445


نعم، لو آمنّا بأنّ بقاء الأحكام لا يثبت بالإطلاق الأزمانيّ بل باستصحاب عدم النسخ؛ لأنّ النسخ عرفاً رفعٌ لا تقييد، واحتملنا نسخ الخاصّ بناسخ آخر غير هذا العامّ فقد يشكل التمسّك باستصحاب عدم النسخ وتخصيص العامّ بالخاصّ الثابت بقاؤه بالاستصحاب؛ لأنّ الخاصّ الثابت بقاؤه بالاستصحاب قوّته قوّة الاستصحاب؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات، والاستصحاب لا يتقدّم على العامّ، بل العكس هو الصحيح.

والحلّ هو: أنّنا حتّى لو قلنا بأنّ النسخ رفع لا تقييد فهذا لا يعني إنكار الإطلاق الأزمانيّ للأحكام، فالخاصّ بإطلاقه الأزمانيّ ـ الذي هو أقوى من عموم العامّ بنكتة الغلبة ـ يدلّ على تقييد العامّ المتأخّر (على تقدير أنّه سيوجد)، واستصحاب عدم النسخ يجري بشأن هذا الخاصّ بعد ثبوت مقيّديّته في الرتبة السابقة على الاستصحاب، لا أنّ التقييد يكون في طول الاستصحاب.

وإن شئتم قلتم: إنّه يستصحب الخاصّ وتستصحب حالة التقييد والتخصيص أيضاً.

واُخرى: نفرض أنّ العامّ ورد على لسان مَن ليس له ظهور حال من هذا القبيل، كما لو ورد على لسان الرسول(صلى الله عليه وآله)، وكما لو ورد على لسان مولى عرفيّ يحتمل كونه رأياً انقدح له الآن.

وهنا يمكن ترجيح جانب النسخ بأحد وجوه:

الأوّل: دعوى تقدّم العموم الأفراديّ على الإطلاق الأزمانيّ بالأقوائيّة.

وهذا إنّما يتمّ لو لم نقل بما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من دعوى أنّ ندرة النسخ تجعل ظهور الخاصّ في البقاء أقوى.

446


الثاني: دعوى أنّ الخاصّ يستحيل دلالته على الدوام؛ لأنّ استمرار الحكم في مرتبة متأخّرة عن نفس الحكم، فلا يعقل دلالة الحكم عليه، ولا نفهم معنى لبقاء الحكم إلّا بعدم رفعه وعدم نسخه، والعامّ هنا دالّ على النسخ، فدلالة العامّ على العموم لا معارض لها، وبهذا يتعيّن النسخ.

والجواب: أنّنا نستطيع إثبات الاستمرار بإطلاق الكلام بلحاظ الانقسام السابق على الحكم، وذلك باعتبار انقسام متعلّق الحكم أو موضوعه بلحاظ عمود الزمان أيضاً كما ينقسم بلحاظ الأفراد العرضيّة.

الثالث: دعوى أنّ عموم العامّ يرفع موضوع الإطلاق الأزمانيّ في الخاصّ؛ لأنّه بيان فتنتفي بذلك إحدى مقدّمات الحكمة وهي عدم البيان.

وهذا الدليل ينسجم مع مبنى مَن يقول بأنّ قوام الإطلاق بعدم البيان ولو منفصلاً. ومن الغريب صدور هذا الدليل من السيّد الخوئيّ(رحمه الله) الذي لا يبني على هذا المبنى، وقد جاء ذكر هذا الدليل في محاضرات الفيّاض ـ ج 5، ص 325 ـ ولعلّ الخطأ من المقرّر.

ويمكن ترجيح جانب التخصيص على النسخ بعدّة وجوه:

الأوّل: ما ذكره في الكفاية من أنّ كثرة التخصيص وندرة النسخ تجعل ظهور الخاصّ في الدوام ـ ولو كان بالإطلاق ـ أقوى من ظهور العامّ ولو كان بالوضع(1).

وأورد عليه السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ـ على ما جاء في نفس المصدر السابق، ص 326 ـ بأنّ


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 371 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

447


كثرة التخصيص وندرة النسخ لا توجبان إلّا الظنّ بالتخصيص، ولا حجّيّة لهذا الظنّ.

ويمكن الجواب على ذلك بأن يقال: إنّه لو لم نؤمن أصلاً بالإطلاق الأزمانيّ للخاصّ، وقلنا بأنّ الخاصّ ـ من دون أيّ إطلاق أزمانيّ ـ يبقى نافذ المفعول ما لم يرفع بالنسخ فقد يصحّ ما ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) من أنّ مجرّد ندرة النسخ وكثرة التخصيص لا تؤثّران شيئاً عدا الظنّ بالتخصيص ولا حجّيّة لهذا الظنّ. أمّا لو آمنّا بالإطلاق الأزمانيّ للكلام ـ كما هو الصحيح وهو المختار للسيّد الخوئيّ(رحمه الله) ـ فلا ينبغي الإشكال في أنّ ندرة النسخ وكثرة التخصيص وظاهرة غلبة الثبات في الأحكام تقوّي هذا الإطلاق ويصبح أقوى من عموم العامّ كما ذكره صاحب الكفاية(رحمه الله).

وتوضيح المقصود هو أنّه:

تارة: نبني على أنّه ليس من شأن المشرّع وظاهر حاله النظر إلى المستقبل، بل هو يشرّع الحكم بلحاظ الحال الحاضر وبعد ذلك يكون سكوته عن النسخ ظاهراً عرفاً في بقاء الحكم، وعليه فالسكوت عن النسخ هنا أوّل الكلام؛ إذ من المحتمل كون نفس العامّ نسخاً للخاصّ، ومجرّد ندرة النسخ قد لا تصنع شيئاً إلّا الظنّ بعدم النسخ، وهذا الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.

