الدائن لكونه منكراً، وهذا مطلب آخر لا علاقة له بالمقام.
ومنها: أنّنا لو أخذنا بمفاد رواية عبدالرحمان _ الدالّة على أنّ اليمين يمين استظهار حذراً من أن يكون الميّت قد وفّى الدين، أو أنّ الدائن قد أبرأه والدائن يُخفي ذلك _ صحّ قيام الشاهد الواحد مع يمين المدّعي مقام البيّنة هنا كما هو ثابت في غير المقام، فبالشاهد الواحد مع يمين المدّعي يثبت حدوث الدين، وبيمين الاستظهار يثبت بقاؤه. أمّا لو أخذنا بمفاد رواية الصفّار فاليمين حلف على نفس مفاد البيّنة، وعند ذلك يدور الأمر فيما لو لم يكن أكثر من شاهد واحد بين فروض ثلاثة:
الأول: أن يقال: إنّ الشاهد الواحد مع اليمين قام مقام البيّنة، ولابدّ من تكرار اليمين كي تكون اليمين الثانية هي التي أمرت بها رواية الصفّار.
الثاني: أن يقال: إنّ الشاهد الواحد مع اليمين قام مقام البيّنة مع اليمين التي أمرت بها رواية الصفّار، فإنّ رواية الصفّار أمرت بطبيعي اليمين وهو صادق على الفرد الأول من اليمين، ودليل قيام الشاهد الواحد مع اليمين أيضاً ينظر إلى طبيعي اليمين وهو صادق على الفرد الأول من اليمين؛ إذاً فلا تبقى حاجة إلى يمين ثانية؛ لأنّ اليمين الأُولى أصبحت مصداقاً لكلا الأمرين.
الثالث: وهو المختار أن يقال: إنّ الشاهد الواحد مع اليمين لا يقوم هنا مقام البيّنة، وهذا تخصيص لقاعدة قيام الشاهد الواحد مع اليمين مقام البيّنة، فعلى هذا ليس بإمكان الدائن أن يثبت مدّعاه في المقام ما دام لا يمتلك عدا شاهداً واحداً. والوجه في ذلك: أنّ إثبات الدائن لمدّعاه لا يكون هنا إلا بأحد فرضين، وهما الفرضان الأوّلان اللذان ذكرناهما، بينما نحن نرى أنّ كلا الفرضين خلاف ظاهر رواية الصفّار: أمّا الفرض الأول _ وهو إثبات مدّعاه عن طريق شاهد واحد ويمينين _ فهو باطل؛ لأنّ ظاهر رواية الصفّار كون المأمور به طبيعي اليمين، وقد حصل بالفرد الأول،
فلا معنى لتكرار اليمين، وأمّا الفرض الثاني _ وهو إثبات مدّعاه بشاهد واحد ويمين _ فهذا يعني أنّ الشاهد الثاني دائماً يكون لغواً في المقام، فالشاهد الثاني في دعوى الدين على الحي فائدته الاستغناء عن اليمين، أمّا في المقام فاليمين لابدّ منه حسب ما يفهم من رواية الصفّار، فإذا فرضنا كفاية شاهد واحد مع اليمين فهذا يعني لغوية الشاهد الثاني نهائياً، وهذا خلاف ظاهر رواية الصفّار؛ لأنّ السؤال كان عن نفوذ شهادة الشاهدين _ الوصي مع شخص آخر _ وكان الجواب: «نعم من بعد يمين»، وهذا يعني أنّ ثبوت الحقّ كان لمجموع الشاهدين مع اليمين، بينما لو كفى شاهد واحد مع اليمين فهذا يعني أنّ ثبوت الحقّ مستند إلى أحد الشاهدين مع اليمين.
إذاً فرواية الصفّار _ بعد استظهار هذين المطلبين منها: وهما عدم الحاجة إلى أكثر من يمين واحدة، والحاجة إلى شاهدين مع تلك اليمين _ تكون مقيّدةً لأدلّة قيام شاهد واحد مع اليمين مقام البيّنة.
وبما ذكرناه ظهر الفرق بين شاهد واحد ويمين وبين شهادة رجل وامرأتين، فشهادة رجل وامرأتين يمكن أن يضمّ في المقام إلى يمين المدّعي، ويثبت بذلك الدين على الميّت؛ لعدم المحذور الذي شرحناه، ولكن شهادة رجل واحد ويمين المدّعي لا تضع شيئاً في المقام.
هذا والسيد الخوئي في مباني التكملة(1) وإن انتهى إلى نفس النتيجة التي انتهينا إليها ولكن كلامه لا يخلو عن تشويش أو ضعف، فهو وإن برهن على عدم كفاية شاهد واحد ويمين في المقام بما ذكرناه من لزوم لغويّة الشاهد الثاني، ولكن لم يتّضح من كلامه أنّه لماذا لا يُكتفى بشاهد واحد مع تكرار اليمين كي يكون الفرد الأول
(1) ج1، ص21.
مكمِّلاً للشهادة والفرد الثاني؛ عملاً برواية الصفّار؟! عدا أنّه ذكر: أنّ اليمين تنزّل في لسان دليل كفاية الشاهد الواحد مع اليمين منزلة الشاهد الثاني، بينما نزّلت شهادة امرأتين منزلة شهادة رجل واحد، ولا أعرف ماذا يقصد بهذا الفرق، ففي كلا البابين قد ورد ما يدل على كفاية اليمين أو شهادة امرأتين عن شهادة الرجل الثاني، وماذا تؤثّر تسمية ذلك في الثاني بالتنزيل وعدم تسميته في الأول بذلك؟!
