153

الفرض الثالث: أن يكون الميّت محرَّماً للبقاء في تمام مساحة تجويز الحيّ أو في جزء منها، وهناك قلنا بأنّه لو كان تحريم الميّت للبقاء مشروطاً بشرط لم يوجد في نفس هذه الفتوى أصبحت هذه الفتوى حجّة ببركة فتوى الحيّ، وأوجبت حرمة البقاء في موارد وجدان ذاك الشرط، ولو لم يكن مشروطاً بشرط من هذا القبيل فهذه الفتوى لا يمكن أن تكون حجّة، ويجوز البقاء في الدائرة التي جوّزه الحيّ فيها.

وهنا نقول في الشقّ الأوّل _ وهو ما لو كان تحريم الميّت مشروطاً بشرط لم يوجد في نفس هذه الفتوى_: إنّه يأخذ المقلَّد بأحوط الرأيين، وهو التحريم لو كان تجويز الحيّ تجويزاً بمعنى الإباحة بالمعنى الأعمّ، أمّا لو كان الحيّ يوجب البقاء والميّت يحرّمه فيضطرّ إلى الأخذ بأحوط الرأيين في كلّ مسألة. وفي الشقّ الثاني _ وهو ما لو لم يكن تحريم الميّت مشروطاً بشرط لم يوجد في نفس هذه الفتوى _: إنّ فتوى الحيّ بالجواز لا مزاحم له، لا من ناحية فتوى الميّت بالتحريم؛ لأنّه لا يمكن أن يكون حجّة، ولا من ناحية فتاوى الميّت في سائر الفروع؛ لأنّه لا تضادّ بين حجّيتها وحجّية فتوى الحيّ بالجواز. إذاً ففتوى الحيّ بالجواز سارية المفعول.

154

وفي ختام البحث لا بأس بالتعرّض لفرع وهو: أنّه لو قلّد فقيهاً فمات فقلّد من يجوّز أو يوجب العدول فعدل إليه ثم مات الفقيه الثاني فقلّد فقيهاً ثالثاً يوجب البقاء وبنينا على المبنى المعروف القائل بأنّ مسألة البقاء تؤخذ من الحيّ، فهل الأخذ من الحيّ هنا يعني البقاء على تقليد الثاني أو يعني الرجوع إلى تقليد الأوّل؟ طبعاً لابدّ له في نفس مسألة البقاء على الثاني أو الرجوع إلى الأوّل من تقليد الثالث، ولكن الكلام يقع فيما ينبغي أن يقوله الثالث، هل ينبغي أن يرجعه إلى الأوّل أو ينبغي أن يبقيه على الثاني؟ هذا يختلف باختلاف المباني في البقاء، فمثلاً:

قد يقول قائل: إنّ رجوعه إلى الأوّل يعتبر تقليداً جديداً؛ لأنّ التقليد هو الالتزام، وهذا التزام جديد، وهذا معناه تقليد الميّت ابتداءً وهو لا يجوز، فالنتيجة هي وجوب البقاء على تقليد الثاني.

وقد يقول قائل: إنّ التقليد هو التعلّم، فما كان من المسائل قد تعلّمها من الأوّل ولم ينسها يرجع فيها إلى الأوّل، وبهذا أفتى السيّد الخوئي(رحمه الله) في منهاج الصالحين.

ونحن نقول: يجب تقليد أعلم الثلاثة ولو سمّي تقليداً ابتدائيّاً.


(1) منهاج الصالحین، ج1، ص7، المسألة 16.

155

مسألة 16: عمل الجاهل المقصّر الملتفت باطل(1) وإن كان مطابقاً للواقع، وأمّا الجاهل القاصر أو المقصّر الذي كان غافلاً حين العمل وحصل منه قصد القربة فإن كان مطابقاً لفتوى المجتهد الذي قلّده بعد ذلك كان صحيحاً(2) والأحوط مع ذلك مطابقته لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حين العمل.


(1) يعني البطلان في العبادات على أثر عدم تمشّي قصد القربة، ولكن الواقع أنّ التقصير والالتفات لا يمنعانه عن قصد التقرّب بعنوان الرجاء، وفقدان الجزم أو قصد الوجه لا يبطل العمل، إذاً فلو طابق العمل الواقع كان صحيحاً.

(2) المقياس في الحكم بالصحّة هو مطابقته لفتوى من يقلّده في الوقت الحاضر؛ لأنّ المقصود من الحكم بالصحّة عدم الحاجة إلى الإعادة والقضاء أو عدم إبطال الآثار في الوقت الحاضر، والمقياس في كلّ هذا فقيهه الحاضر دون من كان المفروض أن يكون فقيهه الماضي في وقت العمل.

