170

الخارجية.

وإطلاقات أدلة ولاية الفقيه خالية عن قيد الأعلمية، ولكن يظهر أثر الأعلمية في الحكم عند تعارض الحكمين، كما يظهر أثر الأعلمية في الفتوى عند تعارض الفتويين.

ذلك: أن الأصل في تعارض الفتويين أو الحكمين هو التساقط، وعدم الاعتداد بشيء منهما، ولكن إذا كان أحدهما أعلم وأعلى مستوى من الآخر بدرجة كبيرة ـ بحيث لم يوجب هذا التعارض فقدان الوثوق برأي الأعلم ـ بقيت فتوى الأعلم على حجيتها، على ما هو موضح في بحث الاجتهاد والتقليد. هذا في الفتويين المتعارضتين.

أما الحكمان المتعارضان فقد يكون التعارض في الحكم الذي له جهة الكشف عن الحكم الشرعي كالحكم بالهلال، وأخرى يكون التعارض في الحكم الذي لم يكن الا لملء منطقة الفراغ بإعمال الولاية كتحديد الاسعار.

ففي القسم الأول يتقدم رأي الأعلم إذا كان الفارق في المستوى بينهما كبيراً، بحيث لم يكن هذا التعارض موجباً لفقدان رأي الأعلم لكاشفيته عرفاً، بينما أصبح رأي الآخر فاقداً للوثوق المطلوب.

وفي القسم الثاني يكون الحكم غالباً(1) كاشفاً عن ملاك يلحظه



(1) قيد الغلبة اشارة إلى أن الحكم أحياناً لا يكشف عن ملاك في خصوص متعلقة، بل يكون من باب ترجيح أحد الطرفين بلا مرجح، لمجرد ضرورة اتخاذ موقف موحد محدد، ففي هذا الفرض لا تتم النكتة التي شرحناها لتقديم رأي الاعلم.

171

الحاكم فيما حكم به. وهنا أيضاً يتقدم رأي الأعلم عندما تكون درجة الفرق كبيرة، لأن الرأي الآخر يفقد الوثوق المطلوب بخلاف هذا الرأي، وقد عرفنا فيما سبق أن دليل الولاية مقيد بالوثوق(1) بينما رأي الأعلم لم يفقد الوثوق المطلوب، فدليل الحجية شامل لهذا الرأي فحسب ولا يشمل كلاًّ من الرأيين كي يتعارضا ويتساقطا، فلا يعتدّ بأي منهما.

ونشير هنا إلى ما سوف يأتي ان شاء الله تعالى من أنه ليس المفروض عادة في دولة إسلامية تعارض الحكام في حكمهم، بل الفقهاء المتصدون للأمور يجب عليهم في الحالات الاعتيادية ابراز رأي واحد للأمة يتخذونه عن طريق التشاور والوصول إلى الاتفاق أو الترجيح بالأعلمية أو غير ذلك، لأن مصلحة الأمة تكون عادة في توحيد ما يبرز من رأي، وتجب على ولي الأمر ملاحظة مصالح المولّى عليه.



(1) صحيح أن رواية أحمد بن اسحاق عللت وجوب اطاعة العمري وابنه بوثاقتهما لا بالوثوق بحكمهما، ولكن العرف يفهم بالمناسبات أن وثاقة الحاكم أخذت كطريق إلى درجة من الوثوق النوعي بحكمه وبرصانة ما يتخذه الحاكم من مواقف، كما أن الدليل غير المقيد بالوثوق أيضاً ينصرف عرفاً بالمناسبات إلى فرض وثوق نوعي من هذا القبيل، ورأي الاعلم المعارض برأي الأعلم لا يوثق به نوعاً.

172

البيعة

يمكن عرض البيعة للبحث على أحد صعيدين:

الأول: افتراض أن البيعة عقد تحصل به الولاية لمن بويع عليها ممن لا دليل على ولايته لولا البيعة. وقد عرفنا أن الولاية هي أساس الحكومة، إذن فالبيعة تصلح أن تكون أساساً للحكومة وإقامة الدولة.

وخير دليل على نفوذ البيعة بهذا الشكل هو قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود(1). وروايات نفوذ الشرط، من قبيل رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المسلمون عند شروطهم، كل شرط خالف كتاب الله عز وجل فلا يجوز(2).

وهذا في الحقيقة يرجع إلى العقد الاجتماعي الذي بحثناه في القسم الأول من هذا الكتاب، وخلاصة ملاحظاتنا عليه هي:

1 ـ أن العقد أو الشرط لا يحلل الحرام في الإسلام ولا يعطي كثيراً من الاختيارات، من قبيل اختيار اقامة الحدود وغير ذلك لمن لم تكن له، بينما الولاية التي تكفي أساساً لاقامة الدولة هي الولاية



(1) سورة المائدة: الآية1.

(2) الوسائل ج12 ب6 من أبواب الخيار ح2 ص353.