واُخرى: نبني على أنّ من شأن المشرّع النظر إلى المستقبل، فيكون ظاهر حاله هو ذلك ويتمّ الإطلاق الأزمانيّ، وعندئذ لا إشكال في أنّ ظهور حاله هذا يشتدّ ويقوى حينما يكون النسخ نادراً وعلى خلاف المترقّب؛ لأنّ القيد الأزمانيّ إذا كان نادراً فهو على تقدير وجوده يسترعي الانتباه إليه بشكل أشدّ ويجعل حالة كون المتكلّم بصدد بيانه آكد وأقوى، وبذلك يقوى الإطلاق لا محالة، هذا من ناحية، ومن ناحية اُخرى كثرة

448


التخصيص تضعف ظهور العامّ في العموم، أي: أنّ مَن يعيش جوّ كثرة التخصيص يرى أنّ كثرة التخصيص حالة مكتنفة بالكلام موجبة لوهن ظهور العامّ في العموم.

الثاني: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ عموم العامّ غير تامّ في المقام؛ لتوقّف عموم العامّ على جريان مقدّمات الحكمة في متعلّق العموم ومنها عدم البيان ولو منفصلاً، والخاصّ بيان في المقام(1).

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ مبتن على مبانيه(رحمه الله) والتي لم نؤمن بها، ولكن على تقدير تسليم المباني من احتياج العموم إلى مقدّمات الحكمة وكون البيان المنفصل كالبيان المتّصل في هدم الإطلاق لم نعرف كيف جعل هذا سبباً لتقديم الخاصّ على العامّ، بينما الخاصّ أيضاً يكون في إطلاقه الأزمانيّ بحاجة إلى مقدّمات الحكمة، فكيف أصبح احتياج العامّ إلى مقدّمات الحكمة سبباً كافياً لتقديم الخاصّ عليه؟!!

الثالث: ما ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في تعليقه على أجود التقريرات من أنّ الخاصّ السابق يصلح أن يكون قرينة مانعة عن انعقاد العموم(2). ولكن يبدو من تقرير بحثه المكتوب بقلم الشيخ الفيّاض ـ حفظه الله ـ أنّه يعتقد في العامّ الوارد بعد وقت العمل بالخاصّ أنّه إذا كان وارداً على لسان مَن لا يدلّ في لسانه على ثبوته من أوّل الأمر ـ كما في الموالي العرفيّة ـ فهذا يحمل على النسخ، ويتقدّم العامّ على الخاصّ إذا كان ظهوره في العموم مستنداً إلى الوضع وظهور الخاصّ في الدوام مستنداً إلى الإطلاق ومقدّمات


(1) أجود التقريرات، ج 1، ص 510.

(2) راجع المصدر السابق، ص 509، تحت الخطّ.

449


الحكمة. نعم، إذا كان وارداً على لسان مَن يظهر منه حكايته عمّا سبق ـ كما هو الحال في الأئمّة(عليهم السلام) ـ قدّم الخاصّ على العامّ بالتخصيص(1).

أقول: أمّا ما جاء في تقرير الشيخ الفيّاض من تقديم العامّ على الخاصّ إذا كان على لسان الموالي العرفيّة ـ لكونه بالوضع وذاك بالإطلاق ـ فسواء قصد بذلك تقديم العامّ بنكتة رافعيّته لموضوع مقدّمات الحكمة ـ كما يظهر من بعض عباراته كما مضت الإشارة ـ أو قصد بذلك تقديم العامّ بنكتة الأقوائيّة فقد ظهر جوابه ممّا سبق.

وأمّا ما جاء في تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله) على أجود التقريرات والذي يظهر أنّ المقصود منه أنّ القرينة السابقة كالقرينة المتّصلة تهدم الظهور، فكأنّ القرينة المنفصلة التي لا تهدم الظهور إنّما هي القرينة التي ترد متأخّراً فلم نعرف وجهاً مقبولاً لذلك، أفهل يفترض أنّ كلّ السامعين للعامّ كانوا مطّلعين على الخاصّ، ثمّ يفترض أنّ اعتماد المتكلّم على الخاصّ الذي فرضنا اطّلاع السامعين عليه يكون عند العرف بمستوى الاعتماد على القرينة المتّصلة؟!

وعلى أيّ حال فالصحيح في تقديم الخاصّ على العامّ في هذه الصورة الرابعة هو ما مضى من الوجه الأوّل.

بقي الكلام فيما مضت الإشارة إليه من أنّ النسخ هل هو رفع أو تقييد أزمانيّ بعد وضوح استحالة الجهل أو مخالفة الحكمة على الله تعالى؟

لا يبعد أن يقال: إنّه حينما يبقى العنصران المقوّمان للحكم وهما المبادئ ـ أي: الحبّ


(1) راجع محاضرات الشيخ الفيّاض، ج 5، ص 32 فصاعداً.

450


والبغض الحقيقيّان والبعث ـ منحفظين رغم كون النسخ رفعاً فالنسخ رفع، وذلك حينما تكون المصلحة في كون العبد مُلزَماً لا في المتعلّق، ويكون البعث نحو المستقبل ذا أثر عمليّ قبل زمان النسخ، كما إذا أوجب الانبعاث عن طريق محاولة تحقيق المقدّمات. ومتى ما لم يكن الأمر كذلك فلابدّ من إرجاع النسخ إلى التقييد الأزمانيّ كي لا يلزم خلوّ الحكم عن مقوّماته.

والحمد لله وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

تعارض العامّ أو المطلق مع استصحاب موضوع المخصّص في الشبهة المفهوميّة

بقي في المقام بحث تعارض العامّ أو المطلق مع استصحاب موضوع المخصّص في الشبهة المفهوميّة بناءً على جريان الاستصحاب فيها.

