93

من هو _ قد قال لإسحاق بن عمّار: «سأله رجل وأنا عنده».

ولكن الإشكال قد يرتفع بنسخة الصدوق رحمه الله حيث روى الحديث كالتالي: روى إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام): «قال: سأله رجل وأنا عنده فقال: رجل مسلم...»(1).

وهذا الحلّ إنّما ينفعنا لو وثقنا بذلك بأنّ المقصود بنقل الطوسي أنّ إسحاق بن عمّار هو الذي سمع أبا عبدالله وأنّ المشكلة ليست إلّا تشويشاً في العبارة، وإلّا فنقل الصدوق للرواية عن إسحاق بن عمّار لا يحلّ بنفسه مشكلتنا؛ لأنّه وقع في سند الصدوق إلى إسحاق بن عمّار علي بن إسماعيل، والظاهر أنّه علي بن إسماعيل بن عيسى، ولا دليل على وثاقته عدا وقوعه في أسانيد كامل الزيارات.

وإمّا إلى حديث الشيخ الطوسي رحمه الله بإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن أحمد بن أبي بشر عن معاوية بن ميسرة قال: «سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبدالله عليه السلام عن رجل باع داراً له من رجل وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاصر، فشرط إنّك إن أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك فأتاه بماله؟ قال: له شرطه. قال له أبو الجارود: فإنّ ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين. قال: هو ماله. وقال أبو عبدالله(عليه السلام): أرأيت لو أنّ الدار احترقت من مال من كانت؟ تكون الدار دار المشتري»(2). ومعاوية بن ميسرة قد روی عنه محمد بن أبي عمير والبزنطي، فسند الحديث تامّ.

والظاهر أنّ أجنبية هذه الرواية عمّا نحن فيه في غاية الوضوح؛ فإنّ مفادها أنّ ما أصابه من منافع الدار في ضمن سنوات خيار البائع للمشتري؛ لأنّ الدار في تلك


(1) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص205، باب حکم القبالة المعدلة بین الرجلين بشرط معروف إلی أجل معلوم، ح3771.

(1) تهذيب الأحکام، ج7، ص176، الباب15 من کتاب التجارات، ح37.

94

السنوات كانت ملكاً للمشتري، ومنافع الملك للمالك، واستشهد لكون الدار ملكاً للمشتري بأنّها لو احترقت احترقت من مال المشتري. ولعلّ نظر الشيخ الأنصاري إلى الرواية الأُولى، لا إلى هذه الرواية.

وكأنّ الشيخ الأنصاري رحمه الله يشير بما ورد في الرهن إلى ما رواه الكليني عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد وسهل بن زياد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن حمّاد بن عثمان عن إسحاق بن عمّار قال: «قلت لأبي إبراهيم(عليه السلام): الرجل يرهن الغلام والدار فتصيبه الآفة على من يكون؟ قال: على مولاه ثم قال: أرأيت لو قتل قتيلاً على من يكون؟ قلت: هو في عنق العبد. قال: ألا ترى فلِمَ يذهب مال هذا؟ ثم قال: أرأيت لو كان ثمنه مائة دينار فزاد وبلغ مائتي دينار لمن كان يكون؟ قلت: لمولاه. قال: كذلك يكون عليه ما يكون له»(1).

وأمّا عطف الشيخ الأنصاري رحمه الله عبارة «وغيره» على موضوع الرهن فلعلّه يشير بذلك إلى ما رواه الكليني عن عدّة من أصحابنا عن محمد بن يحيى عن عبدالله بن محمد عن علي بن الحكم عن أبان عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن رجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام مسمّى ثم آجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقلّ من ذلك أو أكثر وله في الأرض بعد ذلك فضل، أيصلح له ذلك؟ قال: نعم، إذا حفر لهم نهراً أو عمل لهم شيئاً يعينهم بذلك فله ذلك...قال: وسألته عن الرجل استأجر أرضاً من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام معلوم فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريباً جريباً بشيء معلوم فيكون له فضل فيما استأجره من السلطان ولا ينفق شيئاً أو يؤاجر تلك الأرض قطعاً على أن يُعطيهم البذر والنفقة فيكون له في ذلك فضل على إجارته وله تربة الأرض أو ليست له؟ فقال: له: إذا استأجرت أرضاً فأنفقت فيها شيئاً أو رممت


(1) الکافي، ج5، ص234، باب الرهن من کتاب المعيشة، ح10.

95

فيها فلا بأس بما ذكرت»(1).

ووجه الاستدلال هو أنّ المستأجر الأوّل لمّا ضمن الأُجرة للمؤجر كانت الفائدة الحاصلة له بالإجارة الثانية خراجاً عائداً له، لا لمالك الأرض.

أقول: إنّ أجنبية هذه الرواية الرابعة عمّا نحن فيه أيضاً في غاية الوضوح؛ فإنّها قد جعلت زيادة قيمة المنفعة للذي ملك المنفعة بالاستيجار بشرط إضافة شيء أو تحسين في الأرض، وهذا من قبيل من يملك شيئاً بمبلغ ثم يبيعه بمبلغ أكثر، وأيّ ارتباط لذلك بما نحن فيه؟

ولا أُريد أن أُحمّل هذا الإشكال على الشيخ الأنصاري، فإنّنا لا نعلم إنّه كان ناظراً إلى هذه الرواية.

والمهمّ من هذه الروايات الأربع هي الرواية الأُولى والثالثة.

والواقع أنّ التدقيق فيهما أيضاً يؤدّي إلى وضوح أجنبيّتهما عن المقام، فالأُولى ناظرة إلى أنّ غلّة الملك للمالك، والثالثة ناظرة إلى أنّ النقص الوارد على العبد وارد على ممتلكات المولى، كما أنّ زيادة قيمته راجعة إلى زيادة قيمة ممتلكات المولى.

فلم يبق شيء يمكن الاستدلال به في المقام إلّا رواية «الخراج بالضمان».

وهي رواية سنّية واردة في كتبهم، ولم ترد لدى الشيعة إلّا مرسلة عوالي اللآلي أو غوالي اللآلي.

ومع ذلك فقد نقل عن الشيخ النائيني رحمه الله تصحيح سند الحديث بقوله _ على ما ورد في كتاب المكاسب والبيع للشيخ الآملي رحمه الله: «وقد ذكر الشيخ(قدس سره) هذا الخبر _ أعني: جملة «الخراج بالضمان» _ في المبسوط وذكر له معنيين، وذِكره في كتابه وتصدّيه لبيان معناه يكشف عن اعتماده عليه، ويكفي في الاطمئنان بصدوره مع أنّه مؤيّد بما ورد في طرقنا في باب الرهن وغيره من أنّ الزيادة الحاصلة في العين المرهونة للمالك؛


(1) الکافي، ج5، ص272، باب الرجل يستأجر الأرض أو الدار فيؤاجرها بأکثر مما استأجرها، ح2.

96

لكون خسارة العين عليه، ومع ذلك كلّه فلا وجه للمناقشة في سنده كما في الكتاب (يعني مكاسب الشيخ الأنصاري) برميه بالإرسال، بل الإنصاف صحّة الاستناد إليه بما بيّنّاه»(1).

أقول: لو فرضت تمامية السند _ وهو غير تامّ _ يبقى النقاش الدلالي في الرواية؛ فإنّ المحقّقين قد ناقشوا في دلالة الرواية على المقصود.

