أفرادهما لا في أفراد المظنون والمقطوع، واُخرى يلحظهما غير فانيين فيها، وهذا مطلب آخر غير مربوط بما نحن فيه.

نعم، يمكن توجيه كلامه(قدس سره): بأن يفترض أنّه(رحمه الله) لايقصد الآليّة والاستقلاليّة بالنسبة إلى التصوّر، وإنّما المقصود هو الآليّة والاستقلاليّة في القصد، بمعنى الصراحة والكناية. فتارة يكون مقصوده الجدّيّ، هو نفس العلم والظنّ كما هو مفاد المدلول الاستعمالىّ، وهذا هو الصراحة، واُخرى يكون مقصوده الجدّيّ المعلوم والمظنون، فيكون الكلام كناية عن قيام المظنون منزلة المعلوم، فلو فرض الجمع بين التنزيلين، لزم الجمع بين الصراحة والكناية.

والشاهد من كلام المحقّق الخراسانىّ(قدس سره) على إرادة هذا المعنى على الرغم من أنّه عبّر مراراً بتعبير اللحاظ الآلىّ والاستقلالىّ ما جاء مرّة واحدة منه في بحث الاستصحاب من التعبير بالكناية(1).

ثُمّ إنّ إشكال استحالة الجمع بين الصراحة والكناية في المقام هو فرع تسليم إمكان الكناية هنا في نفسها: بأن لا نشترط في باب الكناية كون المعنى الكنائىّ المقصود من


(1) هذا إشارة إلى ما جاء في الكفاية في بحث الاستصحاب ص 287 بحسب طبعة المشكينىّ، حيث قال: «إنّما يلزم لو كان اليقين ملحوظاً بنفسه وبالنظر الاستقلالىّ، لاما إذا كان ملحوظاً بنحو المرآتيّة وبالنظر الآلىّ، كما هو الظاهر في مثل قضيّة (لا تنقض اليقين) حيث تكون ظاهرة عرفاً في أنّها كناية عن لزوم البناء والعمل بالتزام حكم مماثل للمتيقّن تعبّداً إذا كان حكماً، ولحكمه إذا كان موضوعاً...».

إلّا أنّ ما جاء في تعليقة صاحب الكفاية(رحمه الله) على رسائل الشيخ الأعظم(قدس سره) ربّما لايلائم هذا التوجيه الذي ذكره اُستاذنا الشهيد لكلام صاحب الكفاية؛ ذلك لأنّه(رحمه الله) قد أورد في تلك التعليقة على مسألة كون الجمع بين التنزيلين جمعاً بين اللحاظين: أنّ هذا إنّما يتمّ إذا كان دليل الاعتبار مع لحاظ، أمّا إذا كان من دون ذلك، فلايرد هذا الإشكال.

وأجاب عن ذلك بأنّ هذا الإيراد لا مجال له إذا كان الكلام إنشاءً للتنزيلين؛ إذ إنشاؤه يستحيل أن ينفكّ عن تعيين المنزّل والمنزّل عليه وما فيه التنزيل تصوّراً ولحاظاً. نعم، إذا كان إخباراً عن تنزيل سابق تمّ فيه اللحاظ فلا يلزم الجمع بين لحاظين في خطاب واحد؛ لإمكان حكاية هذا الكلام عن تنزيلين مستقلّين، إلّا أنّه لايوجد دليل على إرادة الإخبار عن كلا التنزيلين إلّا الإطلاق، والإطلاق لا يتمّ عند كون أحدهما قدراً متيقّناً، والقدر المتيقّن في المقام هو التنزيل بلحاظ الحجّيّة، على أنّ الحمل على الإخبار دون الإنشاء خلاف الظاهر.

والسبب في قولنا: (إنّ هذا التعبير ربّما لايلائم توجيه كلام صاحب الكفاية بإرادة الكناية والصراحة) هو وضوح أنّ محذور الجمع بين الكناية والصراحة لا يختصّ بالإنشاء، فهو ثابت في الإخبار أيضاً، في حينأنّه قد يتخيّل ورود محذور الجمع بين اللحاظ الآلىّ والاستقلالىّ في الإنشاء الذي هو ـ في نظر صاحب الكفاية ـ إيجاد للمعنى دون الإخبار الذي ليس إلّا مجرّد الحكاية.

309

لوازم المعنى المطابقىّ الاستعمالىّ كما في زيد كثير الرماد، أو حكماً لما هو من لوازمه كما في أكرم كثير الرماد، أمّا لو اشترطنا ذلك، فالكناية في المقام في ذاتها غير معقولة؛إذ ليس تنزيل المظنون منزلة المقطوع لازماً لتنزيل الظنّ منزلة القطع، ولا حكماً لما يلزمه، أمّا الأوّل فواضح؛ لعدم أىّ ملازمة بين التنزيلين، وأمّا الثاني فلأنّه إنكان المراد بالمظنون المظنون بالذات ـ وهي الصورة الذهنيّة الملازمة للظنّ ـ فليس هو موضوعاً لهذا التنزيل، وإن كان المراد به المظنون بالعرض وهو الحكم الواقعىّ، فلا تلازم بينه وبين الظنّ.

والمحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) على الرغم من أنّه ذهب إلى اشتراط اللزوم في باب الكناية قال بإمكان الكناية في المقام؛ وذلك بدعوى أنّ المراد بالمظنون هو المظنون بالذات، ولكن لا بما هو، بل بما هو فان في المظنون بالعرض، فاللزوم ثابت؛ لأنّ المظنون بالذات يلازم الظنّ، وفي نفس الوقت لا يرى به إلّا المظنون بالعرض على ما هو شأن الفناء، وهو الحكم المجعول من قبل الشارع.

ويرد عليه: أنّه إن نظرنا إلى ظنّنا نظراً فنائيّاً، قلنا بهذا النظر: إنّه لا تلازم بين المظنون والظنّ؛ إذ لا نرى بهذا الظنّ إلّا المظنون بالعرض الذي هو قابل للانفكاك عن الظنّ، وإن نظرنا إليه بالنظر المستقلّ، لم يكن المظنون حكماً مجعولاً من قبل الشارع.

والصحيح: أنّ أصل ما جعله شرطاً في الكناية من اللزوم ممّا لا وجه له؛ فإنّ الذي يقوّم الكناية ـ وهو الانتقال من المدلول الاستعمالىّ إلى معنى آخر كي يصبح من الصحيح جعله مدلولاً جدّياً للكلام ـ تكفي فيه المناسبة، وهي غير منحصرة في اللزوم، ومن المناسبات نفس الكاشفيّة والمنكشفيّة، إلّا أن تفرض كلمة الكناية اصطلاحاً خاصّاً لفرض اللزوم، وعندئذ يرد عليه:

أنّنا لانحتاج فيما نحن فيه لإثبات المطلوب إلى تلك الكناية، بل نحتاج إلى ما هو أعمّ منها.

وقد يخطر بالبال الإيراد على المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) بمنع عدم إمكان الجمع بينالتنزيلين واللحاظين؛ وذلك ـ على رغم افتراضنا أنّ التنجيز والتعذير غير قابلين للجعل مباشرة ـ باعتبار أنّهما قابلان للجعل بالتبع: بأن يجعل المولى المظنون منزلة المعلوم،

310

فبالتبع سينتج الظنّ نتيجة العلم من التنجيز والتعذير، فليقصد بقوله: (نزّلت الظنّ منزلة القطع) تنزيله منزلته في الأثر الشرعىّ والعقلىّ معاً بلا كناية ولا لحاظ آلىّ؛ إذ بإمكانه ترتيب كلا الأثرين ولو كان أحدهما بالمباشرة والثاني بالتبع، فوزان هذا التعبير هو وزان قوله: (الناس مسلّطون على أموالهم) حيث نقول: إنّه يشمل بالإطلاق الحكم التكليفىّ، وهو حلّيّة التصرّف الاستهلاكىّ، والحكم الوضعىّ، وهو السلطة على البيع، على الرغم من أنّ السلطة على البيع ليست مجعولة بالأصالة كالحلّيّة، وإنّما هي بتبع جعل آخر، وهو تنفيذ البيع.

ولايقال: إنّ هذا البيان إنّما يتعقّل في الإخبار، أمّا مع استظهار كون قوله: (نزّلت الظنّ منزلة القطع) إنشاء، فلا يتمّ ذلك؛ لأنّ المفروض استحالة جعل الظنّ منزلة القطع في الآثار العقليّة، إلّا بأن يفرض أنّ المقصود هو إنشاء جعل المظنون منزلة المقطوع كي يصبح الظنّ بالتبع بمنزلة القطع، لكنّ هذا عبارة عن الكناية، فرجع المحذور مرّة اُخرى.

فإنّه يقال: إنّ هذا الإشكال نشأ من تخيّل أنّ عالم الثبوت كعالم الإثبات؛ فإنّ إنشائيّة الكلام وإخباريّته مرتبطة بعالم الإثبات لا بعالم الثبوت كي يكون إنشاء شيء مستلزماً لجعله ثبوتاً بالأصالة لا بالتبع كما هو إثباتاً متعلّق به بالأصالة لا بالتبع.

والجواب عن هذا الإيراد: أنّ قياس المقام بمثل: (الناس مسلّطون على أموالهم) قياس مع الفارق؛ لأنّ التنجيز والتعذير ليسا مترتّبين على جعل الشارع للمظنون منزلة المقطوع بلاتوسّط أمر تكوينىّ كي يكونا مجعولين بالتبع، كما هو الحال في ترتّب سلطنة المالك مباشرة على تنفيذ البيع، وإنّما يترتّبان عليه بتوسّط العلم به الذي هو أمر تكوينىّ، فالذي قام حقيقة مقام العلم بالواقع الحقيقىّ إنّما هو العلم بالواقع التنزيلىّ لاالظنّ بالواقع الحقيقىّ، فلا يمكن ثبوت إطلاق من هذا القبيل لمثل قوله: (نزّلت الظنّ منزلة القطع).

