ولو أصدرت السلطة أمراً عامّاً لضرورته، ولكن الشخص رأى في مصداق من مصاديق ذلك الأمر انتفاء الضرورة لم تجب عليه الطاعة، فنظام المرور مثلا وإن كان بشكل عام أمراً ضرورياً لحفظ سلامة الأُمة، ولكن حينما يتفق صدفة خلوّ الطرق بحيث لا يبقى أي ضرر في مخالفة نظام المرور جازت المخالفة، إلاّ إذا كانت تلك المخالفات بمستوىً يوجب تضعيف الدولة، وبالتالي العجز عن تحقيق المصالح المهمّة التي نقطع بعدم رضا الشارع بفواتها.
وثانيهما: تطبيق عنوان الأُمور الحسبية على نفس السلطة والحكم ببيان: أنّ إعمال السلطة حتى في الموارد التي يرى الشخص عدم الضرورة في ذلك أمر ضروري؛ لأنه إذا صار القرار على استثناء كلّ مورد يرى الشخص عدم ضرورة إعمال السلطة والولاية فيه ـ بأن يقال: إنه لا تجب على ذاك الشخص في ذلك المورد الطاعة ـ انهارت المصالح المهمة أيضاً؛ إذ حتى لو فرضنا أن الناس يصدقون فيما يدّعون من اعتقاد عدم الضرورة يكون هذا الاعتقاد منهم في كثير من الأحيان خطأً، فلو سمح لكل واحد أن يعمل وفق اعتقاده لانهارت المصالح المهمة الثابتة في موارد أخطاء البعض.
أمّا تخصيص السماح بالمخالفة بخصوص من طابق اعتقاده الواقع فلا يحلّ الإشكال؛ إذ لا يمكن تمييز ذلك لهم وكلّ منهم يدّعي أنه هو الذي لم يخطأفي اعتقاده.
فإذا طبّقنا عنوان الأُمور الحسبية بهذا البيان على نفس استلام زمام السلطة وإعمالها ضممنا إلى ذلك هنا أيضاً أحد الأمرين الماضيين، أي إما كون القدر المتيقّن ممن يجوز له ذلك هو الفقيه، أو أدلّة اشتراط الفقاهة في قيادة الأُمّة.
وهذا البيان خير من البيان الأوّل؛ لأنه عالج النقص الثاني من النقصين اللذين أشرنا إليهما في ذيل البيان الأوّل، نعم بقي النقص الأوّل على حاله، وهو أنه لا تثبت بذلك ولاية السلطان عندئذ على تنفيذ ما يراه من الكماليات والمصالح الثانوية غير الضرورية.
الثاني: أساس الأدلّة اللفظية الدالّة على أنه يجب على الناس خلق السلطة الإسلامية والحكم الإسلامي عند عدمها، كآيات الخلافة والأمانة بعد ضمّ ذلك أيضاً إلى أنّ المتيقن ممّن يجوز له ذلك هو الفقيه أو إلى أدلّة شرط الفقاهةفي الإمامة.
وهذا الوجه يكون في نتيجته أقوى من الوجهين الأوّلين؛ لأنّه لا يشتمل حتى على النقص الأوّل من النقصين اللذين مرّت الإشارة إليهما، فكلّما يعدّ عرفاً من شؤون إدارة النظام والحكم يصبح جائزاً للفقيه الوليّ ولو عدّ من الكماليات والمصالح الثانوية.
الثالث: أساس الدليل اللفظي الدالّ على مبدأ ولاية الفقيه، ونقتصر في بحث ذلك على نصّ واحد، وهو التوقيع المشتمل على قوله (عليه السلام): «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللّه» ولا نبحث هنا باقي النصوص التي قد يستدل بها على ذلك اختصاراً للحديث.
كما أننا نقتصر أيضاً في مقام التعرّض لإشكالات هذا النص وعلاجها على أهمّ تلك الإشكالات وهي:
1 ـ الإشكال السندي: لعدم معروفية راوي الحديث، وهو إسحاق بنيعقوب.
2 ـ احتمال كون اللام في الحوادث الواقعة لام عهد إشارة إلى حوادث وردت في سؤال السائل، والتي لا نعلم ما هي.
3 ـ كون كلمة الرواة ظاهرة في الارجاع إلى الرواة بما هم رواة، وهذا يعني الإرجاع إليهم في أخذ الروايات وأخذ الفتاوى، وهو غير الولاية، أو الإرجاع إليهم في ذلك وفي ملء منطقة الفراغ في ما يحتاج ملؤه إلى تضلّع روائي، وهذا غير الولاية المطلقة.
ولنبدأ الآن ببحث هذه الأُسس التي أشرنا إليها لولاية الفقيه:
1 ـ على أساس مبدأ الأُمور الحسبيّة:
الأساس الأول لمبدأ ( ولاية الفقيه ) هو مبدأ الأُمور الحسبية، وهذا الوجه مركب من مقدمتين:
إحداهما: إحراز عدم رضا الشارع بفوات المصالح واضمحلال الأحكام التي تبطل وتضمحلّ بفقدان السلطة والحكومة الإسلاميّة، أو قُل: عدم رضاه بترك حكم البلاد وإدارة أُمور المسلمين بيد الكفار أو الفسقة والفجرة رغم فرض إمكان الاستيلاء عليها من قبل المؤمنين الذين لا يسرّهم إلاّ إعلاء كلمة اللّه، ولا يحكمون ـ لو حكموا ـ إلاّ بما أنزل اللّه.
وهذه المقدمة ضرورية واضحة لا ينبغي لأحد التشكيك فيها فقهياً.
والثانية: تعيّن الفقيه لهذه المهمّة، لأحد سببين: إما لورود الدليل على اشتراط الفقاهة في قائد الأُمة الإسلامية، وإما لأنه القدر المتيقّن في الأُمور الحسبية، ولابدّ من الاقتصار عليه في مقام الخروج عن أصالة عدم الولاية.
شرط الفقاهة في ضوء الدليل:
أمّا الدليل على اشتراط الفقاهة لدى الإمكان في قائد الأُمّة الإسلاميّة فقد عقد في كتاب «دراسات في ولاية الفقيه» فصل خاصّ للبحث عن ذلك(1) ولكنّي لم أجد فيه ما يكون مقنعاً لإثبات المقصود، وقد استدلّ في هذا الكتاب على اشتراط الفقاهة في وليّ الأمر بالعقل والكتاب والسنّة.