173

العامة المشتملة أحياناً على حق تحليل ما كان حراماً بطبعه(1)، وعلى كثير من الاختيارات. فنحن نعلم من فقه الاسلام أن العقد والشرط إنما ينفذان في حدود الأحكام الأولية للاسلام، وهذا غير الولاية.

2 ـ كيف يصح تنفيذ هذا العقد أو الشرط على أقلية لم توافق عليه مثلاً؟!

3 ـ ماذا نصنع بشأن من لم يكن موجوداً حين العقد، كي يتم العقد بشأنه من قبله أو قبل وليه، ثم وجد؟!

4 ـ لم يذكر في الكتاب العزيز أو السنة الجواب على العشرات من الاسئلة التي تطرح لأجل فهم حدود البيعة وشروطها، فما هي الكمية من الناس التي تكفي للبيعة كي تثبت بذلك امارة المسلمين؟ وعند الاختلاف، هل الترجيح بالكم أو الكيف؟ وما إلى ذلك.

وقد يتمسك لاثبات أن البيعة تمنح الولاية على المسلمين، وأنه يجب الوفاء بها ولا يجوز نكثها، بعدة روايات لو صحت سنداً ودلالة لما أفادتنا لتأسيس الحكم، لما عرفناه من الملاحظة الرابعة. والروايات كما يلي:

1 ـ ما جاء في الخصال عن ماجيلويه عن عمّه عن هارون عن ابن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام): أن النبي (صلى الله عليه وآله)



(1) سبق أن الحرمة هنا إما أن تكون بمعنى الحرمة الظاهرية أو تكون على موضوع ينتفي بتدخل الحاكم فيه.

174

قال: ثلاث موبقات: نكث الصفقة، وترك السنة، وفراق الجماعة. وثلاث منجيات: تكفّ لسانك، وتبكي على خطيئتك، وتلزم بيتك(1).

2 ـ ما جاء في البحار نقلاً عن المحاسن عن عبد الله بن علي العمري عن علي بن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: ثلاث موبقات: نكث الصفقة، وترك السنة، وفراق الجماعة(2).

وهاتان الروايتان ضعيفتان سنداً.

3 ـ ما جاء في الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن أبي جميلة عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الإمام جاء إلى الله تعالى أجذم(3). وفي بعض النسخ "صفقة الإبهام".

وفي البحار نقل هذه الرواية تارة عن (الكافي) بالنحو الذي نقلناه(4)، وأخرى عن (المحاسن) عن ابن فضال عن أبي جميلة عن محمد بن علي



(1) البحار، ج27 ب3 من كتاب الإمامة ح4 ص68 نقلاً عن الخصال.

(2) البحار، ج2 ب33 من كتاب العلم ح25 ص266.

(3) أصول الكافي ج1 باب ما أمر النبي صلى الله عليه وآله بالنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم ومن هم؟ ح5 ص405.

(4) راجع البحارج27 ب3 من كتاب الامامة ح9ص72.

175

الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من خلع جماعة المسلمين قدر شبر خلع ربق الاسلام من عنقه، ومن نكث صفقة الإمام جاء إلى الله أجذم(1). إلا أن سند العلامة المجلسي (رحمه الله) إلى المحاسن غير معلوم، ولا يهم ذلك بعد أن كانت الرواية موجودة في الكافي بالنحو الذي عرفت.

نعم، يوجد في سند الحديث أبو جميلة، وقد قال الغضائري بشأنه "ضعيف كذاب يضع الحديث؛ حدثنا أحمد بن عبد الواحد قال حدثنا علي بن محمد بن الزبير قال حدثنا علي بن الحسن بن فضال قال سمعت معاوية بن حكيم يقول سمعت أبا جميلة يقول: أنا وضعت رسالة معاوية إلى محمد بن أبي بكر" الا أنه لا عبرة بهذا التضعيف.

وقال النجاشي في ترجمة جابر بن يزيد الجعفي "روى عنه جماعة غمز فيهم ضعفوا منهم عمرو بن شمر ومفضل بن صالح…". ولعل هذه العبارة لا تدل على شهادة النجاشي بوجود تضعيف صحيح بشأن أبي جميلة مفضل بن صالح، وقد روى عنه الثلاثة الذين شهد الشيخ الطوسي (رحمه الله) أنهم لا يروون الا عن ثقة، وهم: محمد ابن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، وأحمد بن محمد بن أبي نصر.

وعلى أي، فالمفهوم عرفاً من هذه الروايات الواردة في أجواء زمان الخلفاء وقتئذ أنها واردة بشأن عدم جواز مفارقة جماعة المسلمين



(1) البحارج2 ب 33 من كتاب العلم ح28 ص267.