وختاماً ينبغي أن نشير إلى أنّ ما ذكرناه من أنّ مدّعي الدين على الميّت لا يمكنه أن يثبت مدّعاه إن لم يكن يمتلك عدا شاهداً واحداً إنما كنّا نقصد بذلك الإثبات في المرحلة الأُولى من القضاء؛ أعني قبل عرض اليمين على المنكرين وهم الورثه. أمّا بعد أن عجز عن الإثبات بالبيّنة، ووصلت النوبة إلى يمين الورثة، ثم لم يحلفوا ولو لجهلهم بواقع الحال، فإمّا أن يتمّ النكول ونقول بأنّ النكول يُثبِت أنّ الحقّ مع المدّعي، أو يتمّ الردّ أو النكول مع القول بردّ الحاكم اليمينَ على المدّعي لدى نكول المنكر كما اخترناه فيما سبق، فالمدّعي عندئذٍ يحلف ويأخذ حقّه إن لم يكن الميّت مستحقّاً للثلث لعدم الوصيّة، وإلا فيأخذ حقّه بمقدار ما يتعلّق بالورثة الناكلين أو الرادّين للقسم، أمّا المقدار الراجع إلى الميّت من الثلث فلا سبيل لإثباته؛ لأنّ ظاهر الروايتين كون الإثبات متوقّفاً على البيّنة واليمين، ولا توجد بالنسبة للميّت مرحلة ثانية وهي مرحلة ردّ اليمين إليه حتى يتمّ النكول أو الردّ، اللّهم إلا إذا كان الوصي غير الشاهد، وكان وصيّاً عن الميّت حتى في الدفاع عنه في مثل المقام، فَرَدَّ اليمين أو نكل.
ومنها: أنّ الحاجة إلى اليمين مضافاً إلى البيّنة هل تختصّ بالدعوى على الميّت، أو تشمل غيره أيضاً ممّن لا يمكنه الدفاع عن نفسه كالغائب أو الصبي أو المجنون؟ فقد يفرّق في ذلك بين مفاد الروايتين، فلو أخذنا برواية الصفّار فحسب فالحكم خاصّ بدعوى الميّت؛ لأنّه حكم على خلاف القاعدة نقتصر فيه على مورد النصّ،
وإن تمسّكنا برواية عبدالرحمان فقد يُتعدّى عن الميّت إلى غيره بواسطة التعليل بقوله (عليه السلام): «لأنّا لا ندري لعله قد أوفاه ببيّنة...» فقد يقال: إنّ هذه العلّة ثابتة في الغائب أيضاً والصبي والمجنون.
وأجاب السيد الخوئي عن ذلك بأنّ طرف المخاصمة في الصبي والمجنون إنّما هو وليّهما، وأمّا الغائب فهو على حجّته ويمكنه أن يدافع عن نفسه بعد حضوره(1).
أقول: إنّ طرف المخاصمة في الميّت أيضاً إنّما هو الوارث أو الوصي، فليس الفرق _ الذي فرّق به بين الميّت من ناحية والصغير والمجنون من ناحية أُخرى _ فارقاً. وعلى أيّ حال فالخطب سهل بضعف سند رواية عبدالرحمان.
اليمين في الفقه الوضعي
وفي ختام البحث عن اليمين لا بأس بإعطاء لمحة مختصرة عن رأي الفقه الوضعي في المقام:
فنقول: قد قسّموا اليمين إلى قسمين:
القسم الأول: اليمين الحاسمة، وهي التي يُحسم النزاع بالحلف بها أو بالنكول عنها، وهي توجّه من قبل المدّعي إلى المنكر بإشراف القاضي، فلو حلف انحسم النزاع لصالح المنكر. ولو نكل انحسم النزاع لصالح المدّعي. وهذا في الحقيقة تحكيم لضمير المنكر من قبل المدّعي، فحلفه يكون بمعنى أنّ ضميره حكم لصالح المنكر، ونكوله بمنزلة الإقرار للمدّعي، أمّا لو ردّ المنكر اليمين على المدّعي فهذا يعني أنّ ضميره لم يستعدّ للحكم، فحكّم المنكر هذه المرّة ضمير المدّعي في النزاع، والمدّعي ليس له
(1) مباني تكملة المنهاج، ج1، ص22.
ردّ اليمين مرّة أُخرى إلى المنكر، بل يدور أمره بين الحلف والنكول، فلو حلف انحسم النزاع لصالحه، ولو نكل انحسم النزاع لصالح المنكر.
القسم الثاني: اليمين المتمّمة، وهي اليمين التي ليست حاسمة للنزاع بشكل مطلق، وليست توجّه من قبل المدّعي إلى المنكر، بل يترك أمر تقدير الموقف في اليمين المتمّمة إلى القاضي: فأوّلاً: القاضي هنا هو الذي يحلّف وليس المدّعي؛ وثانياً: القاضي بإمكانه تحليف المدّعي، كما أنّ بإمكانه تحليف المنكر أو تحليفهما، وهو إنّما يحلِّف _ لو قدَّر ذلك _ من يرى أنّه قدّم دليلاً ناقصاً على مدّعاه، سواء كان مدّعياً أو منكراً، فيحلّفه كي يكون حلفه تكميلاً للدليل، ولا يحلّف من لا دليل له، كما لا يحلّف من قَدَّرَ القاضي أنّ دليله تام لإثبات المدّعى؛ وثالثاً: ليس القاضي ملزماً بعد الحلف بالحكم لصالح الحالف، ولا بعد النكول بالحكم لصالح الطرف الآخر، كما ليس ملزماً بأصل التحليف، بل القاضي يقدّر الحال بعد الحلف أو النكول أنّه هل أصبح دليل الخصم أو صاحبه كاملاً بهذا الحلف أو النكول فيحكم على طبق ذلك، أو لا؟ ورابعاً: لا يحقّ لمن يوجّه إليه القاضي اليمين المتمّمة أن يردّ اليمين على صاحبه.
وسُمّيت هذه اليمين بالمتمّمة لأنّ النتيجة المتوخّاة منها تتميم الدليل، كما سُمّيت اليمين الأُولى بالحاسمة لأنّ نتيجتها حسم النزاع.
وإلى جانب اليمين المتمّمة الأصليّة التي ذكرناها توجد لديهم أقسام أُخرى لليمين المتمّمة وهي: يمين الاستيثاق، ويمين الاستظهار، ويمين التقويم:
أمّا يمين الاستيثاق فتوجّه _ في القانون المصري _ في أحوال ثلاثة:
1_ نصّت الفقرة الثانية من المادّة (378) من التقنين المدني على أنّه «يجب على من يتمسّك بأنّ الحقّ قد تقادم بسنة أن يحلف اليمين على أنّه أدّى الدين فعلاً، وهذه اليمين يوجّهها القاضي من تلقاء نفسه، وتوجّه إلى ورثة المدين أو أوصيائهم
إن كانوا قُصَّراً بأنّهم لا يعلمون بوجود الدين أو يعلمون بحصول الوفاء».