أمّا العقل فقد أشار إليه في هذا الفصل محيلا إلى التفصيل الوارد في كلامه في فصل سابق، حاصله التمسّك بحكم العقل وبناء العقلاء، حيث إنّهم إذا أرادوا أن يفوّضوا أمراً من الأُمور إلى شخص فلا محالة يختارون له من يكون عاقلا عالماً بكيفيّة العمل وفنونه، قادراً على إيجاده وتحصيله، أميناً يعتمد عليه ولا يُخشى من خيانته، والولاية وإدارة شؤون الأُمّة من أهمّ الأُمور وأعظلها، فلا محالة تشترط في الوالي بحكم العقل والفطرة هذه الشروط.
وإذا فرض أن المفوّضين لأمر الولاية إلى شخص خاصّ يعتقدون بمبدأ خاصّ وإيديولوجيّة خاصّة متضمّنة لقوانين مخصوصة في نظام الحياة، وأرادوا إدارة شؤونهم السياسيّة على أساس هذا المبدأ وهذه المقرّرات الخاصّة، فلا محالة ينتخبون لذلك من يعتقد بهذا المبدأ، ويكون عارفاً بمقرّراته، بل ينتخبون من يكون أعلم وأكثر اطّلاعاً ما لم يزاحم ذلك جهة أقوى(2).
ولا أدري هل مقصوده هو التمسّك بحكم العقل، أو التمسّك ببناء العقلاء، أو أنّه خلط بين الأمرين؟ فالعقل هو دليل مستقلّ في عرض الكتاب والسنة، وقد نصّ
(1) راجع دراسات في ولاية الفقيه 1: 301 ـ 318.
(2) المصدر السابق: 275 ـ 277.
في أوّل كلامه على أنّ المرجع في إثبات الشرائط هو العقل والكتاب والسنّة، وهذا يعني أنّ مقصوده هو التمسّك بالعقل بدقيق معنى الكلمة، وأمّا بناء العقلاء فليس ينشأ دائماً من حكم العقل بحتاً، بل قد تتدخّل فيه عوامل أُخرى من عواطف أو عادات أو صُدف و أسباب أُخرى، ولهذا تكون حجّيّة الارتكازات والسير العقلائيّة في طول إثبات موافقة الشارع لها وإمضائه إيّاها ولو بدليل عدم وصول الردع، فليس هو دليلا مستقلاّ في عرض الكتاب والسنّة، بل التمسّك في الحقيقة يكون بتقرير المعصوم الذي هو قسم من أقسام السنّة في مقابل قول المعصوم وفعله، فطريقة الاستدلال ببناء العقلاء تختلف عن طريقة الاستدلال بحكم العقل، واستشهاده بفعل العقلاء ودأبهم وديدنهم يعني أنّ المقصود هو الاستدلال ببناء العقلاء، وفي أكبر الظن أنّه خلط بين الأمرين وتخيّل أنّ بناء العقلاء دليل على حكم العقل، ففي واقع الأمر أراد التمسّك بحكم العقل.
وعلى أ يّة حال فلا ينبغي الإشكال في ما ذكره من حكم العقل أو بناء العقلاء، على أنّ من يلي أمراً يجب أن يكون عارفاً به، فمن يلي أُمور المسلمين يجب أن يكون عارفاً بأحكام اللّه؛ لأنّ الهدف هو تطبيق أحكام اللّه والحكم بما أنزل اللّه ﴿ وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ... هُمُ الظَّالِمُونَ... هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾(1)، وإنّما السؤال الذي يتوجّه في المقام هو أنّه هل يدّعى وجوب كون المعرفة بالأحكام معرفة واقعيّة ـ أي علماً وجدانيّاً بالأحكام الواقعيّة ـ أو تكفي المعرفة الظاهريّة التعبّديّة؟
(1) سورة المائدة: الآية 44، 45، 47.
فإن قيل بالأوّل كان ذلك منحصراً بالمعصوم، ولكن مفروض كلامنا هو الحديث عن إدارة أُمور المسلمين في أيام غيبة المعصوم.
وإن قيل بالثاني توجّه سؤال آخر، وذلك لأنّ المقلّد المطّلع على فتاوى من يقلّده كالفقيه له معرفة ظاهرية تعبّدية بالأحكام لا يختلف عن الفقيه في أصل ثبوت هذه المعرفة، وإنما يختلف عنه في طريق تحصيل هذه المعرفة، فالفقيه حصل على هذه المعرفة عن طريق الأدلّة التفصيليّة، والمقلّد حصل عليهاعن طريق دليل إجمالي هو التقليد وحجيّة رأي من يقلّده، فالفقيه يعتمد مثلاعلى حجية خبر الواحد والأُصول العملية وغيرها من الأدلّة، والمقلّد يعتمدعلى حجيّة الفتوى.
فهنا يتوجه السؤال الجديد، وهو أنه هل يشترط أن تكون هذه المعرفة الظاهرية قائمة على أساس الأدلّة التفصيلية، أو يكفي جامع المعرفة الظاهرية، فيجوز إعطاء ولاية الأمر بيد من لا يكون فقيهاً بشرط أن يلتزم في خصوص ما يؤثّر فيه الحكم الفقهي بأخذ الرأي الفقهي من الفقيه، ولا يستبدّ برأي فقهي مخترع من قبل نفسه؟ والدليل العقلي أو العقلائي الذي أُشير إليه لا يعطينا إجابة علىهذا السؤال.
وأما الكتاب فقد استدلّ أيضاً على مقصوده من شرط الفقاهة في وليّ الأمر ببعض الآيات من قبيل قوله تعالى: ﴿ أفمن يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَ يَهدّي إلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾(1). وقوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوي
(1) سورة يونس: الآية 35.
الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُواْ الأَلْبَابِ ﴾(1). وقوله تعالى في قصّة طالوت: ﴿ إنَّ اللّه اصْطَفاهُ عليكُمْ وزادَهُ بَسْطةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ ﴾(2).
