99

الظلم، فلو انتهى الظلم ينتهي قوله: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي﴾، إذن قد ينال عهد الله، فيصبح إماماً.

وللجواب عن هذا الإشكال نقول: صحيح أنّ الحكم حينما يرتبط بوصف يكون ظاهراً في التزامن، ولكنّ هذه القاعدة ليست مطّردة ودائميّة، وإنّما هي متوقّفة على المناسبات الراجعة إلى الحكم والوصف، فالمناسبة ربّما تقتضي التزامن بين الوصف والحكم كالاجتهاد والتقليد؛ إذ إنّ عدم الاجتهاد يعني الجهل، فإذا سقط الاجتهاد من شخص، فإنّه يُصبح جاهلاً، وعندئذ لا يختلف عن بقيّة العوام ( الجهّال )، فكيف يصحّ لهم تقليده؟! إذ لا توجد في هذه الحالة مناسبة أو نكتة للتقليد. وربّما لا تقتضي المناسبة التزامن، فقد توجد هناك نكات وقرائن عُرفيّة تنفي هذا التزامن بين الوصف والحكم وتفصل بينهما، فيكون الحكم عندئذ أوسع امتداداً من الوصف، ومثاله العُرفي هو: أنّ الثوب إذا لاقى البول ـ مثلاً ـ فإنّه يتنجّس، وهذا لا يعني أنّه نجس ما دام ملاقياً للبول، وأنّه يطهر بمجرّد إبعاده عن البول، بل يعني أنّه نجس حتّى بعد إبعاده عن البول، ولا يطهر إلّا بعد أن يتمّ غسله بالماء بالشكل والعدد المطلوبين، فنجاسة الثوب تصبح هنا غير مشروطة بالتزامن مع الملاقاة، بل إنّ الثوب يصبح نجساً حتّى إذا لاقى البول ولو لحظة واحدة، وسيبقى نجساً ما لم يطهر بالماء، فالمدار في التزامن وعدمه يرجع إلى المناسبة، فإذا رأينا كلاماً يربط بين حكم ووصف، يجب أن نلحظ المناسبات الراجعة إليهما؛ لنعرف أنّها تقتضي التزامن أم لا؟ وقوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ يربِط عهد الإمامة بترك

100

الظلم، وهنا ترى أنّ عظمة شأن هذا العهد وعظمة شأن الإمامة تناسب أن يكون الحكم أوسع امتداداً من الوصف، فالإنسان إذا ظلم شمله قوله:﴿لاَ يَنَالُ﴾ حتماً، فلا ينال عهد الإمامة، ويبقى الحكم بعدم نيل العهد شاملاً له حتّى بعد أن يتوب وتزول صفة الظلم عنه، فلا يزول الحكم بزوال الوصف. والذي يدُلّنا على هذا: أنّ إبراهيمَ(عليه السلام) على عظمته وجلاله ونبوّته ورسالته وخلّته وإمامته ليس من المحتمل أنّه كان يرغب في أن يكون الظالمون أئمّة، وليس هناك أيّ احتمال في أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان يتوقّع من الله تعالى أن يجعل ذرّيّته ـ بما فيهم شاربوا الخمر والزناة والعصاة ـ أئمّة؛ إذ إنّ إبراهيم أعلى وأجلّ من أن يتخيّل بأنّ الزناة والعصاة وشرّابي الخمور وعابدي الأوثان يمكن أن يُصبحوا أئمّةً على الرغم من استمرارهم في ارتكاب المعاصي، فالذي يمكن أن يفترض بشأن إبراهيم هو أنّه (عليه السلام) كان يتخيّل ويتصور بأنّ الذين عصوا وظلموا في وقت ما ثُمّ تابوا وأصلحوا يمكن أن يصبحوا أئمّة، فأجابه الله تعالى بقوله: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾. فالآية الشريفة إذن تدلّ بوضوح على عصمة كلِّ من ينال مقام الإمامة منذ اليوم الأوّل، ولابدّ وأن يكون الإمام معصوماً قَبل الإمامة وبعدها.

 

اعتباران عقليّان لإثبات العصمة:

وهناك اعتباران عقليّان يدلاّن على العصمة على اختلاف في مرتبة العصمة بين الاعتبارين:

أحد الاعتبارين هو: أنّ المفروض بالإمام أن يكون قائداً

101

للمجتمع، وليس لمجتمع خاصّ دون مجتمع آخر، فليس قائداً لمنطقة معيّنة دون اُخرى، بل المفروض به أن يكون قائداً للمجتمع ككلّ ولا يقبل للمجتمع التجزئة في حكمه، وليس حال الإسلام حال النظم الوضعيّة التي تفترض التجزئة وتفترض حكومة هنا وحكومة هناك، فهذا لا يُقرّه الإسلام؛ لأنّه دين واحد والإله واحد، والسلطة واحدة، والدولة واحدة، والعالم كلّه يجب أن يكون تحت راية الإسلام، وعليه فلابدّ أن يكون إمام المسلمين من حيث سعة دائرة قيادته قائداً لكلّ المجتمع. هذا من حيث سعة قيادة الإمام اُفقيّاً. وأمّا من حيث سعة قيادته عموديّاً ـ أي بالنسبة إلى شمولها عمود الأزمنة ـ فإنّ قيادة الإمام ليست مخصوصة بزمان دون آخر كزمان حياته فحسب، مثل الفقيه الذي تكون ولايته مدّة حياته وتنتهي ولايته بانتهاء حياته، أمّا الإمام فليس كذلك بل إمام لجميع الأزمنة، وهو قدوة للناس واجب الطاعة فيما يأمر وينهى.

