96

ولا شكّ أنّ الظهور الأوّلي لدليل حجّية فتوى الفقيه هو الثاني؛ لأنّ الحكم طرء على عنوان منطبق على كلّ من الفتويين بكامل خصوصيتهما.

نعم، قد يقال: إنّ الحديث الذي لم يدل على جواز التقليد إلّا من ناحية الإرجاع إلى شخص معيّن كقوله: عليك بالأسدي يعني أبا بصير، وكان فهم الحكم العامّ من باب الغاء العرف لخصوصية ذاك الشخص، فهنا لا نعلم أنّ هذه الحجّية هل هي حجّية تعيينيّة أو تخييرية، فإنّ الإرجاع إليه ينسجم مع كلا الفرضين بمستوى واحد، ولكن الشكّ في ذلك يكون في صالح التساقط لدى تعارض الفتويين، لا في صالح التخيير؛ لأنّنا شاكّون في أصل الحجّية.

وبهذا البيان اتّضح أيضاً بطلان الوجه الأوّل، وهو أنّ لسان الترخيص يناسب الحجّية البدلية كما يناسب الحجّية الشمولية، وبما أنّ الحجّية البدلية تحفظ إطلاق الدليل للفتويين المتعارضتين بينما الشمولية لا يمكن حفظها للإطلاق لكلتا الفتويين، فإطلاق الترخيص إذاً دليل على كون الحجّية بدلية. فنحن نقول ردّاً على ذلك بأنّ الترخيص كالأمر إرشاد إلى الحجّية التي يفهم العرف منها التنجيز والتعذير معاً، ومصبّ هذه الحجّية كان طبيعي الفتوى المنطبق على كلّ من الفتويين بكامل خصوصيّتهما. وهذا معنى الشمول، فيحصل التساقط عند التعارض لا محالة.

97

الأمر الثاني: أن يقال: إنّنا لئن شككنا في شمولية دليل الحجّية بقطع النظر عن معرفتنا بأنّ ملاك حجّية الفتوى هي الطريقية، وذلك كما لو فرض إيماننا بالسببيّة وادّعينا أنّ مقتضى إطلاق الدليل للفتويين المتعارضتين هي إرادة الحجّية البدلية قلنا: إنّ هذا لا يتم بعد الالتفات إلى طريقية الفتوى. وهذا الأمر تارة يبيّن بلغة منفصلة عن الأمر الأوّل الذي شرحناه، وأُخرى يبيّن بعنوان تكميل الأمر الأوّل.

أمّا بيانه بلغة منفصلة عن الأمر الأوّل فهو عبارة عن أن يقال: إنّ حجّية الفتوى كانت على أساس الكشف والطريقية، وقد فقدت كاشفيّتها بسبب الانصدام مع طريق آخر، فقد انتفى ملاك الحجّية.

وهذا البيان بهذا المقدار قد يجيب عليه أحد بأنّه لم يثبت كون المقياس الكشف الفعلي الذي ينتفي بالتعارض، فمن الممكن عقلائيّاً أن يكون المقياس الكشف الشأني، أو قل: الكشف في ذاته؛ وذلك لأنّنا وإن كنّا نؤمن بالطريقية لكن هذا لا يعني كون الطريقية تمام الملاك بحيث لا تتدخل في الحساب مصلحة التسهيل مثلاً، ومع دخل شيء من هذا القبيل يمكن التحول من مقياسية الكشف الفعلي إلى مقياسية الكشف الذاتي أو الشأني، إلّا إذا ادّعينا انصراف أدلّة

98

الحجج الطريقية إلى فرض الكشف الفعلي في مقابل الكشف الشأني، لا في مقابل الكشف النوعي.

وأمّا بيانه بلغة تكميل الأمر الأوّل فهو أن يقال: لئن لم نثق بما مضى من استظهار الشمولية من ظاهر الدليل بقطع النظر عن نكتة الطريقية فلعلّه من الواضح بلحاظ نكتة الطريقية والتي هي ثابتة في كلتا الفتويين سواء بسواء، وهي نكتة ارتكازية كالمتّصل أنّ المستظهر من الدليل عندئذٍ الشمولية؛ لأنّ المناسب لنكتة الطريقية عرفاً هي الشمولية.

والفرق بين هذا البيان والبيان السابق هو أنّه لو تعارضت فتوى فقيه عادل مثلاً بفتوى فقيه غير عادل وكان الفقيه غير العادل ثقة في الفتوى ولكن قلنا بشرط العدالة في حجّية الفتوى تعبّداً فهل تسقط هنا فتوى العادل عن الحجّية بسبب تعارضها بفتوى غير العادل والتي ليست حجّة أو لا؟

إن بنينا على البيان الأوّل فالنتيجة هي السقوط؛ لأنّ الفتوى الثانية وإن لم تكن حجّة لكنّها في ذاتها مشتملة على الطريقية والكاشفية التكوينية، فتتزاحم الكاشفيّتان، وبالتالي ينتهي الكشف الفعلي حتّى في الفتوى الأُولى. أمّا لو بنينا على كفاية الكشف الشأني والذي هو ثابت في كلتا الفتويين رغم التعارض ولكن قلنا: إنّ الطريقية نكتة في

