470

 

الإطلاق الشموليّ والبدليّ

بعد هذا ننتقل إلى مبحث انقسام المطلق إلى الشموليّ والبدليّ، فقد قسّم الأصحاب(قدس سرهم) المطلق إلى شموليّ وبدليّ.

والمستفاد من المقالات للمحقّق العراقيّ(رحمه الله) أنّ طبع الإطلاق هو البدليّة، وأمّا الشموليّة فهي نحو قيد ومؤونة زائدة؛ لأنّ ماهيّة العالم مثلاً هي الجامع بين القليل والكثير الثابت في الواحد والمتعدّد، فلو وجب مثلاً إكرام العالم وكنّا نحن والإطلاق المحض لزمت كفاية إكرام عالم واحد؛ لأنّ الطبيعة جامعة بين القليل والكثير فيكفي في تحقّقها القليل، أعني: الواحد، في حين أنّ الشموليّة بحاجة إلى ملاحظة الطبيعة سارية وهذه مؤونة زائدةً (1).

أقول: نكتة الفرق بين المطلق الشموليّ والبدليّ ـ على ما عرفته من كلام المحقّق العراقيّ(قدس سره) ـ عبارة عن أنّ الطبيعة تارة تعتبر سارية في الأفراد فيكون الإطلاق شموليّاً، واُخرى لا تعتبر سارية فيها فيكون بدليّاً، ولكنّنا نقول: إنّ مفهوم الطبيعة منفرداً وبدون الضمّ إلى مفهوم آخر من مفهوم أحد الأفراد أو تمام الأفراد لا تحكي عن تمام الأفراد ولا عن أحد الأفراد وإنّما هي مرآة للحيثيّة المشتركة بين الساري وغيره، وإنّما المرآة التي ترى بها الأفراد شموليّاً أو بدليّاً هي مفهوم آخر حاك عن نفس الأفراد، وهو عبارة عن مفهوم كلّ فرد أو مفهوم أحد الأفراد، والمفروض عدم ضمّ مفهوم الطبيعة إلى مفهوم آخر.

فظهر: أنّ ما جعله نكتة الفرق بين المطلق الشموليّ والبدليّ غير صحيح، بل



(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 39، ص 492 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

471

الطبيعة في كلا الفرضين تحكي عن خصوص الجهة المشتركة بين الأفراد، وإنّما الفرق بينهما: أنّ الحكم المحمول على هذه الطبيعة تارة يكون سارياً إلى الأفراد فيكون الإطلاق شموليّاً، واُخرى لا يكون سارياً إليها فيكون بدليّاً.

وطبع الإطلاق في بعض الموارد يقتضي البدليّة وفي بعضها يقتضي الشموليّة، وتوضيح ذلك: أنّ ما جعل معروضاً للحكم تارة يكون موضوع الحكم كالعالم في قولنا: (أكرم العالم)، واُخرى يكون متعلّقاً للحكم كالصلاة في قولنا: (صلّ). والفرق بين الموضوع والمتعلّق: أنّ الموضوع يجب أن يكون موجوداً في زمان فعليّة الحكم وما لم يوجد الموضوع لا يكون الحكم فعليّاً، كما ترى أنّه ما لم يوجد العالم في الخارج لا يكون وجوب الإكرام فعليّاً، وأمّا المتعلّق فلا يعقل وجوده في زمان فعليّة الحكم بل يوجد بامتثال الحكم الفعليّ، كما ترى أنّ الصلاة توجد بامتثال قوله: (صلّ)، لا أنّها موجودة في زمان فعليّة الأمر بالصلاة وإلّا لزم طلب الحاصل.

ومعنى شموليّة الإطلاق هو سريان الحكم لدى فعليّته إلى أفراد معروضه، ومعنى بدليّته عدم السريان إلى أفراد معروضه.

وسريان الحكم إلى الأفراد بنحو من السريان ـ ولو مجازاً ـ إنّما يكون بلحاظ موضوع الحكم وذلك بلحاظ ما بعد وجود أفراد الموضوع، فمهما وجد فرد لموضوعه سرى إليه الحكم، ومن هنا ظهر أنّ معروض الحكم إن كان عبارة عن موضوعه فمقتضى طبع الإطلاق هو الشموليّة؛ لأنّه بلحاظ زمان فعليّته يكون ـ لا محالة ـ سارياً إلى أفراد الموضوع، فقوله مثلاً: (أكرم العالم) يدلّ بالإطلاق على وجوب إكرام كلّ فرد من أفراد العالم، بمعنى أنّ الحكم ثبت على طبيعة العالم فسرى منها إلى تمام أفرادها لا إلى بعضها دون بعض؛ لأنّنا لا نتعقّل ملاكاً لسريان الحكم إلى أفراد الطبيعة إلّا كون الطبيعة منطبقة على فردها، وهذا الملاك ـ كما

472

ترى ـ لا يختصّ ببعض الأفراد دون بعض، فالحكم يسري إلى جميع الأفراد لامحالة، ولا نعني بشموليّة الإطلاق إلّا هذا.

وأمّا احتمال كونه سارياً إلى أحد الأفراد من قبيل الوجوب التخييريّ فمنفيّ بأنّه مساوق للتقييد المفروض نفيه بالإطلاق؛ وذلك لأنّ الوجوب التخييريّ لابدّ أن يكون مرجعه إلى أحد أمرين:

الأوّل: كون كلّ واحد من الأفراد واجباً بوجوب مقيّد بعدم الإتيان بالباقي.

والثاني: أن يكون المأخوذ في موضوع الوجوب عنوان أحد الأفراد.

وكلا هذين الأمرين منفيّان بأصالة عدم التقييد.

هذا كلّه بالنسبة إلى موضوع الحكم.

وأمّا إذا كان معروض الحكم عبارة عن متعلّقه فمقتضى طبع الإطلاق هو البدليّة؛ لأنّه لا يعقل سريان الحكم من الطبيعة إلى أفراد المتعلّق، فمثلاً لو قال المولى: (صلّ) كان الحكم متعلّقاً بطبيعة الصلاة ولم يكن سارياً إلى أفرادها؛ لأنّ هذا الحكم يكون فعليّاً قبل وجود المتعلّق، والمتعلّق إنّما يوجد في مقام امتثال الحكم والحكم يسقط بامتثاله، فظرف وجود المتعلّق ليس هو ظرف فعليّة الحكم حتّى يسري الحكم إلى الفرد بل هو ظرف سقوطه، ولا معنى لسريان الحكم بعد سقوطه، وذلك بخلاف الموضوع، فإنّ ظرف وجوده هو ظرف فعليّة الحكم.

وبكلمة اُخرى: إنّ الاستغراقيّة عبارة عن تعدّد الحكم بتعدّد الأفراد وهذا لا يتصوّر إلّا بنحوين:

الأوّل: أن يجعل الحكم ابتداءً على الأفراد، وهذا يمكن تصويره في الموضوع والمتعلّق معاً، لكن هذا عبارة عن العموم لا الإطلاق وهو خارج عمّا نحن فيه.

