574

 

8 ـ الضياع:

وهذه الحالة ـ أيضاً ـ توجد غالباً في المسلمين المحرومين عن السيادة الإسلاميّة وحكومة الإسلام الحقيقيّة، والمنكوبين تحت وطأة الاستكبار الكافر، فهم يحسّون بالضياع على أساس أنّهم غرقوا في بحر الخسارات الناجمة من تسيطر الكفار والكفر عليهم، وعدم وضوح طريق النجاة عندهم، وعدم تحدّد المسؤوليّات بشكل واضح، وعدم وجود هدف محدّد وواضح لديهم. وهذا ـ أيضاً ـ ممّا يميت الهمم من ناحية، ويورث اليأس من ناحية أُخرى، ويوجب الخمول والركود، ويجعل الإنسان المسلم لا يفكّر في علاج مجتمعه، ولا في علاج نفسه، ومن ثَمَّ يمنع عن التربية الخلقيّة والنموّ الروحي.

 

9 ـ حالة الاستسلام للأمر الواقع:

وهذه الحالة تنشأ من رؤية الشخص نفسه أمام أمر واقع، ومن الكسل، ومن العوامل السابقة. وحالة الاستسلام للواقع من أشدّ المثبّطات، وأهمّ الموانع عن النموّ والترقّي المعنوي الفردي، والعمل في سبيل ترقية المجتمع.

ومن نعم الله ـ تعالى ـ على المسلمين كافّة في زماننا هذا، وجود حكومة إسلاميّة صالحة في بقعة من بقاع الأرض، وهي: إيران، لها سيادتها وأُبّهتها وعظمتها، فإنّ لها الفضل الكبير على المسلمين في أطراف العالم في كسر هذه المثبّطات الثلاث الأخيرة، فإنّه إلى حد كبير كسرت أُبّهة الغرب في نظر المسلمين، ووضعتهم على طريق العمل من دون ضياع، وسلبت منهم حالة الاستسلام، وخلقت في نفوسهم حالة الإقدام. والحمد لله على ما هدانا، والشكر له على ما أولانا.

هذا تمام كلامنا في عدّ بعض المثبّطات ـ لا على سبيل الحصر ـ عن التعالي الروحي، والنموّ المعنوي، بعد الأخذ بعين الاعتبار الصراع الموجود في نفس الإنسان بين شهواته الحيوانيّة من ناحية، وجذور الأخلاق الإنسانيّة من ناحية أُخرى.

575

 

 

 

 

المحفّزات

 

والآن حان لنا أن نبحث بعض المحفّزات إلى الخير والتعالي في مقابل ما شرحناه من المثبّطات، وذلك كالتالي:

 

1 ـ المثل الأعلى مفهوماً: ( ارم ببصرك أقصى القوم )

ينبغي للإنسان أن يصوّر أمامه حدّاً أعلى من الكمال في شعبة من شعب الأخلاق أو في جميع الشعب، ويجعله مثلا أعلى ماثلا إزاء عينيه، محدداً لحدوده، مشخّصاً لتفاصيله بقدر معتدّ به، ثمّ يشرع في الاقتراب نحوه خطوة خطوة. فهذا المثل الأعلى يكون محفّزاً له نحو الخير؛ إذ من ناحية يكون نفس تصوّره للمثل الأعلى ومحاسنه مرغّباً له ومشجّعاً، ومن ناحية أُخرى يلتفت ـ دائماً ـ إلى مدى بُعد المرحلة التي وصل إليها عن مرحلة المثل الأعلى، فهذا يحركه نحو الاهتمام بالاقتراب. وإذا وصل إلى مرحلة ذاك المثل أو اقترب منه، قويت همّته، واشتدّت عزيمته، فكان بإمكانه فرض مثل آخر أعلى وأبعد مدىً عن المثل السابق، ومن ناحية ثالثة يكون هذا المثل الأعلى مصداقاً لمحفز آخر سوف يأتي الكلام عنه إن شاء الله من حمل همٍّ كبير، ومن ناحية رابعة قد يكون نفس ذاك المثل الأعلى منيراً لدرب السلوك وسبيل الوصول، ويوجب تخطيط الشخص لذاك المثل ولسبل الوصول إليه. فنسبة من يعمل من دون مثل مع من يعمل بعد تجسيد المثل نسبة من

576

يبني بيتاً من دون تصوير مسبق له مع من يبني بيتاً بعد هندسة البيت في صورة يجعلها ماثلة بإزائه.

والخلاصة: أنّ نصح أمير المؤمنين(عليه السلام) في باب الحرب يمكن تسريته إلى جميع مقامات الهمم العالية حيث قال: «تزول الجبال ولا تزل! عضّ على ناجذك. أعرِ الله جمجمتك. تدفي الأرض قدمك. ارم ببصرك أقصى القوم، وغضّ بصرك، واعلم أنّ النصر من عند الله سبحانه»(1).

وشاهدنا فعلا جملة: «ارم ببصرك أقصى القوم» أي: إنّه يجب التركيز على أقصى القوم المحارب، والاهتمام بإفنائهم عن آخرهم، والاقتراب إلى هذا الهدف شيئاً فشيئاً.

وقد تتفق الحاجة إلى جعل مثلين؛ مثل أعلى، ومثل أدنى واقع في طريقه إلى الأعلى، فإن وصل إلى الأدنى مثّل أمامه ما هو أعلى منه، إلى أن يصل إلى ذاك المثل الأعلى.

ولنلخّص نحن مثلنا الأعلى في كلمة مختصرة، وهي: تحصيل رضا الله تعالى.

وبالإمكان أن يختار أحد لنفسه بعض المُثل العليا من الكلمات القصار الواردة عن الأئمّة(عليهم السلام)، كقوله(عليه السلام): «... كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً ...»(2) فلتكن المثل الأعلى العبوديّة لله تعالى، وكقوله(عليه السلام): «المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذلّ شيء نفساً. يكره الرفعة، ويشنأ السمعة. طويل غمّه، بعيد همّه، كثير صمته، مشغول وقته. مشكور صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلته، سهل الخليقة، ليّن العريكة، نفسه أصلب من الصلد، وهو أذلُّ من العبد»(3).


(1) نهج البلاغة: 37، رقم الخطبة: 11.

(2) بحار الأنوار 77/400، و 94/92 و 94.

(3) نهج البلاغة: 724، رقم الحكمة: 333.

577

ويمكن انتخاب المثل الأعلى من بعض الخطب الطوال أيضاً، كأن ينتخب من خطبة المتقين بعض الجمل.

ولا يبعد أن يكون أحد الأهداف من كثير من الآيات والروايات الواردة في توصيف مراحل راقية من الكمال، أو تعريف المتقين، بل وحتّى ما ورد في توصيف الجنّة، هو: تجسيد أمثال عليا، فحتّى جعل المثل الأعلى هو الوصول إلى الجنّة بما يوصف من نعيمها وعيشها وصفائها يحفّز الإنسان نحو الخير والسعادة، وكذلك روايات صفات الشيعة ونحوها قد تكون بهذا الصدد، وذلك من قبيل ما جاء عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودّتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا. الذين إن غضبوا لم يظلموا، وإن رضوا لم يسرفوا. بركة على من جاوروا، سلم لمن خالطوا»(1).