وقد تعرّضنا له عن لسان اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في أوائل مبحث القطع تحت الخطّ، وإليك مفاد ما كتبناه هناك:

أفاد اُستاذنا الشهيد رضوان الله عليه: أنّه لو قلنا بجريان استصحاب موضوع المخصّص في الشبهة المفهوميّة فعندئذ: لو علمنا من الخارج أنّ صدق عنوان موضوع المخصّص لغة ملازم لانتفاء حكم العامّ، وكان المولى سنخ مولى يترقّب منه كونه بصدد بيان المعنى اللغويّ، بأن لم تكن نسبته ونسبتنا إلى المعنى اللغويّ على حدّ سواء دلّ العامّ بالملازمة على عدم صدق العنوان، فيكون حاكماً على الاستصحاب. وإن لم يكن المولى كذلك وقعت المعارضة بين العامّ والاستصحاب. وإن لم نعلم بحقيقة الأمر ـ أي: أنّ المولى هل

451


من هذا القبيل أو من ذاك القبيل ـ وإنّما كان لدينا عامّ وخاصّ متنافيان لا يمكن اجتماع حكمهما على مورد واحد، فالعامّ بعمومه يدلّ على ثبوت حكمه في مورد الشكّ المفهوميّ في عنوان الخاصّ، وصدق ذلك يستلزم خروج هذا المورد من دليل الخاصّ إمّا تخصّصاً بأن لا يكون عنوان الخاصّ صادقاً عليه في علم الله تعالى، أو تخصيصاً بأن يكون عنوان الخاصّ صادقاً عليه ومع ذلك لا يصدق عليه حكم الخاصّ، وعندئذ إن قلنا بتقدّم التخصّص على التخصيص لدى الدوران بينهما، كما لو كان الخاصّ بلسان العموم ـ بناءً على أنّ تخصّص العامّ أولى من تخصيصه ـ قدّم العامّ على الاستصحاب، وإلّا ـ كما لو كان الخاصّ بلسان الإطلاق مع عدم القول بكون التخصّص أولى من التقييد ـ وقع التعارض بين العامّ والاستصحاب.

453

مباحث الألفاظ

6

 

 

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد

 

○ الإطلاق.

○ التقييد.

 

 

 

 

 

455

 

 

 

 

 

 

 

الإطلاق

البحث الأوّل: في الإطلاق. وقد بحثوا فيه عدّة اُمور:

فأوّلاً: ذكروا تعريفاً للمطلق واشتهر في تعريفه أنّه: (ما دلّ على شائع في جنسه).

وثانياً: ذكروا تقسيم المطلق إلى الشموليّ والبدليّ والفرق بينهما.

وثالثاً: بحثوا عن أنّ الإطلاق هل هو مستفاد من الوضع أو لا؟ وبكلمة اُخرى: هل يكون اسم الجنس موضوعاً للمطلق أو للجامع بين المطلق والمقيّد؟

وعلى هذا الأساس احتاجوا إلى اعتبارات الماهيّة وتقسيماتها وبيان الجامع بين تلك الأقسام الذي هو الموضوع له اللفظ ليكتشفوا بذلك أنّ اسم الجنس هل هو موضوع للمطلق أو للجامع بين المطلق والمقيّد.

وبعد أن حقّق المتأخّرون عدم استفادة الإطلاق من الوضع احتاجوا إلى ذكر ما يستفاد منه الإطلاق وأسموه بمقدّمات الحكمة وأخذوا في تحقيقها وتعيينها بوجه فنّيّ.

456

 

الكلام في اعتبارات وتقسيمات الماهيّة لمعرفة معنى

الإطلاق وإمكان استفادته من الوضع

ولنبدأ نحن في بيان اعتبارات وتقسيمات الماهيّة ليظهر على ضوء ذلك أنّه هل الإطلاق يمكن أن يكون مستفاداً من الوضع أو لا، وما هو معنى الإطلاق الذي اختلف في استفادته من الوضع وعدمه.

فلنحذف الآن بحث تعريف المطلق مكتفين بما نقلناه عن المشهور: من أنّه (ما دلّ على شائع في جنسه) إلى أن يتعمّق فهمنا للإطلاق نتيجة لبحثنا عن اعتبارات وتقسيمات الماهيّة، كما تظهر من تحقيقنا لذلك حقيقة الأمر فيما ذكروه من انقسام المطلق إلى الشموليّ والبدليّ. هذا.

وكما نحن نبحث عن اعتبارات الماهيّة وأقسامها كذلك بحث الفلاسفة عن ذلك، لكنّنا نبحث عن ذلك بروح علم الاُصول وهم بحثوا عن ذلك بما هم فلاسفة، أي: بداعي تشخيص ما هو الكلّيّ الطبيعيّ وهل هو اللابشرط المقسميّ ـ كما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) وصاحب المنظومة ـ أو اللابشرط القسميّ ـ كما ذهب إليه صاحب شرح التجريد ـ أو الطبيعة المهملة بناءً على أنّها غير اللابشرط المقسميّ كما ذهب إليه المحقّق الإصفهانيّ، ولكنّنا نحن نبحث عن ذلك بداعي تشخيص ما هو الإطلاق الذي اختلفوا فيه هل هو مستفاد من الوضع أو لا؟

وقد نسب إلى مشهور المتقدّمين القول باستفادة الإطلاق من الوضع، ولكن ذهب سلطان العلماء ومَن بعده من المحقّقين إلى خلافه.

وأورد المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) على المتقدّمين بأنّ الإطلاق أمر ذهنيّ، فلو فرض كونه داخلاً في وضع اسم الجنس بأن تكون كلمة (رجل) مثلاً موضوعة

457

للرجل المطلق لزم عدم انطباقه حقيقة على الأفراد الخارجيّة(1).