176

ـ أي الأكثرية الساحقة لهم التابعين للخليفة ـ وعدم جواز نكث الصفقة مع الخليفة، ونحن نعلم أن أئمة الشيعة (عليهم السلام) كانوا يعتقدون بشأن أولئك الخلفاء المعاصرين للصادق والكاظم (عليهما السلام) أنهم خلفاء الجور والباطل، وأن نكث الصفقة معهم أو مخالفة الجماعة والرجوع إلى الإمام المعصوم عند حضوره وإمكانية ذلك ليس بعنوانه حراماً.

إذن فهذه الروايات ان كانت صادرة عنهم (عليهم السلام) فهي صادرة حتماً بعنوان التقية، إما بمعنى كون صدورها تقية أو بمعنى كونه أمراً بالتقية بالبقاء ظاهراً على البيعة ومنهج الجماعة، ولا تقبل هذه الروايات الحمل العرفي على معنى لا يشمل نكث صفقة الخلفاء وقتئذ ومخالفة الجماعة الساحقة للمسلمين وقتئذ. نعم، قد يكون تأويلها ومقصودها الواقعي شيئاً آخر، ولكن مع فرض التأويل يسقط الاستدلال بظاهر الأحاديث عن الحجية.

هذا، وقد ورد في بعض الروايات ضعيفة السند تأويل الجماعة، بمعنى خصوص أهل الحق، من قبيل عدة روايات في كتاب البحار:

1 ـ ما نقله عن أمالي الصدوق عن الهمداني عن علي عن أبيه عن نصر بن علي الجهضمي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه. قيل:

177

يا رسول، وما جماعة المسلمين؟ قال: جماعة أهل الحق وإن قلوا(1).

2 ـ ما نقله عن معاني الأخبار للشيخ الصدوق "ره" عن أبيه عن سعد البرقي عن هارون بن الجهم عن حفص بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جماعة أمته، فقال: جماعة امتي أهل الحق وإن قلوا.

وعن المحاسن لابن البرقي عن أبيه عن هارون مثله(2).

3 ـ ما نقله أيضاً عن معاني الأخبار للشيخ الصدوق (رحمه الله) عن أبيه عن سعد عن البرقي عن أبي يحيى الواسطي عن عبد الله بن يحيى بن عبد الله العلوي رفعه قال: قيل يا رسوله الله (صلى الله عليه وآله) ما جماعة أمتك؟ قال: من كان على الحق وإن كانوا عشرة(3).

4 ـ ما نقله أيضاً عن معاني الأخبار للشيخ الصدوق عن أبيه عن سعد عن البرقي عن الحجال عن ابن أبي حميد رفعه قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: أخبرني عن السنة والبدعة وعن الجماعة وعن الفرقة. فقال أمير المؤمنين صلى الله عليه: السنة ما سن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والبدعة ما



(1) البحار ج27 ب3 من كتاب الامامة ح1 ص67.

(2) البحارج2 ب33 من كتاب العلم ح21 ص265.

(3) البحارج2 ب33 من كتاب العلم ح22 ص 266.

178

أحدث من بعده، والجماعة أهل الحق، وإن كانوا قليلاً، والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيراً(1).

الثاني: أن يدعى أننا لا نفرض البيعة محققة للولاية في مورد لا ولاية فيه، بل نرى أن الولاية ـ في مورد ثبتت بدليلها ـ يشترط في إعمالها البيعة؛ فنحن نؤمن بولاية الفقيه مثلاً عن طريق الأدلة الماضية. ولكننا نقول: ان الولاية إنما تتنجز لذلك الفقيه الذي بايعته الأمة على ادارته لشؤونهم واطاعتهم لأوامره، وتتنجز الولاية في حدود ما تمت البيعة عليه.

فمثلاً قد تكون البيعة مع فقيه في حدود خصم النزاع، فتثبت له الولاية في هذه الحدود كما في المقبوله "ينظران من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً…". إذن فكونه حكماً يكون فرعاً لرضاهما به واختيارهما له. وهذا تعبير آخر عن مبايعته على تنفيذ قضائه.

وقد تكون البيعة مع فقيه بلحاظ كل الحوادث والأمور، فتتحقق له الولاية العامة، قال الإمام الحجة (عليه السلام) في التوقيع الشريف: "أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا…". والرجوع تعبير آخر عن الاختيار والبيعة.

وأما رواية أحمد بن اسحاق فكان سؤال السائل فيها عمن



(1) البحار ج2 ب33 من كتاب العلم ح23 ص 266.

179

يعامل ويمتثل رأيه، وهذا يعني أنه كان يفتش عمن يرجع إليه ويختاره كولي يحدد له وظائفه، فأرشده الإمام (عليه السلام) إلى العمري وابنه قائلاً: "فاسمع لهما وأطعهما فانهما الثقتان المأمونان". فهذا لا يدل على نفوذ أوامر فقيه ثقة على الشخص حتى ولو لم يختره ولم يبايعه على ذلك.

