90

الجبر بعينه، ويعني: أنّ أهل البيت مجبورون على الطهارة وعن الابتعاد عن الرجس؛ لأنّ الله أراد لهم إرادة تكوينيّة، وما أراده الله إرادة تكوينيّة فإنّه كائن حتماً، وبذلك نرجع إلى الجبر مرّةً اُخرى. وهذا معناه: أنّ عصمة أهل البيت إذن ليست شرفاً أو مدحاً لهم؛ لأنّ العصمة لم تكن باختيارهم، وإنّما كانت بإرادة الله تعالى كإرادته للبشر أن يكونوا بشراً وإرادته للحجر أن يكون حجراً. هذا هو الإشكال الكامن في الاستدلال بهذه الآية المباركة.

وقد كان اُستاذنا الشهيد الصدر ـ رضوان الله تعالى عليه ـ يُجيب عن هذا الإشكال قائلاً بأنّ هناك إرادة ليست تكوينيّة ولا تشريعيّة، وإنّما هي قسم ثالث من الإرادة من سنخ ما يقول المعلّم لطلاّبه: اُريدكم أن تكونوا علماء، واُريد أن أصنع منكم علماء أو فقهاء مثلاً، فهذه الإرادة ليست تكوينيّة ولا تشريعيّة ومجرّد أمر ونهي تشريعيّين بأن يأمرهم أن يكونوا علماء، وإنّما تعني أنّ هذا المعلّم يُريد أن يُهيّئ ما بيده من المقدّمات التي ستؤدّي بهؤلاء الطلاّب إلى أن يتخرّجوا أو يُصبحوا علماء، وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا يكون بمحض اختيارهم وليس بالجبر، فالمعلّم يُلقي على طلاّبه الدروس الدقيقة ويوفّر مناخ الدرس والفهم لهم، فيُصبحون بذلك علماء، وسوف تكون إرادة المعلّم هذا مطابقة للواقع حينما يكون قادراً على توفير كلّ المقدّمات لطلاّبه، فيصبحون علماء فعلاً. ويرى(قدس سره) أنّ هذه الإرادة لم تكن تشريعيّة بحتاً، ولم تكن تكوينيّة بمعنى ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وإنّما هي إرادة بمعنى أنّه أراد أن

91

يُحقّق المقدّمات التي تنتهي إلى النتيجة، وهي: أنّ هؤلاء الطلاّب يصبحون علماء، ولكن هذه النتيجة تنتهي بمحض اختيار الطلاّب وقدراتهم وبإرادتهم. والآية الشريفة السابقة الذكر هي من هذا القبيل، فقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ يعني: أنّ الله تبارك وتعالى أراد أن يوفّر كلّ المقدّمات الدخيلة في صيرورة أهل البيت(عليهم السلام) طاهرين وبعيدين عن الرجس، ولم تكن مجرّد إرادة تشريعيّة ولا هي تكوينيّة من قبيل ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾، ولمّا كان الله تعالى قادراً على تهيئة كلّ المقدّمات الدخيلة في العصمة، وهو يُريد تهيئة تلك المقدّمات إرادة تكوينيّة، فإنّ هذه المقدّمات لا تتخلّف عن مراده، فتتحقّق حتماً، وبذلك يصبح أهل البيت(عليهم السلام)طاهرين مُطهّرين ومُبتعدين عن الرجس بمحض إرادتهم واختيارهم. فالآية الشريفة إذن تدلّ على عصمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، وكان ذلك بمحض اختيارهم.

وقد يُستشهد لما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ من أنّ الإرادة هنا ليست تشريعيّة ولا تكوينيّة، بل هي بالمعنى الثالث الذي شرحناه ـ بأنّه لو اُريدت بها الإرادة التكوينيّة، لزم الجبر وهو باطل، ولو اُريدت بها الإرادة التشريعيّة، كان المناسب أن يقال: يريد الله أن تبتعدوا عن الرجس وتتطهّروا، لا أن يقول: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ﴾؛ ذلك لأنّه في باب الإرادة التشريعيّة يُسند الفعل إلى العبد والإرادة إلى الله، فيقال: يريد الله لعباده أن يُصلّوا، ولا يقال: يريد الله لنا أن يجعلنا مصلّين.

 

92

وبالإمكان تثبيت الإرادة التكوينيّة في المقام، ولكن لا بمعنى جبرهم على ترك المعصية، بل بمعنى ما مضت الإشارة إليه، وهو إعطاؤهم نفساً شفّافةً وروحانيّةً طيّبةً إلى مستوى لو جُوبه صاحبها بكلّ مغريات العالم مجتمعة، فإنّه لن يتورّط أبداً في أيّ معصية، فالإرادة التكوينيّة تعلّقت بهذه الشفّافيّة والطيب، لا بترك المعصية مباشرةً، حتّى يلزم الجبر.

وأمّا النقاش على مستوى السياق، فيقال: إنّ هذه الآية المباركة ( آية التطهير ) قد وردت ضمن آيات نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فيدلّ سياقها على أنّ لآية التطهير علاقة بهنّ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لاَِّزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً * يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة مُّبَيِّنَة يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً * يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاُْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً﴾(1).

 



(1) سورة الأحزاب، الآية: 28 ـ 34.