نعم، لو كان مستنداً بالفعل في وقت العمل إلى رأي الفقيه الماضي لقلنا بالإجزاء بنصّ خاصّ بالتفصيل الماضي، ولكن بما أنّه لم يستند إليه فالنصّ الخاصّ وهو حديث الفزع والاستراحة لم يشمله، كما هو واضح.

156

مسألة 17: المراد من الأعلم من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة وأكثر اطّلاعاً لنظائرها وللأخبار وأجود فهماً للأخبار والحاصل أن يكون أجود استنباطاً والمرجع في تعيينه أهل الخبرة والاستنباط(1).


المقصود بالأعلم

(1) المقصود بالأعلم من تكون نكتة الحجّية في فتاواه وهي الخبرويّة أرجح منها في فتاوى غيره، سواء فرض أنّ تعيين الأعلم كان ممّا نستنبطه بوجه من الوجوه من نفس دليل الحجّية أو فرض أنّه ثبت بنصّ خاصّ، وسواء فرض أنّ أصل دليل الحجّية عبارة عن البناء العقلائي على الرجوع إلى أهل الخبرة أو عبارة عن نصّ خاصّ.

فإن كان الدليل على أصل حجّية فتوى الفقيه عبارة عن بناء العقلاء وكان ترجيح الأعلم أيضاً ببناء العقلاء فمن الواضح أنّ الترجيح العقلائي يكون بنفس ترجيح النكتة العقلائية للحجّية وهي الخبرويّة.

157

وإن كان الدليل على حجّية فتوى الفقيه عبارة عن بناء العقلاء وكان دليل ترجيح رأي الأعلم عبارة عن نصّ خاصّ فمن الواضح أنّ النصّ الخاصّ ينصرف إلى الترجيح برجحان نفس النكتة العقلائية، وإن كان الدليل على حجّية فتوى الفقيه عبارة عن نصّ خاصّ فلا إشكال في أنّ هذا النصّ منصرف إلى نفس النكتة العقلائية للحجّية، فعندئذٍ إن كان ترجيح الأعلم مستقى من بناء عقلائيّ فمن الواضح أنّ البناء يكون على الترجيح بنفس نكتة الحجّية، وإن كان مستقى من نصّ خاصّ فمن الواضح أيضاً انصرافه إلى الترجيح بنفس نكتة الحجّية العقلائية.

وعليه فكلّ ما كان دخيلاً في الخبرويّة يكون رجحانه دخيلاً في الأعلمية، سواء كان ذلك عبارة عن القوّة في فهم الكبريات والقواعد الأُصولية أو الفقهية أو قدرة استحضارها لدى التطبيق أو الإحاطة بالصغريات أو قوّة التطبيق وما إلى ذلك من الأُمور.

أمّا كون المرجع في تعيين الأعلمية هو أهل الخبرة فهذا أيضاً واضح، فإنّ تشخيص ذلك من الأُمور التخصّصية، وليس بيد كلّ أحد، والذي يعتبر متخصّصاً في فهم ذلك يكون الرجوع إليه داخلاً في كبرى الرجوع إلى أهل الخبرة.

158

مسألة 18: الأحوط عدم تقليد المفضول حتّى في المسألة التي توافق فتواه فتوى الأفضل(1).

مسألة 19: لا يجوز تقليد غير المجتهد وإن كان من أهل العلم كما أنّه يجب على غير المجتهد التقليد وإن كان من أهل العلم(2).


(1) ليست الأعلمية من شروط التقليد في ذاته، فإنّ مقياس رجوع الشخص في أيّ فنّ من الفنون هو خبرويّة من يرجع إليه، والمفروض بالمفضول أن يكون خبرة وإلّا لما كان رأيه حجّة حتّى مع عدم وجود الأفضل منه، وإنّما شرط الأعلمية نتج من أنّ المفضول إذا تعارض رأيه مع رأي الفاضل سقط رأيه عن الحجّية بالمعارض الأقوى، فلو فقد التعارض وتماثل الرأيان كان كلاهما حجّة لا محالة وجاز للعامّي الاستناد إلى هذا كما جاز له الاستناد إلى ذاك.

(2) مقصوده هو وجوب التقليد في مقابل عمله برأي نفسه، لا في مقابل الاحتياط.

159

مسألة 20: يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجداني(1) كما إذا كان المقلّد من أهل الخبرة وعلم باجتهاد شخص وكذا يعرف بشهادة عدلين من أهل الخبرة(2)،


(1) وكذلك الاطمئنان الملحق عقلائيّاً بالعلم.

حجّية البيّنة في الموضوعات بما فيها الاجتهاد

(2) وقع الكلام في حجّية شهادة العدلين في الموضوعات _ في غير باب القضاء _ بناءً على عدم حجّية خبر الواحد فيها.