والثاني: أن يجعل الحكم ابتداءً على الطبيعة ويسري إلى الفرد باعتبار ثبوت الطبيعة في الفرد، وأنّ مطلوبيّتها كانت بما هي مرآة للفرد الخارجيّ، وهذه السراية لا

473

تعقل إلّا في الموضوع دون المتعلّق؛ لأنّ الموضوع موجود حين فعليّة الحكم فيسري الحكم إليه، والمتعلّق غير موجود حين فعليّة الحكم فلا يمكن سريانه إليه، فإنّ السريان يكون بملاك فناء الطبيعة في الفرد، وقبل وجودها في الفرد لا يعقل فناؤها فيه، وليس المقصود القبليّة والبعديّة الزمنيّة، وإنّما المقصود فناء الطبيعة في المرتبة المتأخّرة عن وجود الفرد، ولحاظ ذلك ممكن قبل الوجود الخارجيّ للفرد في باب الموضوع، أمّا في باب المتعلّق فذلك يساوق طلب الحاصل، وعدم وجوده بالفعل لا يخرجه عن كونه طلباً للحاصل، فإنّ طلب مفروض الحصول حاله حال طلب الحاصل بالفعل، فقد ظهرت بما لا مزيد عليه نكتة الفرق بين الموضوع والمتعلّق.

ولا يخفى أنّ مقصودنا بفعليّة الحكم ما نعبّر عنه بطرفيّة الشيء للحكم لا الفعليّة بالمعنى الذي أنكرناه في محلّه.

وإلى هنا قد شرحنا ما يرد على كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) من الإشكال المربوط بما نحن فيه.

وأمّا ما يرد على ذلك ممّا يكون مرتبطاً بغير ما نحن فيه فموكول إلى محلّه.

 

الحديث عن بدليّة الإطلاق في متعلّق الأمر وشموليّته في متعلّق النهي:

بقي في المقام الحديث عمّا ذكره الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ من أنّ الإطلاق بالنسبة إلى المتعلّق في جانب الأمر بدليّ وفي جانب النهي شموليّ، فالنهي في قوله مثلاً: (لا تغتب) شموليّ يشمل كلّ فرد من أفراد الغيبة.

أقول: لا إشكال في كون الإطلاق في جانب النهي شموليّاً بالنظر إلى قرينة خارجيّة، وهي: أنّ النهي يكون غالباً ناشئاً من مفسدة في المتعلّق التي هي انحلاليّة حتماً.

والوجه في انحلاليّته هو: أنّ الملاك إمّا ثابت في أوّل الوجود أو في جميع

474

الأفراد مجموعيّاً أو فيها انحلاليّاً، والأوّل خلاف الإطلاق؛ إذ مقتضاه تقييد الحكم بأوّل الوجود، والثاني أيضاً خلاف الإطلاق؛ إذ لو كان الملاك قائماً بالمجموع لم يكن وجه للنهي عن ذات الطبيعة، فتعيّن الثالث. وهذه الغلبة صارت حكمة لظهور النهي في نظر العرف في الحكم الانحلاليّ بحسب الأفراد ولو لم يكن ناشئاً من المفسدة في المتعلّق، فقوله: (لا تغتب) ظاهر في انحلال الحرمة وتعدّدها بحسب أفراد الغيبة ولا نعني بالإطلاق الشموليّ إلّا هذا.

فهناك فرق بين انحلال الحكم بحسب الأفراد بالنسبة للمتعلّق في مثل قوله: (لا تغتب) وانحلاله بالنسبة إلى الموضوع في مثل قوله: (أكرم العالم)، وهو: أنّ انحلال الحكم في الثاني كان بملاك سريانه من الطبيعة إلى الأفراد، وفي الأوّل بملاك اكتشاف تعلّق الحكم في عالم الجعل ابتداءً بالحصص وإن بيّن في عالم الإثبات بلسان الإطلاق، وبيان ما يكون في عالم الجعل بنحو العموم بلسان الإطلاق في عالم الإثبات ليس مخالفاً للبيان العرفيّ.

فتحصّل: أنّه لا إشكال في كون الإطلاق في جانب النهي شموليّاً بالنظر إلى قرينة الملاك(1).



(1) ولهذا ترى أنّه في الموارد التي يكون من الواضح جليّاً عند العرف نفسه أنّ الملاك ليس هو المفسدة في متعلّق النهي بل هو المصلحة في خلافه لا تتمّ الدلالة على الشمول.

فمثلاً: لو قال: (لا تترك الصلاة) فمن الواضح أنّ الملاك ليس عبارة عن مفسدة في ترك الصلاة، وإنّما هو عبارة عن مصلحة الفعل التي تفوت بالترك، فقوله: (لا تترك الصلاة) لا يدلّ على الشمول والانحلال، بحيث لو امتثل مرّة واحدة بقي النهي عليه ثانياً وثالثاً، فلابدّ أن يترك الترك دائماً بأن يصلّي دائماً، وإنّما يدخل هذا فيما سيأتي من أنّ النهي لا ينتفي إلّا بانتفاء تمام أفراده.

475

وأمّا مع قطع النظر عن القرينة فهل يكون أيضاً فرق بين الإطلاق في جانب الأمر والإطلاق في جانب النهي بكون الأوّل بدليّاً والثاني شموليّاً أو لا؟

ذهب الأصحاب(قدس سرهم) إلى الفرق بينهما بذلك، والسرّ في ذلك ما ذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1) وغيره من أنّ الأمر أمر بإيجاد الطبيعة، والطبيعة توجد بأوّل فرد فيكفي في امتثال الأمر الإتيان بفرد واحد، والنهي زجر عن إيجاد الطبيعة، والطبيعة توجد بأوّل فرد فيجب ترك جميع الأفراد حتّى يحصل ترك الطبيعة، فالإطلاق في الأوّل بدليّ وفي الثاني شموليّ، فقد جعلوا قوله مثلاً: (صلّ) نظير قوله: (أكرم عالماً)، وقوله: (لا تغتب) نظير قوله: (أكرم العالم) في كون الثاني شموليّاً والأوّل بدليّاً، فكأنّهم جعلوا الشموليّة عبارة عن مطلق كون الحكم بنحو يجب في مقام الامتثال تطبيق العمل من فعل أو ترك على جميع الأفراد، والبدليّة عبارة عن مطلق كون الحكم بنحو يكفي في مقام الامتثال تطبيق العمل على أحد الأفراد على سبيل البدل.

لكن التحقيق: أنّ هذا الاصطلاح في الحقيقة خلط بين مقامين:

الأوّل: مقام تعلّق التكليف بالشيء. والثاني: مقام امتثال التكليف. توضيح ذلك: أنّ قوله: (أكرم عالماً) وقوله: (صلّ) وإن اشتركا في جواز الاكتفاء في كلّ منهما بفرد واحد، لكن ذلك في الثاني يكون من باب أنّ الحكم تعلّق بالطبيعة ولم يسر إلى الفرد والطبيعة تحصل بأوّل وجودها، وفي الأوّل يكون من باب أنّ الحكم وإن سرى من الطبيعة إلى الفرد لكن اُخذ في الكلام قيد عنوان أحد الأفراد، وهذا القيد مستفاد من التنوين كما يأتي تفصيله إن شاء الله، وأيضاً قوله: (أكرم العالم) وقوله: (لا تغتب) وإن اشتركا في كون كلّ منهما مستدعياً لتطبيق العمل



(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 39، ص 502 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

476

على جميع الأفراد، لكن ذلك في الثاني بناءً على مقولتهم يكون من باب أنّ الحكمتعلّق بالطبيعة التي لا تفنى إلّا بفناء جميع أفرادها وفي الأوّل يكون بالسريان.