والاستدلال بهذه الآيات على المطلوب غير صحيح، أمّا الآية الأُولى فهي واردة في ردع المشركين عن الشرك حيث قال اللّه تعالى: ﴿ قُلْ هلْ من شُرَكائِكم من يَهْدي إلى الْحقّ قُل اللّه يَهدِي للحقّ أَفَمَن يَهدي إلى الحقِّ أحقُّ أَن يُتَّبَعَ أمّن لاَ يَهدّي إلاّ أن يُهدَى فما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾. فقد فُسّر ﴿ يَهدّي ﴾ بمعنى يهتدي، فكأنّ المقصود بقوله: ﴿ أَفَمَن يَهدي ﴾ بقرينة المقابلة بقوله: ﴿ أمّن لاَ يَهدّي إلاّ أن يُهدَى ﴾ هو ترجيح اتّباع من تكون الهداية نابعة منه وليست مكتسبة على من لا يهتدي بنفسه فضلا عن أن تنشأ منه الهداية، وهذا يعني أنّ العبودية للّه لا لغيره؛ لأنّ اللّه هو الذي يهدي بنفسه من دون استمداد من غيره، سواء كان المقصود الهداية التكوينيّة والإيصال إلى المطلوب، أو الهداية التشريعيّة وإراءة الطريق، وأمّا غيره تعالى فلا يهتدي بنفسه فضلا عن أن يهدي غيره إلاّ أن يُهدى، فلا يجوز اتخاذ أحد غير اللّه ربّاً، وذلك يشمل جميع المخلوقين بما فيهم المعصومون (عليهم السلام)؛ لأنّهم جميعاً لا يهتدون إلاّ أن يُهدَوا، فالآية ناظرة إلى التبعيّة بمستوى العبوديّة والربوبيّة، ولا تدلّ على شرط الفقاهة في وليّ الأمر، فإنّ الفقيه بل وكذا المعصوم أيضاً لا يَهدّي إلاّ أن يُهدى.
أما لو قُرئت الآية هكذا: ﴿ أمّن لاَ يَهدي إلاّ أن يُهدَى ﴾ بحذف التشديدفقد يقال: إنّ نفس المطلب الذي ذكرناه في قراءة التشديد يأتي هنا، فعنوان
(1) سورة الزمر: الآية 9.
(2) سورة البقرة: الآية 247.
( من لاَ يَهدّي إلاّ أن يُهدَى ) شامل للفقيه والمعصوم أيضاً، والذي يَهْدِي بلا أن يُهدى منحصر باللّه تعالى.
وبكلمة أُخرى: إنّ ( من لاَ يَهدّي إلاّ أن يُهدَى ) متحد مصداقاً مع ( من لا يهتدي إلاّ أن يهدى )، وهو الذي لا يملك هداية في ذاته. إذن فلسنا بحاجة إلى مناقشة جديدة في دلالة الآية.
وقد يقال: إن التضايف الموجود بين عنوان ( الهادي ) وعنوان (المهدي) يجعل المفهوم عرفاً من المقابلة بين ( من يهدي ) و ( من لا يهدي إلاّ أن يهدى ) هو التقابل بشكل إضافي و نسبي، فالعاميّ بالنسبة للفقيه لا يهدي إلاّ أن يُهدى، والفقيه هو الذي يَهدي، والفقيه بالنسبة للمعصوم لا يهدي إلاّ أن يُهدى، والمعصوم هو الذي يهدي، والمعصوم بالنسبة للّه لا يَهدِي إلاّ أن يُهدى، واللّه هو الذي يهدي.
إذن فعند دوران الأمر في الولاية والقيادة بين العاميّ والفقيه تدلّ الآية على أنّ الولاية للفقيه؛ لأنّ العاميّ لا يهدي إلاّ أن يُهدى، والفقيه هو الذي يهدي.
وبالإمكان تسرية هذا الاستظهار إلى قراءة ( يَهدّي ) بالتشديد أيضاً، فرغم عدم التضايف بين عنواني المهتدي و الهادي يستظهر توسعة الأمر إلى كلّ مهتد وهاد بالنسبة، فالمقلّد بالقياس إلى الفقيه مهتد، والفقيه هو الهادي له، والفقيه بالقياس إلى المعصوم مهتد، والمعصوم هو الهادي له، والمعصوم بالقياس إلى اللّه مهتد، واللّه تعالى هو الهادي له، ودائماً يكون اتّباع الهادي أولى من اتّباع من لا يملك هداية إلاّ بسبب ذاك الهادي.
إلاّ أنّ هذا الاستظهار لو تمّ فهو لا ينفع بالنسبة للفقيه إلاّ في حصر التقليد به بأن يقال: إنّ التقليد للفقيه لا للعاميّ؛ لأنّ العاميّ لا يهدي إلاّ أن يهديه الفقيه، فتكون
التبعية للفقيه، لا بالنسبة للقيادة، وذلك لأنّ القيادة لا تكون بمجرّد إعطاء الفتاوى الفقهية التي يصدق فيها بشأن الفقيه أنه يهدي، ويصدق بشأن العامّي أنه لا يهدي إلاّ أن يُهدى من قبل الفقيه، وإنما القيادة تكون بإعطاء آراء وأحكام يكون أحد جذورها ـ وأُسسها التي انبنت عليها ـ الفقه، وهناك جذور أُخرى لها قد لا يكون هذا الفقيه أولى بها من غير الفقيه من خبرات سياسية واجتماعية وعسكرية واقتصادية وأمنيّة وغيرها، فليست نسبة الفقيه إلى غير الفقيه في النتائج التي بها تقاد الأُمّة نسبة من يهدي إلى ( من لا يهدي إلاّ أن يُهدى ) إلاّ بقدر ما يكونمن حصّة الفقه، وهذا يعني أخذ الجانب الفقهي من الفقيه لا أكثر من ذلك.
نعم، تدلّ الآية عندئذ على أولوية المعصوم من غير المعصوم في الولاية والقيادة؛ لأنّ المعصوم أخبر الناس بكل ما له دخل في القيادة لا بخصوص الفقه، فنسبته إلى غيره نسبة من يهدي إلى ( من لا يهدي إلاّ أن يهدى ).
ومن هنا يتضح: أن ما في بعض الروايات من الاستشهاد بهذه الآية بشأن اتباع المعصومين ـ كما في رواية سليم بن قيس بشأن خلافة أميرالمؤمنين (عليه السلام)(1) ـ لا يكون مؤيّداً لكون القيادة للفقيه؛ إذ ليس الفقيه غالباً هو الأعلم بجميع فنون القيادة بخلاف المعصوم.
ولو وجد فقيه كان أكثر الناس خبرة في كل ما هو دخيل في قيادة الأُمّة فلا بأس بدعوى أولويته من غيره في استلام القيادة.
وأما قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ فإن حُمل على العلم بمعنى الدرْك بأن تكون الآية بياناً لعدم صلاحية الأصنام ونحوها
(1) دراسات في ولاية الفقيه 1: 303، نقلا عن كتاب سليم بن قيس: 118.
للعبادة؛ لأنها لا درْك لها ولا علم فهي أنزل مستوىً من البشر الذي يدرك ويعلم، فضلا عن أن تكون أهلا للعبادة، فعندئذ من الواضح أنّ الآية أجنبيّة عن المقام.