ولو لاحظنا قيادة الفقيه ـ وهي أضيق دائرةً من قيادة الإمام حيث قد تتحدّد الاُولى بمجتمع وزمان معينين بخلاف الثانية ـ لوجدناها مع ذلك مشروطة بالعدالة والتقوى والاستقامة، وبدون ذلك لا تتحقّق للفقيه ولاية شرعاً، ولا ينقاد الناس لها، ولا تؤثّر أوامره في نفوسهم، فتسقط قيادته من الناحية الفعليّة، فلو فقد العدالة، لا يستطيع أن يهدي الناس؛ إذ إنّ فاقد الشيء لا يعطيه، والفاسق لا يستطيع أن يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، فلن يقلّدوه، ولا يؤمنون بولايته، ولا يقتدون ولا يثقون به، فلا يقدر عندها على قيادة الناس، وكيف يُربِّي الناس من تنقُصه التربية الصالحة

102

والاستقامة؟! وعندئذ ينتفي الغرض من ولايته، لذا كانت ولاية الفقيه مشروطة بالعدالة لا بالعصمة؛ لأنّ العصمة ليست شرطاً في القيادات الضيّقة مساحةً والقصيرة زمناً، وأمّا القيادة الأوسع مساحةً والأطول زمناً ـ كما مضى شرحها ـ فإنّها بحاجة إلى شرط أرقى من العدالة وأعلى وهو العصمة؛ إذ إنّ الإمام نُصب من قبل الله تعالى ليكون هادياً للناس أجمعين إلى يوم القيامة، فإنّ مثل هذه القيادة العالميّة الطويلة المدى ـ التي يُراد لها أن ترتقيَ بالبشريّة إلى أرقى سلّم الكمال الروحي والمعنوي الممكن، أو إلى أعلى درجات الارتباط بالله المتعال لنيل رضوانه تبارك وتعالى ـ بحاجة إلى شرط أعلى من العدالة، فلا يكتب لها النجاح إلّا بالعصمة، ولو أخطأ الإمام في عمره مرّةً واحدةً، فلن يثق به الناس، فلا يقتدون به، وعندها لا يكون لهم هادياً إلى يوم القيامة كما أراد الله تعالى. نعم، لئن كانت القيادة الضيّقة المُختصرة لا تتمّ إلّا بالعدالة ـ التي هي منزلة أدنى من العصمة ـ فلا تصحّ للفاسق، فكيف بقيادة واسعة المدى زمناً ومساحة، إنّها لا يمكن أن يكتب لها النجاح إلّا بالدرجة العليا من التقوى والاستقامة والتي تُسمّى بالعصمة.

هذا هو الاعتبار العقليّ الأوّل الدالّ على العصمة. وهناك دليل أو اعتبار عقليّ ثان يدلّ على العصمة، لكنّه يدلّ عليها في الجملة، أي: مدّة إمامته لا من أوّل حياته، فلا يدلّ على العصمة الكاملة حتّى بالنسبة إلى ما قبل الإمامة، فهذا الدليل كما يقال أخصّ من المدّعى؛ لأنّ المدّعى هو عصمته مدّة حياته كلّها حتّى قبل إمامته، وهذا

103

الاعتبار العقليّ هو: أنّ الذي عُهد إليه الحكم من قبل الله تبارك وتعالى وارتبط بالله تعالى بعهد الإمامة ـ على حدّ تعبير القرآن الكريم: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ ـ أي: جعله الله حاكماً وإماماً للمسلمين، يكون إنساناً احتلّ رتبةً إلهيّةً عظيمة، فهو ليس إنساناً اعتياديّاً؛ لذلك فإنّ هذا الإنسان لو صدر عنه أقلّ ذنب أو معصية من تلك الصغائر التي يغفرها الله تعالى للناس الاعتياديين: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾(1)، يصبح هذا الذنب الصغير من هذا الإنسان الكبير من أكبر الكبائر، والعقل يدرك هذا الفرق، فلو أنّ إنساناً اعتياديّاً ساذجاً بسيطاً لا يعرف أحكام الله تعالى ولا تربّى تربية إسلاميّة جيّدة عصى معصية صغيرة، فإنّه يُؤنَّب عليها وقد تُغفر له، بينما لو صدرت نفس المعصية الصغيرة عن فقيه كبير، أو مرجع دينيّ للناس يُقتدى به، فإنّها ستكون بالنسبة إليه من الكبائر التي لا تُغتفر، ولنفترض أنّ الذي فعل تلك الصغيرة ليس فقيهاً كبيراً وإنّما إمام كبير وعظيم، إمام للمسلمين بل للناس أجمعين، فستكون أصغر الصغائر بالنسبة إليه من أكبر الكبائر وعظائم الذنوب التي تدلّ على خبث عظيم، ومثل هذا لا نحتمل صدوره عن ذلك الإنسان الذي أخذ الله عليه عهد الإمامة، وارتبط مع الله ارتباطاً عهديّاً، ولا نحتمل من هذا الإنسان العظيم أن يُزلّه الشيطان فيُخطئ ولو خطأً يُعتبر بالنسبة إلى غيره اعتياديّاً وصغيراً.

 



(1) سورة النساء، الآية: 31.