وممّا ذكرنا يظهر: أنّ الذي ينبغي أن يصنع في مقام جعل الاصطلاح هو أن يقال: إنّ شموليّة الإطلاق عبارة عن انحلال الحكم بحسب الأفراد، وذلك يكون بحسب الطبع الأوّليّ للإطلاق بالنسبة إلى الموضوعات دون المتعلّقات، وبدليّة الإطلاق عبارة عن وقوف الحكم على الطبيعة بلا سريان ولا انحلال، وذلك يكون بالنسبة إلى المتعلّقات بحسب الطبع الأوّليّ للإطلاق بلا فرق بين جانب الأمر والنهي مع قطع النظر عن قرينيّة الملاك، وعلى هذا الاصطلاح فالإطلاق في جانب النهي مع قطع النظر عن قرينيّة الملاك بدليّ وإن قيل بأنّه يلزم ترك جميع الأفراد حتّى يتحقّق ترك الطبيعة، كما أنّ في جانب الأمر أيضاً بدليّ. وأمّا في مثل قوله: (أكرم عالماً) فليس الثابت بحسب هذا الاصطلاح الإطلاق البدليّ وإنّما البدليّة هنا قيد طار على المطلق(1).

وعلى أيّة حال فلا مشاحّة في الاصطلاح وإنّما العمدة عدم الخلط بين المباحث وتنقيح كلّ واحد منها على حدة.



(1) وكم ترى الفرق بين الشموليّة التي نحن فرضناها في: (لا تغتب) والشموليّة التي هم فرضوها، فالشموليّة التي نحن وضّحناها تفسّر بوضوح نكتة أنّه لو اغتاب مرّة بقيت الحرمة نافذة المفعول في المرّة الثانية؛ لأنّ الشموليّة نتجت من قرينة الملاك وأصبح روح الحكم عبارة عن العموم في مرحلة الجعل، في حين أنّ الشموليّة التي وضّحوها لا تفسّر بقاء الحرمة بعد الغيبة الاُولى؛ لأنّه صحيح أنّ المنهيّ لا ينتفي إلّا بانتفاء تمام أفراده، ولكن إذا عصى ذلك بالغيبة الاُولى فالمفروض ـ لو كنّا وهذه النكتة فحسب ـ سقوط الحرمة عن التأثير في المرّات الاُخرى.

477

 

هل الإطلاق داخل في الموضوع له اسم الجنس أو لا؟

والآن حان لنا أن نبحث من الناحية الإثباتيّة عن أنّه هل الإطلاق داخل في الموضوع له اسم الجنس أو غير داخل فيه، بل وضع اسم الجنس للجامع بين المطلق والمقيّد.

المشهور بين المتقدّمين هو الأوّل، وكأنّ مقصودهم من ذكر ذلك بيان عدم الاحتياج إلى مقدّمات الحكمة، ومن هنا قلنا: إنّ مقصودهم من الإطلاق المأخوذ في الوضع هو الإطلاق الحدّيّ لا الذاتيّ، وذهب سلطان العلماء(قدس سره) إلى الثاني ولم نعرف ممّن تأخّر عنه مَن يخالفه.

وذكر المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) أنّ الإطلاق ـ وهو عنده لحاظ عدم لحاظ القيد ـ مأخوذ في الوضع، لكن لا بمعنى كونه داخلاً في الموضوع له بل بمعنى كونه أداة لتوسعة الوضع، كما هو الحال في أخذه في الأحكام الشرعيّة.

بيان ذلك: أنّه إذا حكم الشارع بوجوب إكرام العالم مثلاً على الإطلاق، فالإطلاق وإن كان مأخوذاً في الحكم لكن ليس معنى ذلك أنّه جزء لموضوع الحكم ويكون موضوع الحكم هو العالم المطلق، فإنّه يلزم من ذلك كون الموضوع عبارة عن العالم المقيّد بلحاظ عدم لحاظ القيد، والمقيّد باللحاظ غير موجود في الخارج، فلا يوجد في الخارج العالم المطلق حتّى يجب إكرامه، وإنّما معنى أخذ الإطلاق في الحكم هو جعله أداة لتوسعة الحكم، بمعنى أنّه لو سُئل الحاكم عن أنّه هل يكون موضوع حكمك هو العالم مطلقاً أو العالم بقيد العدالة أو غيرها ـ إذ لا يعقل الإهمال في الواقع بأن لا يكون مقصوده وجوب إكرام العالم مطلقاً ولا وجوب إكرام بعض العلماء بالخصوص ـ فجوابه عن ذلك هو: أنّ موضوع حكمي هو العالم مطلقاً.

478

وكذلك الحال بالنسبة إلى الوضع، فإنّ الوضع عند المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) عبارة عن حكم الواضع على المعنى بأنّه مسمّى بالاسم الكذائيّ، فيُسأل الواضع عن أنّه هل هذا المعنى موضوع لحكمك مطلقاً وأنّك وضعت لفظ (الرجل) مثلاً لمطلق الإنسان المذكّر، أو أنّك لم تضعه لمطلق الإنسان المذكّر بل هناك قيد، فيجيب بأ نّي وضعته لمطلق الإنسان المذكّر، وليس معنى ذلك أنّ الإطلاق قيد للموضوع له بحيث يكون المسمّى بالرجل هو الإنسان المذكّر المطلق، فإنّ ذلك غير موجود في الخارج، وإنّما الإطلاق اُخذ أداة لتوسعة الوضع.

هذا ما أفاده المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) مع توضيح(1)، وربّما يُجعل ذلك وجهاً للصلح بين المتقدّمين والمتأخّرين بأن يقال: إنّ مَن قال بكون الإطلاق مأخوذاً في الوضع مقصوده: أنّه مأخوذ فيه أداةً للتوسعة، ومَن قال بعدم كونه مأخوذاً فيه مقصوده: أنّه ليس قيداً للموضوع له.

لكن لا يخفى أنّه لو كان مراد المتقدّمين ذلك لم يحصل ما هو مقصودهم من الاستغناء عن مقدّمات الحكمة.

وعلى أيّ حال فيرد على ما أفاده المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره):

أوّلاً: ما عرفت من أنّ الإطلاق الذاتيّ كاف في توسعة الحكم، ولا حاجة إلى أخذ الإطلاق الحدّيّ ـ وهو لحاظ عدم لحاظ القيد مثلاً ـ أداة للتوسعة.