ويمين الاستيثاق هذه يمين إجباريّة؛ أي: إنّ القاضي مجبور على توجيهها إلى المدين أو الورثة، بينما اليمين المتمّمة الأصليّة لم تكن كذلك، وتوجّه إلى هؤلاء لا إلى الدائن بخلاف المتمّمة الأصليّة أيضاً، وإذا حلفها من وجّهت إليه كسب الدعوى حتماً بخلاف الأصليّة أيضاً، لكنّها تبقى بعد كلّ ذلك _ كما يقوله عبد الرزّاق السنهوري _ يميناً متمّمة لا حاسمة؛ لأنّها تختلف اختلافاً جوهريّاً عن الحاسمة في أنّها ليست هي الدليل الوحيد في الدعوى، بل هي دليل تكميلي يعزّز الدليل الأصلي، وهو قرينة الوفاء المستخلصة من انقضاء سنة على وجود الدَين، وهناك من يراها يميناً حاسمة.
2_ نصّت المادّة (194/201) من التقنين التجاري على «أنّ الأوراق المحرّرة لأعمال تجاريّة يسقط الحقّ في إقامة الدعوى بها بمضي خمس سنوات، وإنّما على المدّعى عليهم تأييد براءة ذمّتهم بحلف اليمين على أنّه لم يكن في ذمّتهم شيء من الدين إذا دعوا للحلف، وعلى من يقوم مقامهم أو ورثتهم أن يحلفوا يميناً على أنّهم معتقدون حقيقةً أنّه لم يبق شيء مستحقّ من الدين».
ويمين الاستيثاق هذه ليست بإجباريّة، ولكن طلبها موكول إلى الدائن لا إلى القاضي، وتوجّه إلى المدين أو ورثته لا إلى الدائن، وإذا حلفها من وُجّهت إليه كسب الدعوى حتماً، ولكنّها مع ذلك يمين متمّمة؛ لأنّها دليل تكميلي يعزّز دليلاً أصليّاً في الدعوى هو قرينة الوفاء المستخلصة من انقضاء خمس سنوات على وجود الدين.
3_ نصّت المادّة (394) من التقنين المدني على أن تعتبر الورقة العرفيّة صادرة ممّن وقّعها ما لم ينكر صراحة ما هو منسوب إليه من خطّ، أو إمضاء، أو ختم، أو بصمة. أمّا الوارث أو الخلف فلا يطلب منه الإنكار، ويكفي أن يحلف يميناً بأنّه لا يعلم أنّ الخطّ، أو الإمضاء، أو الختم، أو البصمة هي لمن تلقّى عنه الحقّ.
قال السنهوري: «وهذا النص يختلف عن سابقيه، فهو يتكلّم عن يمين تتمحّض في أنّها يمين على عدم العلم، ثم أنّها لا تعزّز دليلاً أصليّاً في الإثبات، بل هي تساعد الورثة على اتّخاذ موقف المنكر للورقة العرفيّة، فهي لا تثبت شيئاً، ولكنّها تُنشئ موقفاً، بَيْدَ أنّها على كلّ حال يمين متمّمة من نوع خاصّ؛ إذ يستكمل بها من حَلَفها الشروطَ القانونيّة اللازمة لدفع حجّية الورقة العرفيّة في الإثبات، ومن هذه الناحية وحدها يمكن اعتبارها في كثير من التجوّز يمين استيثاق».
وأمّا يمين الاستظهار فهذه اليمين لا وجود لها في التقنين المدني المصري، بخلاف التقنين المدني العراقي، ويقول السنهوري: «إنّ التقنين المدني العراقي أخذها عن الفقه الإسلامي».
وقد نصّت المادّة (484) من هذا التقنين على ما يأتي: «تحلّف المحكمة من تلقاء نفسها في الأحوال الآتية: أ _ إذا ادّعى أحد في التركة حقّاً وأثبته فتحلّفه المحكمة يمين الاستظهار على أنّه لم يستوفِ هذا الحقّ بنفسه ولا بغيره من الميّت بوجه، ولا أبرأه، ولا أحاله على غيره، ولا استوفى دينه من الغير، وليس للميّت في مقابلة هذا الحقّ رهن. ب _ إذا استحقّ أحد المال وأثبت دعواه حلّفته المحكمة على أنّه لم يبع هذا المال، ولم يهبه لأحد، ولم يخرجه من ملكه بوجه من الوجوه. ج_ إذا أراد المشتري ردّ المبيع لعيب حلّفته المحكمة على أنّه لم يرض بالعيب صراحةً أو دلالةً».
ثم نقل قانون البيّنات السوري مادّة (123) هذا النص وأضاف إليه حالةً رابعةً، هي: «إذا طالب الشفيع بشفعة حلّفته المحكمة بأنّه لم يسقط حقّ شفعته بوجه من الوجوه».
قال السنهوري ما ملخّصه: وهذه الحقوق المذكورة في النص تجتمع في أنّها تنطوي على شيء من الخفاء، فيتمّم الدليل بيمين استظهار، وهي يمين متمّمة لها خصائص
يمين الاستيثاق، فهي يمين إجباريّة يوجّهها القاضي إلى الخصم بالذات يعيّنه القانون، وإذا حلف الخصم كسب حتماً دعواه.
وأمّا يمين التقويم فتنصّ المادّة (417) من التقنين المدني المصري:
«1_ لا يجوز للقاضي أن يوجّه إلى المدّعي اليمين المتمّمة لتحديد قيمة المدّعى به إلا إذا استحال تحديد هذه القيمة بطريقة أُخرى.
2_ ويحدّد القاضي حتى في هذه الحالة حدّاً أقصى للقيمة التي يصدّق فيه المدّعي بيمينه».
وقال السنهوري في شرح النصّ:
«وموضوع يمين التقويم هو _ كما نرى من النص _ تقدير قيمة شيء واجب الردّ وتعذّر ردّه فيقضى بقيمته، مثل ذلك وديعة أو عارية هلكت بتعدٍّ فيقضى بقيمته للمودّع أو المعير، ومثل ذلك أيضاً بيع أو إيجار فسخ وتعذّر ردّ المبيع، أو العين الموجرة بتقصير من المشتري أو الموجر فيقضی بالقيمة للبايع أو الموجر، ولكن هذه القيمة استحال تقديرها بأيّ طريق ولو بطريق الخبراء على أساس تعيينها بالوصف، فلم يعُدْ مناص من الرجوع في قيمتها إلى المدّعي، فيوجّه إليه القاضي يمين التقويم. ومن هنا نرى أنّ الخصم الذي توجّه إليه هذه اليمين المتمّمة هو دائماً المدّعي الذي يطالب باسترداد الشيء دون المدّعى عليه المطلوب منه الردّ.