99

فهم شمولية الحجّية من الدليل وهي توجب التعارض والتساقط، فالنتيجة في هذا الفرض عدم سقوط فتوى العادل عن الحجّية؛ لأنّ الطريقية الشأنية ثابتة على حالها، والشمولية هنا غير ثابتة؛ لأنّ فتوى الآخر ليس حجّة في ذاته، إلّا إذا قلنا بانصراف دليل الحجّية إلى الطريقية الفعلية بحيث يكون كلّ قرينة عقلائية مقبولة القرينية لدى العقلاء بمستوى كاشفية تلك الحجّة كافية لدى تعارضها للحجّة لسقوطها رغم عدم كون تلك القرينة حجّة.

هذا تمام الكلام في الحديث عن مدى إمكانية استفادة التخيير بين الفتاوى المتعارضة من الأدلّة اللفظية للتقليد بغضّ النظر عن ارتكازية التقليد، وقد تحصّل أنّ هذا في غاية الصعوبة.

بقي لنا في المقام كلامان لإثبات التخيير:

الكلام الأوّل: أنّ مدرك التقليد ليس منحصراً في الأدلّة اللفظية، بل لدينا مدرك آخر وهو الارتكاز والسيرة العقلائية القائمة على الرجوع إلى أهل الخبرة، ولعلّه من الواضح ثبوت هذا الارتكاز والسيرة في كثير من الموارد على الرجوع إلى أهل الخبرة كالأطبّاء في الطبّ وغيرهم رغم العلم الإجمالي بوقوع التعارض بين آرائهم، بل

100

ولعلّه رغم العلم التفصيلي أيضاً. وهذا بنفسه يكون دليلاً لنا على التخيير إضافة إلى أنّ هذا يؤثّر على ظهور الدليل اللفظي ويصرفه إلى الحجّية التخييرية، وقد مضى أنّ هذا لا يستلزم استعمال اللفظ في معنيين بلحاظ رواية واحدة دلّت على حجّية الفتوى وحجّية خبر الثقة في وقت واحد؛ وذلك لأنّ الفرق في شكل الحجّية إنّما استفيد على أساس تعدّد الدال والمدلول بالقياس إلى الحجّية وشكلها، لا من حاقّ اللفظ.

فإن قلت: لا إشكال في أنّ العقلاء في بعض موارد الرجوع إلى أهل الخبرة _ وهي الموارد الهامّة والحياتية _ لا يعملون بالتخيير، فمثلاً من كان ابنه مريضاً مشرفاً على الهلاك وكان وصف الطبيب مردّداً بين أن يكون دواءً له وأن يكون _ كما يقوله طبيب آخر _ مُسرِعاً في هلاكه لا يكتفي مع الإمكان بقول طبيب واحد، بل يعمل على عقد لجنة طبّية، أو على الأخذ بأحوط الطرق أو ما شاكل ذلك من أساليب الاحتياط والتثبّت. والأمر في باب الشرعيات أهمّ من أهمّ الأُمور الحياتية؛ لأنّ المسألة مسألة الجنّة والنار والمولوية وحقّ الطاعة العقلي، وهذه الأُمور أهمّ من كلّ شيء، فكيف يعقل ثبوت ارتكاز عقلائي من مثل ذلك على التخيير في التقليد؟!

101

قلنا: إنّ الجنّة والنار وحقّ الطاعة ونحو ذلك كلّها تكون مترتّبة على الحجّية وعدم الحجّية، وليست هي الأُمور المؤثّرة في تحديد الحجّة وفي ارتكاز باب الحجّية، وإنّما الذي يحسب له الحساب في ذلك هي المصالح والمفاسد الثابتة في متعلّق الأحكام، وهي في نظر العقلاء كالمصالح الدنيويّة التي يركنون فيها بطبيعتهم إلى التقليد والرجوع إلى أهل الخبرة بالشكل الثابت في أُمورهم الدنيويّة أو في طريقة تعامل الموالي العرفية مع عبيدهم، ولا ينظرون بأكثر من ذلك إلى تلك المصالح التي قد يكون قسم منها مصالح اجتماعية قد لا يهتمّ بها الفرد كفرد اهتماماً كبيراً والقسم الآخر الراجع إلى المصالح الشخصية لا يعلم الفرد بأنّ تلك المصالح أو المفاسد متى تناله وإلى أيّ حدّ تناله، فالنظر العقلائي إلى هذه الأُمور هو عين النظر الذي تعوّدوا فيه على الرجوع إلى أهل الخبرة بالشكل المألوف لديهم في سائر الأُمور، وإذا ثبت بعدم ردع الشارع إمضاء ذلك أو انصرف الدليل اللفظي إلى ذلك لارتكازيّته صحّ أصل التقليد شرعيّاً وتَرتّبَ عليه الثواب وانتفاء العقاب في شأن من طبّق أعماله على هذا التقليد، وتحقّقت بذلك الطاعة وأداء حقّ المولويّة.