وثانياً: أنّ تنظيره لحكم الواضع بحكم الشارع في غير محلّه؛ وذلك لأنّ التوسعة المطلوبة في حكم الشارع إنّما هي التوسعة بالنظر إلى الأفراد الخارجيّة، وأخذ الإطلاق الحدّيّ لا يضرّ بذلك، وأمّا التوسعة المطلوبة في حكم الواضع



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 493 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

479

فليست عبارة عن التوسعة بحسب الأفراد الخارجيّة فقط، بل المطلوب التوسعة أيضاً بحسب الحصص المفهوميّة، بأن يصحّ استعمال اللفظ في ضمن أيّ حصّة من تلك الحصص، والإطلاق الحدّيّ مضرّ بذلك كما عرفت في السابق، فظهر: أنّ هذا المطلب الوسط بين مقالة المتقدّمين ومقالة المتأخّرين غير صحيح، هذا.

واستدلّ المحقّق النائينيّ(قدس سره) على عدم أخذ الإطلاق في الموضوع له بأ نّا نرى صحّة استعماله في المطلق وفي المقيّد بدون أن نحسّ بأيّ مؤونة في أحدهما، مثلاً لا فرق في استعمال (الرجل) بين قولنا: (أكرم الرجل) وقولنا: (أكرم الرجل العالم) في عدم الإحساس بالمؤونة وعدم رعاية العلاقة في واحد منهما، فيعلم من ذلك أنّه موضوع للجامع بين المطلق والمقيّد(1).

أقول: يرد عليه: أنّ هذا الاستدلال إنّما يتمّ في قبال دعوى كون (الرجل) مثلاً موضوعاً بنحو يكون أحد الاستعمالين، أعني: استعماله في المطلق أو في المقيّد بالقيد المتّصل مجازاً، ويبقى احتمال كون الإطلاق المأخوذ في الوضع في قبال خصوص القيد المنفصل دون المتّصل، فيكون الوضع نافياً للتقييد المنفصل دون التقييد المتّصل، كما أنّ العموم ناف للتخصيص المنفصل دون المتّصل، وهذا المقدار كاف في إثبات ما هو مقصود المتقدّمين من الاستغناء عن مقدّمات الحكمة، واستدلال المحقّق النائينيّ(قدس سره)إنّما يأتي في القيد المتّصل لا المنفصل؛ إذ المؤونة في استعمال الرجل وإرادة الرجل العالم بدون ذكر قيده متّصلاً واضحة لا



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 527 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 572 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

480

تخفى، إلّا أنّ الكلام في أنّ هذه المؤونة هل هي من ناحية الاستعمال في غير ما وضع له بملاحظة العلاقة، أو من ناحية ما تقتضيه مقدّمات الحكمة؟ ودعوى كونها من الناحية الثانية أوّل الكلام.

بل التحقيق: أنّ كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) لا يمكن أن يثبت عدم المجاز في فرض اتّصال القيد أيضاً؛ وذلك لأنّه على تقدير المجاز في فرض اتّصال القيد قد جيء بالقرينة على إرادة المجاز وهي القيد، فلم ينعقد للكلام ظهور في الحقيقة حتّى يحسّ بالمؤونة(1).

ويمكن الاستدلال على عدم أخذ الإطلاق في الموضوع له بما نراه من صحّة استعمال اسم الجنس في نفس الماهيّة الجامعة بين المطلق والمقيّد بدون الإحساس بأيّ مؤونة(2).

ولكن لا يخفى أنّ هذا الوجه وإن كان كافياً في إثبات عدم دخل الإطلاق الحدّيّ في الموضوع له ـ إذ لو كان داخلاً فيه لم يصحّ استعماله على وجه الحقيقة في المطلق الذاتيّ الجامع بين المطلق والمقيّد ـ لكن من المحتمل أن يكون الداخل في الموضوع له هو عدم القيد، ولا أقصد بذلك كون الداخل في الموضوع له هو التقيّد بعدم القيد حتّى لا يصحّ استعماله حقيقة في المطلق الذاتيّ، بل أقصد بذلك افتراض أنّ الواضع وضع اسم الجنس بإزاء المفهوم بجميع اعتباراته مستثنياً منها



(1) الظاهر أنّ مقصود المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ليس هو الإحساس بالمؤونة من ناحية مخالفة ظهور الكلام، بل هو عدم الإحساس بمؤونة ملاحظة العلاقة بين المعنى الأصليّ والمعنى المستعمل فيه اللفظ.

(2) لا يخفى أنّ شبيهاً بهذا الكلام موجود في كلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، حيث استشهد بصحّة استعمال الإنسان في مثل (الإنسان نوع) بلا مؤونة. راجع التقريرين.

481

صورة التقييد، وليس هذا التخصيص موجباً لتعنون العامّ.

وهذا الذى ذكرناه وإن لم يكن تصويراً للفرضيّة التي افترضناها في توجيه مدّعى المتقدّمين من وضع اللفظ للمطلق الحدّيّ، ولكنّه على أيّ حال تصوير لما يقصدونه من النتيجة من عدم الاحتياج في مقام نفي القيد وتوسعة الحكم إلى مقدّمات الحكمة(1).

فإلى هنا نحن لم نصل إلى تقريب فنّيّ يثبت بطلان كلام المتقدّمين من كون الإطلاق مفهوماً بالوضع بنحو يغنينا عن مقدّمات الحكمة.

ولكن الصحيح ـ مع هذا ـ: أنّ الحق مع المتأخّرين وأنّ الإطلاق ليس مستفاداً من الوضع، فنحن بحاجة إلى مقدّمات الحكمة.

ويمكن توضيح ذلك بأحد بيانات:

البيان الأوّل: مجرّد إحالة الأمر إلى الوجدان ودعوى أنّنا نرى بالوجدان أنّه لا نفهم من اسم الجنس إلّا ذات الماهيّة الجامعة بين المطلق والمقيّد، فنحتاج في نفي القيد إلى دالّ آخر.

البيان الثاني: ملاحظة عمليّة الوضع والتأمّل فيها، فإنّها قد تؤيّد أو توجب الاطمئنان بالمدّعى مع قطع النظر عمّا ذكرناه من دعوى شهادة الوجدان بذلك، فإنّ عمليّة الوضع إمّا هي عبارة عمّا تصوّره من أنّها أمر ناشئٌ من فيلسوف حكيم مثلاً جلس على كرسيّ الوضع ووضع لكلّ معنى لفظاً، وعندئذ فمن المناسب جدّاً



(1) لا يخفى أنّ عقلائيّة هذا التصوير، أعني: تصوير استثناء الواضع صورة التقييد من دون أن يرجع هذا التخصيص إلى تعنون العامّ إنّما تكون بعقليّة كون الوضع نوع جعل، وقد صدر هذا الكلام من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في تأريخ ما قبل إيمانه في حقيقة الوضع بنظريّة القرن الأكيد.

482

لحال هذا الفيلسوف الحكيم أن يضع اسم الجنس للجامع بحيث يستفاد الإطلاقوالتقييد وعدم القيد من دالّ آخر، فإنّ الإنسان بهذا يتمكّن من تفهيم الماهيّة في ضمن أيّ اعتبار من اعتباراتها، فمهما أراد تفهيم ذات الماهيّة فقط استعمل اسم الجنس، ومهما أراد تفهيم المطلق أو المقيّد أو عدم القيد استعمل اسم الجنس في تفهيم نفس الماهيّة مع الإتيان بدالّ آخر على الإطلاق أو التقييد أو عدم القيد.