93

إنّ هذا المقطع ( آية التطهير ) لا يختصّ بنساء النبيّ على الرغم من اختصاص باقي المقاطع بهنَّ؛ إذ لو كان مخصوصاً بنساء النبيّ لقال: « إنّما يُريد الله ليُذهب عنكنَّ » شأنه شأن باقي المقاطع، حيث قال: ﴿إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾، ﴿قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾، ﴿وَلاَ تَبَرَّجْنَ﴾، فهذا المقطع إذن غير مخصوص بنساء النبيّ حتماً، ولكن هل له علاقة بهنَّ، أو أنّه أجنبيّ عنهنَّ ولا علاقة له بهنَّ أصلاً، وإنّما له علاقه بأمير المؤمنين (عليه السلام) وفاطمة والحسن والحسين سلام الله عليهم؟

وهنا نلحظ تلك النقطتين اللتين أشرنا إليهما سابقاً في بحث قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، فكلتا النقطتين موجودتان هنا، وهما:

1 ـ حينما نقتطع هذا المقطع: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ من المقاطع الواردة بشأن نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) نرى أنّ الصدر والذيل ملتئمان تمام الالتئام وكأنّما هذا المقطع كان جملة معترضة في الأثناء، ولنحذف الآن هذا المقطع ( آية التطهير ) ونقرأ هكذا: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاُْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً﴾، فنرى هذا الكلام متّسقاً تمام الاتّساق ومنسجماً تمام الانسجام، وكأنّه لم يُحذف أيّ شيء، وهذا يعني أنّ هذا المقطع ـ أي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ...﴾ ـ كأنّه اُقحم هنا إقحاماً.

2 ـ إنّ هذا المقطع ( آية التطهير ) نراه غير مناسب للمورد؛ إذ إنّه

94

ـ كما شرحنا ـ يدلّ على العصمة، فلو كان هذا المقطع خاصّاً بنساء النبيّ، أو كان منطبقاً على نساء النبيّ وشاملاً لهنَّ، لدلّ على عصمتهنّ، بينما هذه الآية المباركة الواردة بشأنهنَّ تنافي عصمتهنَّ؛ لأنّ الآية تقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لاَِّزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً﴾، فهي تقول: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً﴾، ولو كنَّ معصومات لكان المفروض أن لا تقول: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً﴾. فهذا التخصيص: ﴿أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً﴾إشارة إلى أنّ هؤلاء النساء كسائر نساء العالم فيهنَّ مُحسنات وفيهنَّ مُسيئات، إذن الآية واضحة في عدم عصمة نساء النبيّ، وعليه فإنّ المقطع الذي يدلّ على العصمة لا يناسب سياق الآيات ومضمونها، فليس له علاقة إذن بنساء النبيّ.

ولا يخفى أنّ الكلام الذي قلناه سابقاً حول أسباب إقحام آية: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ...﴾ يأتي نفسه هنا أيضاً، فهذا المقطع لعلّه جُعل هنا حذراً من الارتداد وحذراً من تحريف القرآن الكريم؛ إذ لو كان مستقلاًّ وواضحاً وصارخاً في أنّه وارد في أئمّة أهل البيت ـ سلام الله عليهم ـ فإنّ هذا لعلّه يُؤدّي إلى ارتداد بعض المسلمين، أو يؤدّي إلى تحريف القرآن، ولكنّه عندما جُعل هنا واُقحم ضمن هذه الآيات فقد سلم من التحريف وسلم عن الحذف.

هذا إضافةً إلى أنّ الروايات الواردة بشأن تفسير هذه الآية

95

المباركة ( آية التطهير ) يبدو منها أنّ الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) أراد أن يُوضِّح للاُمّة أنّ هذا المقطع لا علاقة له بنسائه، وإنّما له علاقة بعليِّ وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام).

ولا نريد أن نورد هنا الروايات الواردة بأسانيد الشيعة؛ لأنّ اتجاهها واضح ولا غبار عليه، وإنّما نُريد أن نُورد روايةً من الروايات الكثيرة الواردة بهذا الصدد عن طريق السنّة.

فقد جاء في رواية رويت بعدّة طرق عن عبد الله بن أحمد بن حنبل: أنّ اُمّ سلمة ـ رضوان الله عليها ـ قالت: إنّ «النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان في بيتها، فأتت فاطمة ( دخلت البيت ) ببرمة ( أي: بيدها برمة، والبرمة تُفسّر بقدر من حجر ) فيها حريرةٌ ( وفُسّرت بعدّة تفاسير وقيل المرق الذي فيه اللحم، أمّا إذا لم يكن فيه لحم، فيُسمّى عصيدة )، فدخلت بها عليه، قال: ادعي لي زوجك وابنيك. قالت: فجاء عليّ وحسن وحسين فدخلوا وجلسوا يأكلون من تلك الحريرة وهو وهم على منامة له ولي وكان تحته كساء خيبري، قالت: وأنا في الحجرة اُصلّي فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ...﴾، قالت: فأخذ فضل الكساء وكساهم به، ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء وقال: هؤلاء أهل بيتي وحامّتي اللهمّ فأذهب عنهم الرجسَ وطهّرهم تطهيراً. قالت: فأدخلت رأسي البيت وقلت: وأنا معكم يا رسول الله. قال: إنّك لعلى خير لعلى خير»(1)، فأخذ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)



(1) البحار 35: 220، الحديث 27.

96

بفضلة إزاره ( الكساء الخيبري ) فغشّاهم إيّاها، أي: أنّه(صلى الله عليه وآله) جعل كلاًّ من أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين ضمن الكساء، ثُمّ أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء ثُمّ قال: اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهِبْ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. كأنّما كان الهدف أن يتعيّن أهل البيت في هؤلاء. قالت اُمّ سلمة: فأدخلت رأسي في الستر فقلت: يا رسول الله وأنا معكم؟ فقال: إنّك على خير ( مرّتين )، كي يُعرف أنّ هذا المقطع لا علاقة له بنساء النبيّ حتّى النساء الصالحات من قبيل اُمّ سلمة رضوان الله عليها.