وهناك أُمور يمكن أن يستشهد بها على حجّية شهادة العدلين في الموضوعات:

منها: الإجماع. وقد ناقش السيّد الخوئي(رحمه الله) في الاستدلال به بما تعارف ذكره عادة في مناقشة الإجماعات من أنّه لو ثبت فهو محتمل المدركيّة.

إلّا أنّ أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) رأى أنّ قوّة الإجماع والوضوح الفقهي وصلت في المقام بلحاظ حساب الاحتمالات إلى حدّ لا مجال للنقاش فيه، فذكر أنّ هذا الإجماع لو فرض استناده إلى رواية مسعدة بن صدقة أوجب بنفسه الوثوق برواية مسعدة بن صدقة، ولو فرض استناده إلى


. التنقيح، ج1، ص208.

160

روايات القضاء بالبيّنات أوجب بنفسه الوثوق باستظهار القاعدة الكليّة من تلك الروايات وعدم اختصاص حجّية البيّنة بباب القضاء، ولو فرض عدم استناده إلى شيء فهو إجماع تعبّدي كاشف بحساب الاحتمالات عن رأي المعصوم.

ومنها: رواية عبدالله بن سليمان عن أبي عبدالله(علیه السلام) في الجبن قال: «كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة» ، بناءً على إلغاء خصوصية المورد بالفهم العرفي خصوصاً بالنظر إلى وجود الجذر العقلائي لحجّية البيّنة. وسند الحديث ما يلي: الكليني(رحمه الله) عن أحمد بن محمد الكوفي عن محمد بن أحمد النهدي عن محمد بن الوليد عن أبان بن عبدالرحمن عن عبدالله بن سليمان عن أبي عبدالله(علیه السلام). وأحمد بن محمد الكوفي الذي يروي عنه الكليني لم نر دليلاً على وثاقته، كما لم نر أيضاً توثيقاً لأبان بن عبدالرحمن. أمّا عبدالله بن سليمان فهو مشترك، وقد يقال بانصرافه إلى الصيرفي؛ لأنّه صاحب كتاب، وبانصراف من روى عنه ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى أيضاً إلى الصيرفي؛ لنفس النكتة، فإن صحّ ذلك ثبتت وثاقته. وعلى أيّ حال فيكفي في سقوط سند


(1) بحوث في شرح العروة الوثقى، ج2، ص83.

(2) وسائل الشيعة، ج25، ص118، الباب61 من أبواب الأطعمة المباحة، ح2.

161

الحديث ضعف بعض من في السند.

ومنها: ما ورد في ثبوت الطلاق بالبيّنة من قبيل: ما ورد بسند تام عن أحمد بن محمد بن أبي نصير عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام) «في المطلّقة إن قامت البيّنة أنّه طلّقها منذ كذا وكذا وكانت عدّتها قد انقضت فقد بانت، والمتوفّى عنها زوجها تعتدّ حين يبلغها الخبر؛ لأنّها تريد أن تحدّ له».

وروى الكليني(رحمه الله) صدر الحديث إلى قوله: «فقد بانت».

وما ورد بسند تام عن أبي بصير عن أبي عبدالله(علیه السلام) «أنّه سئل عن المطلّقة يطلّقها زوجها فلا تعلم إلّا بعد سنة، فقال: إن جاء شاهدا عدل فلا تعتدّ، وإلّا فلتعتدّ من يوم بلغها».

وما عن الحسن بن زياد أو الحسين بن زياد قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن المطلّقة يطلّقها زوجها ولا تعلم إلّا بعد سنة، والمتوفّى عنها زوجها ولا تعلم بموته إلّا بعد سنة، قال: إن جاء شاهدان عدلان


(1) المصدر السابق، ج22، ص232، الباب28 من أبواب العدد، ح14.

(2) الکافي، ج6، ص111، باب أن المطلقة وهو غائب عنها تعتد من يوم طلقت، من کتاب الطلاق، ح6.

(3) وسائل الشيعة، ج22، ص228، الباب27 من أبواب العدد، ح3.

162

فلا تعتدّان، وإلّا تعتدّان» . ولم تثبت وثاقة الراوي المباشر، وما فيه من كون عدّة الوفاة من يوم الوفاة لا من يوم شهادة البيّنة خلاف مذهب الشيعة.

ومثل هذا الحديث في المضمون ما ورد بسند تام عن الحلبي عن أبي عبدالله(علیه السلام) قال: «قلت له: امرأة بلغها نعي زوجها بعد سنة أو نحو ذلك، قال: فقال: إن كانت حبلى فأجلها أن تضع حملها، وإن كانت ليست بحبلى فقد مضت عدّتها إذا قامت لها البيّنة أنّه مات في يوم كذا وكذا، وإن لم يكن لها بيّنة فلتعتدّ من يوم سمعت».