فقد ناقش الشيخ الأنصاري رحمه الله في دلالة الرواية بأنّ المراد بالضمان الذي يكون بإزائه الخراج أنّه لو تقبّل الشخص الضمان فالشارع يمضيه ويجعل بإزاء هذا الضمان الخراج، في حين أنّ الضمان الذي تقبّله المشتري فيما نحن فيه لم يكن إلّا ضمان المسمّى، ولم يمضه الشارع حتّى يجعل في مقابل ذلك الخراج للمشتري، وإنّما ثبّت الشارع ضمان المبيع بالمثل أو القيمة لو تلف أو أُتلف، ولم يثبت أنّه في مقابل ذلك يكون الخراج للمشتري، فدلالة الرواية لا تقصر عن سندها في الوهن، فلا تترك لأجلها قاعدة ضمان مال المسلم واحترامه وعدم حلّه إلّا عن طيب النفس(2).

وقد أبدى السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما في التنقيح(3) _ أربعة تفاسير في معنى الرواية.

التفسير الأوّل: أن يكون المقصود ما هو المعروف في باب الخراج والمقاسمة المرتبط بالأراضي الخراجية، ويكون المعنى: أنّ الذي يتقبّل دفع الخراج إلى السلطان في الأراضي الخراجية ويضمن له ذلك يكون عليه الخراج، وهو المطالب به وإن كان قد قبّل الأرض من شخص آخر بمقاسمة نتاج الزراعة بينه وبين المتقبّل.

وادّعى السيّد الخوئي رحمه الله: أنّ هذا التفسير _ وإن لم نره في كلمات الفقهاء _ هو أظهر الاحتمالات، ومعه يكون الحديث المزبور أجنبيّاً عن المقام.


(1) المکاسب والبيع، ج1، ص330.

(2) کتاب المكاسب، ج3، ص202 _ 203.

(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص256 _ 257.

97

التفسير الثاني: أن يكون المراد بالخراج مطلق المنافع، والمراد بالضمان مطلق الضمان سواءً كان اختياريّاً مترتّباً على العقود الصحيحة أو الفاسدة، أو غير اختياري كالضمان المترتّب على الغصب، وهذا المعنى ينطبق على مسلك أبي حنيفة حيث قال: إنّ كلّ من يضمن مالاً ولو غصباً فالمنافع له(1).


(1) الظاهر أنّ نظر أبي حنيفة المروي في صحيحة أبي ولّاد كان ناشئاً من رأيه هذا، وهي رواية طريفة أنقلها هنا عن الكافي، ج5، ص290، باب الرجل يكتري الدابّة فيجاوز بها الحدّ أو يردّها قبل الانتهاء إلى الحدّ، ح6. فقد روی الكليني عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن أبي ولّاد الحنّاط قال: «اكتريت بغلاً إلى قصر ابن هبيرة ذاهباً وجائياً بكذا وكذا، وخرجت في طلب غريم لي، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خُبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل، فتوجّهت نحو النيل، فلمّا أتيت النيل خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى بغداد، فاتّبعته وظفرت به، وفرغت ممّا بيني وبينه، ورجعنا إلى الكوفة، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوماً، فأخبرت صاحب البغل بعذري وأردت أن أتحلّل منه ممّا صنعت وأُرضيه، فبذلت له خمسة عشر درهماً، فأبى أن يقبل، فتراضينا بأبي حنيفة، فأخبرته بالقصّة وأخبره الرجل، فقال لي: وما صنعت بالبغل؟ قلت: قد دفعته إليه سليماً قال: نعم بعد خمسة عشر يوماً. فقال: ما تريد من الرجل؟ قال: أُريد كراء بغلي فقد حبسه عليّ خمسة عشر يوماً. فقال: ما أرى لك حقّاً؛ لأنّه اكتراه إلى قصر ابن هبيرة فخالف وركبه إلى النيل وإلى بغداد فضمن قيمة البغل وسقط الكراء، فلمّا ردّ البغل سليماً وقبضته لم يلزمه الكراء. قال: فخرجنا من عنده وجعل صاحب البغل يسترجع، فرحمته ممّا أفتى به أبو حنيفة، فأعطيته شيئاً وتحلّلت منه، فحججت تلك السنة، فأخبرت أبا عبدالله(عليه السلام) بما أفتى به أبو حنيفة. فقال: في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها وتمنع الأرض بركتها. قال: فقلت لأبي عبدالله(عليه السلام): فما ترى أنت؟

قال: أرى له عليك مثل كراء بغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل ومثل كراء بغل راكباً من النيل إلى بغداد ومثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة توفّيه إياه. قال: فقلت: جعلت فداك إنّي قد علفته بدراهم فلي عليه علفه؟ فقال: لا؛ لأنّك غاصب. فقلت: أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني؟ قال: نعم، قيمة بغل يوم خالفته. قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز؟ فقال: عليك قيمة ما بين ←
98

وهذا التفسير مقطوع العدم، وغير مراد لصاحب الوسيلة.

التفسير الثالث: أن يكون المراد من الخراج مطلق المنافع، إلّا أنّ المراد من الضمان خصوص الضمان الاختياري المترتّب على العقود الصحيحة، فيكون المعنى: أنّ من يضمن شيئاً بعقد صحيح يملك منافعه بالتبع. وهذا في ذاته مطلب صحيح، لكنّه أجنبي عن المقام؛ لأنّ كلامنا في العقد الفاسد، والمفروض أنّ الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد لا يكون ممضى شرعاً.

أقول: إنّ هذا التفسير هو عين ما نقلناه عن مكاسب الشيخ الأنصاري.

التفسير الرابع: أن يكون المراد بالخراج مطلق المنافع ويكون المراد بالضمان مطلق الضمان الاختياري ولو كان فاسداً ولم يمضه الشارع. وهذا المعنى هو الذي يصحّ دليلاً لصاحب الوسيلة في المقام، إلّا أنّه _ مضافاً إلى احتياجه إلى القرينة من بين


الصحّة والعيب يوم تردّه عليه. قلت: فمن يعرف ذلك؟ قال: أنت وهو إمّا أن يحلف هو على القيمة فتلزمك، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين أكرى كذا وكذا فيلزمك. قلت: إنّي كنت أعطيته دراهم ورضي بها وحلّلني. فقال: إنّما رضي بها وحلّلك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم، ولكن أرجع إليه فأخبره بما أفتيتك به، فإن جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شيء عليك بعد ذلك. قال أبو ولّاد: فلمّا انصرفت من وجهي ذلك لقيت المكاري فأخبرته بما أفتاني به أبو عبدالله(عليه السلام) وقلت له: قل ما شئت حتّى أُعطيكه. فقال: قد حبّبت إليّ جعفر بن محمد ووقع في قلبي له التفضيل، وأنت في حلّ وإن أحببت أن أردّ عليك الذي أخذت منك فعلت». انتهت الرواية المباركة.

وقد أورد صاحب الوسائل أكثر هذه الرواية في المجلّد19، ص119، الباب17 من كتاب الإجارة، ح1.وعلّق على جملة: «فأخبرت أبا عبدالله(عليه السلام) بما أفتى به أبو حنيفة» بقوله: «لا يخفى أنّ أبا حنيفة استدلّ هنا بأصالة البراءة والاستصحاب ونحوهما».