ثم إنّ موضوع اليمين هو دائماً المبلغ الذي يقدّر به المدّعي قيمة الشيء المطلوب ردّه على أن لا يجاوز هذا المبلغ حدّاً أقصى يعيّنه القاضي بحسب تقديره وفقاً لما يستخلصه من ظروف الدعوى، وفي هاتين الخصيصتين تختلف أحكام يمين التقويم عن أحكام اليمين المتمّمة الأصليّة. ولكن أحكام هذه اليمين تتّفق مع أحكام اليمين المتمّمة الأصليّة في أنّها لا يجوز ردّها على الخصم الآخر، وفي أنّ القاضي لا يتقيّد
بموجبها، فللقاضي أن يحكم بأقلّ من المبلغ الذي حلف عليه الخصم، أو بأكثر لاسيّما إذا قدّم أحد الخصمين بعد الحلف عناصر جديدة يستطيع القاضي أن يستهدي بها في تقدير قيمة الشيء، كذلك للمحكمة الاستئنافيّة أن تنقص أو تزيد في المبلغ الذي قضت به المحكمة الابتدائيّة»(1).
أقول: أمّا اليمين الحاسمة فقد بحثنا رأي الإسلام في ذلك بتفصيل، وأمّا اليمين المتمّمة الأصليّة فهي فرع وجود قرائن ناقصة عندهم بحاجة إلى تكميل باليمين، أمّا الإسلام فالقرائن لديه إمّا هي تامّة كالبيّنة في محلّها والإقرار وحكم القاضي في مورد نفوذه، أو لا اعتبار بها نهائيّاً، ولا تكمّل باليمين.
وأمّا يمين الاستيثاق في موارد تقادم الحقّ فالإسلام غير معترف بقوانين تقادم الحقّ أصلاً، فلا يبقى موضوع لهذه اليمين، وأمّا في موارد الورقة العرفيّة فالإسلام لا يعترف بالورقة إلا في مورد تفيد العلم في الحدود التي نقول بحجّية علم القاضي فيها، ويمين الوارث على عدم العلم بالدين أو بصحّة الخطّ أو الإمضاء لا موضوع له أيضاً إلا إذا وقع النزاع على علمه بذلك، وعندئذٍ تكون اليمين حاسمة.
وأمّا يمين الاستظهار فقد رأينا نموذجاً لها في الإسلام في دعوى الدين على الميّت، أمّا الموارد التي ذكروها فلا.
وأمّا يمين التقويم فأيضاً لا أساس لها في الإسلام. نعم من يدّعي زيادة القيمة وتردّ عليه اليمين من قبل المنكر أو القاضي يحلف، ولكن هذه يمين حاسمة لا علاقة لها باليمين المتمّمة.
(1) راجع بصدد بحث اليمين من زاوية الفقه الوضعي الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزّاق السنهوري، ج2، ص514 - 596.
طرق الإثبات في الفقه الإسلامي
4
الطريق الرابع _ الإقرار.
لا إشكال في أنّ الإقرار من أي واحد من الطرفين يُنهي النزاع تكويناً، إنّما الكلام في حجّيته ونفوذه وذلك على مستويين:
المستوى الأول _ نفوذه ما دام مُقِرّاً؛ أي: إنّه لو أراد أن يعمل رغم إقراره على خلاف ما هو مقرٌّ به يُرغم من قبل الحاكم على العمل بالإقرار.
والمستوى الثاني _ نفوذه حتى بعد الإنكار؛ أي أنّ القاضي يقضي وفق إقراره وينهي النزاع، فلا يتجدّد نزاع آخر لو أنكر بعد حكم القاضي، وكذلك لا يؤثّر إنكاره لو أنكر قبل حكم القاضي، فعلى كلّ تقدير يكون إقراره السابق نافذ المفعول.
والصحيح الذي لا إشكال فيه فقهياً هو نفوذ الإقرار في باب القضاء ليس على المستوى الأول فحسب، بل على المستوى الثاني.
وقبل أن نبحث الدليل على ذلك نشير إلى أنّه لو تمّ دليل على ذلك فهذا الدليل لا يعارض إطلاق حديث «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(1) لا بالأخصيّة ولا بالعموم من وجه: أمّا لو كان نفوذ الإقرار بالمستوى الأول فحسب فواضح؛ إذ لا يوجد فيه قضاء ولا نزاع، فلا موضوع لمسألة حصر القضاء بين المتنازعين
(1) وسائل الشيعة، ج18، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح1.
بالبيّنات والأيمان، وأمّا نفوذه على المستوى الثاني فقد يفترض تنافيه مع اطلاق حصر القضاء بالبيّنة واليمين.
ولكن الظاهر أنّ هذا الإطلاق منصرف عن كونه في مقابل الإقرار؛ لأنّ ارتكاز نفوذ الإقرار عقلائياً يمنع عن تكوّن إطلاق من هذا القبيل، ولا أُريد الآن أن ادّعي حجّية هذا الارتكاز لإثبات نفوذ الإقرار، وإنّما أقول: إنّ هذا الارتكاز حتى لو لم يكن حجّةً يمنع عن تكوّن الإطلاق، فإنّ المداليل اللّفظية اللّغوية للكلمات ليست هي المقياس الوحيد في اقتناص الظهور والإطلاق، بل للمناسبات والارتكازات أثر ملحوظ في ذلك.
دليل نفوذ الإقرار
أمّا الدليل على نفوذ الإقرار فقد يستدلّ على ذلك بالكتاب، وأُخرى بالسنّة، وثالثةً بالإجماع، ورابعةً بالارتكاز:
أمّا الكتاب، فبآيات من قبيل قوله تعالى:
﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّٰهُ مِيثٰاقَ النَّبِيِّينَ لَمٰا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتٰابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قٰالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي قٰالُوا أَقْرَرْنٰا قٰالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّٰاهِدِينَ﴾(1) ومن الواضح أنّ الإقرار هنا بمعنى التعهّد وإعطاء الميثاق، لا بالمعنى المقصود في المقام، ولا علاقة لمورد الآية بما نحن فيه أبداً، كما أنّ المقصود بالشهادة في ذيل الآية _ على ما يبدو _ هي الشهادة عن الأُمّة التي كان النبي (صلى الله عليه و آله) _ في إعطائه للميثاق _ ممثلاً لها لا الشهادة على أنفسهم، ولو كان المقصود هي الشهادة على أنفسهم قلنا: لم تجعل هذه الشهادة موضوعاً للحكم الشرعي بالنفوذ.