ويشهد لشرط البيعة السيرة المستمرة على البيعة عند المسلمين من زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أيام الخلفاء الراشدين وإلى سائر الخلفاء بعدهم، فكانوا يبايعون الرسول والخلفاء. نعم كان المصداق الذي يختارونه للبيعة صحيحاً تارة ـ كما في البيعة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين علي والحسن والحسين والإمام الرضا (عليهما السلام)، وغير صحيح أخرى. ولكن كلامنا هنا ليس في صحة المصداق وخطئه.

والبيعة مع الرسول (صلى الله عليه وآله) كانت تارة في حدود ضيقة لا تشمل الحرب، وأخرى بلحاظ الحرب. وكل بيعة تنفذ بحدودها.

فبيعة النساء كانت من القسم الأول، قال الله تعالى: ﴿يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله

180

ان الله غفور رحيم (1).

وبيعة الشجرة ـ أو بيعة الرضوان ـ كانت في القسم الثاني، قال الله تعالى: ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً. سيقول لك المخلَّفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم نفعاً بل كان الله بما تعملون خبيراً. بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وزُيّن ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السَّوء وكنتم قوماً بوراً. ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً. ولله ملك السموات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفوراً رحيماً. سيقول المخلَّفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعوننا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون الا قليلاً. قل للمخلفين من الأعراب ستُدعَون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولّوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً* ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن



(1) سورة الممتحنة: الآية: 12.

181

يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذاباً أليماً* لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً* ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً(1).

نعم، البيعة مع المعصوم ـ كالنبي والإمام (عليهما السلام) ـ واجبة بالتعيين حينما يطلبها، أما مع الفقيه فلا وجوب تعيينياً حتى عند مطالبة الفقيه بذلك، لأن الشريعة اعتبرت الولاية لجميع الفقهاء، وهذا يعني أختيار الأمة في تعيين من تنتخب منهم. فمقتضى الجمع بين دليل ولاية الفقيه ودليل دخل البيعة في فعلية الولاية أن الأمة تعين ولي أمرها بالبيعة، ولكن يجب عليها أن لا تخرج انتخابها من دائرة الفقهاء.

ولكننا نقول: ان عرض البيعة على هذا الصعيد أيضاً غير صحيح، فسؤال أحمد بن اسحاق عمن يعامل أو عمن يمتثل أمره لا يدل الا على رغبته هو في أن يشخص له من يخضع لارشاداته وأوامره. لكن هذا لا يعني دخل انتخابه هو للشخص أو بيعته معه في تعيين مصب سؤاله كي يضر ذلك باطلاق الجواب، فقوله (عليه السلام) "فاسمع له وأطع" أو "فاسمع لهما وأطعهما" يدل بالاطلاق على وجوب السماع والاطاعة سواء بايع على ذلك أو لم يبايع.



(1) سورة الفتح: الآيات: 10 ـ 19.

182

أما قوله في المقبولة "فليرضوا به حكماً" وقوله في التوقيع "فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا" فكما تحتمل فيهما ارادة دخل الرضا والرجوع ـ أو قل البيعة ـ في حاكمية راوي الحديث وحجّية رأيه، كذلك تحتمل ارادة وجوب الرضا به والرجوع إليه لأجل حجية رأيه مسبقاً، فيجب على الانسان الرضا بالحجة والرجوع إليها.

فلو فرض الإجمال في هاتين الروايتين بقي اطلاق رواية أحمد بن اسحاق على حاله ولا تصلح هاتان الروايتان لتقييد اطلاقها.

هذا، على أننا لا نفترض الاجمال في هاتين الروايتين، فهما واضحتان في المعنى الثاني، لأن الإمام (عليه السلام) علل قوله "فليرضوا به حكماً" بقوله "فإني قد جعلته عليكم حاكماً"، وعلل قوله "فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا" بقوله "فانهم حجتي عليكم". وهذا يعني الفراغ مسبقاً عن حاكميته وحجيته.

وأما سيرة المسلمين على البيعة فهي تنقسم إلى قسمين:

أحدهما: بيعتهم مع من لم يكونوا يؤمنون بولايته مسبقاً وقبل البيعة لعدم دعوى النص بشأنه، كما هو الحال في جميع الخلفاء غير أئمة الشيعة (عليهم السلام). فهذه البيعة إنما كانت في الحقيقة لأجل اضفاء الولاية على من يبايع بتصور أن البيعة تمنح ولاية من هذا القبيل، وسواء افترضنا صحة هذا النحو من البيعة أو فسادها فهي

183

غير مرتبطة بما نبحثه، وإنما تناسب عرض البيعة على الصعيد الأول من البحث، ولا تشهد لتقييد ممارسة الولاية من قبل من يمتلك مصدراً آخر للولاية بالبيعة، كما هو مبحثنا في هذا الصعيد الثاني.