أقول: الظاهر عندي أنّ أبا حنيفة كان مدركه لما أفتى به قاعدة «الخراج بالضمان» بالتفسير الذي هو يرتئيه من أنّ الضمان حتّى بالغصب يجعل الخراج للضامن.


99

المعاني وهي معدومة _ يستلزم أن تكون منافع العين للمشتري بحيث يضمنها له كلّ من استوفاها ولو كان هو المالك أو الأجنبي الثالث، ولا يلتزم أحد بهذا حتّى أبو حنيفة.

قال السيّد الخوئي رحمه الله: فالصحيح هو المعنى الأوّل، ومع التنزّل عنه يرجع إلى المعنى الثالث.

أقول: المفروض أن يستثنى من ضمان المشتري للمنافع المستوفاة فرض واحد، ولعلّه مقصود لهم وإن لم يذكروه في عباراتهم، وهو فرض ما إذا كان البائع يعدّ عرفاً غارّاً للمشتري، كما لو كان البائع عالماً بفساد المعاملة والمشتري جاهلاً بذلك، ولو كان يعلم بذلك لما كان يستوفي المنافع، فهل نقول في هذا الفرض بشمول دليل الضمان لتلك المنافع؟!

هذا تمام ما أردنا بيانه في المنافع المستوفاة.

بقي الکلام في المنافع غير المستوفاة

وقد أفاد السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما في التنقيح _ : أنّنا نتكلّم أوّلاً في المنافع غير المستوفاة في المغصوب، ثم ننتقل إلى المنافع غير المستوفاة في المقبوض بالبيع الفاسد:

أمّا المنافع غير المستوفاة في المغصوب، فتارة تكون العين معدّة لاستيفاء تلك المنافع بحيث لو لا الغصب كان المالك يستوفيها، وأُخرى لم تكن معدّة له وإن كانت قابلة للاستيفاء، بمعنى أنّ المالك أيضاً لم يكن يستوفيها لو لا الغصب، كما إذا فرضنا أنّ المالك من الأغنياء يملك أعياناً كثيرة لا ينتفع منها في جميع الأزمان مع شأنية الانتفاع فيها:

ففي الصورة الأُولى يكون الغاصب ضامناً للمنفعة وإن لم يستوفها؛ لأنّه حال بين المالك والمنافع، فيعتبر متلفاً لها على المالك، كما لو غصب داراً كان يستفيد المالك من سكناها لو لا الغصب، وذلك بسَكَنها أو إيجارها.

100

أمّا في الصورة الثانية فلا ضمان للمنافع غير المستوفاة؛ لأنّ تلف المنفعة لا تسند إلى منع الغاصب مع فرض عدم المقتضي للاستيفاء من قِبل المالك لو كان مسلّطاً على الملك؛ فإنّ عدم الشيء لدى عدم المقتضي مع وجود المانع يسند إلى عدم المقتضي، لا إلى وجود المانع.

فالصحيح في باب الغصب هو التفصيل في ضمان المنافع غير المستوفاة بين ما تكون العين معدّة لاستيفاء المنفعة منها من قبل المالك وما لم تكن كذلك.

وأمّا في المقبوض بالعقد الفاسد فبالنسبة إلى المنافع التي لم تكن العين معدّة لاستيفائها من قِبل المالك فلا ضمان؛ لأنّ المفروض أنّه لم يستوفها المشتري كي يكون الاستيفاء سبباً للضمان ولا كان تلفها مستنداً إليه؛ لأنّ المقتضي لاستيفاء المالك غير موجود وإذا لم تكن هذه المنافع مضمونة في الغصب فما ظنّك بالمقبوض بالعقد الفاسد؟!

وأمّا المنافع التي تكون العين معدّة لاستيفائها من قِبل المالك فأيضاً لا ضمان على القابض فيها؛ لأنّ عمدة الدليل على ضمان المنافع المستوفاة كانت هي قاعدة (من أتلف) والسيرة القائمة على ضمان المنافع المستوفاة، وهما غير جاريين في المقام، فلا هو استوفى المنافع حتّى ترد السيرة العقلائية، ولا هو منع المالك عن التصرّف في المال حتّى يسند فوات المنافع إليه وإلّا دخل في عنوان الغاصب ولحقه حكمه.

وقد يستدلّ للضمان في المنافع غير المستوفاة بأُمور:

1_ النبوي المعروف «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه»(1).

ويُردّ ذلك إمّا بما أبداه الشيخ الأنصاري رحمه الله من أنّ عنوان الأخذ لا يصدق إلّا على الأعيان(2)، وإمّا بأنّ المأخوذ يجب أن يكون قابلاً للردّ والأداء، والمنافع ليست كذلك؛ لأنّها قبل الاستيفاء لا تكون تحت اليد وبعده تنعدم وليست بموجودة.


(1) مستدرك الوسائل، ج17، ص88، الباب الأوّل من أبواب كتاب الغصب، ح4.

(2) کتاب المكاسب، ج3، ص204.

101

2_ «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه»(1). وهذا لا يدلّ إلّا على حرمة أكل مال الغير أو على حرمة التصرّف في مال الغير، وليست فيه دلالة على الضمان.

3_ «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(2). وهذا أيضاً لا يدلّ إلّا على حرمة التصرّف دون الضمان.

4_ «حرمة ماله كحرمة دمه»(3). وهذا أيضاً لا يدلّ على أكثر من الحرمة التكليفية للتصرّف، فلا يثبت الضمان(4).

انتهى ما أردنا نقله عن السيّد الخوئي رحمه الله.

أقول: ولو آمنّا بأنّ تشبيه حرمة ماله بحرمة دمه يدلّ على الضمان _ لأنّه لا شكّ في مضمونية دم المسلم _ فهذا إنّما يدلّ على ضمان المنافع حينما تفصل عن العين، وهذا لا يكون إلّا في حالتين:

الأُولى: ما لو استوفاها، فبذلك فصلها عن العين، والمفروض فعلاً عدم الاستيفاء.

والثانية: ما لو فصل بينها وبين العين بمنع المالك عن استيفائها حينما قصد المالك الاستيفاء، والمفروض في المقام أيضاً خلاف ذلك.

ففي هاتين الحالتين تعدّ للمنافع مالية مستقلّة وتكون مضمونة.

أمّا في غير هاتين الحالتين فمالية المنافع مندكّة في مالية نفس العين، فعبارة «حرمة ماله كحرمة دمه» لا تدلّ على أكثر من ضمان العين.

إلّا أنّ السيّد الإمام رحمه الله جزم بضمان المنافع غير المستوفاة(5)؛ لأنّ للمنافع نحو وجود


(1) عوالي اللئالي، ج3، ص473، باب الغصب، ح3.

(2) وسائل الشيعة، ج9، ص540، الباب3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح7.

(3) المصدر السابق، ج12، ص297، الباب158 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح3.

(4) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص258 _ 260.

(5) راجع كتاب البيع (للإمام الخميني(رحمه الله))، ج1، ص475

102

تدريجي يقع تحت اليد تبعاً للعين وتتلف تدريجاً وتصير مضمونة تدريجاً بحكم قاعدة علی اليد، وليس الاستيفاء دخيلاً في تحقّق المنفعة، فالمنفعة متصرّمة الوجود ومتصرّمة التلف بالتدريج سواء استوفاها أو لا، وحديث «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» يدلّ _ بحكم التشبيه _ علی أنّ ماله كدمه، فكما أنّه لو أُريق دمه لا يذهب الدم هدراً فكذلك المال، والمنفعة مال، وهذا موافق للقاعدة العقلائية في المقام.