الكلام الثاني: أنّ في باب تعارض الروايتين قد دلّ بعض الأخبار

102

العلاجية على التخيير، كما في مكاتبة محمد بن عبدالله بن جعفر الحميري عن الإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف): «بأيّهما (يعني الروايتين) أخذت من باب التسليم كان صواباً» ، وقد نوقش في ذلك سنداً تارة ودلالة أُخرى، ونحن قد أجبنا على تلك المناقشات في بحث الأخبار العلاجية في الأُصول، وثبّتنا تماميّته لإثبات التخيير.

فإن ادّعينا أنّ العرف يتعدّى من باب الروايتين إلى باب الفتويين ولعلّه بالأولويّة؛ لأنّ الترقّب العقلائي للتخيير في باب الرجوع إلى أهل الخبرة أشدّ بكثير من ترقّب ذلك في باب النقل والرواية، أصبح بذلك نفس دليل التخيير في الخبرين المتعارضين دليلاً على التخيير في الفتويين المتعارضتين.

قد تقول: لو تعدّينا من الخبرين المتعارضين في التخيير إلى الفتويين المتعارضتين للزم أيضاً التعدّي من الخبرين إلى الفتويين في المرجّحات، ولا نظنّ أحداً يلتزم بذلك.

ولكن الفرق بين التخيير والترجيح واضح، فإنّ عمدة المرجّحات عبارة عن موافقة العامّة ومخالفة الكتاب، ومن المعلوم أنّ موافقة العامّة


(1) وسائل الشيعة، ج27، ص121، الباب9 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح39.

103

وكذا مخالفة الكتاب بمثل العموم من وجه أو العموم والخصوص لا تكون في باب الفتوى قرينة عقلائيّة على الخلاف كما هو كذلك في الروايات؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ الفقيه الذي أفتى بتلك الفتيا هو بنفسه حاسب حساب ظهور الكتاب ورأي العامّة، وبعد كلّ الحسابات أفتى بشيء مّا، ومع هذا الفرض لا تبقى لمخالفة العامّة أو موافقة الكتاب قرينية معتدّ بها.

وخلاصة كلّ ما مضى: أنّ دعوى التخيير في الفتويين المتساويتين تارةً تنشأ من فهم التخيير من الأدلّة اللفظية ابتداءً وبغضّ النظر عن الارتكاز، وذلك بأحد الوجوه الماضية والتي ناقشناها جميعاً. وأُخرى تنشأ من دعوى الارتكاز على التخيير في باب الرجوع إلى أهل الخبرة، فيتمسّك إمّا بنفس هذا الارتكاز بعد ثبوت عدم الردع الذي هو دليل الإمضاء، وإمّا بالأدلّة اللفظية للتقليد بعد انصرافها بسبب ذلك الارتكاز إلى التخيير. وثالثة تنشأ من التعدّي من دليل التخيير الوارد في الخبرين المتعارضين.

فبناءً على الأوّل أعني فهم التخيير من أدلّة التقليد ابتداءً وبقطع النظر عن الارتكاز قد مضى أنّ التخيير محمول على ما أسميناه بالتخيير الفقهي، وهو كون التنجّز بقدر الجامع والتأمين فيما زاد على الجامع، أو قل: التخيير

104

العملي من دون فرض أخذ سابق على العمل؛ وذلك لأنّه أوّلاً أنّ أصل قيد الأخذ مؤونة زائدة بحاجة إلى دليل، وثانياً استغراب أخذ هذا القيد الزائد بالبيان الماضي يصرف ظهور الدليل عنه إلى التخيير الفقهي.

وبناءً على الثاني أعني فهم التخيير من الارتكاز أو صرف دليل التقليد إلى التخيير بسبب الارتكاز فأيضاً يكون الثابت هو التخيير الفقهي؛ فإنّ الارتكاز يكون عليه، لا على ما فيه المؤونة الزائدة التي لا تخلو من الاستغراب، وهي مؤونة الأخذ.

وأمّا بناءً على الثالث وهو التعدّي من مورد رواية: «بأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً» فقد يقال: إنّ المتّجه عندئذٍ هو التخيير الأُصولي؛ لأنّه:

أوّلاً: أنّ المؤونة الزائدة وهي مؤونة الأخذ قد أُخذت في لسان الدليل حيث قال: «بأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً».

وثانياً: أنّه قد يستظهر من أخبار التخيير أنّها تهدف إلی سدّ النقص الذي حصل من التعارض وإيصال أحد المتعارضين في الحجّية إلى مستوى الخبر الذي لا معارض له، فكما أنّ الخبر الذي لا معارض له يكون حجّة في إثبات مفاده بخصوصيّته كذلك الخبر الذي له معارض بعد فرض علاج التعارض بالأخبار العلاجية التي منها أخبار التخيير.