وإمّا هي عبارة عن عمليّة ناشئة من تطوّرات المجتمع بحسب حالات المجتمعين من دون التفات تفصيليّ لهم إلى تلك العمليّة، وهذا هو الوجه الصحيح، فالمجتمع التفت أوّلاً إلى الدلالات العقليّة، وفي المرتبة الثانية من التطوّر الاجتماعيّ التفت إلى الدلالات الطبعيّة(1)، وفي المرتبة الثالثة التفت إلى الدلالات الوضعيّة وصدرت منهم عمليّة الوضع(2) على ما هم عليه من الفهم السطحيّ من دون التفات تفصيليّ لهم إليها، وأنت ترى أنّ المناسب لحالهم هذا هو وضع اسم الجنس لذات الماهيّة بلا نظر إلى استعمالها في ضمن المقيّد أو المطلق أو لا في ضمن أحدهما؛ إذ لا ينصرف ذهنهم السطحيّ في مرحلة الوضع إلّا إلى نفس الماهيّة لا إلى هذه الاُمور الدقيقة من الإطلاق الحدّيّ والتقييد الحدّيّ ونحو ذلك.

البيان الثالث: أنّنا لو افترضنا اختلال مقدّمات الحكمة ـ كما لو نصب المولى قرينة متّصلة على عدم كونه في مقام بيان تمام المراد ـ ولكن أصالة الحقيقة كانت جارية، فنحن لا نحسّ عندئذ وفي هذه الحالة بالمؤونة في فرض إرادة المقيّد، ولو كان ذلك مجازاً لكانت فيه مؤونة؛ لعدم انثلام أصالة الحقيقة بحسب الفرض.



(1) كدلالة السعال على مرض الصدر.

(2) وهذا يناسب أيضاً تفسير الوضع بالقرن الأكيد.

483

 

الكلام في حالات اسم الجنس

إنّ لاسم الجنس حالات أربع:

الاُولى: كونه علماً للجنس كـ (اُسامة).

وهذه حالة لأفراد معدودة من اسم الجنس لا تنفكّ عنها بخلاف باقي الحالات الاُخرى القابلة للانفكاك عن اسم الجنس، فنرى أنّ اسم الجنس قد يتلبّس بهذه الحالة واُخرى بتلك وثالثة بالأخيرة.

والثانية: كونه معرّفاً باللام.

والثالثة: كونه منوّناً بتنوين التمكين، وهو التنوين الذي جيء به لصِرف تمكين اللفظ من الوقوف على قدميه(1)؛ إذ الاسم المعرب في لغة العرب لا يستعمل إلّا مع متمّم في أوّله وهو اللام أو آخره وهو التنوين.

والرابعة: كونه منوّناً بتنوين التنكير والذي يجعل اسم الجنس متوغّلاً في التنكّر، فقبل هذا التنوين له درجة من التعرّف يفقدها بهذا التنوين.

فلدينا إذن هناك تعرّفان:

الأوّل: التعرّف المختصّ بالقسمين الأوّلين الناشئ من العلَميّة أو اللام، وفي مقابله التنكّر المختصّ بالأخيرين.

والثاني: التعرّف الذي يكون في مقابل التنكّر الناتج من تنوين التنكير، وهذا ثابت في الأقسام الثلاثة الاُولى في مقابل التوغّل في التنكّر الثابت في القسم



(1) من قبيل: (رجلٌ خير من امرأة).

484

الرابع الناتج من تنوين التنكير(1).

فالتعرّف الأوّل أخصّ مورداً من التعرّف الثاني، فيقع الكلام في مقامين:

 

التعرّف الأخصّ وما يقابله من التنكّر

المقام الأوّل: في التعرّف الأخصّ وما يقابله من التنكّر، وقد قلنا: إنّ هذا التعرّف ثابت لأمرين: علم الجنس، والمعرّف باللام، فلدينا بحثان:

 

علم الجنس:

البحث الأوّل: في علم الجنس.

المشهور لدى علماء العربيّة: أنّ علم الجنس موضوع للطبيعة بما هي متعيّنة في الذهن، فهو مختلف معنىً عن اسم الجنس، والموضوع له لكلّ منهما مغاير للموضوع له للآخر.

وتوضيح ذلك: أنّ كلّ معنى من المعاني له تعيّن في ذهن المتكلّم والمخاطب، ولولاه لم يحصل التفهيم والتفهّم بذلك، وهذا التعيّن غير مأخوذ في الموضوع له اسم الجنس وإن كان ثابتاً حين استعماله وإنّما هو من الحالات المقارنة، وليس تعيّنه في ذهن المتكلّم حين استعماله إلّا كجوع المتكلّم وسائر صفاته الخارجة



(1) كأنّ هذا اصطلاح من قبله(رحمه الله)؛ إذ يقصد بتنوين التنكير تنوين الوحدة، وأمّا بحسب المصطلح لدى علماء العربيّة ـ بحسب ما أتذكّر ـ فيقصد بتنوين التنكير ما يكون من قبيل: (مررت بزيد وزيد آخر) ونحوه الإضافة التي تنكّر من ناحية إزالتها للعَلميّة وتعرّف تعريفاً بالإضافة من قبيل: (على زيدنا يوم القنا رأس زيدكم).

485

عن الموضوع له، واسم الجنس وضع لنفس المعنى من حيث هو مع قطع النظر عن تعيّنه في الذهن، وأمّا علم الجنس فهو موضوع لذلك المعنى بما هو متعيّن في الذهن فيكون معرفة، ولذا لا يعرّف باللام ولا يقال: (الاُسامة) كما لا يقال (الزيد).

وأورد المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) على ذلك(1) بأنّه لو كان التعيّن الذهنيّ مأخوذاً في الموضوع له اللفظ لكان من قبيل المعقولات الثانويّة ولم يكن استعماله في الفرد الخارجيّ صحيحاً بلا عناية التجريد مع أنّه ليس كذلك، فلا فرق أصلاً في معنى اسم الجنس وعلم الجنس، وأمّا تعرّف علم الجنس فليس إلّا تعرّفاً لفظيّاً كالتأنيث اللفظيّ في (الرقبة) الذي لا فرق بينه وبين (العنق) من حيث المعنى وفي (الدار) الذي لا فرق بينه وبين (البيت) من حيث المعنى.

أقول: إنّ البحث هنا يقع في جهتين:

الاُولى: في أنّ ما ذكره المشهور هل هو ممكن ثبوتاً أو يرد عليه ما أورده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)؟

والثانية: في أنّه بعد إمكانه ثبوتاً هل يكون عليه دليل إثباتاً أو لا؟

أمّا الجهة الاُولى: فنقول: لا يخفى أنّ هذا الإشكال ـ أعني: إشكال لزوم عدم الانطباق على ما في الخارج بلا عناية ـ بناء على صحّته غير مختصّ بما نحن فيه بل يجري في اسم الإشارة والضمائر؛ إذ هما أيضاً قد اُخذ فيهما التعيّن. نعم، هذا الإشكال إنّما يجري فيهما بناء على مبنانا من أنّ التعيّن مأخوذ في معناهما الموضوع له اللفظ بأن يكون داخلاً في ذلك، وأمّا على مبنى المحقّق



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 378 ـ 379 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

486

الخراسانيّ(قدس سره)القائل بأنّ الواضع أخذه فيهما بنحو الاشتراط فهذا الإشكال غير وارد.