أقول: لئن تمّ شيء مما أفاده رضوان الله عليه في المقام فإنّما يتمّ في منفعة لا تندكّ ماليتها ضمن مالية العين، وقد أشرنا إلى أنّ ذلك إنّما يكون فيما إذا فصلت المنفعة عن العين، إمّا باستيفائها أو بمنع المالك عن استيفائها، أمّا لو لم يكن لا هذا ولا ذاك ولا كان المالك قد آجر العين لفترة محدّدة فأصبحت العين مسلوبة المنفعة في تلك الفترة فمالية المنفعة مندكّة ضمن مالية العين، ولا يفتح لها عقلائيّاً حساب خاصّ.

الحكم الرابع: ضمان المثل في المثليّات والقيمة في القيميّات لدى التلف أو الإتلاف(1)

وهذا ممّا بحث الشيخ رحمه الله ترتّبه علی القبض بالبيع الفاسد، وقد حكى في مكاسبه خلافاً مريراً في تعريف المثلي والقيمي، ثم قال: لا يخفى أنّه ليس للفظ «المثلي» حقيقة شرعية ولا متشرّعية، وليس المراد معناه اللغوي؛ إذ المراد بالمثل لغة: المماثل، فإن أُريد من جميع الجهات فغير منعكس، وإن أُريد من بعضها فغير مطّرد، وليس في النصوص حكم يتعلّق بهذا العنوان حتّى يبحث عنه. نعم، وقع هذا العنوان في معقد إجماعهم على أنّ المثلي يضمن بالمثل وغيره بالقيمة، ومن المعلوم أنّه لا يجوز الاتݧّكال في تعيين معقد الإجماع على قول بعض المجمعين مع مخالفة الباقين(2).


(1) راجع کتاب المكاسب، ج3، ص209 _ 221 و240 _ 272.

(2) المصدر السابق، ص209 _ 214.

103

أقول: إنّ الإجماعات المنقولة في المقام لو كانت لها قيمة في حدّ ذاتها فقد أسقطها عن القيمة الخلاف المرير في تفسير المثلي والقيمي سقوطاً ذريعاً.

وعلى أيّة حال فلتمشية البحث نفترض تبنّي تفسير واحد للمثلي والقيمي ممّا ذكر في المقام، وهو: أنّ كلّ نوع من أنواع الجنس الواحد بل كلّ صنف من أصناف نوع واحد لو تماثلت في أفرادها فهو مثلي وإلّا فهو قيمي(1)، أو تبنّي التفسير الذي اختاره السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح وهو أنّ ما تساوت أفراده من حيث القيمة باعتبار عدم اختلاف الصفات المؤثّرة في القيمة الشائعة في الأفراد فهو مثلي وغيره قيمي، ومن المثليّات جميع ما يخرج من المكائن من الأواني والأقمشة وغيرهما، وما قيل من أنّ الثوب من القيميّات إنّما عني به الثوب المخيط المنسوج باليد لا الأقمشة الجديدة غير المخيطة(2).

وهذان التفسيران متقاربان، بل لعلّ المقصود بهما واحد.

الکلام في الوجوه الدالّة علی ضمان المثلي بالمثل

وبهذا نبدأ بذكر بعض وجوه ضمان المثلي بالمثل، فنقول وبالله التوفيق:

1_ رواية «على اليد»(3).

وأورد عليه السيّد الخوئي رحمه الله بسقوط الرواية سنداً، وعدم الانجبار بعمل الأصحاب. وبعدم تمامية الدلالة؛ فإنّها إنّما دلّت على أصل الضمان، وأمّا أنّ الضمان بالمثل فلا(4).

إلّا أن يقال بأنّ المفهوم عقلائيّاً من الضمان ذلك، وهو رجوع إلى وجه يصلح دليلاً مستقلّاً على الأمر. وهو الوجه الأخير الذي سيأتي إن شاء الله.


(1) راجع المصدر السابق، ص210 _ 211.

(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص263.

(3) مستدرك الوسائل، ج17، ص88، الباب الأوّل من أبواب كتاب الغصب، ح4.

(4) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص261.

104

2_ «حرمة ماله كحرمة دمه»(1).

وهذا إمّا يدلّ على مجرّد الحرمة التكليفية أو على أصل الضمان أيضاً دون الضمان بالمثل.

إلّا أن يقال: إنّ المفهوم عقلائيّاً من الضمان هو الضمان بالمثل، وعليه يأتي التعليق الذي أشرنا إليه في آخر حديثنا عن الوجه الأوّل.

3_ القاعدة المتصيّدة من الروايات، وهي قاعدة: من أتلف مال الغير فهو له ضامن(2).

وهذا إنّما يدلّ على أصل الضمان دون الضمان بالمثل إلّا بدعوى انصراف الضمان إلى ضمان المثل للقاعدة العقلائية، فيأتي فيه التعليق الذي أشرنا إليه في الوجهين الأوّل والثاني.

4_ قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوْا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ...﴾(3).

وأورد السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما في التنقيح _ على هذا الاستدلال بأنّه لو خصّصنا الآية بمسألة قتال المشركين في الأشهر الحرم فهي أجنبية عن المقام، ولو فهمنا منها الإطلاق فهو ليس بأكثر من مثل أنّه لو ضربه أو شتمه شخص فهو يعتدي بمثله، ولا علاقة لها بضمان المثلي بالمثل إطلاقاً(4).

5_ ما جعله السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما في التنقيح _ عمدة الدليل على ضمان المثلي بالمثل، وهو قيام السيرة العقلائية على أنّ من أتلف شيئاً من أموال الغير يلزمه


(1) وسائل الشيعة، ج12، ص297، الباب158 من أبواب أحکام العشرة في السفر والحضر، ح3.

(2) مضى شرح ذلك في بحث ضمان المنافع المستوفاة.

(3) البقرة: 194.

(4) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص262.

105

أداء مثله، ولعلّه لم يتعرّض في النصوص لضمان المثل إيكالاً إلى الارتكاز العقلائي، وأنّ هذا ممّا يفهمه كلّ أحد، فلو تلف المبيع بالعقد الفاسد وكان مثليّاً لزم أداء مثله(1).

أقول: إنّ هذا الكلام في الجملة صحيح، لكنّه لا يمكن الالتزام به على إطلاقه؛ فإنّ الارتكاز العقلائي كما يحكم بضمان خصوصيّات المثل كذلك يحكم بضمان المالية، فلا يمكن أن يقول الغاصب للثلج في حرّ الصيف وأراد إرجاع مثله في قلب الشتاء حينما لم تبق أيّة قيمة للثّلج: إنّني أخرج من الضمان بدفع المثل.

وهو رحمه الله التفت إلى ذلك واعترف بأنّ في فرض سقوط المثل عن القيمة نهائيّاً _ كما في الثلج المغصوب في الصيف إذا سقط عن القيمة نهائيّاً في الشتاء _ لا يمكن الخروج عن الضمان بأداء ما سقط عن القيمة بشكل كامل، موضَّحاً ذلك _ بحسب ما ورد في التنقيح _ بأنّ سقوط المثل عن القيمة يجعله ملحقاً بما إذا تعذّر المثل؛ لأنّ المفهوم من دليل الضمان من السيرة وغيرها هو وجوب ردّ المال، فلابدّ أن تكون للمضمون مالية، والمفروض في المقام عدم بقاء مالية للمثل(2).