104

 

 

معنى ذنوب الأنبياء(عليهم السلام)

 

بعد أن أثبتنا عصمة الأئمّة(عليهم السلام) بالدليلين القرآنيّين، وكذلك بالدليلين الاعتباريّين ننتقل إلى الآيات المباركات التي يظهر منها نسبة صدور الذنب إلى الأنبياء سلام الله عليهم وبالأخصّ إلى الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) الذي لا شكّ أنّه نبيّ ورسول وإمام، فإنّ كلّ المقامات الثابتة لإبراهيم(عليه السلام) من النبوّة ثُمّ الرسالة ثُمّ الخلّة ثُمّ الإمامة وأكثر من ذلك وبشكل أكبر وأكمل وأعلى موجودة في رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ومع ذلك ترى بعض آيات القرآن المباركة يظهر منها نسبة ذنب ما إليه(صلى الله عليه وآله)، فما نصنع بهذه الآيات، وكيف نُفسّر هذه الآيات ونُوفّق بينها وبين الآيات الاُخرى التي دلّت على العصمة كما أوضحنا؟ ولنستعرض أوّلاً بعض تلك الآيات التي يظهر منها نسبة الذنب إلى الأنبياء (عليهم السلام):

قوله تعالى يُخاطب رسول الله(صلى الله عليه وآله): ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾(1)، ومعنى ﴿اسْتَغْفِرْهُ﴾: اطلب منه المغفرة، وهذا يعني أنّ هناك ذنباً صدر عنه(صلى الله عليه وآله) وعليه أن يستغفر منه الله تعالى.

وقوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالاِْبْكَارِ﴾(2)، وهذا خطاب للنبيّ نصّاً، وهذه الآية


(1) سورة النصر، الآية: 3.
(2) سورة غافر، الآية: 55.
105

صرّحت بنسبة الذنب إلى الرسول(صلى الله عليه وآله) وطلبت منه الاستغفار.

وآية ثالثة: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾(1)، وهذا أيضاً خطاب موجّه للرسول(صلى الله عليه وآله)، وقد نَسب ذنباً إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله) كالآية السابقة صريحاً.

وآية اُخرى عن لسان النبيّ نوح(عليه السلام) يُخاطب الله عزّ وجلّ فيقول: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً﴾(2)، و ﴿اغْفِرْ لِي﴾بمعنى أنّه لديه ذنب، لذا يطلب المغفرة من الله تعالى.

وآية خامسة: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾(3)، وهي عن لسان إبراهيم(عليه السلام) الذي دلّت آية سابقة على أنّه أتمَّ الكلمات بمعنى أنّه لم يُخطئ ولم يعص، ومع ذلك دلّت هذه الآية على أنّه(عليه السلام) طلب المغفرة من ربّه جلّ وعلا.

والآية الأخيرة التي نذكرها هي عن لسان موسى(عليه السلام) وهو نبيّ من اُولي العزم: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ﴾(4)، فكلمة ﴿اغْفِرْ لِي﴾ تدلّ على أنّ هناك ذنباً يطلب غفرانه من الله تبارك وتعالى.

أعتقد أنّ الجمع واضح جدّاً بين أدلّة العصمة ـ من آيات وأدلّة اعتباريّة عقلائيّة وقد مضى شرحها ـ وبين الآيات التي ظاهرها



(1) سورة محمّد، الآية: 19.

(2) سورة نوح، الآية: 28.

(3) سورة إبراهيم، الآية: 41.

(4) سورة الأعراف، الآية: 151.

106

نسبة الذنب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أو إلى أنبياء عظام آخرين ـ كموسى أو إبراهيم(عليهما السلام) ـ وقد ذكرنا بعضها، وبهذا الجمع لا يبقى غموض بالنسبة إلى هذه الآيات التي تنسب الذنب إلى الأنبياء العظام إذا قسناها إلى تلك الآيات التي أثبتت العصمة للأنبياء(عليهم السلام)، وعلى الرغم من أنّ معناها بحسب ما أعتقد واضح لا غبار عليه لكن لا أستعجل بإعطاء النتيجة، أعني: لا أستعجل في تفسير هذه الآيات، بل نُلقي أوّلاً نظرةً سريعةً على حقيقة الذنوب الصادرة عن الأنبياء العظام والتي ذكرها القرآن الكريم، ونُدقّق شيئاً ما في تلك الذنوب، فما هو ذنب النبيّ الأعظم(صلى الله عليه وآله)؟ وما هي ذنوب الأنبياء الآخرين(عليهم السلام)؟ وبعد ذلك ستعرف معنى هذه الآيات، وكيف أنّها تنسجم مع آيات العصمة.

فهناك في آيات القرآن الكريم ما يوضّح حقيقة بعض تلك الذنوب، ومنها قوله تعالى: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾(1)، هذا في القرآن الكريم اعتُبر ذنباً بحيث يُعاتب عليه الرسول(صلى الله عليه وآله)، ويقول: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ﴾، لماذا فعلت هذا العمل؟ فماذا صنع رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ كلّ ما صنعه هو أنّ اُناساً ـ على ما يظهر من الآية ـ جاؤوا إليه واعتذروا من الاشتراك في القتال، قالوا: نحن لدينا أعذار كذا وكذا، مثل أنّنا مرضى أو عندنا مشاكل عائليّة معيّنة...، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) الذي هو اُذن خيرٌ يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، يصدِّق كلام المسلم ويحمله على الصحّة،



(1) سورة التوبة، الآية: 43.

107

صدّقهم فأذِن لهم، وقال لهم: أنتم معذورون، فالله تعالى يُعاتبه ويقول: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾، إذن ذنبه كان من هذا المستوى، هذا مَثل يلقي الضوء على حقيقة الذنوب التي ينسبها القرآن إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)وباقي الأنبياء(عليهم السلام).