أقول: إنّ هذا الإشكال ـ أعني: المنع ثبوتاً عن إمكانيّة الوضع للمطلق مع الاحتفاظ بانطباق اسم الجنس على أفراده ـ ناتج عن الخلط بين المعقولات الأوّليّة والثانويّة.

وتوضيح الحال في المقام: أنّ كلّ ماهيّة تتقدّر بحدودها الذاتيّة من الأجناس والفصول، فالإنسان مثلاً متقدّر بالجسميّة والحيوانيّة والناطقيّة، وهذا من المعقولات الأوّليّة، لا بمعنى ثبوت الماهيّة قبل الوجود الخارجيّ والتصوّريّ، فإنّنا لا نؤمن بأصالة الماهيّة، بل بمعنى أنّ التصوّر يضاف في نظر المتصوّر إلى الماهيّة ويرى المتصوّر بالنظر التصوّريّ أنّه عرض تصوّره على الماهيّة فيقول مثلاً: (تصوّرت الحيوان الناطق)، وهذا بخلاف المعقولات الثانويّة، فإنّها عناوين تطرأ على هذا التصوّر وتنتزع من متعقّل أوّليّ كالنوع والجنس والفصل.

وللماهيّة حدود عرضيّة تتقدّر بها أيضاً بعد تقدّرها بحدودها الذاتيّة، وبلحاظ ذلك أيضاً تجد المعقولات الأوّليّة والمعقولات الثانويّة.

ولتوضيح الحال نأخذ ماهيّة الإنسان وصفة العلم كمثال ونقول: إنّ ماهيّة الإنسان إذا تتبّعنا أنحاء وجودها في الخارج نجد أنّ هناك حصّتين ممكنتين لها من ناحية صفة العلم، وهما الإنسان الواجد للصفة خارجاً والإنسان الفاقد لها خارجاً، ولا تتصوّر لها حصّة ثالثة ينتفي فيها الوجدان والفقدان معاً؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 378 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

458

ومن هنا نعرف أنّ مفهوم الإنسان الجامع بين الواجد والفاقد ليس حصّة ثابتة في الخارج في عرض الحصّتين السابقتين، ولكن إذا تجاوزنا الخارج إلى الذهن وتتبّعنا عالم الذهن في معقولاته الأوّليّة التي ينتزعها من الخارج مباشرة نجد ثلاث حصص أو ثلاثة أنحاء من لحاظ الماهيّة كلّ واحد منها يشكّل صورة للماهيّة في الذهن تختلف عن الصورتين الاُخريين: فقد تلحظ الماهيّة بلحاظ بشرط شيء، واُخرى بلحاظ بشرط لا، وثالثة باللحاظ اللابشرطيّ، ويُرى بالنظر التصوّريّ في الفرض الثالث جميع الأفراد التي ترى باللحاظ الأوّل والثاني، وهذا هو المطلق وهو اللابشرط القسميّ، أمّا ذات الماهيّة بحدودها الذاتيّة فهي موجودة ضمن الصور الثلاث الاُولى وهي التي نعبّر عنها باللابشرط المقسميّ.

وإذا تجاوزنا وعاء المعقولات الأوّليّة للذهن إلى وعاء المعقولات الثانويّة التي ينتزعها الذهن من لحاظه وتعقّلاته الأوّليّة وجدنا أنّ الذهن ينتزع من تلك اللحاظات عناوين ذهنيّة بحت، أو قل: معقولات ثانويّة، كالصنف في قولنا: (الإنسان العالم صنف من الإنسان)، وكالكلّيّ ونحو ذلك، فإذا جعل شيء من هذه القيود قيداً للمفهوم المتصوّر استحال انطباقه على ما في الخارج.

وبعد أن اتّضح الفرق بين المعقولات الأوّليّة التي تعتبر بنظر المتصوّر مرآة للخارج والمعقولات الثانويّة التي تنتزع من المعقولات الأوّليّة كالكلّيّة والنوعيّة والصنفيّة في مثل قولنا: (الإنسان نوع) و(الإنسان العالم صنف) و(الرجل كلّيّ) نقول: هذا هو السرّ في أنّ الإنسان العالم مثلاً قابل للانطباق على ما في الخارج ومفهوم الإنسان النوع غير قابل لذلك؛ لأنّ الثاني اُخذ فيه ما هو من المعقولات الثانويّة والأوّل لم يؤخذ فيه غير ما هو من المعقولات الأوّليّة.

وكما أنّ الحدود العرضيّة من القيود الثبوتيّة والعدميّة المضيّقة للمفهوم كصفة

459

العلم أو عدم العلم تكون من المعقولات الأوّليّة، كذلك نفس التضيّق بذلك ـ أعني: واقع التضيّق لا مفهومه ـ يكون من المعقولات الأوّليّة؛ لأنّه حاصل لمفهوم الإنسان العالم بقطع النظر عن التصوّر؛ لأنّ التضييق للحصّة ذاتيّ لها والذاتيّ يثبت للحصّة بما هي حصّة.

وإذا كان الأمر كذلك فعدم هذا التضيّق وهو الملحوظ في المطلق يكون أيضاً من المعقولات الأوّليّة؛ لأنّ ما يكون ثبوته من المعقولات الأوّليّة أو الثانويّة يكون عدمه أيضاً كذلك، فإذا قدّر الإنسان بعدم هذا الضيق لم يكن ذلك من المعقولات الثانويّة، بل كان من المعقولات الأوّليّة، وهذا هو المفهوم المطلق ولنسمّه بالإطلاق الحدّيّ.

وقد ظهر بما ذكرناه بطلان ما أورده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من أنّه لو كان الإطلاق مستفاداً من الوضع لم يحصل الانطباق على ما في الخارج، فإنّ هذا الإشكال ناش من الخلط بين المعقولات الأوّليّة والثانويّة، وقد عرفت أنّ عدم التضيّق كنفس واقع التضيّق من المعقولات الأوّليّة وليس من الاُمور الذهنيّة، بل يكون مقدّماً رتبة على التصوّر الذهنيّ في نظر المتصوّر ومعروضاً له.