وإن حُمل على العلم في مقابل الجهل فالفقيه والمقلّد بلحاظ مفاد الآية سيّان، فكلاهما فاقدان للعلم الوجداني بالأحكام الواقعية وكلاهما واجدان للعلم التعبّدي بها أو العلم الوجداني بالأحكام الظاهرية، بفرق أن أحدهما يستندإلى الأدلّة التفصيلية والآخر يستند إلى الدليل الإجمالي كما مضى في جواب الدليل العقلي.
على أنّ الآية إنّما تدلّ على عدم الاستواء بين العالم وغير العالم في الدائرة التي يكون أحدهما فيها عالماً والآخر غير عالم، فإن دلّت بالنسبة للفقيه على شيء فإنّما تدلّ على أنه يجب الرجوع في الفقه إلى الفقيه لا إلى غيره، أما القيادة وإصدار الأحكام الولائية التي يشكّل الفقه أحد جذورها لا تمام جذورها فلا تدل الآية على أحقّية الفقيه بها من غير الفقيه الملتزم في قيادته بقدر ما يمتّ الأمر إلى الفقه بصلة بالرجوع إلى الفقيه.
وأما قوله تعالى: ﴿ إنّ اللّه اصْطَفاه عليكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً في الْعلْم وَالْجسْم ﴾فهذه الآية واردة بشأن طالوت الذي جعل ملكاً في حربهم، وفي مصطلح اليوم جعل قائداً للقوات المسلّحة، وأمّا وليّهم العامّ فقد كان هو نبيّهم، والآية دلّت على أن حكمة اختيار اللّه تعالى لطالوت ملكاً في الحرب هو أن اللّه زاده بسطة في العلم والجسم، فكأنّ المقصود من البسطة في العلم هي البسطة في العلم بفنون الحرب، ومن البسطة في الجسم هي رجحانه على الآخرين في القوى الجسمانيّة المؤثّرة في الغلبة في حرب الأعداء، وعندئذ يقال: إنّه يفهم من ذلك أنّ القيادة في
كلّ شيء تتطلّب التفوّق على الآخرين في العلم المرتبط بتلك القيادة، وبما أنّ قيادة الأُمّة نحو تطبيق الإسلام ترتبط ـ فيما ترتبط به ـ بالفقه، إذن فلابدّ أن يكون وليّ الأمر أرجح منهم في الفقه، وهذا لا يكون إلاّ بأن يفترض فقيهاً.
ولكنّ هذا الاستدلال أيضاً لا يخلو من نقاش وذلك:
أوّلا: أنّ لحن الآية لا يدلّ على أكثر من أنّ زيادة العلم كانت حكمة لاختياره تعالى لطالوت واصطفائه عليهم، أمّا أن يكون ذلك دائماً ـ وفي كلّ الحالات ـ علةً لأهلية القيادة فلا يفهم من الآية المباركة، فلو فرضنا أنّ أحدهم كان أعلم من الآخر، والآخر كان أقدر على القيادة لما يمتلك من سعة في الحلم ورحابة الصدر وقوّة الرؤى الصائبة في المصالح الاجتماعية والسياسية، وهو مستعدّ للرجوع إلى ذاك الأعلم في الفقه بعنوان التقليد ـ إن لم يكن هو فقيهاً ـ بقدر ما يمتّ أمر القيادة إلى الفقه بصلة، فالآية لا تدلّ على أرجحية الأوّل على الثاني في القيادة.
وثانياً: أنّ الآية حتى مع الحمل على العليّة لا تدلّ على أكثر من أولوية الأعلم للقيادة في دائرة ما هو أعلم فيها، فطالوت كان أعلم بفنون الحرب، فكان أولى للقيادة في تلك الدائرة، والفقيه أيضاً أعلم من غير الفقيه في دائرة الفقه، فلابدّ أن يكون هو المرجع بقدر ما يمتّ الأمر إلى الفقه بصلة، فإذا كان غير الفقيه يتزعّم ولاية المجتمع ولم يكن الفقيه أعلم منه في فهم المصالح السياسية والاجتماعية، بل قد يكون هو أعلم من الفقيه في ذلك، وكان هو ملتزماً في أحكامه بالرجوع إلى الفقيه بقدر ما تمتّ إلى الفقه بصلة فالآية لا تدلّ على أولوية ذاك الفقيه بالولاية من هذا المقلّد.
وأمّا السنّة فقد استدلّ في كتاب (دراسات في ولاية الفقيه) أيضاً على مقصوده من شرط الفقاهة في وليّ الأمر بالروايات الدالّة على شرط العلم بل الأعلميّة في الإمامة.
وبما أنّ العمدة من تلك الروايات كانت ناظرة ضمناً إلى الوضع المعاش للإمامة وقتئذ، فالمنصرف منها هو الإمامة المطلقة أعني الإمامة في الأحكام الولائية وفي الأحكام الفقهية في وقت واحد لا الإمامة في خصوص الأحكام الولائية، فإنّ تلك الروايات قد ورد قسم منها قبل استحكام الفصل ـ لدى مدرسة الخلفاء ـ بين الإمامة في الأحكام الولائية والمرجعية في الآراء الفقهية، وهي محمولة لا محالة على الإمامة بقول مطلق، وقسم آخر منها ورد بعد استحكام هذا الفصل في مدرسة الخلفاء، ولكن ما هو العمدة في هذا القسم وارد في جوّ الحديث حول الثائرين على خلفاء بني العباس والداعين إلى إمامة جديدة، وهم على الأكثر لم يكونوا معترفين بهذا الفصل، فالمفهوم منها أيضاً هو الحديث عن الإمامة بالمعنى المطلق الشامل للإمامة في الأحكام الفقهية، وعليه فلا يرد على الاستدلال بهذه الروايات ما أوردناه على الاستدلال ببعض الآيات: من أنّ العلم أعمّ من العلم الاستنباطي والعلم التقليدي، فإن الإمامة ـ بمعنىً يشمل المرجعية في الأحكام الفقهية ـ لا تنسجم مع فرض العلم التقليدي، خصوصاً أنّ أغلبية تلك الروايات تصرّح بشرط الأعلمية، ومن الواضح أنّ الأعلمية لا توجد في المقلد، فمهما بلغ المقلّد من العلم بالأحكام ببركة تقليده لأحد الفقهاء يبقى ذاك الفقيه الذي يقلّده أعلم منه ويبقى الفقهاء أعلم من المقلّدين.
وإليك بعض تلك الروايات:
أوّلا: ما ورد قبل استحكام الفصل في مدرسة الخلفاء بين الولاية فيالأحكام السلطانية والمرجعية في الأحكام الفقهية من قبيل ما في نهج البلاغةمن قوله (عليه السلام):
«... وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهْمته، ولا الجاهل فيُضلّهم بجهله...»(1).