والثاني: بيعتهم مع من كانوا يؤمنون له بمصدر مسبق للولاية غير البيعة، من قبيل بيعة المسلمين للنبي (صلى الله عليه وآله) وبيعة الشيعة لأئمتهم (عليهم السلام). ولم يعلم كون هذه البيعة عندهم كقيد لوجوب الانصياع لأوامر الولي، كي يقيد به اطلاق أدلة الاطاعة من قبيل "أطيعوا الرسول"، فلعل أخذ البيعة كان كأخذ التعهد والميثاق من الشخص المبايع بالعمل بما هو واجب عليه مسبقاً، كي يكون هذا العهد والميثاق محركاً جديداً لضميره ووجدانه نحو الوفاء.

بل لا يحتمل اسلامياً كون البيعة مع النبي (صلى الله عليه وآله) شرطاً في وجوب طاعة أوامره، ولا يحتمل شيعياً كون البيعة مع الإمام المعصوم شرطاً في وجوب طاعة أوامره(1).



(1) راجع الملحق رقم (9).

184

حدود ولاية الفقيه من ثلاثة جوانب

لابد أن نبحث حدود ولايته من ثلاث جوانب:

أولاً: موارد ولايته.

ثانياً: مدى ما نعيّة العلم بخطأ حكمه ـ حينما نعلم صدفة بذلك ـ عن نفوذ ولايته.

ثالثا: نسبة الفقهاء بعضهم مع البعض في الولاية.

وإليك التفاصيل:.

أولاً: موارد ولاية الفقيه:

إن اطلاق أدلة الولايات ينصرف عادة ـ بالمناسبات العرفية ـ إلى كونها ولاية مجعولة بصدد ملء نقص المولّى عليه وجبران قصوره.

ودليل ولاية الفقيه لا يشذ عن هذه القاعدة، فهو لا يدل على

185

ولاية للفقيه إلا في هذه الحدود(1).

وموارد القصور في المجتمع ـ والتي لابد من ملئها بالولاية ـ عديدة من قبيل:

1 ـ التصرف في أموال القاصرين، سواء كانوا عبارة عن أفراد قاصرين من قبيل الأطفال والمجانين والسفهاء، أو عبارة عن عناوين عامة كعنوان الفقير المالك للزكاة، أو عبارة عن جهات معنوية كمنصب الولاية، أو مادية كالمسجد الذي يملك أموالاً موقوفة عليه. فنحن نعلم من الفقه الاسلامي أنه لا يجوز التصرف في مال أحد الا بإذنه وليه، والقاصر لا يقدر على الاذن أو لا ينفذ إذنه؛ فلو كان فاقداً لولي خاص لم يكن بد من مراجعة ولي الأمر بشأنه، واطلاق دليل ولاية الفقيه يشمل ذلك(2). وتجب على الولي ـ طبعاً ـ



(1) خصوصاً وان الاطلاق في أدلة ولاية الفقيه لم يكن بمحض مقدمات الحكمة، فالأمر بالاطاعة في الآية الكريمة ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، ورواية أحمد بن اسحاق "فاسمع لهما وأطعهما" إنما يدل على اطلاق وجوب الاطاعة لكل ألوان الحكم الصادر منه بملاك حذف المتعلق عند عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب، بينما القدر المتيقن في مورد البحث إنما هو في حدود ملء نقص المولّى عليه وجبران قصوره. وقوله في التوقيع "فإنهم حجتي عليكم" إنما دل على الاطلاق بمناسبة ظاهر حال الإمام (عليه السلام) وغيابه ـ كما سبق بيانه منا ـ وتلك المناسبة لا تقتضي أكثر من ذلك.

(2) التوقيع الشريف: "فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا". والرجوع

186

ملاحظة مصالح المولّى عليه في التصرف في أمواله(1)، لما قلنا من أن الولاية جعلت في حدود سد نقص المولّى عليه وجبران



في كل شيء بحسبه؛ فالرجوع إليهم في أوامرهم يكون بالالتزام بها وامتثالها، والرجوع إليهم في أموال القاصرين عبارة عن تنفيذ تصرفاتهم أو التصرف الحاصل برأيهم فيها، أما اطلاق الأمر بالطاعة في الآية الكريمة ورواية أحمد بن اسحاق فقد يقال: انه لا يشمل غير امتثال الأمر فهو لا يدل على أنه يجوز للفقيه أو لولي الأمر أن يتصرف في أموال القاصرين أو على نفوذ التصرف الصادر برأيه.

ولكن العرف حينما يجمع بين دليل حق طاعة الأمر لشخص وأصل ضرورة وجود ولي للقاصر في أمواله، يفهم ثبوت حق التصرف له فيها بعنوان الولاية. فهذا التشكيك في الاطلاق تشكيك عقلي وليس عرفياً.