هذا حال ما أسميناه بالإطلاق الحدّيّ.

وأمّا نفس مفهوم الإنسان المتقدّر بخصوص الحدود الذاتيّة فهو جامع بين هذا المطلق بالإطلاق الحدّيّ والمقيّد، بمعنى أنّه موجود في ضمن كلّ من المقيّد والمطلق بالإطلاق الحدّيّ، ولنسمّه المطلق بالإطلاق الذاتيّ.

والإطلاق المتنازع في كونه مستفاداً من الوضع وعدمه هو الإطلاق الحدّيّ لا الذاتيّ؛ إذ المقصود من دعوى استفادة الإطلاق من الوضع الاستغناء عن شيء آخر غيره والذي احتاج إليه المتأخّرون وأسموه بمقدّمات الحكمة، في حين أنّ

460

كون الإطلاق الذاتيّ مستفاداً من الوضع لا يوجب الاستغناء عن مقدّمات الحكمة؛ لأنّ المطلق الذاتيّ موجود في ضمن المقيّد أيضاً فنحتاج في نفي التقييد إلى مقدّمات الحكمة.

وقد ظهر بما ذكرناه: أنّ اعتبارات الماهيّة وتقسيماتها ـ بشكل لا يمنع عن الانطباق على ما في الخارج ـ ثلاثة: فإنّ الماهيّة تارة تعتبر مقيّدة بأمر ثبوتيّ أو عدميّ فلا تنطبق على ما في الخارج إلّا في دائرة وجود القيد، واُخرى تعتبر مطلقة بالإطلاق الحدّيّ فتنطبق على كلّ الأفراد، ولو كان اسم الجنس موضوعاً لذلك لم نحتج في فهم الإطلاق إلى مقدّمات الحكمة، وثالثة تعتبر مطلقة بالإطلاق الذاتيّ، أي: ملحوظة بذاتيّاتها فحسب وبقطع النظر عن كونها مقيّدة أو مطلقة وهذه أيضاً تنطبق على كلّ الأفراد، ولو عرفنا حقّاً أنّ الحكم اُصدر عليها وبقطع النظر عن أيّ قيد من القيود سرى الحكم ـ لا محالة ـ إلى تمام الأفراد، ولكن أ نّا لنا بمعرفة ذلك في حين أنّ الماهيّة بذاتيّاتها موجودة حتّى في ضمن المقيّد، فنبقى نحتمل دخل القيد في الحكم إلّا بأن ننفي الاحتمال بمقدّمات الحكمة.

وقد تحصّل: أنّ الإطلاق الحدّيّ يعتبر بحسب عالم المفاهيم قيداً كسائر القيود، فإنّه عبارة عن تقيّد المفهوم بعدم الضيق ولكن بفرق بين القيدين، وهو: أنّ سائر القيود من الحدود العرضيّة كما توجد الضيق في المفهوم بحسب عالم المفاهيم، فالإنسان العالم مثلاً حصّة خاصّة من مفهوم الإنسان لا يوجد في ضمن حصّة مفهوميّة اُخرى، كذلك توجد الضيق فيه بحسب عالم الانطباق، فالإنسان العالم مثلاً أقلّ انطباقاً من الإنسان، وأمّا الإطلاق الحدّيّ فإنّما يوجب الضيق بحسب عالم المفاهيم، فالإنسان المقيّد بعدم الضيق حصّة خاصّة من المفهوم في مقابل الحصص المفهوميّة الاُخرى كالإنسان العالم أو الإنسان غير العالم ولا يوجد

461

الضيق بحسب عالم الانطباق، فالإنسان المطلق بالإطلاق الحدّيّ لا يكون أقلّ انطباقاً من الإنسان المطلق بالإطلاق الذاتيّ.

ويفترق الإطلاق الحدّيّ عن الإطلاق الذاتيّ في شيئين:

الأوّل: أنّ المطلق بالإطلاق الحدّيّ يستحيل طروّ التقييد عليه؛ لأنّه قسيم للمقيّد، وأمّا المطلق بالإطلاق الذاتيّ فهو المقسم بين المطلق والمقيّد ويطرأ عليه القيد.

والثاني: أنّ السعة الناشئة من الإطلاق الحدّيّ إنّما تكون من جهة واحدة وهي جهة انطباقه على المصاديق الخارجيّة، وأمّا السعة الناشئة من الإطلاق الذاتيّ فتكون من جهتين:

الاُولى: جهة انطباقه على المصاديق الخارجيّة.

والثانية: جهة وجوده في ضمن جميع الحصص المفهوميّة، فيصدق على كلّ حصّة من حصص مفاهيم الإنسان مثلاً أنّه مفهوم الإنسان المحدّد بالحدود الذاتيّة، فإنّه المقسم للمطلق القسميّ وجميع المقيّدات.

ثمّ التقابل بين الإطلاق الحدّيّ والتقييد ـ على ما ظهر ممّا مضى ـ هو تقابل التضادّ؛ إذ الإطلاق الحدّيّ عبارة عن التقييد بعدم الضيق. نعم، إنّما عبّرنا عن ذلك بتقابل التضادّ بحسب اصطلاحنا الاُصوليّ، فإنّ معنى ذلك ما يشمل مثل هذا وإن لم يكن تضادّاً بالمعنى الفلسفيّ.

وأمّا الإطلاق الذاتيّ فقد عرفت أنّ فيه جهتين من قابليّة السعة وقد ذكرناهما آنفاً، والتقابل بين الجهة الثانية منهما والتقييد ولو بالإطلاق الحدّيّ تقابل التناقض، فإنّ الإطلاق الذاتيّ يكفي في فعليّة السعة الناشئة منه عدم القيد.