105

وثالثاً: أنّه يكفي في إثبات الحجّية الأُصولية التمسّك بنفس دليل الحجّية العامّ؛ لأنّه كان يثبت حجّية كلّ خبر في مفاده بخصوصيّته، وإنّما عيب التمسّك بدليل الحجّية العامّ كان عبارة عن الابتلاء بالتعارض الداخلي بلحاظ الخبرين المتعارضين؛ فإنّ التعارض بينهما يوجب التعارض الداخلي على جميع مستويات الإطلاق لدليل الحجّية العامّ، ولكن دليل التخيير قد أسقط إطلاق دليل الحجّية في كلّ واحد من الخبرين على تقدير الأخذ بالآخر، فبقي الإطلاق الآخر للخبر الآخر على تقدير الأخذ به بلا معارض.

وهذه الوجوه الثلاثة هي التي بيّنها أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في الخبرين المتعارضين على تقدير الأخذ بأخبار التخيير؛ وذلك لإثبات التخيير الأُصولي، فإن صحّ شيء منها هناك ثم تعدّينا من باب الإخبار إلى باب الفتويين المتعارضتين ثبت هنا أيضاً التخيير الأُصولي بين الفتويين.

إلّا أنّه مضى منّا أنّ الغرابة الموجودة في التخيير الأُصولي قد توجب انصراف دليل التخيير إلى التخيير الفقهي حتّى مع فرض وجود بعض القرائن على إرادة التخيير الأُصولي لولا تلك الغرابة.

106

هل التخيير استمراري؟

والآن وصلت النوبة إلى الحديث عن أنّ من قلّد فقيهاً فهل يجوز له الرجوع بعد ذلك إلى فقيه آخر غير أعلم أو لا؟

وأوّل ما يخطر بالبال بعد فرض إثبات التخيير كون التخيير استمراريّاً، إمّا تمسّكاً بإطلاق دليل التخيير لو كان الدليل لفظيّاً، أو بكون الارتكاز على التخيير الاستمراري لو كان الدليل عبارة عن الارتكاز، وإمّا تمسّكاً باستصحاب الحجّية التخييرية بعد الأخذ أو العمل بإحديهما، فالنتيجة جواز العدول.

وعمدة ما يمكن أن يذكر للقول بعدم جواز العدول أحد أُمور ثلاثة:

الأوّل: أن يكون المختار في أصل بحث التخيير عدم الدليل على التخيير وأن يكون مقتضى الأصل في الفتويين المتعارضتين هو التساقط ولكن المقلَّد اختار أحد الفقيهين للتقليد، لا لأجل التخيير بين المتساويين، بل لأجل أنّه كان أعلم، وبعد ذلك نما غير الأعلم في علمه مثلاً فتساويا، وهنا بما أنّنا لا نجزم أيضاً بالتساقط لدى التساوى إلّا من باب أنّه لا دليل على التخيير وأنّ مقتضى الأصل هو التساقط، فلا محالة نحتمل بقاء فتوى الذي قلّدناه على الحجّية ولو

107

من باب التخيير بينها وبين فتوى الآخر، فنثبت عندئذٍ حجّية فتواه بالاستصحاب في حين أنّ فتوى الآخر كانت مسبوقة بعدم الحجّية لا بالحجّية.

وهذا الوجه لا عيب فيه لو قبلنا مبناه، وهو التشكيك في أصل التخيير لدى التساوي. نعم، لو بنينا على ما بنى عليه السيّد الخوئي(رحمه الله) من عدم حجّية الاستصحاب في الشبهات الحكمية بطل هذا الاستصحاب، لكنّنا لم نبن على ذلك. وعلى أيّة حال فالكلام في مبنى هذا الوجه.

والثاني: أن نكون قد استظهرنا في أصل بحث التخيير التخيير الأُصولي أو تردّدنا بين التخيير الأُصولي والتخيير الفقهي ونكون قد استظهرنا أو احتملنا أنّ الأخذ المأخوذ في موضوع الحجّية ليس الأخذ في كلّ مرّة مرّة بنحو الانحلال، بل هو أخذ واحد لتمام المدّة، فعندئذٍ تكون الفتوى التي أخذنا بها أوّلاً هي المتيقّن في الحجّية، والأُخرى مشكوكة الحجّية، ولا يصحّ استصحاب حجّية مشكوكة الحجّية بدعوى أنّها قبل الأخذ بالأُولى كانت حجّة حجّية تخييرية فالآن كما كان؛ وذلك لأنّ معنى الحجّية التخييرية بناءً على الحجّية الأُصولية هي قضية تعليقية، أي لو أخذنا بها لكانت حجّة، فاستصحاب الحجّية هنا

108

يبتلي بإشكال الاستصحاب التعليقي. إذاً لا يبقى لنا إلّا البقاء على تقليد من اخترناه منذ البدء.

وهذا الوجه أيضاً لا عيب فيه لو قبلنا مبناه، وهو عدم استظهار التخيير الفقهي، إلّا أنّ الكلام في المبنى كما عرفت.