ولكن الخطأ العظيم الذي وقع رحمه الله فيه أنّه التزم بكفاية دفع أدنى القيم من حين بدء المثل بالسقوط إلى ما قبل لحظة السقوط الكامل، ففي مثال الثلج يكفي هذا الغاصب أن يدفع أقلّ قيمة وصل الثلج إليه قبل أن يبرد الجوّ إلى حدّ يسقط نهائياً عن القيمة؛ لأنّ العين تثبت في الذمّة إلى يوم الدفع، فلو طالبه في يوم السقوط بالقيمة وجب دفع قيمة ذاك اليوم لا قيمة يوم التلف ولا أعلى القيم ولا غيرهما من الوجوه المذكورة في المسألة(3).

أقول: إنّ نفس الارتكاز العقلائي الذي يحكم بضمان المثل يحكم أيضاً _ في حين


(1) المصدر السابق.

(2) راجع المصدر السابق، ص266 و270.

(3) راجع المصدر السابق، ص270.

106

نزول القيمة الاستعمالية للمال المغصوب أو نحوه _ بضمان القيمة الاستعمالية، فلا يكتفي في الثلج الذي نزلت قيمته ببرودة الجوّ _ من دون السقوط الكامل _ بقيمته في دور النزول.

وأيضاً قال رحمه الله _ على ما ورد في التنقيح _ : لو نزلت قيمة التالف المثلي يوم الردّ فالظاهر أنّه يجب ردّ المثل دون القيمة؛ لأنّ حاله حال العين إذا كانت باقية وتنزّلت قيمتها السوقية فلا إشكال في أنّ ردّ الزائد عن المثل غير واجب على الضامن؛ لأنݧّه ضامن للمثل، ولا ربط لنقصان القيمة في السوق به.

ويؤيّده ما عن محمد بن الحسن الصفّار عن محمد بن عيسى عن يونس قال: «كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه كان لي على رجل دراهم وأنّ السلطان أسقط تلك الدراهم وجاءت دراهم أعلى(1) من الدراهم الأُولى ولها اليوم وضيعة، فأيّ شيء لي عليه؛ الأُولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب(عليه السلام): لك الدراهم الأُولى»(2)، فإنّ الإمام عليه السلام حكم بأنّ له الدراهم الأُولى مع فرض تنزّل قيمتها وأنّ لها وضيعة.

ولا يتوهّم دلالتها على اشتغال الذمّة بالمثل حتّى مع فرض سقوطه عن المالية بالمرّة؛ لأنّ الدراهم المتعارفة في تلك الأعصار كانت من الفضّة، فكانت لموادّها مالية، فإسقاط السلطان كان موجباً لنقص ماليّتها لا زوال ماليّتها رأساً(3).

أقول: أمّا استشهاده رحمه الله بصحيحة يونس بن عبدالرحمن بحسب نقل الشيخ(4)


(1) وفي نسخة: الأغلی.

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص206، الباب20 من أبواب الصرف، ح2. وفي هامش المخطوط من الوسائل ذكر الشيخ الحرّ: «في الفقيه زيادة: عشرة».

(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص265 _ 266.

(4) الاستبصار، ج3، ص99، الباب2 من أبواب الصرف، ح1.

107

والصدوق(1) التي ورد فيها قوله: «لك الدراهم الأُولى» فيرد عليها أنّها معارضة بنسخة الكافي: «كتبت إلى أبي الحسن الرضا(عليه السلام): أنّ لي على رجل ثلاثة آلاف درهم وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيّام وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ قال: فكتب إليّ: لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس»(2).

والرواية الأُولى بحسب نقل الصدوق عبّر بتعبير: «كان لي على رجل عشرة دراهم»، فهذا شاهد على تعدّد الرواية؛ لأنّ نقل الكافي ورد فيه «ثلاثة آلاف درهم».

ولكن على نقل الطوسي عبّرت بتعبير: «كان لي على رجل دراهم»، وهذا يناسب وحدة الروايتين كما تؤيّد الوحدة وحدة الإمام ووحدة السند من محمد بن عيسى إلى الإمام، وعلى تقدير وحدة الرواية تدخل في عنوان الرواية مضطربة المتن، وإن كانت تؤيّد نسخة: «لك الدراهم الأُولى» ما ورد في مضمرة صفوان: «لصاحب الدراهم الدراهم الأُولى»(3).

وعلى أيّ حال فالجمع المنقول بين الروايتين عن الطوسي أو الصدوق جمع تبرّعي لا قيمة له، وجمع الصدوق ما يلي: قال: «والحديثان متّفقان غير مختلفين، فمتى كان للرجل على الرجل دراهم بنقد معروف فليس له إلّا ذلك النقد، ومتى كان له على الرجل دراهم بوزن معلوم بغير نقد معروف فإنّما له الدراهم التي تجوز بين الناس»(4).

وجمع الشيخ في الاستبصار ما يلي: «قال: فأمّا ما رواه محمد بن أحمد بن يحيى


(1) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص191، باب الدین والقرض من کتاب المعيشة، ح3716.

(2) الکافي، ج5، ص252، باب آخر من کتاب المعيشة، ح1.

(3) وسائل الشيعة، ج18، ص307، الباب2 من أبواب الصرف، والسند ساقط بمحمد بن عبدالجبّار الذي لا دليل على وثاقته عدا وروده في تفسير القمي والعبّاس بن صفوان الذي هو مجهول.

(4) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص191، باب الدین والقرض من کتاب المعيشة، ذيل الحديث3716.

108

عن سهل بن زياد عن محمد بن عيسى... لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس»(1) فلا ينافي الخبرين الأوّلين؛ لأنّه إنّما قال: لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس يعني بقيمة الدراهم الأُولى ما ينفق بين الناس؛ لأنّه يجوز أن تسقط الدراهم الأُولى حتّى لا يكاد تؤخذ أصلاً فلا يلزمه أخذها وهو لا ينتفع بها، وإنّما له قيمة دراهمه الأوّلة وليس له المطالبة بالدراهم التي تكون في الحال»(2).

وعلى كلّ تقدير فتأييد السيّد الخوئي رحمه الله ما اختاره برواية مبتلاة بالمعارض أو باضطراب المتن ليس في محلّه.

وأمّا قوله رحمه الله: «لا إشكال في أنّ ردّ الزائد عن المثل غير واجب على الضامن؛ لأنّه ضامن للمثل، ولا ربط لنقصان القيمة في السوق به»(3) فيرد عليه: أنّ نقصان القيمة السوقية إن كان بمثل انتشار السلعة في السوق فصحيح أنّ ذلك في باب القرض لا يوجب الضمان وفق القاعدة مادام تأخير أداء القرض كان جائزاً ولم يكن بحكم الغصب؛ لأنّ الارتكاز العقلائي لا يقضي بضمان الخسارة التجارية، وإلّا لكان استيراد التاجر للمتاع الموجب لخسارة التاجر السابق تجاريّاً موجباً لضمان التاجر الثاني للتاجر الأوّل، وهذا ما لا يقبله الارتكاز. ولكن حينما يكون بنقص القيمة الاستهلاكية كما في مثال الثلج بعد برد الجوّ أو مثال الدرهم بعد تبديل السلطان إيݧّاه فنفس الارتكاز العقلائي يقضي بالضمان، فسوق القسمين من النقص السوقي مساقاً واحداً ليس في محلّه.