والتقابل بين الجهة الاُولى منهما والتقييد أيضاً تقابل التناقض؛ لكفاية نفي القيد فيه في سعة الانطباق.

462

ولا تقابل بين الجهة الاُولى منهما والإطلاق الحدّيّ؛ لأنّ المطلق الحدّيّ عار عن القيد من ناحية الانطباق على المصاديق الخارجيّة، فلا فرق بينه وبين المطلق الذاتيّ من هذه الجهة.

وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ الذي يفيد تسرية الحكم إلى جميع الأفراد هو كون تمام الموضوع نفس المطلق الذاتيّ والماهيّة المحدّدة بالحدود الذاتيّة الموجودة في ضمن كلّ فرد، فإنّ هذا كاف في سريان الحكم إلى كلّ الأفراد، وأمّا الإطلاق الحدّيّ فدائماً مسبوق بالإطلاق الذاتيّ؛ لما عرفت من أنّ الإطلاق الذاتيّ له جهتان من قابليّة التوسعة، والإطلاق الحدّيّ إنّما يمنع عن فعليّة الجهة الثانية وتبقى الجهة الاُولى التي هي الموجبة لسريان الحكم إلى جميع الأفراد ثابتة بحالها.

نعم، الإطلاق الحدّيّ له فائدتان: إحداهما ثبوتيّة، وهي: أنّ المتكلّم لو أراد التضييق بحسب المفاهيم دون التضييق في الانطباق على المصاديق جعل الماهيّة مقيّدة بالإطلاق الحدّيّ. والاُخرى إثباتيّة، وهي: أنّه لو أراد الواضع أن يضع اللفظ بنحو يستغني عن مقدّمات الحكمة وضع اللفظ بإزاء المطلق الحدّيّ لا الذاتيّ؛ إذ المطلق الذاتيّ موجود في ضمن المقيّد أيضاً فنحتاج في رفع القيد إلى مقدّمات الحكمة. هذا.

وقد اتّضح لك ممّا ذكرناه إيماننا باُمور ثلاثة:

الأوّل: أنّ التقييد عبارة عن تحصيص المفهوم بالحدود العرضيّة الوجوديّة أو العدميّة.

والثاني: أنّ الإطلاق المقابل للتقييد عبارة عن التقييد بعدم الضيق والذي أسميناه بالإطلاق الحدّيّ.

463

والثالث: أنّ الجامع بين المطلق والمقيّد عبارة عن المطلق الذاتيّ الذي هو الماهيّة المحدّدة بحدودها، وسيأتي منّا ـ إن شاء الله ـ اختيار أنّ هذا هو الموضوع له اللفظ.

وقد وافق المحقّق العراقيّ(رحمه الله) على الأوّل والثالث، أعني: ما هو معنى التقييد وما هو الموضوع له اللفظ، فإنّه وإن لم يعبّر بمثل تعبيرنا لكن واقع مراده ما ذكرناه.

ولكنّه خالف في معنى الإطلاق الذي هو قسيم للتقييد وفي مقابله فقال: إنّ الإطلاق عبارة عن عدم التقييد بمعنى كون المفهوم غير مقيّد، أي: أن يكون واقع فاقد القيد وأن يكون عنوان فاقد القيد صادقاً عليه بالحمل الشائع وليس عبارة عن التقييد بفقدان القيد، وفرّع(قدس سره) على ذلك: أنّ الجامع بين هذين القسمين لا يمكن تصويره مستقلاًّ، فإنّه يكون دائماً في ضمن أحد القسمين؛ إذ إنّ كلّ ماهيّة تتصوّر فإمّا أن يتصوّر لها قيد أو لا: فعلى الأوّل تكون مقيّدة، وعلى الثاني تكون مطلقة، وارتفاع النقيضين محال، فالجامع بينهما دائماً لا يتصوّر إلّا في ضمن أحد فرديه(1).

أقول: لا يخفى أنّ الإطلاق بناءً على ما أفاده(قدس سره) يكون نتيجة لقضيّة تصديقيّة، وهي: أنّ الماهيّة فاقدة للقيد، في حين أنّه بناءً على ما ذكرناه يكون عبارة عن التحصيص بعدم القيد الذي هو في دائرة المداليل التصوّريّة.

وما ذكرناه هو الحقّ؛ لأنّه يرد على الأوّل: أنّ حمل فقدان القيد على الماهيّة إمّا أن يكون بقطع النظر عن وجودها التصوّريّ، وإمّا أن يكون بالنظر إلى ما بعد



(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 39، ص 492 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، ونهاية الأفكار… ج 1 ـ 2، ص 562 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

464

وجودها التصوّريّ:

فإن اُريد الأوّل ورد عليه: أنّ حمل الشيء على الماهيّة في عالم الماهيّة، أي: بقطع النظر عن وجودها في صقع من الأصقاع لا يمكن إلّا فيما يكون من ذاتيّات الماهيّة، إمّا بأن يكون من حدودها الذاتيّة كما في قولنا: (الإنسان حيوان ناطق)، أو بأن يكون من الملازمات لذاتها من حيث هي كما يقال: (الأربعة زوج). وأمّا ما ليس كذلك فلا يمكن حمله على الماهيّة قبل وجودها في صقع من الأصقاع، فلا يمكن أن يقال مثلاً: (الإنسان عالم) إلّا بعد وجوده وطروّ العلم عليه، وعدم التقيّد ليس من ذاتيّات الماهيّة بأحد المعنيين ـ ببرهان انفكاكها عنه بالتقييد ـ فلا يمكن حمله عليها في عالم الماهيّة.