وهناك رواية اُخرى وردت من طريق السنّة أيضاً عن ابن عباس قال: شهدتُ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تسعة أشهر يأتي كلّ يوم باب عليّ بن أبي طالب عند كلّ صلاة فيقول: « السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾... »(1).

هذه الآية من آيتين قلنا بأنّهما واضحتا الدلالة على العصمة، وكانت خاصّة بأهل البيت سلام الله عليهم.

وأمّا الآية الثانية التي تُعطي المبدأ العامّ للعصمة لكلّ من نال مقام الإمامة، فهي قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي



(1) معالم المدرستين 1: 274 نقلاً عن الدرّ المنثور، وكذلك القرآن الكريم وروايات المدرستين 1: 223 نقلاً عن الدرّ المنثور.

97

الظَّالِمِينَ﴾(1). و( الظالم ) في لغة الشريعة: هو كلّ من يعصي الله. و( العهد ) هنا: الإمامة، بقرينة قوله تعالى في نفس الآية: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾، ومعنى الآية المباركة: أنّ الله تعالى لا يعهد بالإمامة أبداً إلى أحد من العاصين. فكأنّ إبراهيم(عليه السلام) قد طلب من الله تعالى أن لا تكون هذه الهبة التي وهبها إيّاه خاصّة به، بل تثبت الإمامة في بعض ذرّيّته على الأقلّ: ﴿قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾، فقال الله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، يعني: أنّ في ذرّيّتك من يكون ظالماً وعاصياً لله، وعهد الإمامة لا يصل إلى من يعصي الله، لا يصل إلى الظالم. وهذا يدلّ على أنّ الإمامة لا تجتمع مع المعصية، فلابدّ من العصمة إذن.

والإشكال الذي يُذكر عادةً بالنسبة إلى هذه الآية المباركة هو: أنّ الآية دلّت على أنّ الظالم لا يكون إماماً، وهذا لا يُشكّ فيه، ولكن من الممكن أن نفترض بأنّ الإمامة يمكن أن تنال التائبين من المعاصي، فإذا كان هناك شخص ظالم ـ كأن يكون قد عبد صنماً ـ ثُمّ تاب وأسلم وخرج عن الظلم، فإنّه يصلح لأن يُصبح إماماً، فلا تثبت عندئذ العصمة التامّة للإمام بمعنى افتراض أنّ الإمام لابدّ أن يكون منذ أوّل يوم من حياته إلى آخر أيامه معصوماً من الزلل، وغاية ما تدلّ عليه هذه الآية هي: أنّ الإمام لابدّ أن يكون مبتعداً عن الظلم في زمن نيل الإمامة، أمّا أنّه يجب أن يكون غير ظالم حتّى قبل أن



(1) سورة البقرة، الآية: 124.

98

يعهد إليه بالإمامة فلا، وقد قال علماء الاُصول: إنّ المشتقَّ ليس حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ، وإنّما هو حقيقة في المتلبّس بالمبدأ ومجاز فيما انقضى عنه المبدأ. وعليه فإنّ هذه الآية المباركة لا تدلّ على ضرورة عصمة الإمام وطهارته ونقائه منذ أوّل يوم.

والذين درسوا علم الاُصول يعلمون أنّ هناك أبحاثاً مفصّلةً وعميقةً بهذا الصدد، ونحن لا نريد أن ندخل في تلك الأبحاث المفصّلة، وإنّما نشرح المطلب ونبيِّنه بمستوى ما يمكن بيانه في مثل هذا المقام.

فيقال في الجواب: إنّ أيّ إنسان إذا ظلم ( عصى ) فإنّه في ساعة المعصية ظالم حتماً؛ لأنّ المشتقَّ حقيقة في المتلبّس، وعندئذ فإنّ الآية تشمله؛ إذ تقول: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، ومعناها: أنّ عهدي لا ينال هذا الرجل، وهذا تعبير مطلق، ويعني أنّه لا ينال عهد الله أبداً، وحتّى بعد أن يتوب هذا الرجل.

ويعترض على هذا الجواب بأنّ الحكم إذا ربط بوصف فإنّ الظاهر عرفاً من هذا الربط هو أن يتزامن الوصف والحكم دائماً، فإذا قال: قلّد المجتهد العادل ـ مثلاً ـ فقد ربط التقليد بالاجتهاد وبالعدالة، وهذا يعني وجوب تزامن العدالة والاجتهاد مع حكم التقليد دائماً، بمعنى أنّه إذا سقطت العدالة بسبب الفسق، أو سقط الاجتهاد بسبب النسيان أو كِبر السنّ، لم يجز تقليده عند ذلك؛ إذ لابدّ من التزامن بين الحكم والوصف الذي رُبط به الحكم، وكذلك الحال في قوله: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، فإنّ عدم نيل العهد لابدّ أن يتزامن مع

99

الظلم، فلو انتهى الظلم ينتهي قوله: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي﴾، إذن قد ينال عهد الله، فيصبح إماماً.