ثم إنّ أصل الدليل الذي اختاره السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح من السيرة العقلائية أو الارتكاز العقلائي الحاكم بأنّ من أتلف شيئاً من أموال غيره لزمه أداء المثل يجري في القيميّات أيضاً، وقد اعترف هو بذلك في التنقيح فيما إذا كان مثل التالف في


(1) الاستبصار، ج3، ص100، الباب2 من أبواب الصرف، ح3.

(2) المصدر السابق، ذیل الحدیث3.

(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص265.

109

القيمي موجوداً صدفة أو كان في ذمّة المالك مثله للضامن، فقال رحمه الله: «لا ريب في أنّ القيمي إذا تلف وكان مثله موجوداً لزم أداء المثل دون القيمة، وأمّا ما ورد من أداء القيمة في بعض النصوص فهو محمول على صورة تعذر المثل... وأمّا الإجماع المدّعی في المقام على ضمان القيمي بالقيمة لا إطلاق له يشمل صورة تيسّر المثل، وكذا لو كان التالف في يد المشتري هو القيمي وكان في ذمّة المالك أيضاً مثله للضامن فلا تصل النوبة إلى القيمة أيضاً، بل لابدّ من التهاتر القهري كما لو كان لكلّ منهما على ذمّة الآخر ذراع من الكرباس»(1).

أقول: وحيث إنّ السيّد الخوئي رحمه الله لا يؤمن بالإجماعات المنقولة وبالأخصّ المحتملة المدركية فالمفروض أن يكون الدليل على قيمية القيميّات:

إمّا دعوى التفكيك بينها وبين المثليّات بالارتكاز العقلائي، وعهدته على مدّعيه، ونحن ندّعي في مقابل تلك الدعوى أنّ المورد الذي يرى فيه الارتكاز ضمان المثل في المثليّات يری ذلك أيضاً في القيميّات، فتكون القيمة عبارة عن قيمة يوم الدفع.

وإمّا دعوى أنّ الروايات الخاصّة واردة في القيميّات.

الکلام في الروايات التي يدّعی دلالتها علی ضمان القيمة في القيميّات

ومن هنا ننتقل إلى بحث الروايات التي قد يدّعى دلالتها على ضمان القيمة فيما قد يسمّى بالقيميّات، وننقل منها ما يلي بحول الله وقوّته:

الأُولى: روايات عتق أحد الشركاء نصيبه من العبد الدالّة على ضمان المعتق قيمة حصص الباقين.

وأكثر تلك الروايات ليس فيها تصريح بغير قيمة يوم الأداء فيحتمل فيها إرادة قيمة يوم الدفع(2).


(1) المصدر السابق، ص272.

(2) من قبيل: ح 1 و5 و7 و9 و11 و12 من الباب18 من کتاب العتق من الوسائل، ج23، ص36 _ 40.

110

وقد مضى أنّ هذا ينسجم مع كون المضمون هو المثل، فلنقتصر في ذكر هذه الروايات على روايات قيمة يوم العتق حتّى يمكن أن يقال: لو كان المضمون هو المثل لكان المترقّب أن تكون عليه قيمة يوم الأداء، لا قيمة يوم الإتلاف، وهو يوم العتق. وتلك الروايات ما يلي:

1_ ما عن محمد بن قيس بسند تامّ عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من كان شريكاً في عبد أو أمة قليل أو كثير فأعتق حصّته وله سعة فليشتره من صاحبه فيعتقه كلّه، وإن لم يكن له سعة من مال نظر قيمته يوم أُعتق ثم يسعى العبد في حساب ما بقي حتّى يعتق»(1).

إلّا أنّ هذا الحديث وإن ذكر قيمة يوم العتق، لكنّه لم يجعلها على عاتق المُتلف أو من هو بمنزلة المتلف وهو الذي أعتق حصّته، وإنّما حكم على المعتق بشراء باقي الحصص، وطبيعي أنّه يشتريها بقيمة يوم الشراء أو بأيّ قيمة يتراضی عليها مع شريكه، لا بقيمة يوم العتق. أمّا العبد الذي يستسعى فليس ضامناً أصلاً، فالرواية أجنبية عمّا نحن فيه.

2_ ما عن محمد بن قيس بسند تامّ عن أبي جعفر(عليه السلام): «قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في عبد كان بين رجلين، فحرّر أحدهما نصفه وهو صغير، وأمسك الآخر نصفه حتّى كبر الذي حرّر نصفه. قال: يقوّم قيمة يوم حرّر الأوّل وأُمر المحرَّر(2) أن يسعى في نصفه الذي لم يحرّر حتّى يقضيه»(3).


(1) وسائل الشيعة، ج23، ص37، الباب 18 من کتاب العتق، ح3.

(2) الوارد في الوسائل في طبعة الربّاني وطبعة مؤسّسة آل البيت «وأُمر الأوّل» ولم أُراجع الطبعة الحجرية القديمة، وهذا غلط، فإنّ الذي يستسعى هو المحرَّر بالفتح وليس المحرّر بالكسر، فالصحيح هو ما في نسخة الأصل وهو الكافي وهو «المحرَّر» بالفتح. الکافي، ج6، ص183، باب المملوك بین شرکاء يعتق أحدهم نصيبه أو يبيع، ح4.

(3) وسائل الشيعة، ج23، ص37، الباب 18 من کتاب العتق، ح4.

111

وهذا أيضاً يأتي فيه نفس النقاش الذي ذكرناه في الحديث الأوّل.

3_ ما عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قوم ورثوا عبداً جميعاً، فأعتق بعضهم نصيبه منه، كيف يصنع بالذي أعتق نصيبه منه؟ هل يؤخذ بما بقي؟ فقال: نعم، يؤخذ بما بقي منه بقيمته يوم أُعتق»(1).

وهذا فرقه عن الحديثين السابقين أنّه جعل قيمة يوم العتق على من هو بمنزلة المُتلف، وهو المعتق.

إلّا أنّ جملة «منه بقيمة يوم أُعتق» إنّما وردت في نسخة الكافي(2)، وسندالكافي ضعيف بمعلّى بن محمد ولم ترد في نسخة التهذيب(3) الذي يكون سنده تامّاً.

على أنّ نصّ الكافي أيضاً يبدو وجود الخلاف بين نسخه، فإنّ صاحب الوسائل الذي نقل النصّ عن الكافي اقتصر على «نعم، يؤخذ بما بقي منه». ثم قال في هامش المخطوط: في نسخة زيادة: «بقيمته يوم أُعتق».

الثانية: ما عن السكوني بسند فيه النوفليّ عن أبي عبدالله(عليه السلام): «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين. فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): يقوّم ما فيها ثم يؤكل؛ لأنّه يفسد وليس له بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن. فقيل: يا أمير المؤمنين عليه السلام لا يدری سفرة مسلم أو سفرة مجوسي. فقال: هم في سعة حتّى يعلموا»(4).