نعم، هو من ذاتيّات حصّة خاصّة من المفهوم لا توجد في ضمن المقيّد، لا من ذاتيّات مطلق الماهيّة التي هي ثابتة في ضمن المقيّد أيضاً، فإن اُريد تلك الحصّة فلا محالة هي حصّة مضيّقة ولذا لا توجد في ضمن المقيّد، ومرجعها إلى ما ذكرناه من المفهوم المقيّد بعدم القيد لا إلى ما ذكره من كونه واقع فاقد القيد.

وإن اُريد الثاني ورد عليه: أنّ حمل فقدان القيد على الماهيّة المتصوّرة، بأن تتصوّر هذه الماهيّة المتصوّرة مرّة ثانية ويحكم عليها بأنّها فاقدة للقيد وإن كان بمكان من الإمكان لكنّ الإطلاق على هذا يصبح من المعقولات الثانويّة والاُمور الذهنيّة، والمطلق يخرج عن قابليّة انطباقه على ما في الخارج، وهذا غير صحيح وهو(قدس سره)يكون بصدد تصوير الإطلاق بنحو يكون من المعقولات الأوّليّة، أي: ممّا يقبل الانطباق على ما في الخارج كما كنّا نحن أيضاً بهذا الصدد.

والصحيح في تصويره ما ذكرناه من تحصيص المفهوم وتقييده بعدم كونه مقيّداً بتلك القيود الوجوديّة والعدميّة، فإنّ ما في عالم الماهيّات إنّما هو تحصّص

465

المفاهيم الذي لا يخرجه عن كونه تصوّراً ابتدائيّاً للماهيّة، ولمفهوم الماهيّة حصّتان: إحداهما المفهوم المقيّد بقيد ثبوتيّ أو عدميّ، والاُخرى المفهوم المقيّد بعدم الضيق، والجامع بينهما هو الماهيّة بحدودها الذاتيّة المنحفظة ضمن كلتا الحصّتين والقابلة للتصوّر مستقلاًّ وفي ضمن كلّ من فرديها أيضاً. هذا.

وتستخلص من ضمن البيانات الماضية اُمور تؤثّر ثمرات كثيرة في بحث التعبّديّ والتوصّليّ وغيره، وتلك الاُمور ما يلي:

الأمر الأوّل: ما مضى من أنّ الجامع بين المطلق والمقيّد يمكن تصوّره بدون الحدّين، وهذا بخلاف مبنى المحقّق العراقيّ(قدس سره)، فإنّ ذلك على مبناه غير ممكن؛ لما ذكره من برهان امتناع النقيضين؛ لأنّ الإطلاق عنده نقيض للتقييد وعبارة عن عدم التقييد، وكلّ ماهيّة جاءت في الذهن فهي إمّا مقيّدة أو لا، ولا تتصوّر صورة ثالثة؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين، في حين أنّنا جعلنا الإطلاق والتقييد حدّين متقابلين ويمكن تصوير الجامع بينهما مستقلاًّ.

وفي كلام السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إشارة إلى برهان على عدم إمكان تصوير الجامع إلّا في ضمن أحد الفردين؛ إذ علّل ـ دامت بركاته ـ دعواه من أنّ اللابشرط المقسميّ لا يوجد إلّا في ضمن المطلق أو المقيّد بقوله: «كما هو الحال في كلّ مقسم بالإضافة إلى أقسامه»(1).

وحاصل ما أشار إليه من البرهان: أنّ وجود المقسم خارجاً أو ذهناً لا يمكن أن يكون بوجود مستقلّ وبغير وجود أقسامه، فمثلاً الإنسان الذي هو مقسم



(1) راجع أجود التقريرات المشتمل على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، ج 1، ص 524، تحت الخطّ.

466

لأفراده يكون وجوده الخارجيّ بوجود أقسامه لا بوجود آخر، وإلّا لكان ذلك الوجود الآخر قسيماً لباقي الأفراد، فانقلب المقسم إلى القسيم واحتجنا إلى مقسم آخر مشترك بين الأفراد التي منها هذا الفرد، هذا بحسب الوجود الخارجيّ، وكذلك الحال بحسب الوجود التصوّريّ فنقول مثلاً: إنّ اللابشرط المقسميّ الذي هو جامع بين المطلق والمقيّد إنّما يوجد بوجود تصوّريّ في ضمن وجود أحد فرديه بوجود تصوّريّ ولا يوجد بوجود مستقلّ، وإلّا لكان قسيماً للفردين وفي قبالهما واحتجنا إلى مقسم للأفراد الثلاثة.

أقول: لو فرض أنّ المقصود هو ذكر جامع لموجودات تصوّريّة فهذا الكلام في غاية المتانة، فإنّه لابدّ أن يكون الوجود التصوّريّ لذلك الجامع في ضمن تلك الموجودات لا بوجود على حدة، وإلّا لكان ذلك بنفسه موجوداً تصوّريّاً في قبال تلك الموجودات وقسيماً لها واحتجنا إلى جامع بينه وبينها.

لكن الأمر ليس كذلك، فإنّ المطلق والمقيّد ـ كما عرفت ـ ليسا من المعقولات الثانويّة بل هما من المعقولات الأوّليّة الثابتة في عالم الماهيّة وينصبّ التصوّر عليهما بحسب نظر المتصوّر، وبينهما جامع وهو اللابشرط المقسميّ الذي هو أيضاً من المعقولات الأوّليّة والماهيّات التي ينصبّ عليها التصوّر. والمقصود هنا بالجامعيّة كون الجامع منحفظاً في ضمن الباقي بمعنى كون النسبة بينه وبين كلّ واحد من الباقي نسبة بين الأقلّ والأكثر، فإنّ الماهيّة بحدّها الذاتيّ محفوظة في الماهيّة المقيّدة بالحدّ الإطلاقيّ والمقيّدة بالحدّ التقييديّ مع وجود زيادة في المقيّدين، ولا مانع من تصوّر تلك الماهيّة بالاستقلال من دون تصوّر تلك الزيادتين، ولا تصل النوبة إلى جامع آخر بين تلك المفاهيم الثلاثة الحاصلة في عالم الماهيّات؛ لما عرفت من أنّ النسبة بينها نسبة الأقلّ والأكثر لا نسبة القسيم إلى القسيم.