وللجواب عن هذا الإشكال نقول: صحيح أنّ الحكم حينما يرتبط بوصف يكون ظاهراً في التزامن، ولكنّ هذه القاعدة ليست مطّردة ودائميّة، وإنّما هي متوقّفة على المناسبات الراجعة إلى الحكم والوصف، فالمناسبة ربّما تقتضي التزامن بين الوصف والحكم كالاجتهاد والتقليد؛ إذ إنّ عدم الاجتهاد يعني الجهل، فإذا سقط الاجتهاد من شخص، فإنّه يُصبح جاهلاً، وعندئذ لا يختلف عن بقيّة العوام ( الجهّال )، فكيف يصحّ لهم تقليده؟! إذ لا توجد في هذه الحالة مناسبة أو نكتة للتقليد. وربّما لا تقتضي المناسبة التزامن، فقد توجد هناك نكات وقرائن عُرفيّة تنفي هذا التزامن بين الوصف والحكم وتفصل بينهما، فيكون الحكم عندئذ أوسع امتداداً من الوصف، ومثاله العُرفي هو: أنّ الثوب إذا لاقى البول ـ مثلاً ـ فإنّه يتنجّس، وهذا لا يعني أنّه نجس ما دام ملاقياً للبول، وأنّه يطهر بمجرّد إبعاده عن البول، بل يعني أنّه نجس حتّى بعد إبعاده عن البول، ولا يطهر إلّا بعد أن يتمّ غسله بالماء بالشكل والعدد المطلوبين، فنجاسة الثوب تصبح هنا غير مشروطة بالتزامن مع الملاقاة، بل إنّ الثوب يصبح نجساً حتّى إذا لاقى البول ولو لحظة واحدة، وسيبقى نجساً ما لم يطهر بالماء، فالمدار في التزامن وعدمه يرجع إلى المناسبة، فإذا رأينا كلاماً يربط بين حكم ووصف، يجب أن نلحظ المناسبات الراجعة إليهما؛ لنعرف أنّها تقتضي التزامن أم لا؟ وقوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ يربِط عهد الإمامة بترك

100

الظلم، وهنا ترى أنّ عظمة شأن هذا العهد وعظمة شأن الإمامة تناسب أن يكون الحكم أوسع امتداداً من الوصف، فالإنسان إذا ظلم شمله قوله:﴿لاَ يَنَالُ﴾ حتماً، فلا ينال عهد الإمامة، ويبقى الحكم بعدم نيل العهد شاملاً له حتّى بعد أن يتوب وتزول صفة الظلم عنه، فلا يزول الحكم بزوال الوصف. والذي يدُلّنا على هذا: أنّ إبراهيمَ(عليه السلام) على عظمته وجلاله ونبوّته ورسالته وخلّته وإمامته ليس من المحتمل أنّه كان يرغب في أن يكون الظالمون أئمّة، وليس هناك أيّ احتمال في أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان يتوقّع من الله تعالى أن يجعل ذرّيّته ـ بما فيهم شاربوا الخمر والزناة والعصاة ـ أئمّة؛ إذ إنّ إبراهيم أعلى وأجلّ من أن يتخيّل بأنّ الزناة والعصاة وشرّابي الخمور وعابدي الأوثان يمكن أن يُصبحوا أئمّةً على الرغم من استمرارهم في ارتكاب المعاصي، فالذي يمكن أن يفترض بشأن إبراهيم هو أنّه (عليه السلام) كان يتخيّل ويتصور بأنّ الذين عصوا وظلموا في وقت ما ثُمّ تابوا وأصلحوا يمكن أن يصبحوا أئمّة، فأجابه الله تعالى بقوله: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾. فالآية الشريفة إذن تدلّ بوضوح على عصمة كلِّ من ينال مقام الإمامة منذ اليوم الأوّل، ولابدّ وأن يكون الإمام معصوماً قَبل الإمامة وبعدها.

 

اعتباران عقليّان لإثبات العصمة:

وهناك اعتباران عقليّان يدلاّن على العصمة على اختلاف في مرتبة العصمة بين الاعتبارين:

أحد الاعتبارين هو: أنّ المفروض بالإمام أن يكون قائداً

101

للمجتمع، وليس لمجتمع خاصّ دون مجتمع آخر، فليس قائداً لمنطقة معيّنة دون اُخرى، بل المفروض به أن يكون قائداً للمجتمع ككلّ ولا يقبل للمجتمع التجزئة في حكمه، وليس حال الإسلام حال النظم الوضعيّة التي تفترض التجزئة وتفترض حكومة هنا وحكومة هناك، فهذا لا يُقرّه الإسلام؛ لأنّه دين واحد والإله واحد، والسلطة واحدة، والدولة واحدة، والعالم كلّه يجب أن يكون تحت راية الإسلام، وعليه فلابدّ أن يكون إمام المسلمين من حيث سعة دائرة قيادته قائداً لكلّ المجتمع. هذا من حيث سعة قيادة الإمام اُفقيّاً. وأمّا من حيث سعة قيادته عموديّاً ـ أي بالنسبة إلى شمولها عمود الأزمنة ـ فإنّ قيادة الإمام ليست مخصوصة بزمان دون آخر كزمان حياته فحسب، مثل الفقيه الذي تكون ولايته مدّة حياته وتنتهي ولايته بانتهاء حياته، أمّا الإمام فليس كذلك بل إمام لجميع الأزمنة، وهو قدوة للناس واجب الطاعة فيما يأمر وينهى.

ولو لاحظنا قيادة الفقيه ـ وهي أضيق دائرةً من قيادة الإمام حيث قد تتحدّد الاُولى بمجتمع وزمان معينين بخلاف الثانية ـ لوجدناها مع ذلك مشروطة بالعدالة والتقوى والاستقامة، وبدون ذلك لا تتحقّق للفقيه ولاية شرعاً، ولا ينقاد الناس لها، ولا تؤثّر أوامره في نفوسهم، فتسقط قيادته من الناحية الفعليّة، فلو فقد العدالة، لا يستطيع أن يهدي الناس؛ إذ إنّ فاقد الشيء لا يعطيه، والفاسق لا يستطيع أن يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، فلن يقلّدوه، ولا يؤمنون بولايته، ولا يقتدون ولا يثقون به، فلا يقدر عندها على قيادة الناس، وكيف يُربِّي الناس من تنقُصه التربية الصالحة