(1) والظاهر كفاية مراعاة عدم الضرر (وأقصد بالضرر ما يشمل فوات المصلحة)، فإن المفهوم عرفاً من الولاية ـ كما قلنا ـ هو ما يجعل المولّى عليه كأنه غير قاصر وكأنه ملئ نقصه، والإنسان غير القاصر لا يشترط في فعله المصلحة والرجحان على الترك؛ فلو أقدم على الفعل ـ لأي دافع نفسي ـ ولم يكن تركه أفضل لم يكن عمله سفيهاً أو على خلاف موازين المصلحة والمفسدة، رغم أننا نفرض أن الفعل أيضاً لم يكن ذا مصلحة عقلانية.

وأما ما جاء بشأن اليتيم من قوله تعالى: ﴿ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن. (سورة الأنعام:152) فلعله ـ بمناسبات الحكم والموضوع ـ يعطي معنى لا ينافي ما ذكرناه، لأن النكتة الارتكازية لجعل هذا الحكم هي لحاظ مصلحة اليتيم وحاله، وواضح أن لا مصلحة بلحاظ حال اليتيم في تحريم العمل حينما يساوي تركه، فلو كان دليل الولاية مطلقاً من هذه الناحية لم يمكن تخصيصه بالآية.

187

قصوره، وليست من قبيل ولاية النبي والإمام التي ثبت بالنص أنها بمعنى كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

والمقياس في تشخيص مصالح ومفاسد المولّى عليه هو نظر الولي وإن أخطأ لا واقع المصلحة والمفسدة، فإن معنى الولاية هو كون نظره ورأيه متبعاً. ومعنى ما قلناه من أنه بولايته يسد نقص المولى عليه أن هذا السفيه مثلاً أو الصغير أصبح بعد هذه الولاية بمنجى عن تأثير سفهه أو صغره في تصرفاته المالية، أما فرض خطأ الولي أحياناً في تشخيص المصلحة والمفسدة فلا يمنع عن نفوذ تصرفه بشأن المولى عليه ولا ينافي ملء نقصه، وجبران قصوره، فإن التورط في الخطأ أحياناً أمر يحصل حتى لنفس المولى عليه لو زال نقصه كما لو أصبح بالغاً رشيداً، فإنه رغم بلوغه ورشده قد يخطئ في بعض التصرفات، وهذا لا يعد نقصاً يحتاج إلى جبرانه بولاية ولي، وإنما نقصه كان عبارة عن سفهه أو صغره وقد تم جبرانه بولاية وليه.

2 ـ ان المجتمع يوجد فيه عصاة لا يعملون وفق الأوامر الالهية أو القوانين التي تضعها الحكومة الاسلامية بحق، فيكون من حق الولي تشكيل القوة التنفيذية والضرب على أيدي العصاة بالقوة ومنع التجاوز على المحرمات واجراء الحدود والتعزيرات. فهذا

188

هو مقتضى اطلاق دليل الولاية(1).

3 ـ وقد يقع في المجتمع نزاع وترافع واختلاف، فلابد من ولي أمر يفصل النزاع بحكمه. والأدلة العامة لولاية الفقيه تشمل هذا المورد بالاطلاق، اضافة إلى ثبوت هذا المنصب ـ أي منصب القضاء ـ بالنص الخاص، كما في مقبولة عمر بن حنظلة.

4 ـ ان أفراد المجتمع ـ على أساس جهل كثير منهم أو عدم اطلاعهم ـ قد لا يستطيعون أن يقدروا المصالح والمفاسد الاجتماعية ويعينوا الموقف بشكل صحيح، كي يعرف مثلاً هل الموقف الصحيح هو الجهاد أو السكوت وغير ذلك من الأمور. فهم بحاجة إلى قائد يقودهم كي يتم بذلك أكبر مقدار ممكن من الخير والصلاح، وهذا أيضاً مشمول لاطلاق الأدلة.

5 ـ ان المصالح الاجتماعية قد تعارض بعض المصالح الفردية



(1) أما اطلاق التوقيع الشريف فواضح، لما مضى من أن الرجوع في كل أمر بحسبه. وأما اطلاق آية اطاعة اولي الأمر ورواية أحمد بن اسحاق الآمر بالطاعة فتأتي هنا الشبهة التي مضت في المورد الأول، فيقال انهما إنما دلّتا على وجوب امتثال الأوامر، ولم تدلاّ على حق الأجبار بالقوة واجراء الحد والتعزير. والجواب نفس الجواب، حيث قال: ان العرف حينما يجمع بين دليل حق الطاعة لشخص وأصل ضرورة قانون الاجبار والحد والتعزير في الاسلام، يفهم من ذلك اطلاق الولاية، فالتشكيك في هذا الاطلاق عقلي وليس عرفياً.