(1) آل عمران: 81.
وقوله تعالى:﴿وَآخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صٰالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَـى اللّٰهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(1).
وهذه الآية أيضاً _ كما ترى _ أجنبيّة عن المقام، وإنّما هي بصدد بيان أنّ الاعتراف بالذنب يوجب التخفيف.
وقوله تعالى:﴿وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِـي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قٰالُوا بَلىٰ شَهِدْنٰا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيٰامَةِ إِنّٰا كُنّٰا عَنْ هٰذٰا غٰافِلِينَ﴾(2). وهذه أيضاً أجنبيّة عن المقام، فصدرها ينظر إلى التعهُّد والميثاق لا الاعتراف، وذيلها ينظر إلى أنّ الاعتذار بالغفلة باطل؛ لأنّ الغفلة انتفت بأخذ الميثاق بمعنى جعل فكرة التوحيد أمراً معجوناً بالفطرة والطينة مثلاً، ولا علاقة لذلك بنفوذ الإقرار.
وقوله تعالى:﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰـهِ وَلَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾(3).
وهذه الآية أقرب الآيات إلى المقصود، ولكنّها أيضاً أجنبيّة عنه، فإنّها لا تدل على أكثر من تحبيذ الإقرار بالحقّ والالتزام به المؤثّر في رفع النزاع تكويناً، ولا علاقة له بنفوذ الإقرار على شيء من المستوَيَيْن.
وأمّا السنّة، فهناك عدّة روايات يمكن أنّ يستفاد منها نفوذ الإقرار من قبيل:
1_ ما جاء في البحار نقلاً عن كنز الكراجكي من النبوي المرسل عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله):
(1) التوبة: 102.
(2) الأعراف: 172.
(3) النساء: 135.
«قل الحقّ ولو على نفسك»(1).
وهذا _ كما ترى _ بغضّ النظر عن إرساله يلائم فرض النظر إلى وجوب الصدق والالتزام بالحقّ ولو على نفسه، ورفع النزاع تكويناً من دون نظر إلى الحجّية الشرعية.
2_ ما عن جراح المدائني عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنّه قال: «لا أقبل شهادة الفاسق إلا على نفسه»(2)، والقبول يعني الحجّية، وبقرينة ارتكاز حجّية الإقرار بكلا المستويين السابقين نفهم منه الحجّية حتى بالمستوى الثاني؛ بحيث لو لم نقل بحجّية الارتكاز ببركة دلالة عدم الردع على الإمضاء _ مثلاً _ فهذا الحديث يدل على المستوى الثاني من الحجّية بالإطلاق الذي إن لم يتمّ بمقدّمات الحكمة فإنّه يتمّ ببركة الارتكاز، إلا أنّ سند الحديث غير تام.
3_ مرسلة محمد بن الحسن العطّار عن بعض أصحابه عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمناً عليه»(3).
وهذا الحديث إضافةً إلى سقوطة سنداً غير تام دلالةً، ولا يبعد أن يكون مفاده أنّ المؤمن لو اتّهمه سبعون مؤمناً بشيء وأنكر كان مقتضى حمله على الصحّة قبول إنكاره، وهي قضيّة أخلاقيّة لا علاقة لها بباب القضاء.
4 و5_ المرسلتان المرويتان عن عوالي اللآلي عن مجموعة أبي العباس بن فهد في الأخبار عن النبي (صلى الله عليه و آله) أنّه قال: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»، وقال: «لا إنكار بعد إقرار»(4) ودلالة المرسلة الثانية على المستوى الثاني من الحجّية في غاية الوضوح، أمّا
(1) بحار الأنوار، ج77، ص171، وهو الروضة من البحار باب ما جمع من مفردات كلمات الرسول (صلى الله عليه و آله).
(2) وسائل الشيعة، ج16، ص112، الباب 6 من الإقرار، الحديث الوحيد في الباب.
(3) نفس المصدر، ص111، الباب 3 من الإقرار، ح1.
(4) مستدرك الوسائل، ج3، ص48، الباب 2 من الإقرار، ح1 و2.
المرسلة الأُولى فتكمّل دلالتها عليه إمّا بإطلاقها بمقدّمات الحكمة لفرض تعقيب الإقرار بالإنكار، أو بضمّ الارتكاز المكمّل للإطلاق. وعلى أيّ حال فهما ساقطتان سنداً.
6_ روايات نفوذ شهادة بعض الورثة في مال المورّث عليه بقدر حصّته(1). وفيها ما هو تام سنداً، وتتمّ دلالتها على المستوى الثاني من حجّية الإقرار _ وهو حجّيته حتى بعد الإنكار _ ولو بمعونة الارتكاز.
7_ ما عن منصور بن حازم _ بسند تام _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن رجل أوصى لبعض ورثته: أنّ له عليه ديناً؟ فقال: إن كان الميّت مرضيّاً فأعطه الذي أوصى له»(2).
وقد يحتمل كون الحديث ناظراً إلى حجّية خبر الواحد في الموضوعات لا إلى حجّية الإقرار، وذلك لتقييد نفوذ إقراره بكونه مرضيّاً، فكأنّ إقراره لولا كونه مرضيّاً لا ينفذ ولو بنكتة فرضه في مرض الموت، أو بنكتة أنّه لم ينفّذ هو ما أقرّ به إلى أن مات فأصبح بعد الموت إقراره على باقي الورثة، ولكن ينفذ إقراره إذا كان مرضيّاً من باب حجّية خبر الثقة.
ويحتمل أيضاً ألّا يكون نفوذ شهادته من باب حجّية خبر الثقة محضاً بأن يكون خبر الثقة حجّةً في كلّ الموضوعات، بل يكون نفوذ شهادته من باب كونها إقراراً على نفسه، فليس إقراره هو النافذ مطلقاً؛ لأنّه في مرض الموت، أو لأنّه إقرار على الورثة، وليس خبر الثقة هو النافذ مطلقاً لأنّه في الموضوعات، ولكن باجتماع الوثاقة مع كون شهادته إقراراً على نفسه صارت الشهادة نافذةً، وبناءً على هذا الاحتمال
(1) وسائل الشيعة، ج13، ص401، الباب 26 من كتاب الوصايا.