وكذلك ما عن الصادق(عليه السلام): « إيّاك والسفلة، فإنّما شيعة عليّ(عليه السلام) من عفّ بطنه وفرجه، واشتدّ جهاده وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أُولئك فأُولئك شيعة جعفر »(2).

وكثير من الروايات الواردة في أبواب مختلفة كباب السفر، أو كتاب الصلاة، أو غير ذلك، قد يكون أحد أهدافها إعطاء مُثل عليا خاصّة بذاك الباب. فبإمكان الشخص أن يصبح مالكاً لمُثل عُليا عديدة كلّ واحد منها لباب من الأبواب.

وهناك نكتة في مسألة تشخيص المثل الأعلى لا ينبغي إغفالها، وهي: أنّ تشخيص المثل الأعلى على رغم كونه نافعاً في التربية، وشأن الإنسان في ذلك شأن معمار يضع نصب عينيه هندسة البيت ومثلا نهائياً عمّا يريده من شكل البيت؛ كي يهتدي في وقت البناء بهدي هذا المثل، إلاّ أنّ هذا التصوير قد يكون في نفس


(1) المحجة البيضاء 4/352.

(2) المصدر السابق: ص 353.

578

الوقت ذا مشكلة جانبية؛ وذلك لأنّه قد يصبح هذا المثل قيداً على يده، مانعاً عن نموّه أكثر من ذلك فيما لو كان المثل في حدّ ذاته مثالا دانياً وله نهاية. فالمفروض بالإنسان أحد أمرين: إمّا أن يبدل مثله الأعلى بين حين وحين كلّما اقترب منه في العمل أو وصل إليه، وإمّا أن يجعل مثله ممّا لا نهاية له، كأن يكون مثله الأعلى تحصيل رضوان الله تعالى.

 

2 ـ القدوة: ( المثل الأعلى المتجسّد في إنسان )

﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً * قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكاً رَّسُولاً﴾(1). ﴿وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾(2). ﴿وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الاَْسْوَاقِ ...﴾(3).

«... ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً، يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد...»(4).

خُلِقَ الإنسانُ حسّيّاً أكثر منه عقليّاً، فقد لا يحرّكه نحو الصلاح مجرّد اتخاذ مثل أعلى مفهومي بقدر ما يحرّكه اتّخاذ ذلك المثل الأعلى متجسّداً في إنسان، يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق، وهذا المثل الأعلى المتجسّد يكون على


(1) السورة 17، الإسراء، الآيتان: 94 ـ 95.

(2) السورة 6، الأنعام، الآيتان: 8 ـ 9.

(3) السورة 25، الفرقان، الآية: 20.

(4) نهج البلاغة: 573، رقم الكتاب: 45.

579

قسمين: فقد يكون متجسّداً في شخصيّة معصوم من المعصومين(عليهم السلام)، وأُخرى يكون متجسّداً في غير معصوم. ولكلّ من المثلين بعض الامتيازات على الآخر.

فالمثل المعصوم امتيازه على غير المعصوم يكون:

أوّلا: باعتبار كمال المعصوم ونقص غير المعصوم في درجة الكمال، فجعل غير المعصوم مثلا أعلى قد يجمّد الإنسان إلى حدّ محدود، أو يحرّك الإنسان بتحريك ناقص، وإن أمكن علاج ذلك في الجملة بجعله مثلا أعلى مرحليّاً، واجتيازه إلى مثل أعلى آخر بعد الوصول إليه. أمّا المثل المعصوم فهو عار عن هذا النقص.

وثانياً: بتنزّه المعصوم عن الأخطاء والزلاّت، وتورّط غير المعصوم في بعض المعائب والاشتباهات. فإذا جعلنا غير المعصوم مثلا أعلى لنا، قد تصيبنا من نقائصه ومعائبه العدوى ـ أيضاً ـ لا شعوريّاً، بالأخصّ إذا كان المثل حيّاً نعيش معه ونعاشره، وإن أمكن ـ أيضاً ـ علاج ذلك في الجملة: تارة باختيار مثل أعلى يكون الفارق بيننا وبينه كبيراً جدّاً، بحيث يكون أكمل منّا حتّى في أكثر نقائصه ومعائبه، أي: إنّه في نفس المعائب الموجودة عنده يكون أقلّ عيباً منّا، فيكملنا حتّى في معائبه، وأُخرى باختياره مثلا أعلى في شُعب كماله مع الالتفات إلى نقائصه والتحرّز بقدر الإمكان من إصابة العدوى لنا في نقائصه. أمّا المثل الأعلى المعصوم فهو عار عن هذه النقائص.

والمثل غير المعصوم امتيازه على المعصوم يكون من وجهين أيضاً:

فأوّلا: إنّنا قد نفكّر في المثل المعصوم أنّنا لا نستطيع أن نكون مثله؛ لأنّه معصوم ونحن لسنا بمعصومين. وهذا التفكير قد يفتّ في عضدنا ويضعف عزيمتنا، في حين أنّ المثل الأعلى إن كان غير معصوم لم يراودنا فيه تفكير من هذا القبيل.

وليعلم أنّ هذا التفكير في الحقيقة باطل؛ فإنّ المعصومين(عليهم السلام) إنّما جُعلوا لنا أُسوة ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ

580

اللَّهَ كَثِيراً﴾(1)، ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ... * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ...﴾(2).

أمّا العصمة المخصوصة بهم(عليهم السلام)، والتي لا يمكننا أن ننالها فإنّما هي: العصمة الإلهيّة المرافقة لشخصيّة المعصوم منذ أوّل وجوده. أمّا الاعتصام الكامل بالله من كلّ ذنب على أثر العمل والتعب والتربية والرياضة النفسانية بطرقها الشرعيّة فكلّ إنسان مؤهّل للوصول إليه.

وثانياً: إنّنا قد نعظّم الفاصل الموجود بيننا وبين المعصوم في الدرجة، فتأخذنا حالة اليأس ونقول: متى نستطيع أن نطوي هذه المسافات الطويلة البعيدة المدى؟! وهذا بخلاف المثل أو القدوة غير المعصوم الذي لا نحسُّ بيننا وبينه بهذا المستوى من الفاصل الطويل، وإن أمكن علاج ذلك في الجملة: بأن يجعل المعصوم مثلا أعلى وقدوة لا بمعنى كون الهدف الوصول إليه كاملا، بل بمعنى السير والاتّجاه نحوه «... ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني...» على أنّ من قويت همّته ورسخت عزيمته وشدّ الرحال للوصول أعانه الله على ذلك ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(3). ولو أنّ أحداً جمع لنفسه بين القدوتين: المعصومة وغير المعصومة فحسناً فعل.