والثالث: أنّ التبدّل من تقليد إلى تقليد قد يورّط الإنسان في المخالفة القطعية، ففي خصوص ما يوجد فيه هذا المحذور نقول فيه بعدم جواز العدول؛ وذلك كمن قلّد شخصاً يقول بالقصر في ظرف من الظروف فصلّى قصراً، ثم قلّد في يوم آخر من يقول بالتمام في نفس الظروف السابقة فصلّى تماماً، فهو يقطع ببطلان إحدى الصلاتين، بل قد يؤدّي ذلك إلى المخالفة التفصيلية، كمن قلّد رأي القصر في ظُهره ثم قلّد رأي التمام في نفس تلك الظروف في صلاة العصر، فهو عندئذٍ يقطع ببطلان صلاة العصر؛ إمّا لبطلان الظهر المستتبع لبطلان العصر أو لبطلان العصر ابتداءً.

ولا يخفى أنّ المهمّ في هذا الوجه هو مسألة لزوم المخالفة القطعية بالعلم الإجمالي، لا المخالفة القطعية التفصيلية؛ لأنّ الجواب على لزوم المخالفة القطعية التفصيلية واضح، وذلك لأنّنا لو بنينا على كون الإجزاء في المقام ظاهريّاً فلو صلّى الظهر مثلاً قصراً بتقليد من

109

كان يرى القصر ثمّ أراد أن يصلّي العصر بتقليد من يرى في نفس الظروف التمام لابدّ له من إعادة الظهر تماماً، لا لعدم إجزاء ما أتى به من القصر لصلاة الظهر بحيث لو ترك الإعادة لعوقب على ترك صلاة الظهر، بل لأنّه لو لم يعد الظهر لقطع ببطلان عصره لفقدانه لأحد الشرطين يقيناً إمّا شرط القصر أو شرط الترتّب على الظهر، فالمهمّ في هذا الوجه هو لزوم المخالفة القطعية الإجمالية في مثل صلاتين غير مترتّبتين.

هذا، ولزوم مخالفة العلم الإجمالي مخالفة قطعية واضح في مثل القصر والتمام؛ للقطع الخارجي بوجوب أحدهما.

وقد يتّفق أنّه لا يوجد قطع خارجي بذلك، كما لو اختلف الفقيهان في وجوب الجهر أو الإخفات في صلاة الظهر يوم الجمعة، فأحدهما أفتى بالجهر والآخر بالإخفات، واحتمل المقلّد أن يكون حكم الله الواقعي في صلاة الظهر يوم الجمعة هو التخيير بين الجهر والإخفات، فهنا قد يقال: إنّه لو قلّد في جمعة من يقول بالإخفات وفي جمعة أُخرى من يقول بالجهر لم تلزم من ذلك مخالفة قطعية؛ لاحتمال كون الجهر والإخفات كلاهما صحيحاً.

ولكن بناءً على أنّ الأمارتين المتعارضتين تكفيان _ حتّى لو قلنا

110

بالتساقط _ لنفي الثالث وهو في المقام التخيير، فهو يعلم علماً إجماليّاً تعبّديّاً بوجوب الجهر أو الإخفات، فهو مرّة أُخرى يتورّط في مخالفة العلم الإجمالي مخالفة قطعية.

وقد علّق السيّد الخوئي(رحمه الله) على هذا الوجه، أعني لزوم المخالفة القطعية للعلم الإجمالي أو التفصيلي:

أوّلاً: بالنقض بأنّ هذا العلم بالمخالفة يحصل حتّى في فرض وجوب العدول، كما لو أصبح الثاني أعلم، فوجب العدول إليه.

وثانياً: بالحلّ بأنّ العدول إن كان في داخل الوقت فبناءً على عدم إجزاء التقليد السابق _ كما هو الصحيح _ تجب عليه إعادة العمل السابق، ولا يتحقّق علم بالمخالفة، وبناءً على الإجزاء _ كما نقول به فيما يكون مورداً لحديث «لا تعاد» _ يكون العمل السابق صحيحاً، فأيضاً لا يوجد علم بالمخالفة، لا إجمالي ولا تفصيلي، فحتّى لو كانت الصلاتان مترتّبتين كالظهر والعصر وقلّد في الأُولى من قال بالقصر وفي الثانية من قال بالتمام لم يخلّ الترتّب بصلاة عصره؛ لأنّ المفروض أنّ صلاة ظهره محكومة بالصحّة، فالترتّب محرز.


(1) راجع التنقيح، ج1، ص130 _ 131.

111

وإن كان في خارج الوقت فالرأي الثاني إن لم يكن مشتملاً على الإفتاء ببطلان العمل وفق الرأي الأوّل وإنّما كان اقتصاراً على ما هو ثابت الصحّة عنده وتجنّباً عن العمل وفق الرأي الأوّل من باب عدم ثبوت صحّته عنده فلا قضاء عليه؛ لأنّ القضاء بأمر جديد، وموضوعه الفوت، ولم يثبت الفوت، ولا يوجد هنا علم بالمخالفة، وإن كان مشتملاً على الإفتاء ببطلان العمل وفق الرأي السابق فعليه القضاء؛ لأنّنا لا نقول بالإجزاء، وبالتالي لا يتحقّق العلم بالمخالفة، وإن قلنا بالإجزاء فمعنى الإجزاء صحّة العمل السابق رغم انكشاف الخلاف، ومعه أيضاً لا يوجد علم بالمخالفة.