(2) نفس المصدر، ج16، ص110، الباب الأول من الإقرار، الحديث الوحيد في الباب، وج13، ص376، الباب 16 من الوصايا، ح1.
الثاني تكون الرواية دالّةً على حجّية الإقرار؛ لأنّ شرط كون الميّت مرضيّاً _ بعد فرض عدم حجّية خبر المرضي في مطلق الموضوعات _ انصرف بالارتكاز إلى كونه بنكتة كون الشهادة في مرض الموت، أو إقراراً على الورثة.
فإذا استبعدنا الاحتمال الأول وهو حجّية خبر الثقة في الموضوعات بقرينة الروايات الواردة في الموارد المتفرقة التي ينتزع منها عدم حجّية خبر الثقة في الموضوعات تعيّن الأمر في هذا الحديث في الاحتمال الثاني، وبهذا تتمّ دلالته على حجّية الإقرار، إلا أنّه لا يمكن هنا تتميم إطلاقه للمستوى الثاني من حجّية الإقرار؛ أي نفوذه بعد الإنكار ولو بمعونة الارتكاز؛ إذ من الواضح من فرض الرواية أنّه مات بلا إنكار.
8_ ما عن عبداللّه بن المغيرة عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبداللّه (عليه السلام): في رجلين كان معهما درهمان، فقال أحدهما: الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك، فقال: «أمّا الذي قال هما بيني بينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له وأنه لصاحبه، ويقسّم الآخر بينهما»(1)، وقد مضى الكلام في سند هذا الحديث ضمن بحثنا عن قاعدة العدل والإنصاف. أمّا دلالته فالظاهر أنّها غير تامّة؛ لأنّها تنسجم مع افتراض قصر نظره إلى مجرّد أنّ الإقرار يعني عدم النزاع، فالنزاع إنّما هو على درهم واحد. فالذي يقسَّم بينهما إنّما هو أحد الدرهمين، وهذه النتيجة _ كما ترى _ ليست بحاجة إلى افتراض الحجّية الشرعيّة للإقرار.
9_ ما عن السكوني _ بسند ضعيف بالنوفلي _ عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليه السلام) في رجل أقرّ عند موته لفلان وفلان: لأحدهما عندي ألف درهم، ثم مات على تلك
(1) وسائل الشيعة، ج13، ص169، الباب 9 من الصلح، الحديث الوحيد في الباب.
الحال فقال علي (عليه السلام): «أيُّهما أقام البيّنة فله المال، وإن لم يقم واحد منهما البيّنة فالمال بينهما نصفان»(1)؛ بناءً على التعدّي إلى باب المرافعة، ولكنّه لا يثبت نفوذ الإقرار بعد تعقيبه بالإنكار.
10_ روايات حجّية الإقرار الواردة في باب الحدود بناءً على التعدّي العرفي منها إلى باب القضاء في الموارد التي ليست بأشدّ من تلك الحدود. وفي هذه الروايات ما لا يدل على أكثر من المستوى الأول للحجّية، أي: حجّية الإقرار قبل الإنكار، من قبيل ما عن محمد بن قيس _ بسند تام _ عن أبي جعفر (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل أقرّ على نفسه بحدّ ولم يسمِّ أيَّ حدّ هو، قال: «أمر أن يُجلد حتى يكون هو الذي ينهى عن نفسه في الحدّ»(2)، ولكن فيها عدّة روايات ممّا يدل على المستوى الثاني من الحجّية؛ أعني حجّيته حتى بعد الإنكار، من قبيل ما عن الحلبي _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رجل أقرّ على نفسه بحدّ، ثم جحد بعد، قال: «إذا أقرّ على نفسه عند الإمام أنّه سرق، ثم جحد قطعت يده وإن رغم أنفه، وإن أقرّ على نفسه أنّه شرب خمراً أو بفرية فاجلدوه ثمانين جلدةً. قلت: فإن أقرّ على نفسه بحدّ يجب فيه الرجم أكنت راجمه؟ قال: لا، ولكن كنت ضاربه الحدّ»(3) وعنه _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا أقرّ الرجل على نفسه بحدّ أو فرية ثم جَحَد جُلِد. قلت: أرأيت إن أقرّ على نفسه بحدّ يبلغ فيه الرجم أكنت ترجمه؟ قال: لا، ولكن كنت ضاربه»(4)، وعن محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام)
(1) نفس المصدر، ج13، ص400، الباب 25 من الوصايا، الحديث الوحيد في الباب.
(2) نفس المصدر، ج18، ص318، الباب 11 من مقدّمات الحدود، الحديث الوحيد في الباب.
(3) نفس المصدر، ص319، الباب 12 من مقدّمات الحدود، ح1.
(4) نفس المصدر، ص319، ح2.
قال: «من أقرّ على نفسه بحدّ أقمته عليه إلا الرجم، فإنّه إذا أقرّ على نفسه ثم جحد لم يرجم»(1).
والاستدلال على نفوذ الإقرار في باب القضاء بروايات نفوذه في باب الحدود بدعوى التعدّي العرفي، فيه بعض الثغرات:
فأوّلاً: أنّ الحدّ إذا وصل إلى مستوى الرجم يسقط بالإنكار بعد الإقرار، فدليلنا على نفوذ الإقرار في القضاء لو كان هو التعدّي من باب الحدود لم يثبت بذلك جواز القتل بالقِصاص في باب المرافعة عندما يعقب إقراره بالإنكار.
نعم، لا يصلح هذا مقيِّداً لإطلاقات نفوذ الإقرار في باب القضاء لو تمّت في نفسها؛ أي: إنّه مع فرض تماميّة الإطلاق في بعض الأدلّة الماضية لنفوذ الإقرار في باب القضاء حتى بعد الإنكار _ ولو في القتل _ يكفينا ذلك في الإفتاء بنفوذ الإقرار بالقتل ولو أنكر بعد ذلك، وليس دليل سقوط الرجم بالإنكار مقيِّداً لهذا الإطلاق؛ لأنّ احتمال الفرق بين الرجم في باب الحدود والقصاص في باب القضاء وارد.
وأمّا ما ورد عن جميل بن درّاج عن بعض أصحابه عن أحدهما (عليهماالسلام) أنّه قال: «إذا أقرّ الرجل على نفسه بالقتل قتل إذا لم يكن عليه شهود، فإن رجع وقال: لم أفعل، ترك ولم يقتل»(2)، فهو ساقط بالإرسال.