إن قلت: إنّ هذا الإشكال لا يعقل سريانه إلى أسماء الإشارة والضمائر وقياسها بعلم الجنس قياس مع الفارق؛ وذلك لأنّ التعيّن المعتبر في علم الجنس تعيّن ذهنيّ، والتعيّن المعتبر في اسم الإشارة والضمير تعيّن خارجيّ، ومن المعلوم أنّ تقييد المفهوم بقيد ذهنيّ يجعله ذهنيّاً وتقييده بأمر خارجيّ لا يجعله خارجيّاً.

قلنا: بل التعيّن المأخوذ في اسم الإشارة والضمير أيضاً تعيّن ذهنيّ، توضيح ذلك: أنّ الإشارة الحقيقيّة عبارة عن توجّه النفس نحو أمر معيّن بنحو مخصوص، ولها أدوات خارجيّة من قبيل تركيز الاصبع نحو شيء معيّن، فإنّ ذلك أداة للإشارة، والتعيّن المعتبر في طرف الإشارة الحقيقيّة يكون في اُفق نفس تلك الإشارة واُفقها هو النفس، فالتعيّن المعتبر في طرفها هو التعيّن الذهنيّ ـ لا محالة ـ كما هو الحال في جميع الاُمور النفسيّة، فإنّ ما يكون متعلّقاً لما في الذهن من الحبّ والبغض ونحو ذلك من الاُمور الذهنيّة مثلاً أوّلاً وبالذات إنّما هو أمر ذهنيّ منطبق على ما في الخارج.

ولما ذكرنا ترى أنّه تصحّ الإشارة الحقيقيّة إلى ما لا وجود له في الخارج كالماء المتخيّل مثلاً، والتعيّن المعتبر في طرف الأداة للإشارة الخارجيّة خارجيّ لا محالة؛ لأنّه أيضاً لابدّ أن يكون في اُفق نفس الأداة وصقعها وهو الخارج.

فيقع الكلام في أنّ التعيّن المأخوذ في الموضوع له اسم الإشارة هل هو التعيّن المعتبر في طرف الإشارة الحقيقيّة أو التعيّن المعتبر في طرف أداة الإشارة؟ والصحيح هو الأوّل ببرهان صحّة استعمال اسم الإشارة بلا عناية فيما لا وجود له في الخارج كقولنا: (هذا العدم) و(ذاك العدم).

487

نعم، لا نستشكل في أنّ اسم الإشارة في أوّل مراحل وضعه الحاصل من تطوّر المجتمع إنّما وضع للإشارة إلى الخارجيّات، ولكنّه بعد ذلك ترقّى وضعه بحسب تدرّج المجتمع في التصوّرات إلى أن كان استعمال اسم الإشارة فيما ليس له تعيّن خارجيّ حقيقةً وصحيحاً بلا عناية. هذا بالنسبة إلى اسم الإشارة، وكذلك الكلام بالنسبة إلى ضمير الخطاب، فإنّ الخطاب الحقيقيّ عبارة عن قصد إعداد الكلام لفهم الغير وأداته توجيه الصوت نحو ذلك الغير، وكلّ منهما يحتاج إلى تعيّن في اُفقه، فهنا تعيّنان: تعيّن في اُفق النفس، أي: التعيّن الذهنيّ، وتعيّن في اُفق الخارج، والمأخوذ في الموضوع له ضمير الخطاب هو التعيّن الأوّل ببرهان صحّة التخاطب مع مَن ليس له تعيّن خارجيّ بلا عناية كما في قولنا: (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين).

وممّا ذكرنا يظهر الحال أيضاً بالنسبة إلى ضمير الغائب، فتحصّل: أ نّا نحتاج إلى جواب مشترك بين ما نحن فيه وأسماء الإشارة والضمائر.

وقد اُجيب عن ذلك بوجوه:

الأوّل: ما ذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره) بناءً على مبناه من الحصّة التوأم، وهو: أنّ التعيّن لم يؤخذ في الموضوع له بأن يكون جزءاً له أو بأن يكون قيداً له، وبعبارة اُخرى ليس ذات القيد ـ وهو التعيّن ـ داخلاً في الموضوع له حتّى يكون جزءاً للموضوع له، ولا يكون دخله على نحو دخل التقيّد دون القيد حتّى يكون قيداً للموضوع له، وإنّما وضع اللفظ للطبيعة التوأم مع هذا التعيّن مع خروج القيد والتقيّد معاً عن الموضوع له(1).



(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 39، ص 496 ـ 497 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، ونهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 564 ـ 565 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

488

أقول: هذا الوجه باطل مبنىً وهو مبنى الحصّة التوأم، حيث إنّه(قدس سره) تصوّر معنىً في قبال التقيّد، مشتركاً معه في كون المفهوم معه مقصوراً على حصّة خاصّة سمّاها بالتوأم، لكنّا بيّنّا ـ في بحث التعبّديّ والتوصّليّ ـ أنّ ذلك متصوّر في الخارجيّات فقط بالنحو الذي بيّنّاه هناك، وأمّا في المفاهيم فلا يتصوّر ذلك، والوجه فيه: إنّا تصوّرنا الإطلاق الذاتيّ، أعني: أنّ الطبيعة بحدّها الذاتيّ تقتضي السريان في جميع الحصص ولا نتعقّل ما يمنعها عن السريان إلّا التقييد، فعدم التقييد مساوق للسريان، فلا نتصوّر شيئاً ثالثاً في قبال التقييد والإطلاق يسمّى بالحصّة التوأم؛ لأنّ تصويره متوقّف على عدم تصوير الإطلاق الذاتيّ ونحن قد تصوّرناه.

الثاني: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)(1)، وهو: أنّ التعيّن المدّعى أخذه في الموضوع له ليس هو التعيّن الذهنيّ وإنّما هو التعيّن الجنسيّ، توضيحه: أنّ كلّما يعتبر مهيّة من المهيّات فهي متعيّنة في قبال غيرها بامتيازها عنه، كما هو الشأن في جميع الاُمور من الموجودات والمفاهيم، وهذا التعيّن من لوازمها ككون الزوجيّة من لوازم الأربعة، والواضع تارة يضع اللفظ بإزاء ذات المهيّة بلا نظر إلى تعيّنها كما فعل ذلك في اسم الجنس، واُخرى يضعه بإزائها بما هي متعيّنة كما هو المدّعى في علم الجنس، نظير أن يضع تارة لفظ الأربعة لذات العدد المخصوص بلا نظر إلى زوجيّته واُخرى له بما هو زوج.

ويرد عليه: أنّ تعيّن المهيّة في قبال غيرها مفهوم انتزاعيّ، فإن اُريد ضمّ هذا المفهوم الانتزاعيّ إلى المعنى في الوضع فمن الواضح أنّ هذا المفهوم حاله حال



(1) ناقلاً له عن الفصول تبعاً للسيّد الشريف. راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 494 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

489

أصل المفهوم المنضمّ إليه، وضمّه إليه لا يوجب التعريف الحقيقيّ وإن أوجب التحصيص، ولذا كثيراً مّا يحصّص اسم الجنس بضمّ مفهوم إليه ولا يصير معرفة بذلك.