وهذا صريح في ما قلناه من النظر إلى الإمامة التي تشمل المرجعية الفقهية.
ومن قبيل ما في نهج البلاغة أيضاً من قوله (عليه السلام): «أيها الناس إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر اللّه فيه، فإن شَغَبَ شاغبٌ استعتب، فإن أبى قوتل...»(2).
ومن قبيل ما في كتاب سليم بن قيس عن أميرالمؤمنين (عليه السلام): «أفينبغي أن يكون الخليفة إلاّ أعلمهم بكتاب اللّه وسنة نبيّه، وقد قال اللّه: ﴿ أَفَمَن يَهدي إلى الحقِّ أحقُّ أن يُتَّبَع أمّن لاَ يَهدّي إلاّ أن يُهدَى ﴾. وقال ﴿ وزادَهُ بَسْطةً في العلمِ والجسم ﴾، وقال: ﴿ أو أثارةً من علم ﴾(3)، وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): ما ولّت أُمّةٌ قطّ أمرها رجلا وفيهم أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا. يعني الولاية، فهي غير الإمارة على الأُمّة»(4).
وغير ذلك من الروايات الموجودة في كتاب «دراسات في ولاية الفقيه»، وفي هذا القسم لا يوجد حديث تامّ السند إطلاقاً.
ثانياً: ما ورد بعد استحكام الفصل بين الأمرين في مدرسة الخلفاء، حيث كان
(1) نهج البلاغة: 398، الخطبة 131.
(2) نهج البلاغة: 549، الخطبة 172.
(3) سورة الأحقاف: الآية 4.
(4) دراسات في ولاية الفقيه 1: 303 ـ 304 نقلا عن كتاب سليم بن قيس: 118.
الخليفة مرجعاً في الأحكام السلطانية، والفقهاء ـ كرؤوس المذاهب الأربعة ـ مراجع في الأحكام الفقهية، وذلك من قبيل:
1 ـ ما في أُصول الكافي عن الرضا (عليه السلام) من مرفوعة القاسم بن علاء عن عبد العزيز بن مسلم قال: «كنّا مع الرضا (عليه السلام) بمرو، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيدي (عليه السلام) فأعلمته خوض الناس فيه، فتبسّم (عليه السلام) ثم قال: يا عبدالعزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم...» إلى أن يقول (عليه السلام): «فكيف لهم باختيار الإمام؟! والإمامُ عالم لا يجهل، وراع لا ينكل، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول (صلى الله عليه وآله) ونسل المطهّرة البتول...»(1).
والحديث مفصّل جداً، وهو صريح في أنّ محطّ كلامه هو الإمام بالمصطلح الشيعي الخاص، أعني الإمام المعصوم الذي لا يناقش في رأي ولا يرتئي إلاّ ما يريده اللّه تعالى، فمورد الحديث أجنبيّ عن المقام إلاّ أنه جاء في كتاب «دراسات في ولاية الفقيه» ما نصّه: «وغرض الإمام في الحديث وإن كان بيان أحقيّة الأئمة الاثني عشر بالأمر لأجل واجديتهم للصفات المذكورة، ولكن بالملاك يثبت الحكم لكل من يصير والياً على المسلمين بما هم مسلمون...»(2).
2 ـ وما في الكافي بسند تامّ عن عبدالكريم بن عتبة الهاشمي عن الصادق (عليه السلام)في قصّة دعوة الناس إلى محمد بن عبداللّه بن الحسن، حيث جاء جماعة إلى
(1) الكافي 1: 198 ـ 203، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، الحديث الأول.
(2) دراسات في ولاية الفقيه 1: 305.
الصادق (عليه السلام) لكي يدعوه إليه، فعرض الإمام (عليه السلام) على متكلّمهم في ذاك المجلس ـ وهو عمرو بن عبيد ـ أحكاماً لابدّ له من العمل بها لو ولّي الأمر أو أراد أن يولّي أحداً، من قبيل: هل يعيّن الوليّ بالشورى أو بأي طريق آخر؟ ومن قبيل: ما هو الموقف من المشركين الذين لا يسلمون ولا يؤدّون الجزية؟ ومسائل أُخرى، فأفحمه الإمام (عليه السلام) في أجوبته، ولم يعرف كيف يجيب، ثم قال له الإمام (عليه السلام):«اتّق اللّه، وأنتم أيّها الرهط فاتّقوا اللّه، فإنّ أبي حدّثني ـ وكان خير أهلالارض وأعلمهم بكتاب اللّه عزّ وجلّ وسنة نبيّه (صلى الله عليه وآله) ـ أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)قال:من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف»(1).
3 ـ وما في الوسائل عن الفضيل بن يسار قال: «سمعتُ أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: من خرج يدعو الناس وفيهم من هو أعلم منه فهو ضالّ مبتدع، ومن ادّعى الإمامة وليس بإمام فهو كافر»(2). وسند الحديث غير تام.
4 ـ وما مضى من رواية عيص بن القاسم التامّة سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «عليكم بتقوى اللّه وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم، فواللّه إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها...»(3).
(1) الكافي 5: 23 ـ 27، كتاب الجهاد، باب دخول عمرو بن عبيد والمعتزلة على أبي عبداللّه (عليه السلام)، الحديث الأول.
(2) وسائل الشيعة 18: 564، الباب 10 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 36.
(3) المصدر السابق 11: 35، الباب 13 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث الأول.
والتحقيق: أنّ هذه الروايات غير تامّة الدلالة على المقصود، وذلك لأنها ـ كما أشرنا إليه ـ تنظر إلى الإمامة بالمعنى المطلق الشامل للإمامة في الأحكام السلطانيّة والإمامة في الأحكام الفقهية، لا إلى مطلق الإمامة التي يكفي في صدقها مجرّد الإمامة في الأحكام السلطانية، ومن الواضح أن الفقاهة شرط في الإمامة بذاك المعنى، فإنّ من لا يكون فقيهاً وعالماً بأحكام الفقه لا عن تقليد لا يعقل أن يكون مصدراً للآراء الفقهية يتبعه الناس فيها، وهذا لا ينافي فرض تولّي شخص لإدارة الأُمور من زاوية الأحكام السلطانية فحسب، مع كونه في نفس الوقت مقلّداً يأخذ الأحكام الفقهية من فقيه ما، وفي ضوئها يصدر أحكامه السلطانيّة، فهذه الروايات لا تكفي لإبطال هذه الفرضيّة.