والمقصود بجعل الشخص قدوة هو: الالتفات والتأمّل في صفاته وأفعاله وأهدافه وآماله وآلامه، كي نكون مثله. فلنقتد ـ مثلا ـ برسول الله(صلى الله عليه وآله) في صلابته في الهدف العقائدي؛ إذ عرضوا عليه كلّ المغريات من المال والملك فقال:

«... لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، ما أردته، ولكن يعطوني


(1) السورة 33، الاحزاب، الآية: 21.

(2) السورة 60، الممتحنة، الآيتان: 4 و 6.

(3) السورة 29، العنكبوت، الآية: 69.

581

كلمة يملكون بها العرب، ويدين لهم بها العجم، ويكونون ملوكاً في الجنّة. فقال لهم أبو طالب ذلك.

فقالوا: نعم وعشر كلمات.

فقال لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله): تشهدون أن لا إله إلاّ الله، وأ نّي رسول الله...»(1).

ولنجعل الحسين(عليه السلام) قدوة لنا في صبره الذي عُبّر عنه بـ «... قد عجبت من صبرك ملائكة السماوات ...»(2) وفي رضاه الذي عُبّر عنه بقوله لدى قتل ولده في حجره: «... هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله...»(3).

ولنجعل العباس(عليه السلام) قدوة لنا في مقام المواساة حينما رمى الماء من يده ولم يشربه؛ لأنّه تذكر عطش الحسين وأهل بيته(4) ولم يكن في رميه للماء تخفيف عن الحسين(عليه السلام) وأهل بيته كي يحمل ذلك على الإيثار، وإنّما هو مقام عظيم فوق طاقة الإنسان العادي في المواساة التي هي فوق مقام الإيثار.

ولنجعل الشهيد الصدر(رحمه الله) قدوةً لنا حينما صمّم على الشهادة، لأجل نصرة الإسلام وقال: «... وأنا أُعلن لكم يا أبنائي أ نّي صمّمت على الشهادة، ولعلّ هذا آخر ما تسمعونه منّي. وإنّ أبواب الجنّة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء حتّى يكتب الله لكم النصر. وما ألذّ الشهادة التي قال عنها رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنّها حسنة لا تضرّ معها سيّئة، والشهيد بشهادته يغسل كلّ ذنوبه مهما بلغت...»(5).

ولنجعل الإمام الخمينيّ(رحمه الله) قدوة لنا في إقدامه الشجاع الذي أقدمه لله وفي


(1) بحار الأنوار 18/182.

(2) المصدر السابق 101 / 322.

(3) المصدر السابق 45 / 46.

(4) بحار الأنوار 45 / 41.

(5) مباحث الاُصول الجزء الأوّل من القسم الثاني، النداء الثاني من النداءات الثلاثة لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله): 150.

582

سبيل الله، وبهدف طلب مرضاة الله، فاستطاع أن يكسر حصناً عظيماً من حصون الطغاة، ويقيم راية الإسلام مرفرفة على بقعة مباركة من أراضي الإسلام.

ثمّ هذا المحفّز وهو القدوة تارةً يبحث من زاوية الشخص الذي يروم تربية نفسه، فيتكلّم في أنّه كيف يستطيع أن يرقى وينمو عن طريق القدوة، وهذا ما فعلناه الآن، وأُخرى يبحث من زاوية نفس القدوة، فيتكلّم في شروط تأثير القدوة في النفوس وكيفيّة أخذه بيد الناس نحو الكمال وتربيتهم الروحيّة.

والواقع: أنّ القدوة لا يستطيع ـ عادةً ـ أن يؤثّر تأثيراً مهمّاً في المجتمع والنفوس في هدايتهم نحو الصلاح، إلاّ إذا كان يفوقهم بدرجات عالية وتفاوت كبير؛ كي يبتعد أوّلا بقدر الإمكان عن النقصين اللذين ذكرناهما في القدوة غير المعصوم، وكي يكون ثانياً بعلوّ مقامه الروحي وسموّه عن المربّى جاذباً له ومصعّداً إيّاه في مرقاة الكمال إلى المثل والقيم العليا.

ووظيفة الحوزة العلميّة بالذات والعلماء بالخصوص في شيعة آل محمّد(صلى الله عليه وآله)عظيمة في هذا المضمار:

فأوّلا: قد نصبوا أنفسهم في أعراف الشيعة منصب قيادة الاُمّة وقدوتها، وفرضوا أنّهم يخطون محلّ خطى الأنبياء والمرسلين، فأقلّ تكاسل أو تساهل في تهذيب النفس عندهم، يؤثّر تأثيره السلبي في المقودين، بل يوجب الانتكاسة عندهم في طريق الصلاح، وأكثر من ذلك قد يوجب سوء ظنّهم بالقادة الحقيقيين، بل بأصل المبدأ والمعاد لا سامح الله.

ومن أسرار شرط العصمة في الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام) هو كونهم قادة للاُمّة، ولا تتمّ القيادة الحقيقيّة نحو الكمال بغير العصمة، فلئن لم تشترط العصمة في العلماء الذين هم ورثة الأنبياء وخلفهم الصالح، فلابدّ من شرط ما يتلو العصمة من النزاهة وعلوّ الهمّة وصفاء النفس فيهم؛ كي يكونوا قادرين على أداء الوظيفة.

وثانياً: إنّ الحوزة والعلماء بمقدار اطّلاعهم على الأحكام والأهداف والمفاهيم

583

والقيم المعنويّة وعظمة الله تعالى تقوى الحجّة عليهم، ويضعف عذرهم لدى الله سبحانه وتعالى، وهذا معنى ما ورد في الحديث عن الصادق(عليه السلام): «... يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفر للعالم ذنبٌ واحد...»(1).

وفي حديث آخر: «أوحى الله تعالى ـ تبارك وتعالى ـ إلى داود(عليه السلام) أنّ أهون ما أنا صانع بعالم غير عامل بعلمه أشدّ من سبعين عقوبة: أن اُخرج من قلبه حلاوة ذكري...»(2).

على أنّ العالم الذي استفاد الآخرون من علمه وهو خالف علمه، شديدُ الحسرة يوم القيامة. وعن الباقر(عليه السلام): أنّه قال لخيثمة: «أبلغ شيعتنا أنّه لا ينال ما عند الله إلاّ بالعمل، وأبلغ شيعتنا أنّ أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثمّ خالفه إلى غيره، وأبلغ شيعتنا أنّهم إذا قاموا بما أُمروا أنّهم هم الفائزون يوم القيامة»(3).

وثالثاً: إنّ كون الإنسان في منصب القيادة بنفسه منزلق للإنسان؛ إذ يعطيه نوعاً من التبختر، ويستوجب حالة التكبر، وعدم الانصياع للحقّ، والنزوع إلى طلب الجاه والجلال، والابتعاد عن الإخلاص؛ ولهذا فهو بحاجة إلى درجة عالية من تربية النفس، وتهذيب الأخلاق، وكمال الإخلاص، كي لا يزول قبال إغراء منصب القيادة، ولا ينزلق في هذا المنزلق الخطير.