وما عن أحمد بن محمد بن أبي نصر بسند تام عن الرضا(علیه السلام) قال: «سأله صفوان وأنا حاضر عن رجل طلّق امرأته وهو غائب فمضت أشهر، فقال: إذا قامت البيّنة أنّه طلّقها منذ كذا وكذا أو كانت عدّتها قد انقضت فقد حلّت للأزواج. قال: فالمتوفّى عنها زوجها؟ فقال: هذه ليست مثل تلك، هذه تعتدّ من يوم يبلغها الخبر؛ لأنّ عليها أن تحدّ».


(1) وسائل الشيعة، ج22، ص231، الباب28 من أبواب العدد، ح9.

(2) المصدر السابق، ص231، ح10.

(3) المصدر السابق، ص227، الباب26 من أبواب العدد، ح7.

163

والاستدلال بهذه الروايات أيضاً يكون بعد إلغاء خصوصيّة المورد عرفاً ولو بمعونة وجود جذر عقلائي لحجّية البيّنة.

ومنها: روايات ثبوت الهلال بشهادة عدلين بعد فرض إسقاط خصوصية المورد عرفاً أيضاً.

ومنها: خبر مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله(علیه السلام) قال: سمعته يقول: «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة».

وسند الحديث ضعيف بمسعدة بن صدقة الذي لا دليل على وثاقته عدا وروده في كامل الزيارات، ونحن لا نقبل بهذا الدليل.

وأمّا من حيث الدلالة فهنا يكون إلغاء خصوصيّة المورد عرفاً أوضح من الروايات السابقة، وذلك بنكتة تعدّد المورد.


(1) توجد جملة منها في وسائل الشيعة، ج10، ص286، الباب11 من أبواب أحكام شهر رمضان.

(2) وسائل الشيعة، ج17، ص89، الباب4 من أبواب ما يكتسب به، ح4.

164

وقد حاول السيّد الخوئي(رحمه الله) جعل هذا الحديث عامّاً في ذاته وبلا حاجة إلى التعدّي العرفي من المورد؛ وذلك بالتمسّك بقوله: «والأشياء كلّها على هذا» حيث وردت في هذا النصّ أداة العموم، وهي كلمة الأشياء التي هي جمع محلّى باللام (الأصحّ التعبير في الجمع المحلّى باللام بالإطلاق لا بالعموم)، لا سيّما مع التأكيد بكلمة كلّها.

وأورد عليه أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) باحتمال اختصاص الخبر بحجّية البيّنة في مقابل الحلّ المشار إليه بكلمة «هذا».

وعلى أيّة حال فللسيّد الخوئي(رحمه الله) في كتاب الطهارة وفي كتاب الاجتهاد والتقليد مناقشة دلاليّة في الاستدلال بهذا الحديث في مقابل من يجعله دليلاً على ضرورة تحصيل شهادة عدلين وعدم كفاية خبر الواحد، وهي أنّه لا وجه لحمل كلمة البيّنة على المصطلح المتشرّعي المتأخّر وهو خبر عدلين، بل هي محمولة على معناها اللغوي، وهو مطلق ما يبيّن، فلعلّ خبر الواحد أيضاً حجّة وبيّنة.


(1) راجع التنقيح، ج1، ص209.

(2) راجع بحوث في شرح العروة الوثقی، ج2، ص82.

(3) راجع التنقيح، ج3، ص168، وج1، ص211.

165

إلّا أنّه(رحمه الله) جعل ذلك أيضاً في بحث الاجتهاد والتقليد إشكالاً على أصل الاستدلال بهذا الحديث على حجّية خبر العدلين، فذكر: أنّ دلالة الحديث على حجّية خبر العدلين غير تامّة؛ لأنّ «البيّنة» لم تثبت لها حقيقة شرعية أو متشرّعية، وإنّما استعملت في الكتاب والأخبار بمعناها اللغوي، وهو ما به البيان والظهور، ومعه لا يمكن أن يستدلّ بهذا الحديث على حجّية البيّنة المصطلح عليها.

أقول: بالإمكان التفكيك بين المقامين بأن يقبل الإشكال في دلالة الحديث على عدم حجّية خبر الواحد؛ وذلك لأنّه بعد أن حملت البيّنة على معناها اللغوي فمن المحتمل كون خبر الواحد بيّنة، وأن لا تختصّ البيّنة بخبر العدلين. ولا يقبل الإشكال على دلالة الحديث على حجّية خبر العدلين؛ وذلك لأنّ البيّنة بعد أن كان قوله: «حتّى يستبين لك غير ذلك» قرينة على أنّه ليس المقصود بها العلم وإلّا لدخل في الاستبانة، فيكون خبر العدلين هو المتيقّن منها؛ لأنّه بعد إرادة الحجّة التعبّدية منها إمّا أن تحمل على خبر الواحد فتثبت حجّية خبر العدلين بالأولوية القطعية، أو تحمل على حجّية خبر العدلين؛ إذ لا يحتمل كون المقصود مثلاً خبر أربعة عدول الثابت في بعض موارد خاصّة، ولا التواتر


(1) راجع التنقيح، ج1، ص210.