102

والاستقامة؟! وعندئذ ينتفي الغرض من ولايته، لذا كانت ولاية الفقيه مشروطة بالعدالة لا بالعصمة؛ لأنّ العصمة ليست شرطاً في القيادات الضيّقة مساحةً والقصيرة زمناً، وأمّا القيادة الأوسع مساحةً والأطول زمناً ـ كما مضى شرحها ـ فإنّها بحاجة إلى شرط أرقى من العدالة وأعلى وهو العصمة؛ إذ إنّ الإمام نُصب من قبل الله تعالى ليكون هادياً للناس أجمعين إلى يوم القيامة، فإنّ مثل هذه القيادة العالميّة الطويلة المدى ـ التي يُراد لها أن ترتقيَ بالبشريّة إلى أرقى سلّم الكمال الروحي والمعنوي الممكن، أو إلى أعلى درجات الارتباط بالله المتعال لنيل رضوانه تبارك وتعالى ـ بحاجة إلى شرط أعلى من العدالة، فلا يكتب لها النجاح إلّا بالعصمة، ولو أخطأ الإمام في عمره مرّةً واحدةً، فلن يثق به الناس، فلا يقتدون به، وعندها لا يكون لهم هادياً إلى يوم القيامة كما أراد الله تعالى. نعم، لئن كانت القيادة الضيّقة المُختصرة لا تتمّ إلّا بالعدالة ـ التي هي منزلة أدنى من العصمة ـ فلا تصحّ للفاسق، فكيف بقيادة واسعة المدى زمناً ومساحة، إنّها لا يمكن أن يكتب لها النجاح إلّا بالدرجة العليا من التقوى والاستقامة والتي تُسمّى بالعصمة.

هذا هو الاعتبار العقليّ الأوّل الدالّ على العصمة. وهناك دليل أو اعتبار عقليّ ثان يدلّ على العصمة، لكنّه يدلّ عليها في الجملة، أي: مدّة إمامته لا من أوّل حياته، فلا يدلّ على العصمة الكاملة حتّى بالنسبة إلى ما قبل الإمامة، فهذا الدليل كما يقال أخصّ من المدّعى؛ لأنّ المدّعى هو عصمته مدّة حياته كلّها حتّى قبل إمامته، وهذا

103

الاعتبار العقليّ هو: أنّ الذي عُهد إليه الحكم من قبل الله تبارك وتعالى وارتبط بالله تعالى بعهد الإمامة ـ على حدّ تعبير القرآن الكريم: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ ـ أي: جعله الله حاكماً وإماماً للمسلمين، يكون إنساناً احتلّ رتبةً إلهيّةً عظيمة، فهو ليس إنساناً اعتياديّاً؛ لذلك فإنّ هذا الإنسان لو صدر عنه أقلّ ذنب أو معصية من تلك الصغائر التي يغفرها الله تعالى للناس الاعتياديين: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾(1)، يصبح هذا الذنب الصغير من هذا الإنسان الكبير من أكبر الكبائر، والعقل يدرك هذا الفرق، فلو أنّ إنساناً اعتياديّاً ساذجاً بسيطاً لا يعرف أحكام الله تعالى ولا تربّى تربية إسلاميّة جيّدة عصى معصية صغيرة، فإنّه يُؤنَّب عليها وقد تُغفر له، بينما لو صدرت نفس المعصية الصغيرة عن فقيه كبير، أو مرجع دينيّ للناس يُقتدى به، فإنّها ستكون بالنسبة إليه من الكبائر التي لا تُغتفر، ولنفترض أنّ الذي فعل تلك الصغيرة ليس فقيهاً كبيراً وإنّما إمام كبير وعظيم، إمام للمسلمين بل للناس أجمعين، فستكون أصغر الصغائر بالنسبة إليه من أكبر الكبائر وعظائم الذنوب التي تدلّ على خبث عظيم، ومثل هذا لا نحتمل صدوره عن ذلك الإنسان الذي أخذ الله عليه عهد الإمامة، وارتبط مع الله ارتباطاً عهديّاً، ولا نحتمل من هذا الإنسان العظيم أن يُزلّه الشيطان فيُخطئ ولو خطأً يُعتبر بالنسبة إلى غيره اعتياديّاً وصغيراً.

 



(1) سورة النساء، الآية: 31.

104

 

 

معنى ذنوب الأنبياء(عليهم السلام)

 

بعد أن أثبتنا عصمة الأئمّة(عليهم السلام) بالدليلين القرآنيّين، وكذلك بالدليلين الاعتباريّين ننتقل إلى الآيات المباركات التي يظهر منها نسبة صدور الذنب إلى الأنبياء سلام الله عليهم وبالأخصّ إلى الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) الذي لا شكّ أنّه نبيّ ورسول وإمام، فإنّ كلّ المقامات الثابتة لإبراهيم(عليه السلام) من النبوّة ثُمّ الرسالة ثُمّ الخلّة ثُمّ الإمامة وأكثر من ذلك وبشكل أكبر وأكمل وأعلى موجودة في رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ومع ذلك ترى بعض آيات القرآن المباركة يظهر منها نسبة ذنب ما إليه(صلى الله عليه وآله)، فما نصنع بهذه الآيات، وكيف نُفسّر هذه الآيات ونُوفّق بينها وبين الآيات الاُخرى التي دلّت على العصمة كما أوضحنا؟ ولنستعرض أوّلاً بعض تلك الآيات التي يظهر منها نسبة الذنب إلى الأنبياء (عليهم السلام):

قوله تعالى يُخاطب رسول الله(صلى الله عليه وآله): ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾(1)، ومعنى ﴿اسْتَغْفِرْهُ﴾: اطلب منه المغفرة، وهذا يعني أنّ هناك ذنباً صدر عنه(صلى الله عليه وآله) وعليه أن يستغفر منه الله تعالى.

وقوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالاِْبْكَارِ﴾(2)، وهذا خطاب للنبيّ نصّاً، وهذه الآية


(1) سورة النصر، الآية: 3.
(2) سورة غافر، الآية: 55.
105

صرّحت بنسبة الذنب إلى الرسول(صلى الله عليه وآله) وطلبت منه الاستغفار.

وآية ثالثة: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾(1)، وهذا أيضاً خطاب موجّه للرسول(صلى الله عليه وآله)، وقد نَسب ذنباً إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله) كالآية السابقة صريحاً.

وآية اُخرى عن لسان النبيّ نوح(عليه السلام) يُخاطب الله عزّ وجلّ فيقول: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً﴾(2)، و ﴿اغْفِرْ لِي﴾بمعنى أنّه لديه ذنب، لذا يطلب المغفرة من الله تعالى.

وآية خامسة: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾(3)، وهي عن لسان إبراهيم(عليه السلام) الذي دلّت آية سابقة على أنّه أتمَّ الكلمات بمعنى أنّه لم يُخطئ ولم يعص، ومع ذلك دلّت هذه الآية على أنّه(عليه السلام) طلب المغفرة من ربّه جلّ وعلا.

والآية الأخيرة التي نذكرها هي عن لسان موسى(عليه السلام) وهو نبيّ من اُولي العزم: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ﴾(4)، فكلمة ﴿اغْفِرْ لِي﴾ تدلّ على أنّ هناك ذنباً يطلب غفرانه من الله تبارك وتعالى.

أعتقد أنّ الجمع واضح جدّاً بين أدلّة العصمة ـ من آيات وأدلّة اعتباريّة عقلائيّة وقد مضى شرحها ـ وبين الآيات التي ظاهرها



(1) سورة محمّد، الآية: 19.

(2) سورة نوح، الآية: 28.

(3) سورة إبراهيم، الآية: 41.

(4) سورة الأعراف، الآية: 151.

106

نسبة الذنب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أو إلى أنبياء عظام آخرين ـ كموسى أو إبراهيم(عليهما السلام) ـ وقد ذكرنا بعضها، وبهذا الجمع لا يبقى غموض بالنسبة إلى هذه الآيات التي تنسب الذنب إلى الأنبياء العظام إذا قسناها إلى تلك الآيات التي أثبتت العصمة للأنبياء(عليهم السلام)، وعلى الرغم من أنّ معناها بحسب ما أعتقد واضح لا غبار عليه لكن لا أستعجل بإعطاء النتيجة، أعني: لا أستعجل في تفسير هذه الآيات، بل نُلقي أوّلاً نظرةً سريعةً على حقيقة الذنوب الصادرة عن الأنبياء العظام والتي ذكرها القرآن الكريم، ونُدقّق شيئاً ما في تلك الذنوب، فما هو ذنب النبيّ الأعظم(صلى الله عليه وآله)؟ وما هي ذنوب الأنبياء الآخرين(عليهم السلام)؟ وبعد ذلك ستعرف معنى هذه الآيات، وكيف أنّها تنسجم مع آيات العصمة.

فهناك في آيات القرآن الكريم ما يوضّح حقيقة بعض تلك الذنوب، ومنها قوله تعالى: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾(1)، هذا في القرآن الكريم اعتُبر ذنباً بحيث يُعاتب عليه الرسول(صلى الله عليه وآله)، ويقول: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ﴾، لماذا فعلت هذا العمل؟ فماذا صنع رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ كلّ ما صنعه هو أنّ اُناساً ـ على ما يظهر من الآية ـ جاؤوا إليه واعتذروا من الاشتراك في القتال، قالوا: نحن لدينا أعذار كذا وكذا، مثل أنّنا مرضى أو عندنا مشاكل عائليّة معيّنة...، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) الذي هو اُذن خيرٌ يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، يصدِّق كلام المسلم ويحمله على الصحّة،



(1) سورة التوبة، الآية: 43.

107

صدّقهم فأذِن لهم، وقال لهم: أنتم معذورون، فالله تعالى يُعاتبه ويقول: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾، إذن ذنبه كان من هذا المستوى، هذا مَثل يلقي الضوء على حقيقة الذنوب التي ينسبها القرآن إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)وباقي الأنبياء(عليهم السلام).

ومنها آيات اُخرى على أحد تفسيرين، وهي قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الاَْعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى﴾(1)، ولهذه الآيات تفسيران: أحدهما يتبنّاه إخواننا أهل السنّة، والآخر يتبنّاه الشيعة على الأغلب، والتفسير الذي يتبنّاه الشيعة هو: أنّ الضمير لا يرجع إلى الرسول(صلى الله عليه وآله)، فقوله: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الاَْعْمَى﴾ ليس له علاقة برسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإنّما الذي عبس هو شخص آخر، ففي بعض الروايات أنّه عثكن(2)، وأنّه كان حاضر المجلس حينما جاء هذا الأعمى، فعبس وتولّى وتأذّى، هكذا وردت الروايات في تفسير هذه الآيات، وعليه تخرج عن محلّ الشاهد، لذا فلنغضّ النظر عن هذا التفسير الذي لا علاقة له برسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولنفترض أنّ التفسير الآخر هو الصحيح، وهو أنّ الخطاب موجّه إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وأنّ الله تعالى يُعاتب رسوله، لذا ورد في الخبر: أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان إذا رأى ذلك الأعمى وهو ابن اُمّ مكتوم كان يقول له: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي»(3)، لنفترض



(1) سورة عبس، الآية: 1 ـ 4.

(2) تفسير القمّي 2: 404 ـ 405.

(3) البحار 17: 77.