ومنها آيات اُخرى على أحد تفسيرين، وهي قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الاَْعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى﴾(1)، ولهذه الآيات تفسيران: أحدهما يتبنّاه إخواننا أهل السنّة، والآخر يتبنّاه الشيعة على الأغلب، والتفسير الذي يتبنّاه الشيعة هو: أنّ الضمير لا يرجع إلى الرسول(صلى الله عليه وآله)، فقوله: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الاَْعْمَى﴾ ليس له علاقة برسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإنّما الذي عبس هو شخص آخر، ففي بعض الروايات أنّه عثكن(2)، وأنّه كان حاضر المجلس حينما جاء هذا الأعمى، فعبس وتولّى وتأذّى، هكذا وردت الروايات في تفسير هذه الآيات، وعليه تخرج عن محلّ الشاهد، لذا فلنغضّ النظر عن هذا التفسير الذي لا علاقة له برسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولنفترض أنّ التفسير الآخر هو الصحيح، وهو أنّ الخطاب موجّه إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وأنّ الله تعالى يُعاتب رسوله، لذا ورد في الخبر: أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان إذا رأى ذلك الأعمى وهو ابن اُمّ مكتوم كان يقول له: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي»(3)، لنفترض



(1) سورة عبس، الآية: 1 ـ 4.

(2) تفسير القمّي 2: 404 ـ 405.

(3) البحار 17: 77.

108

أ نّ هذا هو الصحيح، عندئذ فلنتأمّل شيئاً ما لنرى ما هو الذنب الذي صدر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ فقد جاء في جملة من الروايات: أنّ عبدالله بن اُمّ مكتوم أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو يُناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعبّاس بن عبد المطّلب واُبيّاً واُميّة ابني خلف ـ وهم صناديد العرب وكانوا مجتمعين عند رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ حيث كان يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم، وفي تلك الأثناء جاء هذا الرجل ـ ابن اُمّ مكتوم وكان أعمى ولا يدري من كان عند رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وبمن كان الرسول(صلى الله عليه وآله) مشغولاً ـ فقال: يا رسول الله، أقرئني وعلّمني ممّا علّمك الله، فجعل يناديه والرسول(صلى الله عليه وآله) كان مشغولاً بصناديد العرب يريد أن يهديهم، ويكرّر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره، حتّى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله) لقطعه كلامه، وقال في نفسه: هؤلاء الصناديد سيقولون: إنّما أتباعه العميان والعبيد. فأعرض وأقبل على القوم الذين يُكلّمهم، فنزلت الآيات: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الاَْعْمَى...﴾. فلو كان هذا التفسير هو الصحيح، فما هو ذنب الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ لنلقِ نظرةً على طبيعة الذنب المنسوب إليه(صلى الله عليه وآله)، وهل حقّاً هو معصية يستحقّ العقاب عليها؟

كلاّ؛ فإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) أراد خيراً، أراد هداية جماعة من عَلِيّة القوم ورجا بذلك هداية ناس كثيرين فأعرض عن هذا الرجل. نعم، الله تعالى يُريد أن يُؤدّب رسوله ويُريد أن يجعله في أعلى مستوى من الخُلق، وقد رأى أنّ هذا المستوى لا يليق برسوله(صلى الله عليه وآله)،

109

والمفروض أن يكون الرسول (صلى الله عليه وآله) في مستوى أعلى من هذا، فعاتبه فنزلت الآيات، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي، ويقول له: هل لك حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين.

وسواء أصحّ هذا التفسير أو ذاك التفسير، وسواء أكان الخطاب موجّهاً إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) أو إلى شخص آخر هو عثكن أو غيره، هناك آيات اُخرى في القرآن الكريم تدُلّ على أنّ هذا الجوّ كان يعيشه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أي: أنّها تدلّ على أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان مبتلى بهذه المشكلة؛ إذ إنّ الملتفّين حوله هم الفقراء والمساكين والمستضعفون، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يطمح في هداية الصناديد كبار القوم، وكان يُعاني من هذه المشكلة بحيث لو اتّجه نحو هؤلاء المساكين، فاُولئك يبتعدون عنه، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) يُريد أن يُقرّبهم إلى الإسلام، ولو اتّجه إلى اُولئك، فهؤلاء الفقراء يُظلمون؛ باعتبار أنّ هؤلاء المستضعفين هم المؤمنون حقّاً، فمن تلك الآيات قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْض لِّيَقُولواْ أَهـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾(1)، ولنلاحظ جوَّ الآية، إنّ هناك جماعةً يعتبرون أنفسهم الملأ والعَلِيّة من قومهم،



(1) سورة الأنعام، الآية: 52 ـ 53.

110

وهناك جماعة اُخرى فقراء مستضعفون، هؤلاء المستضعفون كانواملتفّين حول رسول الله(صلى الله عليه وآله)، والرسول(صلى الله عليه وآله) ربّما كان يخطر على نفسه الشريفة أن يُبعد المستضعفون قليلاً حتّى يُقرّب رؤساء القوم وكبارهم منه لعلّهم يهتدون، لكنَّ الله تعالى يقول: لا، هؤلاء الفقراء فتنة لاُولئك الملأ، دعهم يقولون: ﴿أَهـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا﴾، دعهم يقولون هكذا، ﴿أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾، الله لا ينظر إلى من هو الرئيس وزعيم القبيلة وزعيم العشيرة، فإنّ الرئيس والمرؤوس عنده تعالى سواء؛ لأنّهم جميعاً عبيده، الله ينظر إلى من هو الشاكر، والفقراء كانوا هم الشاكرين، إذن لا تطردهم يا رسول الله ﴿لاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾.