أقول: إنّ كلام السيّد الخوئي(رحمه الله) في المقام مبتن أوّلاً: على فرض الإجزاء _ على القول به _ إجزاءً واقعيّاً فيصبح العمل السابق صحيحاً مطلقاً، ولهذا يقول(رحمه الله): إنّه بناءً على الإجزاء لا يوجد مبرّر لتحقّق العلم الإجمالي أو التفصيلي بالمخالفة؛ لأنّ العمل السابق أصبح صحيحاً، فحتّى لو كان العمل اللاحق مشروطاً بالترتّب على السابق فالشرط محرز، فلا مخالفة معلومة في فرض الصلاتين المترتّبتين، ولا في غير المترتّبتين.

أمّا لو أفتينا بالإجزاء الظاهري فالإجزاء لا يبقى له أثر في نفي العلم

112

بالمخالفة، فإنّه يعلم ببطلان إحدى الصلاتين لا محالة، ويعلم ببطلان الصلاة الثانية إذا كانتا مرتّبتين؛ وذلك لأنّ الإجزاء الظاهري لا يصحّح الواقع، فيبقى عالماً بأنّ إحدى الصلاتين فاقدة شرط صحّتها الواقعية.

وثانياً: على فرض ملاحظة العلم الإجمالي الذي يحصل أخيراً بسبب العدول بأنّه إمّا أنّ عمله الأوّل باطل أو عمله الثاني باطل، ولهذا يقول: أنّه بناءً على عدم الإجزاء لا يوجد إشكال في المقام؛ لأنّه يعيد العمل الأوّل في داخل الوقت ويقضيه في خارج الوقت لو كانت الفتوى الثانية تثبت بطلان العمل السابق.

وهذا يعني في الحقيقة: أنّه لو قصد العلم الإجمالي بوجوب القضاء أو الإعادة عليه للعمل الأوّل أو بطلان العمل الثاني فالجواب: أنّ القضاء أو الإعادة ثابت عليه بنفس الفتوى الثانية، فأحد طرفي العلم الإجمالي قد تنجّز عليه بخصوصه، وبه ينحلّ العلم الإجمالي. ولو قصد العلم الإجمالي ببطلان عمله الأوّل الذي انتهى وقته أو عمله الثاني فهذا علم مردّد بين ما خرج عن محلّ الابتلاء، وهو العمل الأوّل _ أمّا القضاء فبأمر جديد _ وما هو داخل في محلّ الابتلاء وهو العمل الثاني وهذا العلم الإجمالي ليس منجّزاً.

أقول: إنّ بالإمكان ملاحظة العلم الإجمالي بلحاظ الزمان الأوّل

113

لا بلحاظ الزمان الثاني، فهو من أوّل الأمر يعلم إجمالاً بأنّه إمّا أنّ القصر في عمله الحالي باطل أو أنّ التمام في عمله الاستقبالي باطل، والعلم الإجمالي في التدريجيات منجَّز.

وهذا الإشكال يبقى مسجَّلاً حتّى لو قلنا بالإجزاء وبأنّ الإجزاء إجزاء واقعي، فإنّ واقعية الإجزاء يجب أن تفسّر بما لا ينافي كون حجّية الفتوى حكماً ظاهريّاً، وذلك لا يكون إلّا بمعنى الالتزام بأنّ العمل بالفتوى المخالفة للواقع يوجب فوات ملاك الواقع أو فوات جزء من الملاك، ولكن بما أنّه لا يمكن تداركه أصبح العمل مجزياً. أمّا لو فرض أنّ الإجزاء الواقعي كان على أساس إدراك تمام الملاك بالعمل بتلك الفتوى فهذا يعني موضوعية الفتوى لتبدّل الحكم الواقعي لا حجّية الفتوى ظاهراً، وهذا خلف.

وعليه فحتّى مع فرض الإجزاء الواقعي يكون منذ البدء عالماً إجمالاً بأنّه إمّا أنّه ملزم واقعاً في الزمان الأوّل بالتمام، أو أنّ التمام في الزمان الثاني أيضاً باطل، وهذا علم إجمالي منجّز لا تجوز مخالفته القطعية.

وقد اتّضح بما ذكرناه أيضاً الجواب على النقض بموارد وجوب العدول، فإنّ وجوب العدول عادةً يكون أمراً طارئاً غير مترقّب منذ

114

البدء، في حين أنّ جواز العدول في الزمان الثاني من باب استمرارية التخيير غالباً واضح منذ الزمان الأوّل، فالمكلّف منذ البدء ليست أمامه وجوب العدول في الزمان الثاني حتّى يعارض جواز تقليد للأوّل في الزمان الأوّل بلحاظ ما لديه من العلم الإجمالي، وحينما يحين حين وجوب العدول يكون الطرف الأوّل خارجاً عن محلّ ابتلائه.

على أنّه في مورد ما إذا فرض وضوح وجوب العدول في الزمان الثاني منذ الزمان الأوّل لو فرض تقليده للأوّل واجباً في الزمان الأوّل أمكن القول _ بناءً على كون محذور الترخيص في المخالفة القطعية إثباتيّاً لا ثبوتيّاً _ بأنّ المحذور الإثباتي إنّما يكون في مورد الحكم الترخيصي المؤدّي إلى المخالفة القطعية، دون مورد تحقّق ملاك الإلزام الظاهري في حكمين إلزاميين أدّيا صدفة إلى المخالفة القطعية لعلم إجمالي.