إلّا أنّ الظاهر أجنبية الحديث عمّا نحن فيه؛ لأنّ الذي يبدو لنا أنّ المقصود بالتقويم ثم الأكل أنّهم يتملّكون الطعام بقيمته ثم يأكلون، لا أنّهم يأكلون مال الناس فيضمنون فتكون عليهم قيمة يوم الإتلاف.


(1) المصدر السابق، ص38، ح6.

(2) الکافي، ج6، ص183، باب المملوك بین شرکاء يعتق أحدهم نصيبه أو يبيع، ح6.

(3) تهذيب الأحکام، ج8، ص219، الباب الأوّل من کتاب العتق والتدبير والمکاتبة، ح17.

(4) وسائل الشيعة، ج17، ص468، الباب23 من کتاب اللقطة، ح1.

112

وتطرّق احتمال ما ذكرناه إلى حدّ الإجمال يكفي في عدم إمكان التمسّك بهذا الحديث على المقصود.

الثالثة: روايات نكاح الأمة المسروقة الواردة في الوسائل(1) الدالّة على أداء قيمة الولد.

ولكن يمكن تطبيقها على يوم الأداء إن لم نقل بانصرافها إلى ذلك، کما لا يتصوّر عادة إمكانية أداء المثل، فمن الطبيعي الانتقال إلى أداء قيمة يوم الأداء. فهذه الروايات أجنبية عن المقام.

الرابعة: روايات وقوع التهاتر بين الدين والرهن التالف عن تقصير(2). فلولا كون الرهن قيميّاً لكان المترقّب عدم التهاتر واسترجاع الدين وإرجاع مثل العين المرهونة.

وبطلان الاستدلال بهذه الروايات في غاية الوضوح؛ لأنّ العين المرهونة غير مشخّصة في هذه الروايات، فقد تكون ممّا يكثر مثلها، كما قد تكون ممّا لا مثل لها، فلو فرضت دلالة هذه الروايات علی القيمية لدلّت على قيمية كلّ شيء.

والواقع أنّ مفاد هذه الروايات هو أنّه كما كانت العين المرهونة رهناً في مقابل الدين، أي أنّه إذا لم يؤدّ الدين اقتصّ من العين المرهونة، كذلك الدين رهن في مقابل العين المرهونة، أي أنّها لو تلفت بتقصير اقتصّ من الدين، فالتهاتر في المقام يكون على أساس التراهن المفروض شرعاً بينهما، لا على أساس قيمية العين المرهونة.

وقد أفاد السيّد الإمام رضوان الله عليه: أنّ مقتضى روايات التهاتر في باب الرهن في مقابل الدين هو القول بالضمان بالقيمة في جميع الأُمور حتّى فيما يكثر مثله(3).

إلّا أنّه رحمه الله لم يفت بذلك، وأفتى في المثلي الذي يوجد مثله _ لا المتعذّر ولا نادر الوجود _ بضمان المثل مستشهداً بأنّ ذلك من قطعيات الفقه. وهذا نصّ كلامه رحمه الله:


(1) وسائل الشيعة، ج21، ص203، الباب88 من أبواب نکاح العبيد والإماء.

(2) راجع المصدر السابق، ج18، ص385 و390، الباب5 و7 من کتاب الرهن.

(3) راجع كتاب البيع (للإمام الخميني(رحمه الله))، ج1، ص583 فصاعداً.

113

«والظاهر أنّ المثلي الذي وجد مثله خارج عنها، ويكون ضمانه بالمثل كما ادّعي الإجماع عليه. وقال صاحب الجواهر: إنّه من قطعيّات الفقه. وعن غاية المراد: أطبق الأصحاب على ضمان المثلي بالمثل إلّا ما يظهر من ابن الجنيد وقد أُوّل كلامه أيضاً، وكيف كان فلا دليل على خروج مطلق المثلي، بل الخارج ما هو موجود مثله، لا المتعذّر ولا نادر الوجود»(1).

أقول: اتّضح ما في هذا الكلام ممّا ذكرناه من أنّ التهاتر بين الرهن والدين أمر طبيعي للتقابل الموجود بينهما، والمفروض من قبل الطرفين، والممضى في فقه الشريعة، ولا علاقة لذلك بمسألة المثلية والقيمية.

الخامسة: روايتا البُختي المغتلم:

ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سئل عن بُختي(2) اغتلم(3) فخرج من الدار فقتل رجلاً، فجاء أخو الرجل فضرب الفحل بالسيف. فقال(عليه السلام): صاحب البُختي ضامن للدية، ويقتصّ ثمن بُختيّه»(4).

وفي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن بختي مغتلم قتل رجلاً فقام أخو المقتول فعقر البختي وقتله ما حاله؟ قال(عليه السلام): على صاحب البختي دية المقتول، ولصاحب البختي ثمنه على الذي عقر بختيّه»(5).

وقد اتّضح جوابهما من جوابنا على بعض الروايات السابقة، وهو أنّ هذا الحكم ينسجم أن يطبّق على قيمة يوم الأداء والتي تنسجم مع فرض الضمان بالمثل.


(1) المصدر السابق، ص592.

(2) الإبل الخراساني.

(3) نقل عن قاموس المحيط أنّ الاغتلام هيجان البعير عند الشهوة الجنسية.

(4) وسائل الشيعة، ج29، ص250، الباب14 من أبواب موجبات الضمان، ح1.

(5) المصدر السابق، ص251، ح4

114

السادسة: صحيحة أبي ولّاد(1) حيث جاء فيها: «...فقلت له: أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني؟ قال(عليه السلام): نعم، قيمة بغل يوم خالفته»، وکذلك قوله(عليه السلام): «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اکتری کذا وکذا فيلزمك»، فيقال: إنّ هذا يعني وجوب أداء قيمة يوم الغصب، وهذا يدلّ على كون البغل قيميّاً؛ إذ لو كان مثليّاً لكان المترقّب أن تكون عليه قيمة يوم الأداء، لا قيمة يوم الغصب.

إلّا أنّ هناك نكتتين تثيران الانتباه في هذه الرواية:

الأُولى: أنّ المترقّب على تقدير قيمية البغل أن تكون العبرة بقيمة يوم التلف؛ لأنّه يوم الانتقال إلى القيمة، فيا تُرى لماذا فرض في الحديث أنّ العبرة بقيمة يوم الغصب؟!

والثانية: لماذا جعلت العبرة في الحديث في قيمة التالف بقيمة يوم الغصب، وفي الأرش بقيمة يوم الأداء حيث قال(عليه السلام): «عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه»، فأيّ فرق بين فرض التلف وفرض العيب؟ وجعل يوم الردّ قيداً لخصوص العيب لا لقيمة العيب، مع فرض كون العبرة بقيمة يوم الغصب _ أي قيمة العيب الثابت في يوم الردّ بلحاظ سوق يوم الغصب _ بعيد؟

وبالإمكان أن يقال: إنّ اختلاف قيمة البغل خلال خمسة عشر يوماً _ وهي المدّة المفروضة في الحديث حيث قال: «وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوماً» _ على أساس التضخّم أو على أساس قوانين العرض والطلب بعيد:

أمّا التضخّم فلأنّه بحسب الوضع الاقتصادي المبسّط وقتئذٍ لا يحتمل التضخّم عادةً في هذا الوقت القصير.