وآية ثالثة تُعطينا نفس الجوِّ، وتدلّ على أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يُعاني من هذه المشكلة بين هؤلاء الفقراء وبين اُولئك الزعماء الذين كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يطمع في هدايتهم، والآية هي قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾(1)، ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾، يعني: اهتمّ بهؤلاء الفقراء الذين التفّوا حولك، ﴿وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾، أي: لا تنظر إلى اُولئك الكبار الذين



(1) سورة الكهف، الآية: 28.

111

يملكون أموالاً وقصوراً.

وأمّا قوله تعالى: ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فما معناه؟ هل يعني ذلك أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) كان يُريد أن يستفيد فائدة شخصيّة من زينة الحياة الدنيا، وعندما يُعرض عليه مُلك الدنيا مع بقائه على منزلته من الله تعالى يقول: «دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً»(1)؟ هل يُريد أن ينتفع من زينة الحياة الدنيا لنفسه؟! طبعاً لا، إذن ما معنى قوله: ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؟ معناه: أنّه كان يُريد أن يُقرّب هؤلاء المترفين لعلّهم يهتدون، فيأخذ منهم شيئاً من زينة الحياة الدنيا التي عندهم، ليُنفقها في مصالح الإسلام وتوسيع نطاق دائرة الدولة الإسلاميّة وتثبيت أركانها، هذا هو هدف رسول الله(صلى الله عليه وآله) وليس شيئاً آخر، ومع ذلك يقول له الله تعالى: ﴿اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ...﴾.

وورد في تفسير هذه الآية المباركة: أنّ «المؤلّفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عُيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذووهم فقالوا: يا رسول الله، إن جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء ( يعنون: سلمان وأباذر وفقراء المسلمين ) وروائح صنانهم ـ وكانت عليهم جباب الصوف ـ جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك»(2). فأنزل الله تعالى هذه الآية المباركة: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ



(1) البحار 42: 276.

(2) البحار 69: 2، الباب 94.

112

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾(1).

وممّا سبق تبيّن أنّ الذنب الذي كان يصدر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، كان من هذا القبيل، وليس هو معصية من المعاصي، بل كان بحدّ ذاته خُلُقاً رفيعاً وعملاً صالحاً لرسول الله(صلى الله عليه وآله)، إلّا أنّه وفق قانون « حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين » كان الله تعالى يُريد أن يُؤدِّب رسوله الأكرم(صلى الله عليه وآله)، لكي يكون أرفع خلقاً من هذا الخلق الرفيع الذي يُسمّيه ذنباً بالنسبة إليه(صلى الله عليه وآله).

وكذلك الحال بالنسبة إلى نبيّ الله يونس(عليه السلام)، فما هو ذنب يونس (عليه السلام) الذي يقول الله تعالى عنه في القرآن: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِن الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(2)؟ هل كان ذنبه كبيراً إلى هذا الحدِّ بحيث لو لم يكن من المسبِّحين للبث في بطنه إلى يوم يُبعثون حتّى أنّ كثرة تسبيحه(عليه السلام) لم تُعفِه ولم تُنجِه إلّا من العقاب الطويل، فعُوقب بأدنى من ذلك، فما هو ذنبه؟ وقد ذكر الله تعالى ذنبه بقوله: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾(3)، فمعنى قوله: ﴿ذَهَبَ مُغَاضِباً﴾ أنّه تأذّى من قومه الكفّار الذين تعب من أجلهم وأراد أن يهديهم، لكنّهم أصرّوا على كفرهم وشركهم ولم


(1) سورة الكهف، الآية: 28.
(2) سورة الصافات، الآية: 143 ـ 144.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 87.
113

يعبدوا الله ربّهم، فتأذّى وغضب ودعا عليهم وخرج عنهم بعد أن علم بقرب نزول العذاب بقومه، وتقول الروايات: إنّ عالماً كان موجوداً لم يوافق يونس(عليه السلام) في دعائه على قومه. ومن الواضح أنّ الله عزّ وجلّ إن لم يكن يقبل هذا الأمر، فإنّه لا يستجيب له ولا يُهلك قوم يونس (عليه السلام)، فهذا الدعاء منه (عليه السلام) ليس معصية، ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ بمعنى لن نُضيّق عليه، مثل: ﴿قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾(1)، أي: فظنّ أن لن نُضيّق عليه، ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، لاحظوا ما هو الظلم الصادر عن هذا النبيّ؟ الظلم الصادر عنه أنّه لم يكن أرحب صدراً ممّا كان عليه، فهو (عليه السلام)وإن صبر سنين لكن كان عليه أن يصبر أكثر، فهذا هو الذنب الصادر عنه(عليه السلام).

بعد ذلك يُصبح واضحاً جدّاً معنى الذنب الذي يُسند إلى الأنبياء (عليهم السلام)، فإنّه تعبير آخر عمّا يُقال من أنّ «حسنات الأبرار سيّـئات المقرّبين»، هذا هو ذنبهم، يعني ما يصدر عنهم ويُسمّى ذنباً ويستغفرون منه هو وإن كان حسناً في نفسه لكنّه خلاف الأولى بهم وبمقامهم العظيم، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: « إنّه ليغان على قلبي، وإنّي لأستغفر بالنهار سبعين مرّة »(2)، يعني هذه الحسنة التي تصدر عنه(صلى الله عليه وآله) بالنسبة إليه سيّئة؛ لأنّه من المقرّبين، وحسنات الأبرار سيّئات المقرّبين، هذا هو الذي نفهمه من الآيات المباركات.

 



(1) سورة الطلاق، الآية: 7.

(2) البحار 25: 204.

114

ومن هذا النمط أيضاً قصّة داود(عليه السلام) قال الله تعالى: ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب﴾(1).