189

أو الأهواء والارادات الشخصية، وبمقتضى العنوان الأولي لا يمكن جبر هذا الفرد على خلاف مصلحته الشخصية أو على خلاف ارادته ورغبته، لأنه لم يخرج في ارادته عن القوانين العامة الأولية؛ ففرض تصرف معين عليه يوافق مصالح المجتمع يحتاج إلى ولي يُعمل ولايته. فمثلاً لو اقتضت المصلحة تحديد الأسعار، فصاحب المتاع بمقتضى العنوان الأولي ليس مجبوراً على البيع بالسعر المعين، وجبره على ذلك يحتاج إلى إعمال حق الولاية. وهذا أيضاً مشمول لاطلاق الدليل.

6 ـ قد تكون المصلحة في نفس توحيد الموقف، كما في تعيين الاهلّة وأوقات الحج والصوم والافطار؛ فحينما تكون هناك حاجة اجتماعية إلى تحديد وقت من هذا القبيل فالظاهر شمول اطلاق الأدلة له(1).

ثانياً: فرض العلم بالخطأ:

إن حكم الحاكم على قسمين:

القسم الأول: ما يكون دور الحاكم في حكمه فيه هو دور طلب تنفيذ الحكم الشرعي من دون الالزام بما لا الزام به قبل الحكم، وذلك من قبيل حكم الحاكم بالهلال، فهو في الحقيقة يخبر عن



(1) راجع الملحق رقم (10).

190

ثبوت الهلال ويطالب بالعمل بما يتطلبه ثبوت الهلال، ومن قبيل فصله للخصومة في المرافعات بتشخيص من له الحق من المترافعين في نظره، ولنصطلح على هذا القسم باسم الحكم الكاشف.

القسم الثاني: ما يكون دور الحاكم فيه هو الالزام بشيء ـ على أساس إعماله لمنصب الولاية ـ حتى على تقدير عدم ثبوت الالزام به شرعاً قبل الحكم، ولنصطلح على هذا القسم باسم الحكم الولايتي(1).

والسر في الزام الحاكم بشيء ـ حتى على تقدير عدم الالزام الشرعي به قبل حكمه ـ هو أحد أمرين:

1 ـ أن يرى الحاكم ملاكاً ومصلحة فيما تعلق به حكمه، رغم أنه قد لا يكون الفرد ملزماً به شرعاً قبل الحكم، على أساس أن نفس الحكم مؤثر في تحقيق المصلحة. وذلك من قبيل حكم الحاكم بتحديد الأسعار لبعض الأمتعة؛ فقد يكون فرد من المجتمع قد



(1) ولا يشترط في هذا القسم عدم ثبوت الالزام شرعاً قبل الحكم، فقد يكون الالزام به شرعاً ثابتاً قبل الحكم ولكن الحاكم يهدف إلى الالزام به حتى على تقدير عدم ثبوت الالزام قبل حكمه (وإن كان هذا التقدير خلاف الواقع)، وقد يهدف الحاكم الحكم بكلا المعنيين الكاشف والولايتي.

191

أدرك وجود المصلحة الالزامية بالتزام المجتمع بالسعر المحدد لمتاع ما على أساس أنه لولا هذا الالتزام لتدهور الوضع الاقتصادي لقسم من المجتمع المسلم إلى حد نعلم بأن الاسلام ـ الذي يرى أنه من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم ـ لا يرضى بذلك، ولكن رغم هذا لا يجب على هذا الفرد الالتزام بهذا السعر المحدد قبل حكم الحاكم، إذ هو يعلم أنه لولا وجود قائد يقود المجتمع إلى تحديد من هذا القبيل لسعر المتاع لم تترتب أي فائدة الزامية على التزامه هو بهذا السعر، لأن الآخرين الذين لم يدركوا هذه المصلحة الاقتصادية أو لم يهتموا بها سوف لن يلتزموا بذلك، والتزامه هو وحده لا يؤثر أثراً يذكر. إذن فتدخل القائد هنا لقيادة المجتمع بوضعه للسعر المحدد له أثره في تحقيق المصلحة، ولم يكن بإمكان الاسلام أن يحدد في تشريعه مصالح من هذا القبيل من دون فرض اشراف قيادة صالحة تلحظ الظروف والأحوال، فكان هذا من منطقة الفراغ التي تُرك مَلؤها لولي الأمر.

2 ـ أن يرى الحاكم مصلحة ملزمة في نفس تحديد الموقف توحيداً للكلمة ورصاً للصفوف، فيختار موقفاً معيناً يحكم به ويلزم به المجتمع، حتى لو فرض أن هذا الموقف لم يكن في حد ذاته أفضل ـ بدرجة الالزام ـ من سائر البدائل المتصورة له. ولذا لم يكن واجباً على المجتمع قبل حكم الحاكم.