إلّا أن يقال: إنّ هذا التحصيص بالخصوص اُجريت عليه أحكام التعريف الحقيقيّ تعبّداً. لكن هذا مرجعه إلى ما ذكره المحقّق الخراسانيّ من التعريف اللفظيّ، والمفروض تصوير تعريف علم الجنس بنحو يكون حقيقيّاً لا لفظيّاً.

وإن اُريد من أخذ هذا التعيّن أخذ منشأ انتزاعه فليس منشأ انتزاعه إلّا نفس المهيّة بحدودها الذاتيّة المحفوظة في اسم الجنس أيضاً لا شيء آخر يضمّ إليها ليتحقّق بذلك التعريف.

الثالث: ما ذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره) غير الوجه الأوّل، وهو: أنّ التعيّن المدّعى أخذه في علم الجنس ليس هو التعيّن الذهنيّ بل الإشارتيّ، أو قل: إنّ المقصود بالتعيّن المأخوذ في علم الجنس يكون أمراً من الوجودات الخارجيّة لا الوجودات الذهنيّة. توضيح ذلك: أنّ الإشارة عبارة عن توجّه النفس نحو أمر بنحو مخصوص، وهذا التوجّه غير التصوّر، ببرهان أنّه قد يتّفق للشخص أنّه يتصوّر في ذهنه أمرين ولكن يخصّ أحدهما بالإشارة التي هي التوجّه المخصوص، فلو كان ذلك التوجّه عبارة عن التصوّر لكان مشيراً إلى كليهما لا إلى واحد منهما، وذلك التوجّه يكون من الموجودات الخارجيّة في النفس لا من الموجودات بالوجود الذهنيّ، والمأخوذ في علم الجنس هو التعيّن الثابت في اُفق هذا التوجّه لا التعيّن الثابت في اُفق التصوّر(1).



(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 39، ص 496 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

490

أقول: ما ذكره من كون هذا التوجّه غير التصوّر في غاية المتانة، وكذلك ما ذكره من كون هذا التوجّه من الموجودات بالوجود الخارجيّ في النفس لا من الموجودات بالوجود الذهنيّ، لكن هذا غير مختصّ بما ذكره من التوجّه بل التصوّر أيضاً كذلك كجميع الحالات النفسانيّة من الحبّ والبغض وغيرهما، فإنّ التصوّر ليس بموجود بوجود ذهنيّ بل موجود بوجود خارجيّ في النفس، وإنّما الموجود بالوجود الذهنيّ هو ما طرأ عليه التصوّر، مثلاً: مَن تصوّر زيداً فقد وجد زيد في ذهنه بالوجود الذهنيّ لا الحقيقيّ، وأمّا نفس التصوّر فهو موجود في عالم نفسه حقيقةً وبالوجود الخارجيّ لا الذهنيّ، وكذلك الأمر في التوجّه كما ذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره).

ولكن الإشكال لا ينحلّ بذلك، فإنّ الإشكال هو: أنّ التوجّه ـ الذي هو حقيقة الإشارة ـ أمر ذات إضافة ولابدّ لطرفه من تعيّن حتّى يمكن التوجّه إليه، وبما أنّ هذا التوجّه يكون من عالم النفس كذلك التعيّن المعتبر في طرفه يكون من عالم النفس، ولو اُخذ في الموضوع له لزم عدم انطباق المعنى على الخارجيّات؛ لتقيّده بما يكون من عالم النفس، وما يكون من عالم النفس إنّما يكون وجوده في النفس لا في الخارج المقابل لعالم النفس، فإنّ هذا هو المقصود بلزوم صيرورة المعنى أمراً ذهنيّاً ومن المعقولات الثانويّة، وهذا ـ كما ترى ـ لا ينحلّ بما ذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره).

والتحقيق في تصوير أخذ التعيّن الذهنيّ بنحو يمكن ثبوتاً هو أن يقال: إنّه مأخوذ بنحو الاتّصاف لا بنحو العروض. توضيح ذلك: أنّ الاُمور النفسانيّة ذات الإضافة ـ من قبيل التصوّر والحبّ والبغض وغير ذلك ـ عارضة على موضوعها في الذهن الذي هو موجود بنفس هذا الأمر النفسانيّ ولا تعرض على

491

الخارجيّات، ولكنّ الخارجيّات تتّصف بها إذا كان عروضها على ما في الذهن باعتبار مرآتيّته لما في الخارج، مثلاً: لو فرضنا أنّ الشخص أحبّ زيداً لم يعرض من ناحية ذاك الشخص أمر على زيد، غاية الأمر أنّ صورة زيد وجدت بالوجود الحبّيّ في ذهن ذلك الشخص، فالحبّ عارض على تلك الصورة وتلك الصورة متّصفة بالحبّ، ويكون وجود تلك الصورة في ذهنه بنفس وجود الحبّ، ويستحيل عروض الحالة النفسانيّة لذاك الشخص ـ وهي الحبّ ـ على زيد الذي هو موجود خارجيّ، إلّا أنّ دائرة الاتّصاف أوسع من دائرة العروض، فزيد يتّصف بكونه محبوباً مع أنّ الحبّ لم يعرض عليه، والسرّ في اتّصافه بذلك هو انطباق تلك الصورة على زيد وكون محبوبيّتها لأجل انطباقها عليه لا لنفسها مستقلّة، فيكون زيد متّصفاً بالعرض والمجاز بالمحبوبيّة وتلك الصورة متّصفة أوّلاً وبالذات بها، بل يمكن أن يقال: إنّ الأمر بحسب النظر الفلسفيّ وإن كان كذلك ولكن بحسب النظر اللغويّ يكون المتّصف بالمحبوبيّة حقيقة هو نفس زيد لا صورته، والسرّ في ذلك أنّ معنى محبوبيّة الشيء بحسب اللغة في الحقيقة هو وجود صورته في الذهن بالوجود الحبّيّ، وهذا المعنى إنّما ينطبق على زيد لا على صورته كما لا يخفى.

هذا كلّه في الحبّ ويأتي عينه في البغض، فمَن بغض شخصاً اتّصف ذلك الشخص بمبغوضيّته له وإن كانت الحالة النفسانيّة إنّما عرضت على صورته، وذلك لما عرفت من أنّ دائرة الاتّصاف أوسع من دائرة العروض.

ونحوه الكلام في التصوّر، فإنّ مَن تصوّر زيداً فقد عرض تصوّره على صورة زيد ومع ذلك يوصَفُ زيد بأنّه متصوَّرٌ؛ لعين ما عرفت من التقريب.

وعليه فلا إشكال بحسب مرحلة الثبوت والإمكان في أن نلتزم بأنّ علم الجنس موضوع للمهيّة بما هي متعيّنة في الذهن، لا بمعنى أنّها معروضة للتعيّن

492

الذهنيّ حتّى لا تنطبق على ما في الخارج، بل بمعنى أنّها متّصفة بذلك فتنطبق على ما في الخارج؛ لأوسعيّة دائرة الاتّصاف من دائرة العروض.