وهناك روايات أُخرى في المقام، وهي روايات فضل العالم، من قبيل حديث «اللهمّ ارحم خلفائي...» وحديث «العلماء ورثة الأنبياء» وحديث «الفقهاء حصون الإسلام» وحديث «الفقهاء أُمناء الرسل» وحديث «العلماء حكّام على الناس» وحديث «مجاري الأُمور والأحكام على أيدي العلماء». وإن أردت الاطلاع عليها مع تشخيص مصادرها فبإمكانك الرجوع إلى كتاب «دراسات في ولاية الفقيه» الجزء الأوّل، الفصل الثالث من الباب الخامس، وقد جاء فيه ـ بعد مناقشة دلالة تمام هذه الروايات على مبدأ ولاية الفقيه العامّة ـ: «نعم دلالة جميع هذه الروايات على تقدّم الفقيه على غيره وصلاحيته لذلك، وأنّه أصلح من غيره ممّا لا إشكال فيها»(1).
(1) دراسات في ولاية الفقيه 1: 489.
أقول: بعد الاعتراف بعدم دلالة هذه الروايات على مبدأ ولاية الفقيه العامّة فهي إنما تدلّ على أنّ الفقهاء هم منار الطريق في فهم الشريعة، وهم مشعل الهداية والنور، وهذا كما ينسجم مع افتراض إعطاء السلطة والحكم بيد أحدهم في فرض بلوغ الأُمّة مستوى استلام زمام الحكم كذلك ينسجم مع افتراضها في يد إنسان عادل أمين غير فقيه متقيّد بالرجوع فيما يكون للتخصّص الفقهي دخل فيه إلى الفقيه.
هذا تمام الكلام في تتميم الأساس الأوّل لمبدأ ولاية الفقيه، وهو مبدأ الأُمور الحسبيّة بفرض قيام الدليل على شرط الفقاهة في قائد الأُمّة الإسلاميّة لدى الإمكان.
شرط الفقاهة في ضوء القدر المتيقّن:
وأمّا تتميمه بضرورة الالتزام في مقابل أصالة عدم الولاية بالقدر المتيقن فتقريبه: أنّ احتمال شرط التخصّص في فنّ الفقه في قيادة الأُمة نحو منهج يكون هدفه تطبيق نظام الإسلام على وجه الأرض المتمثّل في الفقه لا محالة واردٌ بلا إشكال، واحتمال اشتراط عدم التخصّص في الفقه غير وارد بالضرورة، وهذا لا محالة يجعل الفقيه هو القدر المتيقن ممن له أهلية القيادة، ولا يوجد فن آخر يختصّ التخصّص فيه عادة بفئة من الناس، ويصعب للآخرين تحصيل التخصّص فيه، ويكون دخيلا في تطبيق نظام الحقّ بما يناظر دخل الفقه في ذلك، بحيث يجعل ذلك مقابلا للفقه، ويقال باحتمال دخل التخصّص فيه في القيادة من دون احتمال دخل عدمه فيها حتى يفترض أنه إذا تقابل شخصان: أحدهما متخصّص في الفقه دون ذاك الفنّ، والآخر متخصّص في ذاك الفنّ دون الفقه، فأمر القيادة يدور بلحاظهما بين المتباينين لا بين القدر المتيقن لصالحيّة القيادة وغيره.
وهذا التقريب في الحالات الاعتياديّة صحيح.
2 ـ على أساس الأدلّة اللفظيّة لوجوب إقامة الحكم:
الأساس الثاني لمبدأ ولاية الفقيه هو الأدلّة اللفظيّة الدالّة على أنّه يجب على الناس خلق السلطة الإسلاميّة عند عدمها، وهذا أيضاً يكون بحاجة إلى نفس المتمّم الذي ذكرناه في الأساس الأوّل، أعني ضمّ أدلّة اشتراط الفقاهة في من يلي أُمور المسلمين أو ضمّ قاعدة الاقتصار ـ في مقابل أصالة عدم الولاية ـ على القدر المتيقّن، وهو الفقيه.
وهذا المتمّم قد عرفت حاله فلا حاجة إلى تكرار الحديث عنه، وقد عرفت أن التمسّك بفكرة القدر المتيقّن أمر صحيح في الحالات الاعتيادية.
فالذي يبقى هناك للبحث هو أننا هل نمتلك حقاً أدلّة لفظية تدلّ على وجوب خلق السلطة الإسلامية عند عدمها لدى الإمكان، أو لا؟ ولنفترض كما قلناعدم استلزام ذلك لإراقة الدماء، كي لا يتوقّف هذا البحث على قبول نتيجةالبحث السابق.
ولعلّ من خير ما يمكن جعله دليلا لفظياً على وجوب إقامة السلطة والحكم آيات الخلافة من قبيل قوله تعالى: ﴿ وإذ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَة إِنّي جاعِلٌفي الأرضِ خَليفة ﴾(1). بناء على أنّ المقصود من هذه الآية خلافة البشر لا خلافة شخص آدم (عليه السلام) ولو بقرينة تخوّف الملائكة الذي هو تخوّف من جنس البشر لامن شخص آدم (عليه السلام)، وقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرضِ ﴾(2)،
(1) سورة البقرة: الآية 30.
(2) سورة الأنعام: الآية 165.
وقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذي جَعَلَكُمْ خَلائفَ في الأرضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيه كُفْرُهِ ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿ وَأنْفِقُوا ممّا جَعَلَكُم مُستخلَفينَ فيه ﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿ أَمَّن يُجيبُ الُمضْطَرَّ إذا دَعاهُ وَيكشِفُ السَّوءَ ويجعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأرْضِ ﴾(3). والظاهر أن المراد بالخلافة في هذه الآيات هو خلافة اللّه، وهي تقتضي الحكم والإدارة، أما حملها على الخلافة بمعنى كونهم خَلَفاً لمن قبلهم، وحمل الآية الأُولى على أنه قبل آدم كان ناس آخرون في الأرض فأخبر اللّه تعالى الملائكة بأنه سيجعل في الأرض خلفاء لأُولئك الناس فهو بعيد جداً لأمرين:
الأوّل: أنّ المتكلم لو قال: جعلت فلاناً خليفة ولم يذكر المستخلف عنه فظاهر ذلك أنه يقصد جعله خليفة عن نفس المتكلم، فإنّ فرض مستخلف عنه آخرغير المتكلّم تعتبر فيه مؤونة زائدة تحتاج إلى الذكر، فالمتكلّم نفسه له نوعحضور في كلامه يستغني بذلك عن ذكره، لكن لو قصد الاستخلاف عن شخص آخر فالمناسب ذكره في سياق الكلام، وبهذا يتّضح الفرق بين هذه الآياتوآيات أُخرى من قبيل قوله تعالى: ﴿ ولقد أَهْلَكْنا القُرونَ مِنْ قَبلِكُم لمّا ظَلَموا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالْبيّنات وَما كانوا ليُؤْمنوا كذلك نجزي القومَ المجرمين * ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائفَ في الأرْض مِنْ بَعْدِهِمْ لننظُرَ كيف تعملون ﴾(4)، وقوله تعالى: ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجينْاهُ وَمَن مَعَهُ في الفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأغْرَقْنا الّذينَ كَذَّبُوا
(1) سورة فاطر: الآية 39.