108

أ نّ هذا هو الصحيح، عندئذ فلنتأمّل شيئاً ما لنرى ما هو الذنب الذي صدر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ فقد جاء في جملة من الروايات: أنّ عبدالله بن اُمّ مكتوم أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو يُناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعبّاس بن عبد المطّلب واُبيّاً واُميّة ابني خلف ـ وهم صناديد العرب وكانوا مجتمعين عند رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ حيث كان يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم، وفي تلك الأثناء جاء هذا الرجل ـ ابن اُمّ مكتوم وكان أعمى ولا يدري من كان عند رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وبمن كان الرسول(صلى الله عليه وآله) مشغولاً ـ فقال: يا رسول الله، أقرئني وعلّمني ممّا علّمك الله، فجعل يناديه والرسول(صلى الله عليه وآله) كان مشغولاً بصناديد العرب يريد أن يهديهم، ويكرّر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره، حتّى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله) لقطعه كلامه، وقال في نفسه: هؤلاء الصناديد سيقولون: إنّما أتباعه العميان والعبيد. فأعرض وأقبل على القوم الذين يُكلّمهم، فنزلت الآيات: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الاَْعْمَى...﴾. فلو كان هذا التفسير هو الصحيح، فما هو ذنب الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ لنلقِ نظرةً على طبيعة الذنب المنسوب إليه(صلى الله عليه وآله)، وهل حقّاً هو معصية يستحقّ العقاب عليها؟

كلاّ؛ فإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) أراد خيراً، أراد هداية جماعة من عَلِيّة القوم ورجا بذلك هداية ناس كثيرين فأعرض عن هذا الرجل. نعم، الله تعالى يُريد أن يُؤدّب رسوله ويُريد أن يجعله في أعلى مستوى من الخُلق، وقد رأى أنّ هذا المستوى لا يليق برسوله(صلى الله عليه وآله)،

109

والمفروض أن يكون الرسول (صلى الله عليه وآله) في مستوى أعلى من هذا، فعاتبه فنزلت الآيات، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي، ويقول له: هل لك حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين.

وسواء أصحّ هذا التفسير أو ذاك التفسير، وسواء أكان الخطاب موجّهاً إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) أو إلى شخص آخر هو عثكن أو غيره، هناك آيات اُخرى في القرآن الكريم تدُلّ على أنّ هذا الجوّ كان يعيشه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أي: أنّها تدلّ على أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان مبتلى بهذه المشكلة؛ إذ إنّ الملتفّين حوله هم الفقراء والمساكين والمستضعفون، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يطمح في هداية الصناديد كبار القوم، وكان يُعاني من هذه المشكلة بحيث لو اتّجه نحو هؤلاء المساكين، فاُولئك يبتعدون عنه، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) يُريد أن يُقرّبهم إلى الإسلام، ولو اتّجه إلى اُولئك، فهؤلاء الفقراء يُظلمون؛ باعتبار أنّ هؤلاء المستضعفين هم المؤمنون حقّاً، فمن تلك الآيات قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْض لِّيَقُولواْ أَهـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾(1)، ولنلاحظ جوَّ الآية، إنّ هناك جماعةً يعتبرون أنفسهم الملأ والعَلِيّة من قومهم،



(1) سورة الأنعام، الآية: 52 ـ 53.

110

وهناك جماعة اُخرى فقراء مستضعفون، هؤلاء المستضعفون كانواملتفّين حول رسول الله(صلى الله عليه وآله)، والرسول(صلى الله عليه وآله) ربّما كان يخطر على نفسه الشريفة أن يُبعد المستضعفون قليلاً حتّى يُقرّب رؤساء القوم وكبارهم منه لعلّهم يهتدون، لكنَّ الله تعالى يقول: لا، هؤلاء الفقراء فتنة لاُولئك الملأ، دعهم يقولون: ﴿أَهـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا﴾، دعهم يقولون هكذا، ﴿أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾، الله لا ينظر إلى من هو الرئيس وزعيم القبيلة وزعيم العشيرة، فإنّ الرئيس والمرؤوس عنده تعالى سواء؛ لأنّهم جميعاً عبيده، الله ينظر إلى من هو الشاكر، والفقراء كانوا هم الشاكرين، إذن لا تطردهم يا رسول الله ﴿لاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾.

وآية ثالثة تُعطينا نفس الجوِّ، وتدلّ على أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يُعاني من هذه المشكلة بين هؤلاء الفقراء وبين اُولئك الزعماء الذين كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يطمع في هدايتهم، والآية هي قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾(1)، ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾، يعني: اهتمّ بهؤلاء الفقراء الذين التفّوا حولك، ﴿وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾، أي: لا تنظر إلى اُولئك الكبار الذين



(1) سورة الكهف، الآية: 28.

111

يملكون أموالاً وقصوراً.

وأمّا قوله تعالى: ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فما معناه؟ هل يعني ذلك أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) كان يُريد أن يستفيد فائدة شخصيّة من زينة الحياة الدنيا، وعندما يُعرض عليه مُلك الدنيا مع بقائه على منزلته من الله تعالى يقول: «دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً»(1)؟ هل يُريد أن ينتفع من زينة الحياة الدنيا لنفسه؟! طبعاً لا، إذن ما معنى قوله: ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؟ معناه: أنّه كان يُريد أن يُقرّب هؤلاء المترفين لعلّهم يهتدون، فيأخذ منهم شيئاً من زينة الحياة الدنيا التي عندهم، ليُنفقها في مصالح الإسلام وتوسيع نطاق دائرة الدولة الإسلاميّة وتثبيت أركانها، هذا هو هدف رسول الله(صلى الله عليه وآله) وليس شيئاً آخر، ومع ذلك يقول له الله تعالى: ﴿اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ...﴾.