166

المفيد للعلم لدخوله في الاستبانة، اللّهمّ إلّا إذا احتمل اختصاصها بأمر نادر لا يتبادر إلى الذهن، أي بمثل إخبار ذي اليد مثلاً بالحرمة أو النجاسة أو نحو ذلك.

وعلى أيّة حال فأصل هذا الإشكال لا يخلو من غرابة، فلو فرض التشكيك في حمل البيّنة على شهادة العدلين في قول النبي؟ص؟: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان...» ، لا أظنّ أن يكون مجال للتشكيك في استقرار اصطلاح البيّنة في شهادة العدلين في زمان الإمام الصادق(علیه السلام).

ومنها: روايات حجّية البيّنة في القضاء كقوله؟ص؟: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» ، وهذه وإن كانت واردة في باب القضاء، ولكنّه نقل عن المحقّق الهمداني(رحمه الله) التعدّي عن مورد الدليل إلى سائر موارد الموضوعات بالأولويّة أو المساواة، بدعوى أنّ البيّنة لو كانت حجّة في مورد القضاء رغم معارضتها للأدلّة التي توافق قول المنكر _ وقد تكون أمارة كاليد _ فهي حجّة في غير تلك الموارد أيضاً والتي قد لا يعارضها إلّا أصل عملي مثلاً ، وكأنّ المقصود بالأولويّة أو المساواة الأولويّة أو


(1) وسائل الشيعة، ج27، ص232، الباب2 من أبواب کيفية الحکم، ح1.

(2) المصدر السابق، ص232، ح1.

(3) راجع بحوث في شرح العروة الوثقی، ج2، ص78.

167

المساواة العرفيّة الخالقة للظهور اللفظي العرفي في إطلاق الحجّية.

وقد أورد على ذلك السيّد الخوئي(رحمه الله) بعدم إمكان التعدّي من باب القضاء إلى سائر الأبواب؛ لأنّ في القضاء خصوصيّة ضرورة فصل الخصومة، فلعلّه لذلك جعلت البيّنة فيه حجّة، وهذا بخلاف سائر الموارد، ولذا ترى أنّ اليمين جعل حجّة في باب القضاء في حين أنّه لم يجعل حجّة في سائر الموارد.

وقد أورد على ذلك أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بأنّه صحيح أنّه لابدّ في باب القضاء من فصل المرافعة ولكن كان بالإمكان فصل المرافعة بالحجّة المطابقة لقول المنكر ولو كانت أصلاً، فحينما قدّمت الشريعة بيّنة المدّعي في باب القضاء على حجّة المنكر فهذا دليل على أنّ البيّنة أقوى دلالة من حجّة المنكر، فتأتي عندئذٍ فكرة التعدّي إلى غير باب القضاء بالبيان الماضي. وأمّا الحكم باليمين فهو في واقعه ليس بمعني جعل اليمين هو الحجّة لإثبات الواقع، بل الحجّة هي اليد أو الأصل المطابق لقول المنكر، ولذا يجوز للشخص الثالث الخارج من المرافعة ترتيب الأثر على ذاك الأصل بغضّ النظر عن يمين المنكر.

وإنّما اليمين فرض موضوعاً شرعاً لحكم القاضي وفق حجّة المنكر


(1) التنقيح، ج1، ص208.

168

بنكتة المرافعة الموجودة في المقام، فإدّعاء المدّعي رغم أنّه خلاف حجّة المنكر شكّل مانعاً عن حكم القاضي وفق حجّة المنكر، وجُعل الرافع لهذا المانع شرعاً هو يمين المنكر. وهذا بخلاف الحال في بيّنة المدّعي، فإنّ المدّعي تكون دعواه خلاف الحجّة أساساً، فالقضاء وفق دعوى المدّعي بسبب البيّنة يعني جعل البيّنة حجّة لإثبات الواقع في باب القضاء، وأنّها حجّة أقوى من حجّة المنكر، فهنا تأتي فكرة التعدّي إلى غير باب القضاء بالبيان الذي مضى عن المحقّق الهمداني(رحمه الله)، هذا مضافاً إلى أنّ حجّية البيّنة في باب القضاء لا تختصّ بالمرافعات حتّى يقال: إنّه لعلّها كانت لأجل خصم النزاع، بل تشمل موارد القضاء بالحدود أيضاً من قبيل حدّ شرب الخمر الذي لا خصومة فيه.