والتحقيق في مقام الإيراد على المحقّق الخراسانىّ(قدس سره) ذكر جوابين:

الأوّل: أنّ بالإمكان فرض قيام الظنّ مقام القطع بكلا قسميه من دون جمع بين اللحاظين؛ وذلك بأن يقصد بهذا الكلام بالمطابقة قيام الظنّ مقام القطع الموضوعىّ فحسب، ولكنّ إطلاق قيامه مقام القطع الموضوعىّ يدلّ بالالتزام على قيامه مقام القطع الطريقىّ؛ وذلك لأنّ دليل قيام الظنّ مقام القطع الموضوعىّ كما يدلّ على قيامه مقامه في

311

الأحكام الواقعيّة كجواز الائتمام ـ مثلاً ـ في العلم بالعدالة، كذلك يدلّ بالإطلاق على قيامه مقامه في إنهاء الأحكام الطريقيّة التنجيزيّة والتعذيريّة، كأصالة الاحتياط وأصالة البراءة الشرعيّتين، وقاعدة الفراغ والتجاوز، وغير ذلك من الأحكام الطريقيّة المغيّاة بالعلم، وصحيح أنّ هذا لايكون مستلزماً لتنجيز الواقع والتعذير عنه؛ إذ إسقاط المنجّزات والمعذّرات الشرعيّة لا يستلزم عقلاً التعذير أو التنجيز، ولكنّنا لا نحتمل فقهيّاً ثبوت سقوط الاُصول الشرعيّة بالنسبة إلى شيء من دون قيام حجّة عليه نفياً أو إثباتاً، وبهذا يثبت المطلوب(1).

الثاني: أنّنا لنسلّم أنّ حمل قوله مثلاً: (الظنّ كالقطع) على التنزيل بالمعنى المصطلح بلحاظ كلا قسمي القطع يورّطنا في مشكلة الجمع بين لحاظين؛ إذ إنّ حكم القطع الموضوعىّ يمكن إثباته للظنّ بالتنزيل، أمّا حكم القطع الطريقىّ، فلا يثبت بهذا التنزيل، لا بالأصالة؛ لأنّ المفروض عدم إمكان جعل المنجّزيّة والمعذّريّة، ولا بالتبع؛ لأنّ المفروض أنّ ترتّب التنجيز والتعذير على الظنّ يكون بواسطة الأمر التكوينىّ، وهو العلم بالواقع التنزيليّ، فنضطرّ إلى حمله على إرادة تنزيل المظنون منزلة الواقع، وهذا هو الجمع بين اللحاظين. إلّا أنّ التنزيل بالمعنى المصطلح لا يتعقّل في القطع الطريقىّ في موارد الشبهات الحكميّة حتّى بعد الحمل على إرادة تنزيل المظنون منزلة الواقع؛ إذ ما معنى تنزيله منزلة الواقع في الحكم، في حين أنّ الواقع هو الحكم، وهو المعنىّ بثبوته ظاهراً؟! فليس الهدف هو تنزيل المظنون منزلة الواقع في الحكم، وإنّما الهدف افتراض المظنون كأنّه هو الواقع، أي: أن يحكم المولى ظاهراً على وفق المظنون، إذن فالمفهوم من قوله: (الظنّ كالقطع) هو التشبيه لا التنزيل، والتشبيه من الممكن شموله لكلا قسمي الأثر


(1) أقول: إنّ هذا الإشكال ـ وإن كان وارداً على المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) على مستوى أنّه ادّعى استحالة دلالة دليل التنزيل على كلا التنزيلين، فثبت بهذا البيان عدم استحالة ذلك ـ لا يناسب عمليّاً ما بيدنا من منهج البحث؛ ذلك لأنّ هذا إنّما يتمّ فيما إذا استظهرنا من دليل التنزيل تنزيل الظنّ ابتداءً منزلة القطع الموضوعىّ، ثُمّ أردنا أن نتعدّى إلى تنزيله منزلة القطع الطريقىّ، فهذا بيان لطيف لإثبات التعدّي.

ولكن الواقع هو العكس؛ إذ نستظهر ابتداءً من دليل التنزيل تنزيل المظنون منزلة الواقع، أو قل: تنزيل الظنّ منزلة القطع بالنظر الآلىّ، ونلتمس وجهاً للتعميم والتعدّي إلى تنزيل الظنّ منزلة القطع الموضوعىّ، وهذا البيان لايفيد ذلك، فبحدود ما هو المفترض خارجاً من كون المتيقّن من مفاد الأدلّة إنّما هو الحجّيّة يكون إشكال المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) على التعميم مازال باقياً على قوّته.