(2) سورة الحديد: الآية 7.
(3) سورة النمل: الآية 62.
(4) سورة يونس: الآية 13 ـ 14.
بآياتنا ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُروا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَومِ نُوح ﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُروا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عاد وَبَوَّأَكُمْ في الأرْضِ ﴾(3).
ففي هذه الآيات قد جاء ذكر قوم بادوا واستخلاف قوم آخرين، فيحتمل كون المقصود استخلافهم عن الذين بادوا، بخلاف تلك الآيات، ففي أكبر الظنّ أنّ المقصود بها هي الخلافة عن اللّه من قبيل الخلافة في قوله تعالى: ﴿ يا داودُإنّا جَعَلْناكَ خَليفةً في الأرْضِ فاحْكُمْ بينَ النّاسِ بالْحقّ ﴾(4) الواضح في إرادة الخلافة عن اللّه بقرينة تفريع الحكم بالحقّ عليها، إلاّ أنّ المقصود في هذهالآية هي الخلافة الشخصيّة لداود (عليه السلام) والمقصود في تلك الآيات هي الخلافة النوعية لجنس البشرية.
والثاني: أنه لا توجد أيّة نكتة بلاغيّة في التركيز على كون جماعة خلفاً لجماعة آخرين، اللهمّ إلاّ أن يقال: إنه كان المقصود إلفات النظر إلى نكتة تعرف بالملازمة وبالواسطة. بيانها أن يقال: إذا كنتم خلفاء للذين رحلوا وبادوا فاعلموا أنكم أيضاً ستصيرون إلى نفس المصير، فعليكم إذن الالتزام بطاعة اللّه قبل أنْ تهلكوا كما هلك الذين كانوا من قبلكم، وهذا بخلاف ما إذا حملت الخلافة على الخلافة عن اللّه تعالى بمعنى الوكالة عنه، ففي ذلك إشارة بليغة إلى أنه يجب عليكم الالتزام بتطبيق أوامر اللّه في الأرض؛ لأنكم لستم المُلاّك الحقيقيين في
(1) سورة يونس: الآية 73.
(2) سورة الأعراف: الآية 69.
(3) سورة الأعراف: الآية 74.
(4) سورة ص: الآية 26.
الأرض، وإنما أنتم الخلفاء والوكلاء عن اللّه تعالى، فلابدّ من التزامكم بتعاليم المستخلف عنه والموكّل، على الخصوص في الآية الأخيرة التي ربطت بين الإنفاق والاستخلاف بقوله تعالى: ﴿ أنفِقوا ممّا جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفينَ فيه ﴾، فأيّ علاقة مقبولة تراها بين الإنفاق والاستخلاف لو قصد به الاستخلاف عن قوم سابقين؟! اللهمّ إلاّ أن يقال أيضاً: إن كونكم خلفاء للذين بادوا مؤشر على أنكم أيضاً ستبيدون، إذن فأنفقوا في سبيل اللّه قبل أن تبيدوا. في حين أنه لو حمل الاستخلاف على الاستخلاف عن اللّه تعالى فالمناسبة البليغة بين الإنفاق والاستخلاف واضحة، والمعنى عندئذ ـ واللّه العالم ـ أنكم لستم ملاّكاً لهذه الأموال وإنما أنتم مستخلفون عن المالك ـ وهو اللّه تعالى ـ إذن لابدّ لكم من امتثال أمره بالإنفاق.
فإذا ثبت أنّ المقصود بالخلافة في هذه الآيات الخلافة عن اللّه تعالى أمكن إثبات اشتمال ذلك على ضرورة إقامة سلطة الحقّ بأحد تقريبات ثلاثة:
التقريب الأول: أن يقال: إنّ الحاكم على بلد لو قال: جعلتُ فلاناً خليفة في ذاك البلد يفهم منه جعل فلان حاكماً في ذاك البلد وفق تعاليمه هو، واللّه تعالى حاكم على العالمين وفي السماوات والأرض، فحينما يقول: إن البشرية خليفتي في الأرض يكون معنى ذلك أنّ البشرية حاكمة في الأرض نيابةً عن اللّه تعالى، فعليها أن تحكم وفق تعاليمه وأوامره ونواهيه ـ جلّ وعلا ـ وبما أنه لا يمكن أن يكون كلّ فرد فرد حاكماً مستقلا على وجه الأرض، فالمقصود إذن أن يكون كلّ فرد مساهماً بقدره في الحكم، وذلك بتأسيس الحكم على أساس الانتخاب والتصويت، فمن حق كلّ أحد أن يدلي بصوته ويكون بهذا المقدار سهيماً في الحكم.
فالأصل في الحكم أن يكون انتخابيّاً إلاّ حينما يرى اللّه سبحانه تعيين الحاكم بالنصّ النازل من السماء لعدم صلاحيّة الناس مثلا للقيام بحمل العبء.
التقريب الثاني: أنّ ما للّه تعالى على العوالم ـ ومنها عالم الأرض ـهو الحاكميّة بتوابعها المقصودة للّه تعالى من عمران البلاد وإشاعة العدل،ونشر أحكام اللّه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما إلى ذلك، ومعنىخلافة البشريّة عن اللّه في الأرض إيكال كلّ هذه الأُمور إلى نوع البشريّة،وليس من الضروري أن يكون ذلك بإسهام كلّ فرد في الحكم عن طريق الانتخاب، بل على كلّ فرد أن يحمّل جزءاً من هذا العبء الواسع، فمنهممن يساهم في تعمير البلاد، ومنهم من يساهم في تهيئة الأرزاق أو سائر الضرورات للعباد، ومنهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومنهم منيقيم الحكم الإسلامي في العباد، فلا ينافي ذلك فرض كون الحاكم معيّناً بنصّمن السماء لا بالانتخاب، ولكن حين فقدان حاكم ظاهر منصوص لابدّ منتحقيق ذلك أيضاً من قبل البشريّة بوجه من الوجوه تكميلا لمعنى الخلافة منقبل اللّه تعالى.
وهذا الاحتمال إن لم يكن أظهر من الاحتمال الأوّل فالاحتمال الأوّل ليس أظهر منه، ومن هنا لا نرى آيات الخلافة دليلا على الانتخاب.