فماذا كان ذنب داود الذي أوجب ظنّه بفتنة الله فاستغفر ربّه وخرّ راكعاً وأناب؟! قصّة داود وبكائه وتضرّعه معروفة ومذكورة في القرآن الكريم بقوله: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْض فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ﴾(2).

وخلاصة القصّة: أنّ شخصين أو ملكين بصورة شخصين دخلا على داود(عليه السلام) وتظاهرا أنّهما خصمان بغى بعضهما على بعض، وطلبا منه أن يحكم بينهما بالحقّ ولا يشطط ويهديهما إلى سواء الصراط، فعرض أحدهما القصّة قائلاً: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾(3)، أي: أراد أن يأخذها منّي، فقال له داود(عليه السلام): ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ﴾، ولكن كان ينبغي لداود وفق قانون القضاء أن يسمع دفاع الخصم أيضاً ثُمّ يُطالب المدّعي بالبيّنة، فإن لم تكن له بيّنة، فعليه أن يُطالب الخصم باليمين لو أنكر. فغفل عن هذا الأمر ووقع تحت تأثير المدّعي، فقال له: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾، ولعلّه لم يكن بقوله هذا يُريد



(1) سورة ص، الآية: 24 ـ 25.

(2) سورة ص، الآية: 21 ـ 22.

(3) سورة ص، الآية: 23.

115

القضاء بينهما، بل قال بعنوان تقييم الوضع: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾(1)، قال ذلك قبل أن يُجري الحكم القضائي، ثُمّ التفت داود إلى خطئه كما قال الله تعالى: ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾، انتبه داود(عليه السلام) إلى قوله: ﴿ظَلَمَكَ﴾ الذي لم يكن في محلّه بل سابق لأوانه، وكان عليه أن يُطالب بالبيّنة ويُجري أحكام القضاء، ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب﴾.

فعندما نقرأ هذا النمط من الآيات القرآنيّة التي تتحدّث عن صدور أخطاء عن الأنبياء(عليهم السلام) ونتفحّص تلك الأخطاء نرى أنّها ليست ذنوباً بالمعنى المتعارف وحتّى بغضّ النظر عن آيات العصمة، فهي ليست أخطاء بمستوى المعاصي، بل هي إمّا غفلة كما في قصّة داود(عليه السلام)، أو هي من قبيل « حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ».

ومن هذا القبيل طلب يوسف (عليه السلام) من صاحبه في السجن أن يذكره عند ربّه، وليست الآية صريحة بتخطئة يوسف(عليه السلام) إلّا أنّ فيها إشعاراً بالخطأ، والآية الكريمة هي: ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاج مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ﴾(2)، أي: طلب من أحد السجينين اللذَين كانا معه في السجن ـ بعد أن أوّل لهما رؤياهما وظنّ أنّه سينجو من السجن ـ أن يذكره عند الملك، ويذكر له أمره، لعلّ الملك يعطف عليه ويُفرج



(1) سورة ص، الآية: 24.

(2) سورة يوسف، الآية: 42.

116

عنه ﴿فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ﴾، فكأنّ الآية ناظرة إلى هذا المعنى، وهو أنّه لماذا لم يفعل يوسف(عليه السلام) كما فعل إبراهيم(عليه السلام) عندما أراد قومه أن يوقعوه في النار حيث قال له جبرائيل: « ألك حاجة؟» فقال: «أمّا إليك فلا »(1)، لماذا لم يصنع يوسف(عليه السلام) هكذا وقال: ﴿اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ﴾، ﴿فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾؟

ومن ذلك قول زين العابدين(عليه السلام): « لَيْتَ شِعْرِي أَلِلشقاءِ وَلَدَتْنِي اُمّي أَمْ لِلْعَناء رَبَّتْنِي فَلَيْتَها لَمْ تَلِدْنِي وَلَمْ تُرَبِّنِي »(2).

فهل الإمام(عليه السلام) لا يدري أنّه معصوم وأنّه ولد للسعادة لا للشقاء؟! هنا عدّة إجابات:

منها: أنّ هذا كان تعليماً لنا، وهو احتمال وارد لقسم من الأدعية، ولا يمكن تفسير جميع الروايات والأدعية من هذا القبيل بذلك.

ومنها: أنّ العصمة التي كانت لهم(عليهم السلام) إنّما نتجت عن هذا الخوف والوجل الشديد وحالة التضرّع والخشية المتواجدة فيهم، الخشية من النار من ناحية، والتضرع أمام عظمة الله جلّ وعلا من ناحية اُخرى، فهذه الاُمور هي التي عصمتهم وجعلتهم لا يأبهون بمغريات الدنيا ولو اجتمعت أمامهم، ولا يبقى هناك سبب للمعصية.

فمن غير الصحيح أن نقول: إنّ الأئمّة(عليهم السلام) إذا كانوا معصومين فلماذا يوجلون ويتضرّعون ويبكون؟ أوليس هذا التضرّع والخشوع


(1) البحار 12: 5، الحديث 12.
(2) البحار 91: 143 مناجاة الخائفين.
117

هو سبب عصمتهم؟

ومنها: أنّهم لعلّهم كانوا يخافون ويبكون تائبين إلى حدّ الإغماء لأجل ما قد صدر عنهم ممّا يكون بحدّ ذاته حسنةً من الحسنات، إلّا أنّه بالنسبة إلى اُولئك المقرّبين يُعتبر سيّئة.

وكثيراً ما ورد في القرآن الكريم التعبير بالتوبة أو بالمغفرة وما شابه ذلك فيما لا يكون معصيةً بالمعنى الذي نفهمه منها، وهذا متعارف في القرآن الكريم، وليس غريباً في لغته.