نعم، أورد مع ذلك أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على البيان المنقول عن المحقّق الهمداني(رحمه الله) بأنّ الأولويّة والمساواة بالبيان الماضي يمكن منع ثبوتهما؛ وذلك بإبداء احتمال أنّ جعل الحجّية للبيّنة في باب القضاء لعلّه كان بنكتة شدّة اهتمام المولى في باب القضاء بالوصول إلى الواقع، وفي غير باب القضاء لعلّه لا توجد للمولى تلك الدرجة من الاهتمام بالوصول إلى الواقع المؤدّي إلى جعل الحجّية للبيّنة، ولذا لم يجعل البيّنة حجّة.

169

هذا، وللسيّد الخوئي(رحمه الله) تقريب آخر للاستدلال بقوله؟ص؟: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»، وهو: أنّ البيّنة هنا ليست بمعنى شهادة عدلين كي يرد احتمال اختصاص حجّية شهادة العدلين بباب القضاء، وإنّما هي بمعنى ما يُثبت وما يبيّن؛ لأنّ اصطلاح البيّنة بمعنى شهادة عدلين اصطلاح متأخّر لا يحمل عليه ما في الكتاب والسنّة، وإنّما هي مستعملة في الكتاب والسنّة بمعناها اللغوي كقوله؟عز؟:﴿إنّي عَلَى بَيَّنݧݧَةٍ مِنْ رَبّي﴾ . وقوله؟عز؟: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذݦݦَّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيَّنݧݧَاتِ وَالزُّبُرِ﴾.

إذاً فقوله؟ص؟: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» يعني: القضاء بالدليل، أي: إنّه؟ص؟ يبيّن أنّ قضاءه ليس قضاءً بالواقع، بل قضاء بالحجّة وباليمين، وبما أنّه ثبت خارجاً أنّه؟ص؟ طبّق البيّنة في قضائه على شهادة العدلين، فهذا دليل على أنّ شهادة العدلين في ذاتها حجّة ولا اختصاص لحجّيتها بخصوص باب القضاء.

وأورد على ذلك أُستاذنا الشهيد(رحمه الله):


(1) الأنعام: 57.

(2) النحل: 44.

(3) راجع التنقيح، ج3، ص166، وج1، ص210 _ 211.

170

أوّلاً: بأنّ هذا المقدار من البيان لا يثبت إطلاق حجّية البيّنة لسائر الموضوعات بمقدّمات الحكمة؛ لأنّ الرواية وإن دلّت عندئذٍ على حجّية البيّنة في الجملة ولكن بما أنّها لم تكن بصدد بيان حجّية البيّنة مباشرة، بل فرضت حجّية البيّنة أمراً مفروغاً عنها وأخذتها في موضوع القضاء، إذاً فلا تجري مقدّمات الحكمة لإثبات الإطلاق.

وثانياً: أنّه لو ثبت أنّ الرواية بصدد جعل حكم القضاء والحجّية القضائيّة وقد أخذت في موضوع هذه الحجّية حجّية شهادة العدلين _ لأنّ البيّنة بمعنى الحجّة وهي مطبّقة يقيناً في عمل الرسول؟ص؟ على شهادة العدلين _ لأمكن أن يقال: إنّ حجّية البيّنة إذاً ثابتة في الرتبة السابقة على الحجّية القضائيّة، فهي حجّة مطلقاً، لا في خصوص باب القضاء، ولكن هذا غير ثابت؛ إذ من المحتمل أنّ الرسول؟ص؟ إنّما هو بصدد الإخبار بأنّه لا يقضي بالواقعيّات، وإنّما يقضي بالبيّنات والأيمان وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار، وقد طبّق البيّنة عملاً على شهادة العدلين، وهذا يعني حجّية شهادة العدلين. أمّا كونها حجّية مفروغاً عنها في الرتبة السابقة على حجّية القضاء حتّى يدّعى

171

عندئذٍ أنّ هذا يعني حجّية البيّنة على الإطلاق لا في خصوص باب القضاء فلم يثبت، فكم فرق بين أن يقول مثلاً: جعلت الحجّية للقضاء بما هو حجّة وأن يقول مثلاً: إنّي لا أعتمد في القضاء على علم الغيب بل على الحجّة، فالأوّل تستفاد منه فرض الحجّية في المرتبة السابقة على الحجّية القضائيّة، بخلاف الثاني.

هذا، ورغم كلّ ذلك قد استقرب أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) تماميّة الاستدلال بهذه الرواية على حجّية البيّنة في الموضوعات مطلقاً إلّا ما خرج بالدليل؛ وذلك بدعوى أنّ ما يتحصّل من تطبيق النبيّ؟ص؟ الذي لا شكّ فيه للبيّنة في القضاء على شهادة عدلين من حجّية شهادة العدلين في باب القضاء حينما يضمّ إلى الجذر العقلائي لحجّية البيّنة في مطلق الأبواب يكون المفهوم عرفاً من ذلك إمضاء هذا الجذر العقلائي وجعل الحجّية للبيّنة على الإطلاق.