 

3 ـ حمل همّ واسع رفيع:

إنّ النفس البشريّة الاعتياديّة لهي ضيّقة لا ترى إلاّ مصالحها الماديّة من ناحية، والشخصية من ناحية أُخرى. وعلى أثر ضيق مساحة المادّة في المصالح


(1) بحار الأنوار 2 / 27.

(2) المصدر السابق: ص 32.

(3) المصدر السابق: ص 29.

584

الشخصيّة تقع الانصدامات والتشاحّ المستمرُّ بين الناس في لذائذهم ومصالحهم ومآربهم، وتنتج من ذلك الصراعات المريرة، والتكالبات على الاُمور التافهة والجزئية، والسقوط في حضيض الرذائل والقبائح والمحرّمات.

وهذا علاجه عبارة عن توسيع أُفق النفس عن طريق حمل هموم واسعة رفيعة تترفّع عن الجزئيات من ناحية، وتتسع عن الضيق الموجب للتصادم والاصطكاك من ناحية أُخرى.

والنقطة التي كان يركّز النظر إليها في المحفّز الأوّل وهو المثل الأعلى مفهوماً، كانت عبارة عن الفاصل في العمق بين المستوى النفسي الذي وصل إليه المربّى والمثل الأعلى الذي يطمح الوصول إليه، في حين أنّ النقطة التي يركّز النظر إليها في هذا المحفّز عبارة عن ضيق أُفق النفس وسعته. وعلى أيّ حال فهما متقاربان ومتداخلان.

والطفل الذي يكون همّه اللعب بالتراب وما شابه ذلك، قد يصبح في العمر والفهم إلى مستوى يدرك أنّ هذا لا ينفعه، وأنّ الذي ينفعه هو ما ينشغل به الكبار من بناء البيت، أو ترتيب وضع العائلة، أو التجارة، أو ما إلى ذلك، ولكنّه ما دام مكفولا من قبل أوليائه ومنصرفاً إلى الألعاب الطفوليّة، تراه لا تنمو همّته، ولا يتّسع أُفقه النفسي، في حين أنّه لو فجع بموت وليّه وإحساسه بالمسؤوليّة تجاه العائلة ـ مثلا ـ تراه يتحوّل في وقت قصير من المستوى الضيّق من الهموم إلى مستوى أوسع، ويترفّع عن كثير من السفاسف التي كان لا يترفّع عنها، على أساس أنّه ابتلي بحمل هم واسع رفيع لم يكن حاملا له قبل ذلك.

والإنسان الذي يعيش في أُفق بلد صغير متداني الأطراف ومتضارب المصالح، تراه أضيق أُفقاً من الذي يعيش في دائرة واسعة تقلّ فيه مرتبة تضارب المصالح والمآرب.

585

ومن يعيش لعائلته تراه أكبر همّة وتعالياً ممّن يعيش لنفسه.

ومن يعيش لقومه تراه أكبر همّة وأُفقاً ممّن يعيش لعائلته.

ومن تراه يعيش للناس تراه أوسع أفقاً وذهنيّة ممّن يعيش لقوم.

ومن يعيش للاسلام والمبادئ والمعنويات تراه يطعن على الأهداف الماديّة التي هي معترك الناس في حياتهم التافهة.

ومن يعيش لله سبحانه وهو الوجود الذي لا يتناهى، تراه يترفّع عن كلّ ضيق يحويه عالم الإمكان.

ومن يعمل في سبيل اقامة دولة الإسلام في منطقة ما، أو في سبيل توسيع رقعة الدولة الإسلاميّة المباركة، ليس كمن يعيش لنفسه وعياله، ويترفّع عن كثير من المطالب الكدرة التي يتنازع فيها أهل الدنيا.

ومن يعيش لرضوان الله تعالى، ويعمل في سبيل الوصول إلى عالم الحضور، ينسى الدنيا وما فيها كدنيا، ويعمل في الدنيا كخليفة للربّ على وجه الأرض ويتعامل مع كلّ ما حوله بوصفه فانياً في الله، ومظهراً من مظاهره، وجلوةً من جلواته، ومؤشّراً إلى ذاته لا بوصفه دنيا.

وعن إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام): «قدر الرجل على قدر همّته...»(1) وكأنّه لأجل توجيه الناس نحو علوّ الهمّة وسعة الاُفق ورد في الروايات الاهتمام حتّى في الأُمور الدنيويّة والمصالح الشخصيّة بمعالي الاُمور وترك مباشرة الاُمور الجزئيّة:

فعن الصادق(عليه السلام): «...إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ يحبّ معالي الأُمور، ويكره سفسافها...»(2) (سفالها خ ل)(3).


(1) نهج البلاغة: 662، رقم الحكمة: 47.

(2) فسِّر السفساف بالرديء من كلّ شيء، والأمر الحقير.

(3) معجم رجال، الحديث 14/125 ترجمة الكميت بن زياد، وكذلك وسائل الشيعة: 17/73، الباب 25 من مقدمات التجارة، الحديث 3.

586

وأيضاً عن الصادق(عليه السلام): «لا تكوننّ دوّاراً في الأسواق، ولا تلِ دقائق الأشياء بنفسك؛ فإنّه لا ينبغي للمرء المسلم ذي الحسب والدين أن يلي شراء دقائق الأشياء بنفسه ما خلا ثلاثة أشياء، فإنّه ينبغي لذي الدين والحسب أن يليها بنفسه: العقار، والرقيق، والإبل»(1).

وأيضاً عن الصادق(عليه السلام) قال: «باشر كبار أُمورك بنفسك، وكلّ ما صغر منها إلى غيرك، فقيل: ضرب أيّ شيء؟ فقال: ضرب أشرية العقار وما أشبهها»(2).

والأمثلة في هذه الروايات مأخوذة من الوضع الاقتصادي لوقتئذ، وقسم منها صادق حتّى اليوم.

والمقصود من هذه الروايات: الندب إلى تخصيص مباشرة الأُمور بالكبار منها، كي لا تتعوّد النفس على الاهتمام بالسفاسف والصغار، حتّى لا تموت الهمم، ولا يضيق أُفق النفس. فإذا كانت تعاليم أهل البيت(عليهم السلام) في الأُمور الدنيويّة والشخصيّة هكذا، فما ظنّك بالاُمور المعنويّة والواقعيّة؟!

وكلّما انشغل اهتمام الشخص بالمطالب العالية التفت ولو عن طريق المقايسة إلى تفاهة الاُمور الدانية، وترفّع عنها كما قال إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام)في وصف المتّقين: «... عظُم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم...»(3).