وثانياً: أنّ الحدّ في بعض الموارد لا يثبت بالإقرار مرّةً واحدةً كما في الزنا؛ حيث يشترط فيه الإقرار أربع مرّات، وكما في اللواط؛ حيث يشترط فيه الإقرار أربع مرّات مطلقاً أو لدى كون حدّه هو القتل، وكما في السرقة على رأي المشهور من اشتراط
(1) وسائل الشيعة، ج18، ص 319، الباب 12 من مقدّمات الحدود، ح3.
(2) نفس المصدر، ص320، ح4.
الإقرار مرّتين، فماذا نقول في باب القضاء؟
هل نقول بكفاية الإقرار مرّةً واحدةً، أو باشتراط التعدّد مرّتين، أو أربع مرّات، أو نقول: إنّ التعدّي إلى باب القضاء بالحكم بكفاية إقرار واحد إنّما يختصّ بما يكون أخفّ من الجلد في الزنا مثلاً، فالقصاص بالضرب بقدر حدّ الزنا أو بقطع عضو مّا _ مثلاً _ لا يثبت بالإقرار بسبب التعدّي من أدلّة الإقرار في الحدود، بل لو قلنا بعدم كفاية الإقرار الواحد في السرقة فرواياته(1) تشمل مورد الموافقة، فلو تمّ إطلاق في باب القضاء يدل على كفاية إقرار واحد، قيّد في باب السرقة بتلك الروايات؟
وقد يقال في مقام علاج الثغرة الثانية في الجملة: إنّ روايات(2) عدم كفاية الإقرار الواحد في السرقة بعضها ضعيف سنداً، وبعضها ضعيف دلالةً، ونرجع إلى ما دلّ على كفاية الإقرار الواحد في السرقة(3)، ونتعدّى منه إلى باب القضاء حتى في ما يبلغ في الشدّة إلى مستوى القطع.
نعم، هذا لا يعالج ما يبلغ مستوى القتل مثلاً.
وقد يقال في مقام علاج الثغرة الأُولى: إنّنا إذا أثبتنا نفوذ الإقرار قبل الإنكار ولم يتمّ الإطلاق لما بعد الإنكار أمكننا أن نتمسّك بعد الإنكار باستصحاب نفوذ الإقرار على كلام في بعض الموارد يأتي إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا الإجماع فلا إشكال إجمالاً في الإجماع على نفوذ الإقرار في باب القضاء، إلا أنّه قد يقال: إنّ هذا الإجماع لا عبرة به بعد وجود مدارك عديدة للقول بنفوذ الإقرار، فتكون العبرة بتلك المدارك صحّةً وسقماً، لا بالإجماع.
(1) راجع نفس المصدر، ج18، الباب 3 من حدّ السرقة.
(2) نفس المصدر.
(3) نفس المصدر.
إلا أنّه _ بناءً على ما هو الصحيح من كون حجّية الإجماع على أساس الحدس وحساب الاحتمالات _ قد يقال حينما يكون الإجماع في غاية الوضوح والسعة والانتشار في جميع الطبقات من العلماء في طول التاريخ: إنّنا نستبعد خطأهم جميعاً رغم فرض استنادهم إلى المدارك، فإمّا أنّ إجماعهم نشأ من أخذ الحكم يداً عن يد من زمن المعصوم (عليه السلام)، أو أنّهم اعتمدوا على بعض هذه المدارك ممّا يدل بنفسه على صحّة ذاك المدرك، وأنّ الإشكال الموجود لدينا فيه سنداً أو دلالةً كان من الواضح قديماً خلافها. هذا إذا لم نكتشف استمرار الإجماع إلى زمن أصحاب الأئمّة (عليهم السلام)، وإلا فقد ثبت ما هو أقوى من الإجماع، وهو ارتكاز المتشرّعة.
وأمّا الارتكاز _ فيمكن أن يطبّق هنا على الارتكاز العقلائي، ولا شكّ أنّ المرتكز عقلائيّاً هو نفوذ الإقرار، ولا يبعد الجزم بكون ذلك ناشئاً من طبع عقلائي قائم على أساس قوّة كشف الإقرار نوعاً من ناحية، وتطابق درجة الاهتمام بالحفاظ على الأغراض والحقوق العقلائيّة لفرض الاعتماد على هذا الكشف من ناحية أُخرى ممّا يثبت أنّ هذا الارتكاز ليس قائماً على أساس نكتة حديثة، بل النكتة في ذلك عميقة بعمق التاريخ، وبهذا يثبت رسوخ الارتكاز في زمن المعصومين (عليهم السلام)، فعدم الردع من قبلهم بشكل واضح يصلنا دليل على الإمضاء.
كما يمكن أن يقال: إنّه لو لم نجزم بكون مفاد هذا الارتكاز العقلائي واضحاً لدى العقلاء في ذاك الزمان فلا أقلّ من الجزم إمّا بأنّه كان واضحاً، أو كان مقبولاً، أو محتملاً، فعلى أيّ تقدير لا نحتمل مخالفة ذلك من قبل المتشرِّعين من دون سؤال عن المعصوم وحصول الجواب منه بنفي نفوذ الإقرار، ولو كان شيء من هذا القبيل لكان يصلنا حتماً، فنحن نثبت بهذا البيان أنّ عمل المتشرّعة وارتكازهم كان وفق نفوذ الإقرار آخذين ذلك من العقلاء مع سكوت الشارع، أو من الشريعة.
هذه هي الأدلّة التي يمكن الاستدلال بها على حجّية الإقرار في باب القضاء.
دائرة نفوذ الإقرار
وبعد ذلك يجب أن نرى أنّ المستنتج من مجموع هذه الأدلّة أو الصحيح منها هل هو نفوذ الإقرار في القضاء على الإطلاق؟ أو هناك بعض موارد باقية تحت الشكّ في النفوذ؟
فنقول: قد ظهر من مجموع ما مضى أنّ حديثاً مشتملاً على الإطلاق الواضح سنخَ «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» غير ثابت سنداً، وإنّما هناك بعض الروايات الواردة في موارد خاصّة دالّة على نفوذ الإقرار، من قبيل ما دلّ على نفوذ إقرار بعض الورثة في حصّته حينما يشهد بدين في مال المورِّث، ويتعدّى منه إلى سائر الموارد: إمّا باليقين بعدم الفرق، أو بانعقاد دلالة لفظيّة ببركة ارتكاز عدم الفرق، ومن هنا قد يحصل التشكيك في بعض الموارد بدعوى احتمال الفرق، وذلك كما في الموارد التي ينتهي نفوذ الإقرار فيها إلى القتل، أو قطع العضو، أو نحو ذلك ممّا قد يحتمل الفرق بينه وبين مثل قضية مالية بحتة واردة في روايات إقرار الوارث مثلاً، وأمّا الإجماع والارتكاز فهما دليلان لُبّيّان، فقد يُشكَّك في شمولهما لمورد مّا، خاصّةً مع ورود ما دلّ على عدم نفوذ الإقرار مرّةً واحدةً في السرقة ولو لم يتمّ سنداً.