467

الأمر الثاني: ما مضى من أنّ كلاًّ من المطلق والمقيّد من المعقولات الأوّليّة.

والوجه في أنّنا اخترنا للمطلق معنى يكون من المعقولات الأوّليّة هو: أنّ القدماء ـ قدّس الله أسرارهم ـ ذهبوا إلى أنّ الإطلاق مستفاد من الوضع ولا نحتاج في تسرية الحكم إلى جميع الأفراد إلى شيء آخر غير الوضع، ونحن كنّا بصدد أن نرى أنّه هل يمكن تصوير معنى للإطلاق يعقل وضع اللفظ له كي يدلّ على تسرية الحكم من دون حاجة إلى مقدّمات الحكمة، فيكون هذا نوع توجيه لكلمات القدماء حتّى نبحث بعد ذلك إثباتاً عن تحقّق هذا الوضع وعدمه.

وقد تصوّرنا الإطلاق بمعنى يكون من المعقول الأوّليّ بأحسن وجه وهو تحصيص المفهوم وتحديده بحدّ عرضيّ وهو حدّ عدم الضيق، وبذلك أبطلنا اعتراض المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) على كلام القدماء.

وقد ظهر بما بيّنّاه ـ في تصوير المطلق ـ الخلل الموجود في كلام المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)؛ إذ ذكر: أنّ الإطلاق عبارة عن لحاظ عدم لحاظ القيد(1).

فكأنّ الملحوظ في جانب المطلق هو عدم لحاظ القيد دون عدم نفس القيد، وهذا يقابله أن يكون الملحوظ في المقيّد هو لحاظ القيد لا نفس القيد، وإذا كان الملحوظ لحاظ القيد وقعنا أيضاً في المعقولات الثانويّة ويكون نفيها في جانب المطلق بمعنى كون الملحوظ لحاظ عدم القيد أيضاً أخذاً للمعقولات الثانويّة في الحساب.

وذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ ما يشبه تعبير المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)؛ إذ ذكر: أنّ المطلق ما لوحظ فيه عدم دخل القيد(2).



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 493 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 523 تحت الخطّ، بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

468

أقول: إن كان مقصوده ـ دامت بركاته ـ من ذلك كون المطلق مقيّداً بنفس اللحاظ رجع ذلك إلى ما توهّمه المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) وقد مضى ما فيه.

وإن كان مقصوده التقيّد بالملحوظ لا اللحاظ قلنا عندئذ:

لو قصد بعدم دخل القيد عدم دخله في الحكم كان ذلك خروجاً عمّا نحن فيه؛ إذ الكلام في اعتبارات الماهيّة وتشخّص معنى للإطلاق يمكن أن يكون موضوعاً له للفظ ومغنياً ـ على تقدير أخذه في الموضوع له اللفظ ـ عن مقدّمات الحكمة.

وإن كان مقصوده فقدان المفهوم للقيد مع قطع النظر عن ترتّب الحكم عليه فإن أراد بذلك صدق واقع الفقدان رجع ذلك إلى كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) وقد عرفت ما فيه. وإن أراد التقيّد بالفقدان كان ذلك هو الصحيح المختار.

الأمر الثالث: أنّ الإطلاق الذاتيّ بنفسه مقتض للسريان في حصص المفاهيم وللانطباق على الأفراد الخارجيّة والسريان فيها:

أمّا الأوّل ـ وهو كونه بنفسه مقتضياً للسريان في الحصص المفهوميّة ـ: فيدلّ عليه أنّه لو لم يكن بنفسه مقتضياً لذلك وكان اقتضاء السريان موقوفاً على قيد لزم الخلف؛ لأنّ ذلك القيد بنفسه يحصّص المفهوم وتتحقّق حصّة اُخرى من الحصص المفهوميّة.

وأمّا الثاني ـ وهو الانطباق على الأفراد ـ: فلأ نّا لا نعني بالانطباق إلّا المماثلة لما في الخارج والمحاكاة له، ومن الواضح أنّ الماهيّة بحدودها الذاتيّة كذلك، فكلّ فرد من أفراد الإنسان مثلاً حيوان ناطق.

ولك أن تقول: إنّ المطلق الذاتيّ سار في الحصص المفهوميّة فيكون سارياً في الأفراد بلا احتياج إلى حدّ عرضيّ؛ لأنّه إذا كان المحدود بالحدّ العرضيّ منطبقاً على الفرد، والمفروض أنّ المطلق الذاتيّ منطبق على كلّ المحدودات بالحدود العرضيّة فلا محالة يكون ذلك منطبقاً على الفرد.

469

الأمر الرابع: أنّ التقابل بين الإطلاق الحدّيّ والتقييد تقابل التضادّ، وبين الإطلاق الذاتيّ والتقييد تقابل التناقض كما مرّ. وقد ذهب المحقّق النائينيّ(رحمه الله) إلى أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، وذهب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إلى أنّ تقابل الإطلاق والتقييد تقابل التضادّ.

الأمر الخامس: ما هو تحقيق الكلام فيما يقال: من استحالة الإهمال في الواقع، فإنّه إن كان المراد من ذلك الإهمال بالنظر إلى الإطلاق الحدّيّ والتقييد فغير مستحيل بل هو الإطلاق الذاتيّ، وإن كان المراد الإهمال بالنظر إلى الإطلاق الذاتيّ والتقييد فهو محال.

هذا تمام الكلام في اعتبارات الماهيّة، وقد اتّضح ضمن هذا البحث أصل معنى الإطلاق عندنا.