ثمّ إنّ الهدف والهمّ كلّما كان أضيق وأخسّ، كان أسرع إلى التلاشي في ذهن صاحبه حينما يصبح في فهمه وتطلّعاته أكبر منه، أو إلى تحديد صاحبه وتجميده. وقد يبتلي على هذا الأساس ـ لو لم ينتقل إلى هدف أوسع ـ بخيبة أمل وباليأس أو الانحراف أحياناً، في حين أنّه لو كان الهدف هو رضا الله تعالى الذي لا يحدّه حدٌّ،


(1) وسائل الشيعة 17/73، الباب 25 من مقدمات التجارة، الحديث 2.

(2) من لا يحضره الفقيه 3/104، الحديث 425.

(3) نهج البلاغة: 410، خطبة المتقين، رقم الخطبة: 193.

587

ولا تتناهى عظمته وقدرته وحكمته وعلمه وجزاؤه الحسن، ورضوانه وجنّته التي عرضها السماوات والأرض، كان ذلك منعّشاً للآمال. ومهما اقترب الإنسان من هدف من هذا القبيل،اشتدّت رغبته إليه، وأحسّ ببعد منتهاه وعمق أغواره، وكأنّ الاُمور المعنويّة تصبح حسّيّة لديه، وكأنّ الاُمور الغيبية تصبح حاضرة عنده «... فهم والجنّة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون ...»(1).

 

4 ـ التضحية:

إنّ من أهمّ ما يؤثّر في تزكية النفس وتقوية الروح والاقتراب إلى الله سبحانه وتعالى هي: التضحية في سبيل المبدأ والعقيدة والإسلام، وكذلك في سبيل كلّ خير للناس وللمؤمنين. وأقصد بالتضحية: تقديم مصلحة المبدأ أو الإسلام أو المؤمنين على مصلحة الشخص؛ فإنّ هذا يكسر في النفس طوق ضيق الأُفق المبتلى به الإنسان عادة في بداية أمره المتلخص في أنّه لا يرى إلاّ مصالحه الشخصيّة. وأساس الانحراف لدى الإنسان انطواؤه على مصالحه الخاصّة من ناحية، وضعف الإرادة من ناحية أُخرى. والتضحية تعالج كلتا هاتين المشكلتين. وكلّما كانت التضحية أكبر، كان أثرها في صفاء النفس وارتفاع الروح وعلوّ الهمّة أقوى، حتّى يصل الأمر إلى التضحية بالنفس، فكيف بمن يضحّي بكلّ غال ونفيس، وبالنفس وبالأ هل والمال والعيال والأطفال ثمّ يقول: «... هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله ...»(2).

وقبل التضحية يتحقّق مشهد من مشاهد التقابل بين مصلحة المجتمع أو مصلحة الإسلام أو رضا الله تعالى أو سبيل الجنّة من ناحية، والمصالح الشخصيّة التافهة


(1) المصدر السابق.

(2) بحار الأنوار 45/46.

588

من ناحية أُخرى، فيرى الإنسان الاعتيادي الواقف في بداية الطريق نفسه متحيّراً ومخيّراً بين الجنّة والنار، أو بين الخير والشرّ، أو بين نوعين من المصالح، وهذا المشهد حينما يكون قويّاً يخلق في نفسه هزّاً عميقاً عظيماً، وينتهي ـ عادة ـ إلى تبدّل الحالة النفسيّة إمّا إلى جانب الارتقاء والسعادة والسموّ الروحي، أو إلى جانب السقوط في الهاوية والشقاء والخسران، وكلّما كان مشهد التقابل بين المصلحتين أقوى، كانت الهزّة النفسيّة أشدّ، والتكامل أو السقوط أقوى وأعظم. ونذكر لذلك مثلين:

أحدهما: من أُولئك الذين كانوا من أهل السعادة، فأثّر فيهم هذا المشهد وأحدث تلك الهزّة، وانتهى إلى الانتقال الفجائي إلى الكمال وطيران الروح في سماء المعالي والفضيلة، ألا وهو: حرّ بن يزيد الرياحيّ(رحمه الله)، فأنت تعلم أنّ حرّاً(رحمه الله) لم يكن في بداية أمره يعتبر من الصالحين، بل ارتكب تلك الجريمة النكراء، وهي: أنّه جعجع بالحسين(عليه السلام) وأصحابه وأهل بيته في وسط الطريق، ومنعهم عن الرجوع، وألجأهم إلى سلوك المخاطر، ولكنّ الذي غيّر نفسيّته الوضيعة، وأوصلها إلى خير مراتب الكمال فجأةً، هو ما أحسّ به دفعةً من مشهد الصراع النفسي بين الحقّ والباطل، حينما انكشف له أنّ أقلّ الأمر الذي سيقع هو: قتال شديد، أيسره أن تسقط الرؤوس، وتطيح الأيدي، فدار أمره بين الاحتفاظ بالحياة الرخيصة والأمن لدى طاغية الوقت، وبين ترك الدنيا وزخرفها والانتقال إلى صفّ الهدى والتضحية في سبيل إمام المتّقين الحسين(عليه السلام)، وأخذته الهزّة في جميع أعماقه هزةً عظيمة، وارتعدت فرائصه، فقال له مهاجر بن أوس: «...إنّ أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل هذا، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟

فقال له الحرّ (معبّراً عن مشهد وقوعه بين الطريقين): إنّي والله اُخيّر نفسي بين

589

الجنّة والنار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت وأُحرقت».

فأدركته السعادة، وحصل له ذاك التحوّل الدفعي الذي انتهى به الأمر بعد حالة الشقاء إلى حالة استحقّ بها رثاء الحسين(عليه السلام) إيّاه بعد استشهاده ـ على ما في التأريخ ـ بقوله وهو يمسح وجهه: «أنت الحرّ كما سمّتك اُمّك، وأنت الحرّ في الدنيا، وأنت الحرّ في الآخرة».

ورثاه رجل من أصحاب الحسين(عليه السلام) وقيل: بل رثاه عليّ بن الحسين(عليه السلام)قائلا:

لنعم الحرّ حرّ بني رياح
صبورٌ عند مختلف الرماحِ
ونعم الحرّ إذ نادى حسيناً
فجاد بنفسه عند الصباحِ
فيا ربّي أضفه في جنان
وزوّجه مع الحورالملاحِ(1)

و ثانيهما: من كان في النقطة المقابلة للمثل الأوّل الذي ذكرناه، فهو ـ أيضاً ـ شهد في نفس تلك القصّة وهي قصّة الحسين(عليه السلام) مشهد التقابل العنيف بين مصالح المبدأ والإسلام والفضيلة من ناحية، ومصالحه الشخصية الدنيئة من ناحية أُخرى وهزّ ذلك مشاعره، ولكنّه تحول إلى شقاء لا نهاية له. فقصّة واحدة حوّلت الشخص الأوّل إلى سعادة أبديّة بسبب مشهد التقابل بين المصلحتين والموازنة بينهما، وحوّلت الشخص الثاني بنفس السبب إلى شقاء أبديّ ألا وهو: عمر بن سعد، رأى نفسه مخيّراً بين الدنيا والآخرة، وعبّر هو عن هذا المشهد بأروع تعبير؛ إذ قال:

فوالله ما أدري وإنّي لحائرٌ
أُفكّر في أمري على خطرينِ
أأترك ملك الري والريُّ منيتي
أم أرجعُ مأثوماً بقتل حسينِ
حسينُ ابن عمّي والحوادثُ جمّةٌ
ولكنّ ملك الريّ قرةُ عيني


(1) بحار الأنوار: 45 / 10 ـ 14. وفي نقل آخر ورد البيتان الأوّلان عن الحسين(عليه السلام). المصدر السابق: 44 / 319.