التقريب الثالث: لو فرضنا أنّ خلافة اللّه لا تدلّ على أكثر من ضرورة تطبيق الأحكام الإلهيّة على وجه الأرض فقد يقال: إنّ كون إقامة السلطان على وجه الأرض من أحكام اللّه على الناس أوّل الكلام، فالتمسّك لإثباتها بالآية مصادرة على المطلوب.
ولكن الجواب على ذلك: أنّه من الواضح أنّ تطبيق الأحكام الإلهيّة كاملة على وجه الأرض يتوقّف على إقامة السلطان، فإيجاب ذلك يدلّ بالملازمة على إيجاب إقامة السلطان من قبلهم حينما لا يكون السلطان معيّناً بنصّ من السماء.
والفرق العملي بين هذا التقريب والتقريبين الأوّلين أنّ هذا التقريب سوفلن يفيدنا بأكثر من دليل الحسبة؛ أي أنّه لا يثبت به كون الولاية في الكماليّات أيضاً بيد السلطان؛ لأنّها ليست داخلة في المقدّمة التي يتوقّف عليها تطبيق الأحكام الإلهيّة ويسري إليها الوجوب لأجل الضرورة؛ إذ لا ضرورة فيها.
وممّا يمكن الاستدلال به على المقصود أيضاً قوله تعالى: ﴿ إنّا عَرَضْناالأمانَةَ عَلَى السَّماواتِ والأرْضِ وَالْجبالِ فَأَبيْنَ أن يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ منْهاوَحَمَلَها الإنْسانُ إنَّهُ كان ظَلُوماً جَهُولا ليُعَذّبَ اللّه الْمُنافقينَ وَالْمُنافقاتِ وَالْمُشركينَ وَالْمُشركاتِ وَيَتوبَ اللّه على المؤْمنينَ وَالمؤمناتِ وكان اللّهغَفُوراً رحيماً ﴾(1) بناء على أنّ الأمانة التي يمكن أن توصف بأنّها أثقل منأن تحملها السماوات والأرض والجبال وحملها الإنسان لا تكون إلاّ عبارةعن منصب خلافة اللّه. أمّا ما ورد في عديد من الروايات من تفسير الآية بأنّاللّه عرض على السماوات والأرض والجبال ولاية عليّ (عليه السلام) فأبين أن يغصبنها، وغصبها الإنسان الظالم(2) فهو ممّا لا ينسجم مع بلاغة القرآن وسموّه، وتنزيلٌله إلى ما هو أحطّ من كلام الإنسان الاعتيادي، ومعه لا يحتمل صدق هذه الروايات.
(1) سورة الأحزاب: الآية 72 ـ 73.
(2) راجع تفسير البرهان 3: 340 ـ 342.
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا ﴾ يمكن أن يفسّر بمعنىً لا يكون تعليلا لحمل الإنسان للأمانة بأن يكون المقصود به استئناف الحديث بأنّ الإنسان لظلمه وجهله خان كثيرٌ من أفراده هذه الأمانة، وميّز اللّه تعالى ـ بتحميله الإنسان لهذه الأمانة ـ بين المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الخائنين للأمانة ليعذّبهم وبين المؤمنين والمؤمنات الذين أدّوا الأمانة حقّها، وإن أخطؤوا فقد أخطؤوا أخطاء جانبية يغفرها اللّه لهم ويتوب عليهم.
ويمكن أن يفسّر بمعنى التعليل لحمل الإنسان للأمانة بأن يقال: إنّ الذي يخون الأمانة كان المفروض به أن لا يحملها منذ البدء كي لا يُبتلى بخيانتها، لكن ظلمه وجهله حمله على قبول الأمانة.
ومما يمكن أن يستدلّ به على المقصود الأوامر المتوجّهة إلى المجتمع التي يتوقف امتثالها غالباً على فرض وجود الحكومة والاستعانة بها، فيفهم عرفاً من ذلك أننا مأمورون بإقامة الحكومة التي تحقّق هذه الأُمور إن لم تكن معيّنة من قبل اللّه تعالى، وبالالتفاف حولها، ووضعها في محلها إن كانت معيّنة من قبل اللّه تعالى.
وذلك من قبيل الأوامر بإجراء الحدود، أو الأوامر بتوحيد الكلمة والاعتصام بحبل اللّه وعدم التفرّق.
إلاّ أنّ هذا الوجه لا يزيد في النتيجة على وجه التمسّك بالحسبة، أي أنه لا يُنتج لنا إطلاقاً لفظياً نتمسّك به لإثبات ولاية الدولة في أوامرها في الشؤون الكمالية التي لم يكن من الضروري إصدارها.
وهناك وجوه أُخرى من الأدلّة اللفظية على المقصود ذكرت في كتاب دراسات في ولاية الفقيه حذفنا بحثها ومناقشتها اختصاراً للكلام.
3 ـ على أساس النصّ على ولاية الفقيه:
الأساس الثالث لمبدأ ولاية الفقيه هو التمسّك بالنص الدالّ على ولاية الفقيه مباشرة، وهنا نكتفي ببحث رواية واحدة، وهي التوقيع المروي عن إسحاق بن يعقوب قال: «سألت محمد بن عثمان العمريّ أن يوصل لي كتاباً قد سألتُ فيه عن مسائل أشكَلَتْ عليّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزّمان (عليه السلام): أمّا ما سألت عنه أرشدك اللّه وثبّتك... ـ إلى أن قال ـ: وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة اللّه»(1).
سند الحديث:
وسند الحديث إلى الكليني يشبه أن يكون قطعياً ـ كما وضّحناه في كتاب أساس الحكومة الإسلامية وفي بحثنا في الأُصول في حجية خبر الواحد ـ لأنّ الشيخ (قدس سره) يرويه عن جماعة فيهم المفيد، عن جماعة فيهم جعفر بن محمد بن قولويه وأبو غالب الزراري عن الكليني، ورواه أيضاً الصدوق عن محمد بن محمد بن عصام عن الكليني.
وعيب السند عبارة عن الراوي المباشر، وهو إسحاق بن يعقوب الذي لم يترجم في كتب الرجال، ولكنه شخص حدّث الكليني بورود توقيع عليه من صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه، وافتراء توقيع على الإمام ـ في ظرف غيبة الإمام
(1) وسائل الشيعة 18: 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9، وكمال الدين: 484، الباب 45 التوقيعات ـ التوقيع الرابع ـ طبعة دار الكتب الإسلامية بطهران، وكتاب الغيبة للطوسي (رحمه الله): 177، مطبعة النعمان في النجف الأشرف.