وبكلمة اُخرى: إنّه لا مانع من انطباق المهيّة المتعيّنة في الذهن على ما في الخارج؛ لأنّ معنى كون المهيّة متعيّنة في الذهن هو تعيّن صورتها في الذهن، ومن الواضح أنّ تعيّن صورة مهيّة في الذهن لا يمنع عن انطباق تلك المهيّة على ما في الخارج، فإذا كانت صورة ماهيّة الرجل موجودة في الذهن فماهيّة الرجل الموجودة في ضمن زيد متعيّنة في الذهن، نظير ما عرفت من أنّ معنى محبوبيّة زيد هو وجود صورته في الذهن بالوجود الحبّيّ بدون أن يمنع ذلك عن خارجيّة زيد.

فدائرة العروض وإن كانت هي صورة الماهيّة والصورة لا توجد في الخارج ولكن دائرة الاتّصاف هي نفس الماهيّة وهي توجد في الخارج أيضاً، هذا.

والآن نريد أن نعمّق الأمر أكثر ممّا مضى فنقول: إنّ تعبيرنا إلى الآن بكون المأخوذ في علم الجنس لمعرفيّته هو التعيّن الذهنيّ كان مشياً على تعبير القوم ذكرناه من باب المسامحة في التعبير، ومراد القوم إن كان هو ظاهر هذه العبارة فغير صحيح، توضيح ذلك: أنّ تعيّن المهيّة في وجودها بالوجود الذهنيّ إنّما هو تعيّن فلسفيّ بملاك قانون أنّ كلّ موجود متعيّن، وليس أخذ التعيّن بمعنى الوجود في المفهوم موجباً للتعرّف اللغويّ وليس داع عقلائيّ لأخذه في المفهوم.

ويؤيّد ما ذكرناه: أنّ جماعة من الاُصوليّين ذهبوا إلى أخذ لحاظ الآليّة في مفهوم الحرف، ونقض عليهم المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) بلزوم القول على هذا بأخذ لحاظ الاستقلاليّة في مفهوم الاسم، ولم يقل أحد إلى الآن بأنّ لازم ذلك كلّه كون كلّ اسم وحرف معرفة لأخذ لحاظ الآليّة والاستقلاليّة الذي هو وجود نفسانيّ فيه،

493

فكذلك الأمر في التعيّن بمعنى الوجود في عالم النفس.

كما أنّه لا يصحّ أيضاً ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره) من أخذ التعيّن الإشارتيّ، فإنّ هذا أيضاً تعيّن فلسفيّ مساوق للوجود، وعرفت أنّ أخذ الوجود لا يصيّر المعنى معرفة، غاية الأمر أنّ الإشارة أمر فوق التصوّر وحالها حال الإرادة ونحوها، وهذا لا يكون فارقاً فيما نحن فيه.

ويؤيّد ما ذكرناه: أنّه ذهب جماعة إلى كون الإرادة مأخوذة في الوضع، ولذا وقع البحث في الكفاية عن أنّ الدلالة تابعة للإرادة أو لا؟ ولم يذكر إلى الآن أحد من القائلين بهذا المذهب ولا من المنكرين عليهم: أنّ أخذ الإرادة مستلزم لمعرفيّة المعنى، وأنت ترى أنّه لا فرق بين التعيّن الإرادتيّ والتعيّن الإشارتيّ.

فالذي ينبغي هو تفسير التعيّن الذهنيّ المأخوذ في علم الجنس بالخلطة الذهنيّة والعهد الذهنيّ العامّ.

توضيح ذلك: أنّه تارة: يستعمل اللفظ ويراد منه ذات المهيّة، واُخرى: يستعمل اللفظ ويراد منه التطبيق على ما استأنس به الذهن سابقاً وذلك كما في العهد الذهنيّ والذكريّ، أو على الحاضر خارجاً وذلك كما في العهد الحضوريّ، وقد وضع كلّ من الضمير واسم الإشارة واللام لذلك، وهذا هو الملاك للتعرّف الحقيقيّ للضمير واسم الإشارة والمعرّف باللام، فلو قيل: (جاءني رجل معه زيد) كان الضمير في (معه) معرفة؛ لأنّ الضمير موضوع للتطبيق على مستأنس سابق ـ كما في هذا المثال ـ أو على أمر حاضر، وعليه فالتعيّن الذي يمكن أخذه في علم الجنس كــ (اُسامة) و(ابن آوى) و(أبو بريص) وغير ذلك يجب أن يكون بمعنى التطبيق على المعهود في الذهن بالعهد العامّ، فإنّ كلّ مهيّة من المهيّات الموضوع لها اسم الجنس معهودة في الذهن واستأنس بها الذهن في وقت من الأوقات،

494

واسم الجنس موضوع لنفس تلك المهيّة بما هي بلا نظر إلى التطبيق، وعلم الجنس موضوع للمهيّة لكن لا بما هي بل بعنوان كون هذه الكلمة إرجاعاً إلى ما عهد به الذهن وتطبيقاً على المأنوس في الذهن، فقولنا: (اُسامة) مساوق لقولنا: (الأسد) إذا فرض اللام لام المهيّة، والمحدوس قويّاً هو أنّ علم الجنس بحسب تأريخ اللغة موضوع بعد وضع اسم الجنس.

هذا تمام الكلام في الجهة الاُولى وهي إمكان أخذ التعيّن الذهنيّ في معنى علم الجنس مع التحفّظ على انطباقه على ما في الخارج.

وأمّا الجهة الثانية ـ وهي: أنّه هل يكون لنا دليل على أخذ هذا التعيّن الذهنيّ في علم الجنس أو لا؟ ـ: فنقول: إنّ إقامة الدليل على ذلك في غاية الإشكال؛ وذلك لأنّ طريق استكشافه منحصر في أمرين:

الأوّل: الرجوع إلى علماء العربيّة، وذلك فيما نحن فيه في غاية الإشكال؛ لأنّهم لا ينقلون أخذ التعيّن في علم الجنس عن العرب، فإنّ العاميّ لا يفهم هذه المطالب وإنّما ذلك حدس منهم، حيث إنّهم فتّشوا عن عبائر الفصحاء فرأوا أنّ علم الجنس قد اُجريت عليه في عبائرهم أحكام المعارف فصاروا بصدد بيان النكتة الفنّيّة لذلك، وأدّى حدسهم إلى أخذ التعيّن الذهنيّ في المعنى الموضوع له، وهذا الحدس لا يفيدنا شيئاً كما هو واضح. نعم، لو كانوا ينقلون ذلك عن العرب لأمكن دعوى الاعتماد عليهم إمّا بدعوى حصول الاطمئنان من كلامهم أو بفرض اجتماع شرائط الشهادة أو غير ذلك، لكن ليس الأمر هكذا.

الثاني: الرجوع إلى فهمنا العرفيّ، وذلك أيضاً فيما نحن فيه في غاية الإشكال، فإنّ علم الجنس ليس متعارفاً في زماننا هذا حتّى يمكننا تشخيص مفاده على التحقيق.