590

فكان تأثير هذا المشهد وهذا الاهتزاز العميق في نفسه أن سقط إلى الهاوية، واختار الشقاء وقال:

وما عاقلٌ باع الوجود بدين

بل انتهى إلى الشكّ والزندقة وقال:

يقولون إنّ الله خالق جنّة *** ونار وتعذيب وغلّ يدينِ

وإن صدقوا فيما يقولون إنّني *** أتوبُ إلى الرحمن من سنتينِ

وإن كذبوا فزنا بدنيا هنيئة *** وملك عقيم دائم الحجلين(1)

والروايات المؤكِّدة لضرورة ترجيح كفّة الفضيلة والعمل الصالح على كفّة اللذّة الدنيويّة لدى تحقّق مشهد للتزاحم بينهما، كثيرة وبألسن مختلفة:

منها: ما ورد بلسان تقديم الآخرة على الدنيا، وذلك من قبيل:

1 ـ ما في حديث المناهي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «...ألا ومن عرضت له دنيا وآخرة، فاختار الدنيا على الآخرة، لقي الله ـ عزّوجّل ـ يوم القيامة وليست له حسنة يتّقي بها النار. ومن اختار الآخرة، وترك الدنيا، رضي الله عنه، وغفر له مساوئ عمله»(2).

2 ـ ما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)، عن آبائه، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد لم يره»(3).

ومنها: ما ورد بلسان تقديم رضا الربّ أو الدين على هوى النفس أو المصالح الشخصيّة والمادّية، وذلك من قبيل:

1 ـ ما عن الباقر(عليه السلام) قال: قال الله عزّ وجلّ: «وعزّتي وجلالي، وعظمتي


(1) رياحين الشريعة 4 / 238.

(2) وسائل الشيعة 15 / 209، الباب 9 من جهاد النفس، الحديث 1.

(3) المصدر السابق: ص 210، الحديث 3.

591

وبهائي؛ وعلوّ ارتفاعي، لا يؤثّر عبد مؤمن هواي على هواه في شيء من أمر الدنيا إلاّ جعلت غناه في نفسه، وهمّته في آخرته، وضمنت السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر»(1) وسند الحديث تامّ، ومتنه يسطع منه نور الإمامة، وتشعّ منه العظمة الربّانيّة.

2 ـ عن الباقر(عليه السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال لعليّ(عليه السلام): «يا عليّ، أُوصيك في نفسك بخصال، فاحفظها، ثُمّ قال: اللهمّ أعنه. أمّا الأُولى فالصدق، لا يخرجنّ من فيك كذبة أبداً. والثانية الورع، لا تجترئنّ على خيانة أبداً. والثالثة الخوف من الله كأنّك تراه. والرابعة كثرة البكاء من خشية الله ـ عزّ وجلّ ـ يبنى لك بكلّ دمعة بيت في الجنّة، والخامسة بذل مالك ودمك دون دينك. والسادسة الأخذ بسنتي في صلاتي وصيامي وصدقتي: أمّا الصلاة فالخمسون ركعة. وأمّا الصوم فثلاثة أيّام في كلّ شهر: خميس في أوّله، وأربعاء في وسطه، وخميس في آخره. وأمّا الصدقة فجهدك حتّى يقال: أسرفت، ولم تسرف. وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الزوال وعليك بقراءة القرآن على كلّ حال، وعليك برفع يديك في الصلاة وتقليبهما، وعليك بالسواك عند كلّ صلاة، عليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، عليك بمساوئ الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ إلاّ نفسك»(2).

والشاهد في قوله: «والخامسة بذل مالك ودمك دون دينك» وسند الحديث تامّ، ومتنه يتشعشع بنور النبوّة.

ولئن اتّضح أنّ وقوع مشهد التزاحم بين المصلحتين، أو التردّد بين الطريقين: طريق النجاة، وطريق الهلاك حينما يكون فجأةً وقويّاً ينتهي ـ عادة ـ إلى هزّة


(1) وسائل الشيعة: 15 / 279، الباب 32 من جهاد النفس، الحديث 2.

(2) المصدر السابق: ص 181 ـ 182، الباب 4 من جهاد النفس، الحديث 2.

592

المشاعر دفعةً هزّةً عظيمة، ومن ثُمّ ينتهي إمّا إلى السعادة العظمى، أو إلى الدرك الأسفل، ترتّبت على ذلك عدّة نصائح، لابدّ من الأخذ بها:

الاُولى: لا ينبغي للإنسان أن يبقى غافلا عن هذا النمط من الامتحان إلى أن يقع فيه؛ لأنّ اتخاذ التصميم لسلوك أحد الطريقين لدى التزاحم العنيف الهازّ للمشاعر من الأعماق، يكون فورياً، كما اتّفق لحرّ بن يزيد من ناحية، ولعمر بن سعد من ناحية أُخرى في القصّتين اللتين أشرنا إليهما. وهنا يكمن خطر الانزلاق إلى درك لا يُرى عمقه، ولا يدرك غوره، انزلاقاً أبديّاً لا يعود صاحبه إلى خير. فعلى الإنسان أن يكون ـ دائماً ـ على أُهبة الاستعداد لامتحان من هذا القبيل، وأن يطالع ـ دائماً ـ ما حوله من المكتنفات؛ كي يستطيع أن يتنبّأ الواقعة قبل الوقوع، ولا يفاجأ بالأمر، وعندئذ يكون أقدر على اختيار الطريق الصحيح، وإنجاء نفسه من الهلكة.