وأمّا اختلاف العرض والطلب في هذه المدّة القصيرة فأيضاً بعيد؛ لأنّ البغل ليس كالفاكهة مثلاً فيفترض أنّه بعد خمسة عشر يوماً ازدادت على الأشجار فكثر استيرادها في الأسواق أو انتهى وقتها فقلّ وجودها فيها.


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص120، الباب17 من کتاب الإجارة، ح1.

115

وإنّما الشيء المترقّب هو اختلاف قيمة البغل باختلاف أوصافه سمناً وهزالاً وصحّةً وسقماً وكسلاً ونشاطاً، فالمقصود بقيمة البغل يوم المخالفة قيمة البغل في أوصافه التي ثبتت في يوم المخالفة.

وإذا فسّرت الرواية بهذا التفسير كان الفرق العقلائي بين فرض التلف ومسألة الأرش واضحاً، فقد جعلت العبرة في ضمان التالف بلحاظ حالات البغل سمناً وهزالاً وصحّةً ومرضاً بيوم المخالفة باعتباره يوم الغصب، وجعلت العبرة في الأرش بمدى سعة وضيق الجرح أو الكسر يوم الردّ؛ لأنّه لو توسّع الجرح أو الكسر يوم الردّ كان مضموناً، ولو تضيّق فقد خرج من ضمان ذاك المقدار من الصحّة بالتسليم.

وكذلك أصبحت النكتة العقلائية لجعل الضمان مرتبطاً بما في يوم المخالفة دون يوم التلف واضحة؛ لأنّه إن تدهور وضع الحيوان من بعد يوم المخالفة كان التدهور مضموناً على الغاصب، وإن تحسّن وضعه ثم تراجع مرّة أُخرى فهذا التحسّن كان تحت رعايته فمن المعقول أن لا يكون مضموناً عليه.

وهنا تقريب آخر لإبطال دلالة هذه الرواية على المقصود، وهو أنّ من المحتمل صحّة النسخة التي لم يدخل فيها اللام على البغل ولعلّها هي النسخة المشهورة، فيكون النص هكذا: «نعم، قيمة بغل يوم خالفته»(1) لا: «قيمة البغل يوم خالفته»(2) وعلى هذا التقدير من المحتمل كون كلمة «البغل» غير منوّنة بأن تكون القيمة مضافة إلى بغل يوم المخالفة لا مضافة إلى البغل مع كون مجموع المضاف والمضاف إليه مضافاً إلى يوم المخالفة، والفرق بينهما واضح، فإذا افترضنا أنّ قيمة البغل مضافة إلى يوم المخالفة فقد يقال: إنّ هذا يشمل بالإطلاق فرض اختلاف القيمة على أساس التضخّم أو على أساس قانون العرض والطلب. أمّا إذا افترضنا


(2) وسائل الشيعة، ج19، ص120، الباب17 من کتاب الإجارة، ح1.

(1) الوافي، ج18، ص933، الباب17 من کتاب الإجارة، ح18614 .

116

أنّ القيمة مضافة إلى بغل يوم المخالفة فالاختلاف ابتداءً بين يوم المخالفة ويوم آخر إنّما هو في البغل واختلاف القيمة يكون بتبع اختلاف البغل، فلا إطلاق له لفرض اختلاف القيمة على أساس التضخّم أو قانون العرض والطلب، وإنّما النظر يكون إلى اختلاف القيمة بلحاظ اختلاف أوصاف نفس البغل، ومع وجود هذا الاحتمال لا يتمّ الإطلاق.

ولنا تقريب ثالث لإبطال دلالة الحديث على قيمية القيميّات، وهو: أنّ إطلاق الحديث لفرض اختلاف القيمة السوقية باعتبار التضخّم أو تبدّل وضع العرض والطلب غير ثابت، لا لمجرّد كون هذا فرضاً نادراً حتّى يقال: إنّ الندرة لا توجب الانصراف إلّا الانصراف البدوي، بل لما مضى منّا من دعوى ارتكازية ضمان المثل مطلقاً ونستفيد من الندرة مساعدتها على سهولة الانصراف، أي: أنّ هذا الارتکاز إن صعب فرضه موجباً للانصراف عن حالة شائعة فلا صعوبة في فرضه موجباً للانصراف عن حالة نادرة.

والسابعة: رواية أبي الورد قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل قتل عبداً خطأً قال(عليه السلام): عليه قيمته ولا يجاوز بقيمته عشرة آلاف درهم. قلت: ومن يقوّمه وهو ميّت؟ قال(عليه السلام): إن كان لمولاه شهود أنّ قيمته كانت يوم قتل كذا وكذا أُخذ بها قاتله، وإن لم يكن له شهود على ذلك كانت القيمة على من قتله مع يمينه يشهد بالله ما له قيمة أكثر ممّا قوّمته، فإن أبى أن يحلف وردّ اليمين على المولى فإن حلف المولى أُعطي ما حلف عليه ولا يجاوز بقيمته عشرة آلاف...»(1).

وسند الحديث ضعيف بأبي الورد.

وأمّا من حيث الدلالة فاحتمال الخصوصية في العبد وارد، فإنّ المبلغ الذي يعطيه ليس من باب ضمان التالف بحتاً حتّى تحمل عليه موارد الضمان التالف المشابهة،


(1) وسائل الشيعة، ج29، ص208، الباب7 من أبواب ديات النفس، ح7.

117

بل هو مطعّم بعنوان الدية؛ ولذا قال: «ولا يجاوز بقيمته عشرة آلاف»، أي: لا يجاوز دية الحرّ، كما ورد هذا المضمون في بعض روايات أُخرى(1)، بل ورد في بعضها تسمية قيمة العبد التي تعطى لدى قتله بالدية(2)، والدية تثبت في الذمّة بمجرّد القتل، ودية العبد عبارة من قيمته، فإن کانت القيمة التي تأتي في الذمّة ابتداءً في دية العبد عبارة عن ثمنه يوم قتله لم يدلّ ذلك على أنّ ضمان التالف القيمي يكون على العموم بالقيمة في الذمّة يوم التلف لا المثل.

هذا تمام الكلام في أصل المثلية والقيمية.

وقد اتّضح أنّ المختار دائماً هو ضمان المثل، أو قل: إنّ المختار هو ضمان المثل لدى وجوده، وقيمة يوم الأداء لدى عدم وجود المثل.

نعم، قد يتّفق ضمان أمر أكثر من المثل أو قيمة يوم الأداء، كما في انكسار القيمة الاستهلاكية للثّلج ببرودة الجوّ، فإنّ الارتكاز العقلائي يقتضي ضمان هذا الانكسار.

وأخيراً أقول: إنّه وردت في انكسار القيمة الشرائية للنقد روايتان متعارضتان تامّتان سنداً:

إحداهما: عن يونس قال: «كتبت إلى الرضا(عليه السلام): أنّ لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيّام وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ قال: فكتب إليّ: لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس»(3).

والثانية: عن يونس قال: «كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه كان لي على رجل


(1) راجع المصدر السابق، ص207، الباب6 من أبواب ديات النفس.

(2) راجع المصدر السابق.

(3) المصدر السابق، ج18، ص206، الباب20 من أبواب الصرف، ح1. ورواها الشيخ أيضاً إلّا أنّ في سندها سهل بن زياد(الاستبصار، ‌ج3، ص100، الباب65 من کتاب البيوع، ح3).