هذا تمام الكلام في شهادة العدلين في الموضوعات.

وقد اتّضح أنّ إثبات فقاهة الفقيه بشهادة عدلين من أهل الخبرة صحيح.


(1) بحوث في شرح العروة الوثقی، ج2، ص81 _ 82.

(2) المصدر السابق، ص82.

172

إثبات الاجتهاد بخبر الواحد

وقد يقال بأكثر من ذلك، وهو جواز إثبات فقاهة الفقيه بشهادة ثقة واحد من أهل الخبرة.

ولإثبات ذلك أحد طرق ثلاثة:

الطريق الأوݧݧّل: إثبات حجّية خبر الواحد في الموضوعات إلّا ما خرج بالدليل.

وقد يقال: إنّ حجّية خبر الواحد في الموضوعات لا تنفعنا في المقام؛ وذلك لأنّ خبر الواحد إنّما يكون حجّة إذا كان عن الحسّ، والإخبار عن الفقاهة إخبار عن الحدس؛ إذ لا يمكن أن تكشف الفقاهة بمجرّد الحسّ، وإلّا لعرفها كلّ أحد. ومن هنا يبطل أيضاً إثبات الفقاهة بالبيّنة؛ لأنّ حجّية البيّنة أيضاً مشروطة بالحسّ.

والجواب على ذلك واضح، فإنّه ليس كلّ ما لا يدركه الإنسان إلّا عن خبرة وتخصّص يعتبر الإخبار عنه من قِبل الخبير والمتخصّص إخباراً عن الحدس، وإنّما المقصود بالإخبار عن الحدس الذي ليس الإخبار عنه حجّة ما يكثر فيه الخطأ بحيث تسقط بالنسبة للإخبار عنه أصالة عدم الخطأ؛ وذلك من قبيل فتاوى الفقهاء في غير المسائل الواضحة، فحجّية فتوى الفقيه لا يمكن أن تكون من باب حجّية

173

خبر الواحد، ولا من باب البيّنة لدى توافق فقيهين على فتوى واحدة؛ لأنّ أصالة عدم الخطأ في باب الأخبار والشهادات تختصّ بما يكون عن حسّ أو قريباً من الحسّ ممّا يقلّ فيه الخطأ، ومن الواضح أنّ إخبار الخبير والمتخصّص عن الفقاهة يعتبر في شأن الخبراء بفنّ الفقه إخباراً عن الحسّ أو قريباً من الحسّ ويقلّ فيه الخطأ.

ولا بأس بالإشارة هنا إلى طرف من الكلام عن حجّية خبر الواحد في الموضوعات فنقول: قد جمع أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في البحوث روايات كثيرة قد يستدلّ بها على حجّية خبر الثقة في الموضوعات، وناقش هو(رحمه الله) في دلالة أكثرها، ولم يقبل عدا دلالة خبرين منها، ونحن هنا نقتصر من بين تلك الروايات على ذكر ذينك الخبرين:

الأوّل: ما ورد بسند تام عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله(علیه السلام): «في رجل وكّل آخر على وكالة في أمر من الأُمور وأشهد له بذلك شاهدين، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر، فقال: اشهدوا أنّى قد عزلت فلاناً عن الوكالة، فقال: إن كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكّل فيه قبل العزل فإنّ الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل كره الموكّل أم رضي. قلت: فإنّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم العزل أو يبلغه


(1) بحوث في شرح العروة الوثقی ، ج2، ص91 وبعدها.

174

أنّه قد عزل عن الوكالة فالأمر على ما أمضاه؟ قال: نعم، قلت له: فإن بلغه العزل قبل أن يمضي الأمر ثمّ ذهب حتّى أمضاه لم يكن ذلك بشيء؟ قال: نعم، إنّ الوكيل إذا وكّل ثم قام عن المجلس فأمره ماضٍ أبداً والوكالة ثابتة حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلّغه أو يشافَه بالعزل عن الوكالة».

ويمكن الإيراد على الاستدلال بهذا الحديث: أنّ غاية ما يدل عليه هذا الحديث هي أنّ خبر الثقة قام مقام العلم الموضوعي بالعزل في إبطال عمل الوكيل واقعاً عند مصادفة العزل، وهذا غير قيامه مقام القطع الطريقي الذي هو معنى حجّيته.

وأجاب على ذلك أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بأنّه يفهم عرفاً من إقامته مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية في الموضوع أنّه حجّة وكاشف شرعاً.

أقول: لو كان المترقّب ابتداءً دخل العلم بالعزل بما هو طريق في موضوع عدم نفوذ ما يقوم به الوكيل أمكن القول بأنّ إقامة خبر الثقة مقام هذا العلم تدل عرفاً على طريقيّة خبر الثقة وحجّيته؛ لأنّ هذا


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص162، الباب2 من کتاب الوكالة، ح1.