وقد اتّضح بهذا العرض أنّه لا مفرّ من إشكال الابتلاء بالمخالفة القطعية في المقام في فرض استمرارية التخيير ݢإلّا بناءً على القول بأنّ الموافقتين الاحتماليتين المقترنتين بالمخالفتين الاحتماليتين ليست بأولى من المخالفة القطعية المقترنة بالموافقة القطعية.

أمّا لو قلنا: إنّ الترخيص في المخالفة القطعية غير ممكن ثبوتاً أو

115

أنّه غير مقبول عرفاً في مقابل المخالفة الاحتمالية المقترنة بالموافقة الاحتمالية رغم افتراض المخالفة القطعية مقترنة بموافقة قطعية فإشكال العلم الإجمالي بالمخالفة يبقى في المقام بلا جواب.

ولنختم الحديث عن مسألة العدول ببيان ما هو الموضوع لعدم العدول لو آمنّا به.

فنقول: إنّ هذا يختلف باختلاف مدارك المنع عن العدول، وقد ذكرنا لذلك مدارك ثلاثة:

فعلى المدرك الأوّل وهو: استصحاب حجّية فتوى من كان أعلم مقترناً بعدم ثبوت حجّية فتوى من ساواه أخيراً ليس في الحقيقة للتقليد معنى يفترض هو الموضوع لحرمة العدول، بل يكون الموضوع لعدم جواز تقليد الثاني مجرّد أن أصبح الأوّل أعلم قبل الثاني، فحتّى من لم يكن قد قلّد ذلك الأعلم ولكن كان يجوز له تقليده يستصحب الآن جواز تقليده فيقلّده ولا يقلّد الثاني.

وعلى المدرك الثاني وهو: كون التخيير أُصوليّاً موضوعه الأخذ يصبح الأخذ هو موضوع عدم جواز العدول.

وعلى المدرك الثالث وهو: العلم الإجمالي بالمخالفة يصبح موضوع عدم جواز العدول هو العمل بفتوى الأوّل.

116

مسألة 12: يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط ويجب الفحص عنه(1).


تقليد الأعلم

(1) نحن نفترض أوّلاً أنّ المقلَّد شَخَّصَ الأعلم وأنّه عرف الخلاف بينه وبين غير الأعلم فهل يجب عليه تقليد الأعلم أو لا؟

تارة نفترض أنّ المقلّد هو الذي يريد أن يشخّص وظيفته في التقليد باعتبار أنّ التقليد في أصل التقليد لا معنى له، وعندئذٍ إن قطع بجواز أصل التقليد له لأحدهما وتردّد بين التعيين والتخيير كان عليه _ إحرازاً لفراغ الذمّة _ أن يقلّد الأعلم في أصل جواز تقليد غير الأعلم، فإن سمح له الأعلم بذلك صحّ له أن يقلّد غير الأعلم إن شاء، وإن أوجب عليه تقليد الأعلم بقي على تقليد الأعلم في سائر أعماله. وإن لم يقطع بجواز ذلك واحتمل وجوب الاحتياط ولو بالأخذ بأحوط القولين احتاط أيضاً بتقليد الأعلم في أصل جواز تقليد الأعلم.

وأُخرى نفترض أنّ المقلّد رجع إلی مجتهد في وجوب تقليد الأعلم وعدمه وثوقاً به واعتماداً عليه، فعندئذٍ يقع على عاتق هذا المجتهد

117

تمييز ماذا ينبغي له أن يفتي به، هل يفتي بوجوب تقليد الأعلم أو لا؟

وهنا نقول: تارةً نبحث المسألة بناءً على أصالة التساقط في فرض التساوي، وأُخرى بناءً على التخيير في فرض التساوي.

أمّا بناءً على التساقط لدى التساوي فتارة نفترض أنّ دليلنا على أصل التقليد هو الارتكاز، وأُخرى نفترض أنّ دليلنا على أصل التقليد هو الدليل اللفظي.

أمّا بناءً على الارتكاز فبعد فرض التساقط في الارتكاز لدى التساوي لا يكون مجرّد الأعلمية ولو بمقدار ضئيل منجياً لفتواه عن التساقط في الارتكاز، وإنّما الذي ينجي فتواه عن التساقط في الارتكاز إذا كانت أعلميّته وترجيحه على غير الأعلم بفاصل كبير ملحوظ بحيث يفترض أنّه بتزاحم رأيه مع رأي غير الأعلم يكون رأي غير الأعلم هو الذي يسقط عن الكاشفية ورأي الأعلم يبقى على الكاشفية بالمستوى المألوف لأدنى درجات الاستنباط غير المبتلى بالمعارض؛ وذلك بأن يكون الفاصل في الفقه والفهم بين الأعلم وغير الأعلم بمقدار كاف لصدق الاجتهاد لو كان هذا الفاصل فحسب موجوداً في أحد.