192

أما الحكم الكاشف ـ كما في الحكم بالهلال ـ فلا ينفذ على من يعلم بخطأ الحاكم، وذلك لأن المناسبات العرفية تجعل دليلى حجية الحكم في هذا القسم ظاهراً في كون الحجية على أساس ما في الحكم من أمارية على الواقع وكشف عنه(1)، ومع العلم بالخطأ يفقد الحكم كشفه عن الواقع فيسقط عن الحجية. فهذا القسم من الحكم حاله حال الرواية والفتوى، والأصل في الجميع هو السقوط



(1) ومن هنا يستظهر العرف أن حجية هذا القسم من الحكم هي من سنخ الأحكام الظاهرية.

بخلاف القسم الثاني من الحكم، وهو الحكم الولايتي. هذا، ومقتضى ما ذكرناه سقوط هذا القسم من الحكم عن الحجية عند العلم بخطأ مدركه أيضاً ولو لم يعلم بخطأ نفس الحكم، كما لو علمنا أن الحاكم بالهلال استند إلى بينة غير تامة ولكن احتملنا مطابقة الحكم للواقع صدفة. فهذا الحكم يكون ساقطاً عن الحجية لفقدانه للامارية على الواقع. نعم لو كنا نستظهر كون حجية هذا القسم حكماً ظاهرياً من دون أن نستظهر كونها بنكتة الامارية على الواقع، تم التفصيل بين فرض العلم بخطأ الحكم والعلم بخطأ مدركه، فيسقط عن الحجية في الأول ككل حكم ظاهري علم بخطئه، ولا يسقط في الثاني. ولكن الواقع أنه لولا استظهار كون الحجية بنكتة ما في الحكم من امارية على الواقع وكشف عنه لم تكن هناك نكتة لحمل هذه الحجية على كونها حكماً ظاهرياً.

أما فرض كون أماريّته نوعية بدرجة لا تنافي حتى فرض العلم بالخلاف أو بخطأ المدرك فليس عرفياً.

193

عن الحجية عند العلم بالخطأ.

نستثني من ذلك حجية حكم الحاكم في باب القضاء وفصل الخصومات، فمقبولة عمر بن حنظلة تدل على نفوذ حكم الحاكم في ذلك حتى على من يعلم بالخلاف، بمعنى أنه لا يجوز له العمل على خلاف ما ألزم به الحاكم؛ فالمحكوم عليه مثلاً مع علمه بأنه هو صاحب الحق يجب أن يخضع لحكم الحاكم ذلك، لأن المناسبات العرفية تجعلنا نفهم من الدليل أن منصب القضاء إنما جعل للقاضي أن يفصل في الخصومات، فلو قرر عدم نفوذ حكمه على من يعلم بالخطأ فالمحكوم عليه في أكثر الأحيان يدعي العلم بخطأ القاضي، وهذا ينافي فصل الخصومة.

نعم، ان حكم القاضي لا يجوّز الحرام لمن يعلم بالحرمة؛ فالمحكوم له مثلاً لو كان يعلم بأن الحق لصاحبه يجب عليه أن يسلم الحق إليه، وليس حكم الحاكم بما هو في صالحه مسوغاً له لبقائه مصراً على الباطل.

وأما الحكم الولايتي فالواقع أنه لا معنى لحصول العلم بخطئه، فإن الحاكم هنا هو منشئ للحكم بغض النظر عن وجود حكم من هذا القبيل في الشريعة قبل حكمه هو(1). نعم قد



(1) وبتعبير آخر: أن حجية هذا الحكم حكم واقعي وليست حكماً ظاهرياً يعقل مخالفته للواقع.

194

يدعي شخص العلم بخطأ هذا الحاكم في تقديره للموقف وأنه كان الأصلح أن لا يحكم بذلك أو أن يحكم بخلاف ذلك. الا أن هذا لا يسقط الحكم عن النفوذ والحجية؛ فان معنى ولاية الحاكم أنه هو الذي يقدر الموقف لا الفرد المولّى عليه، ومقتضى اطلاق دليل ولايته هو نفوذ حكمه حتى لو علم الفرد بخطأ الحاكم في تقديره للموقف.

نعم لو اعتقد الشخص بحرمة ما حكم به الحاكم واقعاً لم ينفذ عليه الحكم ـ وإن جاز على الحاكم اجباره لو رأى المصلحة الاجتماعية في ذلك ـ والسبب في عدم نفوذ الحكم وعدم حجيته هنا واضح، لأن ولاية الحاكم إنما هي في حدود عدم الخروج عن الالزامات الشرعية، فليس للفقيه تحليل الحرام أو اسقاط الواجب، فإن هذا خارج عن الاطلاقات بالارتكاز والمناسبات العرفية، فإن المستفاد عرفاً من تولية صاحب الشريعة شخصاً ما على المجتمع أنه يوليه في حدود ودائرة ما له من شريعة وأحكام(1).

ثالثاً: ولاية الفقيه بالقياس لسائر الفقهاء:

ونشرح الكلام هنا ضمن الأمور التالية:



(1) راجع الملحق رقم (11).