وورد في تفسير هذه الآية المباركة: أنّ «المؤلّفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عُيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذووهم فقالوا: يا رسول الله، إن جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء ( يعنون: سلمان وأباذر وفقراء المسلمين ) وروائح صنانهم ـ وكانت عليهم جباب الصوف ـ جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك»(2). فأنزل الله تعالى هذه الآية المباركة: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ



(1) البحار 42: 276.

(2) البحار 69: 2، الباب 94.

112

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾(1).

وممّا سبق تبيّن أنّ الذنب الذي كان يصدر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، كان من هذا القبيل، وليس هو معصية من المعاصي، بل كان بحدّ ذاته خُلُقاً رفيعاً وعملاً صالحاً لرسول الله(صلى الله عليه وآله)، إلّا أنّه وفق قانون « حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين » كان الله تعالى يُريد أن يُؤدِّب رسوله الأكرم(صلى الله عليه وآله)، لكي يكون أرفع خلقاً من هذا الخلق الرفيع الذي يُسمّيه ذنباً بالنسبة إليه(صلى الله عليه وآله).

وكذلك الحال بالنسبة إلى نبيّ الله يونس(عليه السلام)، فما هو ذنب يونس (عليه السلام) الذي يقول الله تعالى عنه في القرآن: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِن الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(2)؟ هل كان ذنبه كبيراً إلى هذا الحدِّ بحيث لو لم يكن من المسبِّحين للبث في بطنه إلى يوم يُبعثون حتّى أنّ كثرة تسبيحه(عليه السلام) لم تُعفِه ولم تُنجِه إلّا من العقاب الطويل، فعُوقب بأدنى من ذلك، فما هو ذنبه؟ وقد ذكر الله تعالى ذنبه بقوله: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾(3)، فمعنى قوله: ﴿ذَهَبَ مُغَاضِباً﴾ أنّه تأذّى من قومه الكفّار الذين تعب من أجلهم وأراد أن يهديهم، لكنّهم أصرّوا على كفرهم وشركهم ولم


(1) سورة الكهف، الآية: 28.
(2) سورة الصافات، الآية: 143 ـ 144.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 87.
113

يعبدوا الله ربّهم، فتأذّى وغضب ودعا عليهم وخرج عنهم بعد أن علم بقرب نزول العذاب بقومه، وتقول الروايات: إنّ عالماً كان موجوداً لم يوافق يونس(عليه السلام) في دعائه على قومه. ومن الواضح أنّ الله عزّ وجلّ إن لم يكن يقبل هذا الأمر، فإنّه لا يستجيب له ولا يُهلك قوم يونس (عليه السلام)، فهذا الدعاء منه (عليه السلام) ليس معصية، ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ بمعنى لن نُضيّق عليه، مثل: ﴿قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾(1)، أي: فظنّ أن لن نُضيّق عليه، ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، لاحظوا ما هو الظلم الصادر عن هذا النبيّ؟ الظلم الصادر عنه أنّه لم يكن أرحب صدراً ممّا كان عليه، فهو (عليه السلام)وإن صبر سنين لكن كان عليه أن يصبر أكثر، فهذا هو الذنب الصادر عنه(عليه السلام).

بعد ذلك يُصبح واضحاً جدّاً معنى الذنب الذي يُسند إلى الأنبياء (عليهم السلام)، فإنّه تعبير آخر عمّا يُقال من أنّ «حسنات الأبرار سيّـئات المقرّبين»، هذا هو ذنبهم، يعني ما يصدر عنهم ويُسمّى ذنباً ويستغفرون منه هو وإن كان حسناً في نفسه لكنّه خلاف الأولى بهم وبمقامهم العظيم، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: « إنّه ليغان على قلبي، وإنّي لأستغفر بالنهار سبعين مرّة »(2)، يعني هذه الحسنة التي تصدر عنه(صلى الله عليه وآله) بالنسبة إليه سيّئة؛ لأنّه من المقرّبين، وحسنات الأبرار سيّئات المقرّبين، هذا هو الذي نفهمه من الآيات المباركات.

 



(1) سورة الطلاق، الآية: 7.

(2) البحار 25: 204.

114

ومن هذا النمط أيضاً قصّة داود(عليه السلام) قال الله تعالى: ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب﴾(1).

فماذا كان ذنب داود الذي أوجب ظنّه بفتنة الله فاستغفر ربّه وخرّ راكعاً وأناب؟! قصّة داود وبكائه وتضرّعه معروفة ومذكورة في القرآن الكريم بقوله: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْض فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ﴾(2).

وخلاصة القصّة: أنّ شخصين أو ملكين بصورة شخصين دخلا على داود(عليه السلام) وتظاهرا أنّهما خصمان بغى بعضهما على بعض، وطلبا منه أن يحكم بينهما بالحقّ ولا يشطط ويهديهما إلى سواء الصراط، فعرض أحدهما القصّة قائلاً: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾(3)، أي: أراد أن يأخذها منّي، فقال له داود(عليه السلام): ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ﴾، ولكن كان ينبغي لداود وفق قانون القضاء أن يسمع دفاع الخصم أيضاً ثُمّ يُطالب المدّعي بالبيّنة، فإن لم تكن له بيّنة، فعليه أن يُطالب الخصم باليمين لو أنكر. فغفل عن هذا الأمر ووقع تحت تأثير المدّعي، فقال له: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾، ولعلّه لم يكن بقوله هذا يُريد



(1) سورة ص، الآية: 24 ـ 25.

(2) سورة ص، الآية: 21 ـ 22.

(3) سورة ص، الآية: 23.