وأمّا بناءً على الدليل اللفظي للتقليد، فإن آمنّا بالارتكاز أيضاً وكان للارتكاز جانب سلبي مانع عن التخيير لدى التساوي فهنا

118

يأتي عين ما شرحناه من أنّ الأعلمية المختصرة لا تنجي فتواه عن التساقط؛ لأنّ الارتكاز في هذا الفرض أيضاً يوجب التساقط، وظهور الدليل اللفظي أيضاً يكون محكوماً للارتكاز، وإنّما الذي يوجب إنقاذ فتواه من التساقط لدى الارتكاز العقلائي هو الفاصل الكبير في الفقه وفهم الأحكام.

أمّا إذا لم يفرض للارتكاز جانب سلبي أو لم نكن نؤمن بالارتكاز وكان دليلنا على التقليد هو الدليل اللفظي فحسب فهنا قد يتصوّر أنّ الفارق المختصر بين الأعلم وغيره كافٍ لوجوب تقليد الأعلم؛ وذلك لأنّ سقوط فتوى غير الأعلم قطعي على كلا الفرضين، أعني فرض التساقط وفرض ترجيح رأي الأعلم، فيصبح رأي الأعلم بمنجىً عن مشكلة التعارض، وهو غير مقطوع السقوط؛ لمكان احتمال الترجيح على الأقلّ، فنتمسّك لإثبات حجّيته بإطلاق الدليل.

إلّا أنّ الظاهر أنّ هذا البيان غير صحيح؛ فإنّ هذا التقريب المقتضب يجب أن يرجع إلى أحد بيانات ثلاث كلّها غير صحيحة:

البيان الأوّل: أن يفترض أنّ الدليل اللفظي قد انعقد له الظهور في الحجّية بالنسبة لكلتا الفتويين. وعندئذٍ نقول: إنّ ظهوره في الحجّية بالنسبة لفتوى الأعلم ساقط عن الحجّية يقيناً، وظهوره في الحجّية

119

بالنسبة لفتوى الأعلم غير معلوم السقوط فنأخذ في ذلك بقانون حجّية الظهور.

إلّا أنّ هذا البيان واضح البطلان؛ بداهة عدم انعقاد الظهور في الحجّية لكلا الرأيين المتضادّين؛ لأنّ عدم إمكان حجّية كلا الرأيين المتضادّين ارتكازي ارتكازاً كالمتّصل؛ وذلك مانع عن انعقاد الظهور.

البيان الثاني: أن يقال: إنّ أصل ظهور دليل التقليد لفتوى غير الأعلم مقطوع السقوط، سواء كان ذلك على فرض التعارض والتساقط أو على فرض ترجيح فتوى الأعلم، وعليه فظهور دليل التقليد في حجّية فتوى الأعلم قد نجی من المعارض الداخلي، فلا مبرّر لسقوطه، فيبقى دالّاً على حجّية فتوى الأعلم.

إلّا أنّ هذا البيان أيضاً غير صحيح؛ وذلك لأنّ سقوط ظهور الدليل بلحاظ فتوى غير الأعلم لم يكن بسبب وضوح نكتة تخصّها، بل كان بسبب وضوح الجامع بين ما يخصّها وهو مرجوحيّتها وما يعمّها ويعمّ الفتوى الأُخرى، وهو التمانع في الحجّية، وبما أنّ أحد فردي هذا الجامع يشمل فتوى الأعلم أيضاً فلا محالة يسري الإجمال إلى إطلاق الدليل لفتوى الأعلم أيضاً.

البيان الثالث: أن يقال: إنّ ظهور الدليل في حجّية كلّ من الفتويين

120

على الإطلاق وإن كان ساقطاً بالتعارض لكن ظهوره في حجّية كلّ واحدة من الفتويين على تقدير عدم حجّية الأُخرى ثابت على حاله، وبذلك تحصل لنا قضيّتان شرطيّتان:

الأُولى: أنّ فتوى زيد مثلاً حجّة على تقدير عدم حجّية فتوى عمرو.

والثانية: أنّ فتوى عمرو مثلاً حجّة على تقدير عدم حجّية فتوى زيد.

والشرط في القضية الشرطية بلحاظ الأعلم محرز؛ للقطع بعدم حجّية فتوى غير الأعلم إمّا لسقوطها وحدها أو لسقوط المتعارضين، فالمشروط أيضاً محرز، وهو حجّية فتوى الأعلم.

وهذا البيان أيضاً غير صحيح؛ وذلك لأنّ القضية الشرطية المستفادة في المقام ليست هي حجّية فتوى الأعلم على كلّ تقادير سقوط فتوى غير الأعلم حتّى تقدير سقوطه بالتمانع، بل هي حجّية فتوى الأعلم على تقدير مانع عن الحجّية خاصّ بفتوى غير الأعلم، وهذا التقدير غير محرز.

إذاً فحتّى بناءً على الدليل اللفظي أيضاً لا نستطيع أن نثبت حجّية رأي الأعلم على الإطلاق.

نعم، لو كان الفاصل بين الأعلم وغير الأعلم كبيراً بنحو كان يوجب