فهذه الآية الشريفة تذكر التوبة في القتل فتقول: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلَّا خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُّؤْمِنَة وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إلَّا أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْم عَدُوّ لَّكُمْ﴾، أي: من الكافرين كالمسيحيين واليهود ﴿وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُّؤْمِنَة﴾، وهنا تسقط الدية عن القاتل؛ لأنّها إنّما تُعطى لأهل المقتول، وهم هنا كفّار لا يستحقّونها، فلا يبقى إلّا تحرير رقبة مؤمنة ﴿وَإِن كَانَ مِن قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ﴾، يعني: أنّهم كانوا كفّاراً إلّا أنّ بينهم وبين المسلمين ميثاقاً كالذمّيّين والمعاهدين، فلابدَّ من الوفاء بذمّتهم وعهدهم، فعندئذ ﴿فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُّؤْمِنَة فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ﴾(1).

فالقاتل كان عليه أن يفعل ذلك كي يتوب الله عليه، بينما نحن نعلم أنّه لم تصدر عنه معصية يستحقّ العقاب عليها، فهو قتل خطأ،


(1) سورة النساء، الآية: 92.
118

والقتل الخطأ غير المقصود ليس بمعصية.

وقد يقال: إنّ هناك آيات قرآنيّة اُخرى قد يصعب توجيهها، فهي تدلّ نوعاً ما على صدور ذنب عن بعض الأنبياء الكرام، كقوله تعالى في معصية يوسف (عليه السلام): ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، وإذا أردنا بحث هذه الآية علينا أن نلحظ مجموع الآيات الواردة في ذلك الموقف، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾(1).

إنّ عبارة ﴿بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ في القرآن الكريم وردت بمعنيين:

المعنى الأوّل: بلوغ سنّ التكليف كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾(2)، أي: يبلغ سنّ التكليف والرشد.

المعنى الثاني: هو بلوغ سنّ الأربعين؛ إذ إنّ الإنسان في ذلك السنّ يبلغ عادةً آخر مدارج كماله من ناحية القوّة والمزاج ثُمّ ينتقل بعده إلى النقص، أو أنّه يتوقّف في سنّ الأربعين حتّى الخمسين ثُمّ يبدأ بالنقص بعد الخمسين يوماً بعد آخر، وهذا المعنى الثاني ورد في


(1) سورة يوسف، الآية: 22 ـ 24.
(2) سورة الإسراء، الآية: 34.
119

القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾(1).

أمّا ما ورد في قصّة يوسف(عليه السلام) من قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾، فهو في أغلب الظنّ بالمعنى الأوّل، أي: بلغ سنّ التكليف بقرينة قوله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾، فهي لا تنتظر أن يبلغ أربعين سنةً حتّى تراوده عن نفسه، بل كان ذلك ـ كما في العادة ـ في أوّل شبابه وبلوغه سنّ التكليف.

وهذا يدلّ أيضاً على أنّ يوسف(عليه السلام) قد بلغ مرتبة النبوّة بل المرتبة الأعلى منها ـ وهي مرتبة الحكم ـ في أوائل سنّ التكليف، أي: أنّه لم يكن مجرّد نبيٍّ يُوحى إليه ورسول يُبلغ الحكم الإلهي، بل كان في مرتبة أعلى من مرتبة النبوّة والرسالة، وهي مرتبة الحكم أو مرتبة الإمامة، ومع الأخذ بعين الاعتبار أنّ يوسف(عليه السلام) كان من أوّل بلوغه سنّ التكليف نبيّاً ورسولاً وإماماً وحاكماً، فإن كان بالإمكان الشكّ في عصمة الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام) قبل النبوّة وقبل الإمامة، واحتملنا صدور الخطأ والمعصية عنهم في تلك المرحلة، فإنّنا لا نحتمل ذلك لمن هو نبيّ أو إمام بالفعل بالغاً مرتبة الحكم والإمامة.

إلّا أنّ إخواننا العامّة: يُعطون الخلافة والإمامة معنىً باهتاً، فيُجوِّزون أن يكون الخليفة فاسقاً ومع ذلك يكون خليفة المسلمين،



(1) سورة الأحقاف، الآية: 15.

120

أمّا في مدرستنا ـ مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ـ فلو احتمل أحدٌ أنّ النبيّ أو الإمام يمكن أن يعصي قبل بلوغه هذه المرتبة وهذا المقام، فلا يحتمل أبداً أنّه يعصي حينما يكون متلبِّساً بهذا المقام، فمن غير المعقول أن يزني أو يهمَّ بالزنا من جعله الله حاكماً وإماماً حاملاً لعهده تعالى، فلابدّ من تفسير آخر لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾، ولو لم يرد في صدر الآية أنّ يوسف(عليه السلام) بلغ مستوى الحكم، لأمكن لقائل أن يقول: إنّ يوسف(عليه السلام) لم يكن نبيّاً في أوائل بلوغه، ولا إماماً عندما همّت به وهمّ بها، ثمّ أصبح نبيّاً وإماماً، إلّا أنّ الآية ظاهرة في أنّ وقوع القصّة والحادثة كان بعد إمامته لقوله: ﴿آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾.

ولقد وردت عدّة تفاسير لتلك الآية في روايات الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) كما عن الإمام الرضا(عليه السلام): أنّها همّت به لأجل الزنا، وهمَّ بها ليقتلها إن أجبرته لعظم ما تداخله؛ إذ تقول الآية بعد ذلك: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء﴾، فالسوء بمعنى القتل، والفحشاء بمعنى الزنا، أي: لنصرف عنه القتل والفحشاء(1)، فعلى هذا التفسير لا يكون همّه بها للزنا وإنّما لقتلها تخلّصاً منها.