(2) بحوث في شرح العروة الوثقی ، ج2، ص98.

175

العلم إنّما كان موضوعاً بما هو طريق، ولكن المترقّب ابتداءً كون موضوع عدم نفوذ عقود الوكيل هو العزل واقعاً، كما هو الحال في غالب الموضوعات في الفقه التي هي موضوعات بوجوداتها الواقعية، إلّا أنّه هنا لأجل مصلحة استقرار وضع السوق جعل وصول العزل إلى الوكيل جزء الموضوع، ومن المعقول عندئذٍ الاكتفاء في ذلك بمستوى من مستويات الوصول، وهو الوصول بخبر الثقة مثلاً، ولو اكتفي بذلك لم يحكم العرف بالتعدّي من هذا المورد واستفادة طريقيّة خبر الثقة على الإطلاق.

إلّا أنّه بالإمكان أن يقال في مقابل هذا الإشكال _ لو استفدنا من هذا الحديث سقوط استصحاب عدم العزل بخبر الثقة المخبر بالعزل _ : إنّ خبر الثقة قام هنا مقام العلم الموضوعي الطريقي مرّتين، مرّة بلحاظ أنّ العلم بالعزل موضوع لعدم نفوذ العقود أو قل: لنفوذ العزل، وأُخرى بلحاظ أنّ العلم بالعزل موضوع لسقوط استصحاب عدم العزل، وقد قام خبر الثقة مقام العلم بكلا اللحاظين، والنقاش المذكور إنّما يرد باعتبار اللحاظ الأوّل، ولا يرد باعتبار اللحاظ الثاني، فيستفاد عرفاً من قطع الاستصحاب بخبر الثقة في المقام أنّ خبر الثقة يقوم مقام القطع الطريقي على الإطلاق، ولا يرى العرف خصوصيّةً للمورد.

176

إلّا أن يقال: إنّه نحتمل أيضاً خصوصية في انقطاع الاستصحاب في المورد بإخبار الثقة باعتبار أنّ هذا الاستصحاب أيضاً يضرّ بمصلحة استقرار السوق؛ لأنّ الوكيل يعمل به ويُجري معاملات ثم ينكشف الخلاف.

ثم لا يخفى أنّ صدر هذا الحديث لا يخلو من الإشعار بعدم حجّية خبر الواحد في الموضوعات؛ وذلك لقوله: «في رجل وکّل آخر على وكالة في أمر من الأُمور وأشهد له بذلك شاهدين»، فلو كان الشاهد الواحد كافياً فلماذا أشهد لذلك بشاهدين؟! ولماذا لم يبيّن الإمام(علیه السلام) أنّه كان يكفي شاهد واحد؟! وطبعاً هذا الذي نقوله لا يزيد على مجرّد الإشعار.

والثاني: ما ورد بسند تام عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله(علیه السلام) قال: «سألته عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضاً فقال لي: إن حدث بي حدث فأعط فلاناً عشرين ديناراً وأعط أخي بقيّة الدنانير، فمات ولم أشهد موته، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي: إنّه أمرني أن أقول لك: انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي فتصدّق منها بعشرة دنانير إقسمها في المسلمين، ولم يعلم أخوه أنّ

177

عندي شيئاً، فقال: أرى أن تصدّق منها بعشرة دنانير».

ودلالة هذا الحديث قابلة للمناقشة؛ وذلك لأنّ جهة السؤال في كلام السائل مردّدة بين أمرين، فبناءً على أنّ إجمال السؤال في مثل ذلك يسري إلى الجواب _ لا أنّ ترك الاستفصال يوجب انعقاد الإطلاق _ يصبح الجواب مجملاً، والاحتمالان ما يلي:

أحدهما: كون المقصود السؤال عن حجّية خبر الثقة الذي أخبر بوصيّة المتوفّى.

والثاني: كون السائل فارغاً عن أنّ المخبر صادق في إخباره إلّا أنّ الوارث _ وهو أخوه مثلاً _ غير مطّلع على هذه الوصيّة، فلو اطّلع على قصّة هذا الرجل لطالبه بالبيّنة، وهو لا يمتلك بيّنة، أو طالبه بالحلف مثلاً ما دام لا يمتلك بيّنة، وقد لا يرغب هو في الحلف مثلاً، وإنّما لم يطالبه بالبيّنة ولا بالحلف لأنّه غير مطّلع على أصل وجود مال لأخيه لدى هذا الرجل، فهل من حقّه أن يعمل بما علمه من الوصيّة من دون إخبار أخيه؟ أو ليس من حقّه ذلك قبل تصفية الحساب مع من لو اطّلع على الأمر لكان له رفع القضيّة إلى حاكم


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص433، الباب97 من کتاب الوصايا، الحديث الوحيد في الباب.