والثانية: لا ينبغي للإنسان أن ينتظر وقوع حالة من هذا القبيل على وفق الصُدف والمفاجأة الخارجة عن اختياره، وهو لا يعلم ماذا ستتمّ له من سعادة أو شقاء، بل ينبغي له أن يخلق هو ظروفاً مؤدّية إلى أمر من هذا القبيل، على أن يدبّر الظروف بالحدود التي يرى في نفسه القدرة على تحمل المشهد الناجم منها، وعلى ترجيح جانب الخير، فمثلا من يصعب عليه إنفاق المال بإمكانه أن يتعمّد الفحص عن مواضع الإنفاق التي تهزّ المشاعر: من أيتام معوزين، أو مشروع خير يدعو ضمير الإنسان نحو التفاعل معه، ـ زائداً على الواجبات الفقهيّة التي لابدّ له من الالتزام بها ـ ويقرن ذلك بزمان حاجة ماسّة شخصيّة له بما لديه من المال، كي يقع بين نداء النفس الأمّارة التي يدعوها إلى تلبية مآربه الشخصيّة، ونداء الوجدان الذي يدعوه إلى مساعدة المحتاجين المعدمين، أو المشروع الإسلامي النافع، مع ترتيب المقارنات والمكتنفات الخارجيّة والنفسيّة من قبل الطرفين بنحو يساعده

593

على تقديم جانب الخير، فيرجّح عند ذلك جانب السعادة، ويسلك طريق النجاة. وبهذا يكون أوّلا قد نمّى عزيمة الخير في نفسه، واستطاع إيصال نفسه إلى بعض مستويات الكمال، وثانياً حقّق لنفسه أُهبة الاستعداد لمشهد تزاحم أكبر من ذلك، قد يتّفق له في المستقبل من دون اختياره، ولا يفاجأ بذلك.

وأيضاً من يصعب على نفسه الاعتراف بالحقّ بحضور الناس حينما يعتبر ذلك الاعتراف كسراً لنفسه، وتنازلا لخصمه، مشيناً له في بعض الأعراف الاجتماعيّة، ومبرزاً لجهله الذي كان خافياً على الناس الذين ينظرون إليه كمفكّر ألمعيٍّ ومحقّق عبقريّ، ينبغي أن يعقد لنفسه حواراً في بعض معتقداته مع من يحتمل أن يغلبه، ويوضّح له خطأ رأيه بحضور فئة من الناس، وبمستوى يحدس أنّه قادر على تحمّل انكسار أُبّهته قبالهم، وتجرّع مرارة الاعتراف بالحقّ لديهم، فيفعل ذلك لأجل النتائج التي أشرنا إليها. وما إلى ذلك من الأمثلة التي يمكن أن تفترض.

والثالثة: ينبغي للإنسان أن يجرّب نفسه ويقيّمها بين حين وحين بإيجاد مشهد تزاحم وهمي بين المصلحتين؛ كي يعرف مدى استعداده لتغليب جانب الخير، ويقيّم مدى مرتبة الكمال أو النقص ـ لا سمح الله ـ التي وصلت إليها نفسه. وأذكر لذلك مثلين:

1 ـ حدّثني اُستاذي الشهيد الصدر(رحمه الله) عن حالات المرحوم الشيخ عليّ القميّ(قدس سره)المتعبّد الزاهد المعروف في النجف الأشرف أنّه قال له شخص ذات يوم: لو ظهر الإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه، وأمرك بأن تحلق لحيتك، وتمشي في الطرقات والأسواق بمشهد من الناس بهذه الحالة علناً، ونهاك أن توضّح للناس كونك مأموراً بهذا الحلق من قبل الإمام(عليه السلام)، فهل أنت مستعدّ نفسيّاً لتنفيذ ذلك؟ علماً بأنّ هذا إراقة لماء وجهه أمام الناس تماماً. فكان يبكي خشية أن لا يكون مستعدّاً لذلك.

594

2 ـ كتبت من ذكرياتي عن حياة اُستاذنا الشهيد الصدر(قدس سره) في ترجمتي له ما يلي:

حدّثني(رحمه الله) ذات يوم: أنّه حينما كتب كتاب (فلسفتنا) أراد طبعه باسم جماعة العلماء في النجف الأشرف، بعد عرضه عليهم متنازلا عن حقّه في وضع اسمه الشريف على هذا الكتاب، إلاّ أنّ الذي منعه عن ذلك أنّ جماعة العلماء أرادوا إجراء بعض التعديلات في الكتاب، وكانت تلك التعديلات غير صحيحة في رأي أُستاذنا الشهيد، ولم يكن يقبل بإجرائها فيه، فاضطرّ أن يطبعه باسمه. قال(رحمه الله): إنّي حينما طبعت هذا الكتاب لم أكن أعرف أنّه سيكون له هذا الصيت العظيم في العالم، والدويُّ الكبير في المجتمعات البشريّة ممّا يؤدّي إلى اشتهار من ينسب إليه الكتاب، وأنا الآن اُفكّر أحياناً أ نّي لو كنت مطّلعاً على ذلك، وعلى مدى تأثيره في إعلاء شأن مؤلّفه لدى الناس، فهل كنت مستعدّاً لذلك أو لا؟ وأكاد أبكي خشية أ نّي لو كنت مطّلعاً على ذلك لم أكن أستعدّ لطبعه بغير اسمي.

رحمك الله يا أبا جعفر، وهنيئاً لك هذه الروح الطاهرة والمعنويّات العالية العظيمة، في حين كنت تعيش في مجتمع يتكالب أكثر أبنائه على سفاسف الدنيا، أو زعاماتها، أو كسب مديح الناس وثنائهم، أو جمع ما يمكنهم من حطام الدنيا ونعيمها من حلال أو حرام(1).

والرابعة: التزاحم بين المصلحتين يتدرّج في الإنسان ـ عادة ـ من صغر سنّه وضعف قدراته ومقامه وارتباطاته إلى ما بعد ذلك، فكلّما كبر سنّه واتّسع نشاطه وزادت قدراته، وارتفع مقامه، وتوسّعت ارتباطاته، اشتدّ التزاحم، وقويت المصلحتان اللتان تمّ الاصطكاك بينهما. فلو أردنا أن نأخذ مثلا من الحوزة العلميّة قلنا: إنّ طالب العلم الاعتيادي قد يكون التزاحم عنده عبارة عن مكابرة له في


(1) راجع مباحث الاُصول، الجزء الأوّل من القسم الثاني: 45.

595

البحث مع شخص فيما يعلم أنّ الحقّ مع صاحبه، ولكن حينما يصبح مرجعاً للتقليد يقع التزاحم بين مصلحة الحقّ التي تقتضي التنازل لصاحب له عن المرجعيّة، ومصالحه الشخصيّة التي تنجم من هذا المقام.

ولو أردنا أن نأخذ مثلا من الحياة الماليّة قلنا: قد يقع التصادم بين ولدين في مقتبل عمرهما على دينار واحد بينهما، ولكن حينما يقوى عود التجارات الواسعة لهذا ولذاك، قد يقع التصادم بينهما في الظهور بمظهر الحقّ، على رغم علمه بالبطلان في صفقة واحدة تدرّ عليه بالحقّ تارة وبالباطل أُخرى أرباحاً هائلة، تنوء مفاتحها بالعصبة أُولي القوّة.

فعلى الإنسان أن يعوّد نفسه على تقديم المصلحة الإسلاميّة والأخلاقيّة على المصلحة الشخصيّة من أوّل يوم، فإذا قدر على ذلك قدر عليه في اليوم الثاني؛ لأنّ الفارق ضئيل، وهكذا إلى آخر يوم، في حين أنّه لو لم يربّ نفسه على ذلك من أوّل الأمر إلى أن وصل إلى تزاحمات كبيرة ومصلحتين متصادمتين عظيمتين، فسوف ينهار قبال إغراء المصالح الشخصيّة، ولا يقدر على إنجاء نفسه.