وفي رواية اُخرى: أنّ همّه بها كان موقوفاً على عدم رؤيته برهان ربّه، أي: لولا أن رأى برهان ربِّه لهمَّ بها كما همّت به، ولكن



(1) تفسير نور الثقلين 2: 419، الحديث 41.

121

برؤيته له لم يهمَّ بها(1).

وهناك احتمالات تفسيريّة اُخرى بهذا الصدد من قبيل أن نقول: إنّ أصل الهمِّ لا يعدو أن يكون خاطراً يطرق القلب واشتياقاً نفسيّاً، وهذا الشوق والميل الخارج عن الاختيار لا يكون له مقام الفعل والعمل الاختياري الذي تكون المحاسبة عليه ويكون ظلماً، والآية لم تدلّ على صدور بعض المقدّمات عن يوسف(عليه السلام) وإن كانت بعض الروايات الواردة عن غير طريق أهل البيت(عليهم السلام)، تشير إلى شيء من ذلك، أمّا روايات أهل البيت(عليهم السلام)، فخالية منها تماماً، ونفس عبارة ﴿هَمَّ بِهَا﴾ لا تدلّ على صدور بعض المقدّمات، بل تدلّ على حصول ميل نفسي، وهو ـ كما قلنا ـ خارج عن القدرة ولا يخضع للتكليف.

ومن الآيات التي يصعب توجيهها شيئاً ما قوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾(2) وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾(3).

ففي هذه الآيات ما يدلّ على نفي العصمة عن آدم(عليه السلام) والتي ثبتت بقوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، فهل ظلم آدم(عليه السلام) نفسه وعصى ربّه فغوى، أو نسي ولم يكن له عزم؟

وللجواب عن ذلك طريقان:

الطريق الأوّل: أن ننكر أنّ آدم(عليه السلام) قد صدرت عنه معصية عمديّة


(1) راجع المصدر السابق، الحديث 42.
(2) سورة طه، الآية: 121.
(3) سورة طه، الآية: 115.
122

بقرينة قوله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾(1). ففي إحدى الروايات أنّ آدم وحواء لم يكونا يعرفان إلى ذلك الوقت أنّ من المعقول والممكن أن يحلف شخص بالله تعالى كاذباً ولم يخطر ذلك ببالهما أبداً، فاستطاع الشيطان أن يُقنعهما بأ نّ النهي الإلهي الصادر لم يكن نهياً مولويّاً واجب الطاعة، وإنّما كان نهياً إرشاديّاً باعتبار أنّ الله تبارك وتعالى إنّما خلق آدم لكي يكون خليفةً على وجه الأرض، لا أن يبقى في الجنّة(2)، كما يشهد لذلك قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(3)، فلم يقُل: إنّي جاعل في الجنّة خليفة، بل خلقه للأرض من أوّل الأمر، فكأنّما أراد إبليس أن يُفهِمَ آدم وحواء بأنّ الله عزّ وجلّ إنّما نهاكما عن أكل هذه الشجرة نهياً إرشاديّاً لا نهياً تحريميّاً أو مولويّاً يصدر عن مولى لعبده؛ بل ليُبيّن لكما طريق الخروج من الجنّة والانحدار إلى الأرض، فإن كنتما تحبّان البقاء في الجنّة كملكين، فكُلا من هذه الشجرة ﴿قَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾، فلو أكلتما من الشجرة، فستصبحان خالدين فيها، ولا تخرجان منها، وتكونان من ملائكتها ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾.

 



(1) سورة الأعراف، الآية: 20 ـ 21.

(2) راجع البحار 11: 164، الحديث 8.

(3) سورة البقرة، الآية: 30.

123

وكما في الرواية المشار إليها أنّ آدم وحواء لم يكونا يتوقّعان أن يجرأ أحدٌ على الحلف بالله كذباً، فاقتنعا بكلامه وأكلا.

فلو صحَّ هذا التفسير والتوجيه لم يكن آدم(عليه السلام) قد خالف نهياً يعتقد أنّه نهي تشريع، ونهي مولى لعبده، وإنّما كان يعتقد أنّه نهي إرشاد، وهذه أيضاً معصية؛ لأنّ المعصية لغة المخالفة، وعصى بمعنى خالف، فقوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ﴾ بمعنى خالف آدم ربّه، وحتّى المريض لو خالف الطبيب لقلنا عنه: إنّه عصى الطبيب على الرغم من أنّ أمر الطبيب أمر إرشادي وليس أمراً مولويّاً تجب طاعته، فمخالفة آدم النهي الإلهي كان معصية إلّا أنّها ليست بالمعنى المصطلح عليه شرعاً وما يستحقّ عليه العقاب.

الطريق الثاني: ما ورد في بعض الروايات من أنّ هذه المعصية إنّما صدرت عن آدم، وآدم لم يكن نبيّاً حينها، إنّما أصبح نبيّاً أو خليفة في الأرض بعد ذلك. وما كانت معصية سوى صغيرة من الصغائر، ومثلها موهوبة للأنبياء قبل نبوّتهم(1).

فإن أردنا التسليم بهذه النصوص والعمل وفقها، فعندئذ سنقول بالتفصيل والتفريق بين مقام النبوّة ومقام الإمامة، باعتبار أنّ آدم(عليه السلام)لم ترد بشانه آية ولا رواية تقول: إنّه كان بمستوى الإمامة كما هو الحال في إبراهيم(عليه السلام) ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، فيكون المقصود بقوله: ﴿لاَ يَنَالُ


(1) راجع البحار 11: 164، ذيل الحديث الثامن.