والواقع أنّه لا ينبغي الإشكال في استقرار الارتكاز العقلائي على نفوذ الإقرار مطلقاً، وكذلك ارتكاز المتشرّعة في زمان المعصوم الذي هو مستند إمّا إلى الارتكاز العقلائي، أو إلى نفس الشريعة، ولا محلّ للتشكيك في ذلك إلا بقدر ما ورد في بعض الروايات من الردع عن ذلك، ولم يرد ردع عن نفوذ الإقرار إلا في موارد معدودة:
المورد الأول: بعض الحدود التي لا يكفي فيها الإقرار إلا أربع مرّات، فهذا ردع عن
نفوذ الإقرار فيما كان أقلّ من أربع مرّات، وهذا الردع نأخذ به بلا إشكال، وقد أخذ به الأصحاب والفقهاء _ رضوان الله عليهم _ ولا يضرّ ذلك بما هو المتبنّى عادةً من نفوذ الإقرار في باب القضاء، فإنّ هذا خارج أصلاً عن باب القضاء، واحتمال الفرق بين تلك الحدود وبين ثبوت القتل في باب النزاع وارد.
المورد الثاني: سقوط حكم القتل عند رجوعه عمّا أقرّ به في بعض الحدود، بل في مورد القِصاص أيضاً على ما عرفت من ورود رواية ضعيفة بذلك وهي مرسلة جميل.
وهذا أيضاً لا يضرّنا في المقام؛ لأنّه بعد أن كانت الرواية الواردة في القصاص ضعيفة سنداً، والروايات الواردة في الحدود احتمال الفرق بين موردها ومورد القضاء موجود، فغاية ما يفترض في المقام هو الشكّ في نفوذ الإقرار بعد الإنكار، وعلاج ذلك هو استصحاب نفوذه الثابت قبل الإنكار.
نعم، لو لم يثبت إقراره لدى القاضي إلا بعد إنكاره _ أي: إنّه بعد الإنكار ثبت لدى القاضي أنّه كان قد أقرّ قبل ذلك بالقتل _ فهنا يكون استصحاب نفوذ الإقرار من سنخ الاستصحاب التعليقي بأن يقال: إنّ هذا الإقرار لو كان قد ثبت لدى القاضي قبل إنكاره لنفذ، والآن كما كان، فيتوقف البحث في المقام على المبنى المختار في باب الاستصحاب التعليقي، أمّا إذا كان الإقرار ثابتاً لدى القاضي قبل الإنكار ثم أنكر بعد ذلك فلا إشكال في استصحاب نفوذ الإقرار.
المورد الثالث: موضوع السرقة حيث ورد فيه ما دلّ على عدم كفاية الإقرار الواحد، وأفتى المشهور بذلك إلا أنّ هذا لو قلنا به فإنّما هو في جانب قطع اليد الذي هو حدّ من الحدود، أمّا جانب الضمان فلم يرد بشأنه شيء من هذا القبيل، فيبقى داخلاً تحت الارتكاز، أمّا إذا رفضنا روايات عدم كفاية الإقرار الواحد بضعف السند، وتمسّكنا بالروايات الدالّة على كفايته في السرقة فقد ثبت الحدّ أيضاً لا بالارتكاز؛ كي
يقال: إنّ روايات عدم كفاية الإقرار مرّةً واحدةً توجب رغم ضعف سندها احتمال الردع، بل بالروايات الدالّة على كفاية الإقرار مرّةً واحدةً.
وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه نفوذ الإقرار في باب القضاء مطلقاً.
بقي الكلام في الإقرار الذي وقع أمام غير القاضي ثم بلغ القاضي بالبيّنة مثلاً، فهل هذا نافذ، أو يشترط في نفوذ الإقرار كونه أمام القاضي؟
الظاهر أنّ الارتكاز يشمل كلّ إقرار ثبت لدى القاضي، سواء وقع بمسمع منه أو لا، وكذلك بعض إطلاقات أدلّة الإقرار من قبيل ما دلّ على نفوذ إقرار الوارث في حصّته، فإنّه لم يقيّد بخصوص الإقرار الذي كان بمحضر القاضي أو بمسمع منه.
وهذا الكلام منّا إنّما هو في باب القضاء، أمّا في باب الحدود فبالإمكان أن يقال في الحدّ الذي يكون بحاجة إلى شهود أربعة: إنّ الإقرار به لا يثبت بالبيّنة، أي بشاهدين؛ إذ لو كان نفس الزنا _ مثلاً _ لا يثبت بشاهدين فكيف يحتمل ثبوته بإقرارات أربعة لم تثبت إلا بشاهدين؟! أمّا ثبوت الإقرار بشهود أربعة فبحاجة إلى دليل خاصّ لم يرد.
فإن قلت: إنّ الدليل على نفوذ شهادة الشهود الأربعة في إثبات الإقرار هو مطلقات دليل البيّنة، فمقتضى إطلاقها الأوّلي نفوذ شهادة عدلين لإثبات الإقرار، وبما أنّه ثبت عدم نفوذ ذلك بالبيان الماضي فنحن نقيّد هذا الإطلاق بإضافة شهادة عدلين آخرين إليها، أمّا إلغاء الشهادة نهائيّاً فهذا تقييد أكثر، وهو بحاجة إلى دليل مفقود.
قلت: لو فرض هذا النوع من التقييد عرفيّاً فإنّما يتمّ لو كان لدينا دليل لفظي على حجّية البيّنة يتمتّع بالإطلاق اللفظي في ذاته، والواقع أنّ دليل حجّية البيّنة إنّما تمّ إطلاقه ببركة الارتكاز، ولا ارتكاز على نفوذ شهادة الأربعة بعد فرض عدم نفوذ شهادة الاثنين.