والخامسة: موضوع العناوين الثانويّة يقع فيه كثير من الخلط واللبس في إيهام النفس بحقّانيّة احدى الكفّتين في مقابل الاُخرى حيث تقتضي المصلحة الحقيقيّة الإسلاميّة أو الأخلاقيّة أحياناً اتّخاذ موقف ليس في صالحه الشخصي، فيعمد الشخص فوراً إلى دعوى أنّ العنوان الثانوي يتطلّب منه اتّخاذ الموقف الآخر؛ كي لا ينكسر مثلا، ويبقى قادراً على نصر الإسلام، أو إلى القول بأنّه يجب عليه ترك الجهاد، لأنّه يعرضه للقتل، في حين أنّ الإسلام بحاجة إلى حياته، أو إلى الغيبة والوقيعة والهتك بحجّة أنّ فلاناً وجب فضحه، وجازت غيبته، وما إلى ذلك، فهذا مزلّة لنفوس الكبار، ومزلقة لأقدام العظام، يجب التوجّه إلى ذلك بدقّة كاملة.

596

 

5 ـ المحاسبة والموازنة:

ونحن قد بحثنا المحاسبة في الحلقة الثالثة من هذا الكتاب، فهنا نختصر الكلام عن ذلك، ونخصّصه بذكر أقسام المحاسبة.

وتوضيح المقصود: أنّ أصحاب الأموال اعتادوا على أن يحسبوا أموالهم وأرباحهم وخسائرهم بين حين وحين؛ لأنّ الاطلاع على المحصول يؤثّر أوّلا في مدى الصرف وكيفيّة الصرف، وثانياً في مدى الاهتمام بالدخل ومعالجة الخسائر الماضية والخسائر المستقبليّة المحتملة.

وكذلك ـ الحال تماماً ـ ينبغي أن يكون في محاسبة الإنسان نفسه بلحاظ رأس ماله الأصلي، وهو: العمر، ومدى أرباحه من رأس المال هذا أو خسائره.

وقد ورد في وصايا رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأبي ذر:

«يا أبا ذرّ، حاسب نفسك قبل أن تحاسب؛ فإنّه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن...»(1).

والقرآن يقول: ﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَد ...﴾(2).

وتنقسم المحاسبة والموازنة إلى عدّة أقسام:

الأوّل: محاسبة الأعمال التي صدرت عن الشخص المحاسِب بالقياس إلى ما ينبغي وما لا ينبغي، فإن صدر عنه الخير شكر الله عليه واستزاد منه، وإن صدر عنه الشرّ تاب إلى الله منه وتداركه. ولو ترك هذه المحاسبة كثُرت أخطاؤه وهو لا يعلم.

وقد ورد عن الصادق(عليه السلام): «انّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: ايتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله، نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب.


(1) وسائل الشيعة 16 / 98، الباب 96 من جهاد النفس، الحديث 7.

(2) السورة 59، الحشر، الآية: 18.

597

فقال(صلى الله عليه وآله)فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه، فجاؤوا به حتّى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): هكذا تجتمع الذنوب. ثُمّ قال: إيّاكم والمحقّرات من الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً ألا وإنّ طالبها يكتب ﴿مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْء أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين﴾»(1).

وما في ذيل الحديث من «محقّرات الذنوب» قد فسّر في حديث آخر عن زيد الشحّام بسند تامّ، عن الصادق(عليه السلام): «اتّقوا المحقّرات من الذنوب، فإنّها لا تغفر، قلت: وما المحقّرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب فيقول: طوبى لي إن لم يكن لي غير ذلك»(2).

والثاني: محاسبة النفس على نواياها ودوافعها الكامنة، فإنّ من يغفل عن ذلك، ويقتصر على النظر إلى ظواهر عمله، فقد يغفل عمّا معه من الرياء، وعن الشرك الخفي، وعن الدوافع المادّيّة، ويحسب أنّه يحسن صنعاً ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالاَْخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾(3)﴿... إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء ...﴾(4).

والثالث: موازنة نفسه بين مدى ما هو واصل إليه الآن من المقام ومن الدرجات المعنويّة والقيم والأخلاق، وبين ما كان واصلا إليه في وقت سابق؛ كي يعرف مدى رقيّه أو نزوله.

والرابع: موازنة نفسه بين مدى ما هو واصل إليه الآن من مقام ودرجات ومُثل


(1) وسائل الشيعة 15 / 311، الباب 43 من جهاد النفس، الحديث 3، والآية: 12 في السورة 36، يس .

(2) وسائل الشيعة 15 / 310، الباب 43 من جهاد النفس، الحديث 1.

(3) السورة 18، الكهف، الآيتان: 103 ـ 104.

(4) السورة 2، البقرة، الآية: 284.

598

عليا، وبين ما ينبغي أن يصل إليه؛ كي يعرف مدى النقص الموجود فعلا والذي ينبغي أن يملأه ويكمّله.

والخامس: أن يوكّل محاسبة نفسه إلى أخ له مؤمن معتمد عارف؛ لأنّ الشخص قد يغفل عن نقائص نفسه وأخطائه، وقد يكون صاحبه أقدر على أن يكشف له أخطاءه والمؤمن مرآة المؤمن(1).

 

6 ـ التفكير في العواقب:

فإنّ التفكير في عاقبة الخير الدنيويّة والأُخرويّة يرغّب الإنسان نحو الخير، والتفكير في عاقبة الشرّ الدنيويّة والأُخرويّة يبعّد الإنسان عن الشرّ، وكذلك التفكير في الدنيا وفنائها يزهّد الإنسان عن محرّماتها وشبهاتها، ويهوّنها في نفس الإنسان، والتفكير في الآخرة ونعيمها وجحيمها ودوامها يرغّب الإنسان نحو العمل الصالح، ويزهّد عن الظلم والفساد.

 

7 ـ الجوّ الصالح:

لا إشكال في أنّ الجوّ يؤثّر في الإنسان تأثيراً بالغاً، فإن كان صالحاً صلح الفرد، وإن كان فاسداً فسد الفرد؛ ولهذا لو أصبح الجوّ العام صالحاً تحت نظام الإسلام أثّر في عامّة الأفراد، وكان الغالب فيهم هو الخير والصلاح، ولو أصبح جوّاً منحرفاً عن الإسلام الصحيح فبقدر انحرافه يؤثّر في عموم الأفراد.

وكذلك الأجواء الخاصّة لها تأثيرها الكبير في الأفراد من جوّ العائلة إلى جوّ المدرسة إلى جوّ الأصدقاء والإخوان... إلى غير ذلك.


(1) نسب المجلسي(رحمه الله) جملة «المؤمن مرآة المؤمن» إلى الرسول(صلى الله عليه وآله) في بحار الأنوار 74 / 268.