66

2 ـ رواية حريز بسند تامّ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال: التقيّة ترس اللّه بينه وبين خلقه»(1).

3 ـ رواية معمّر بن خلاد بسند تامّ قال: «سألت أبا الحسن (عليه السلام)عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر (عليه السلام): التقيّة من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له»(2).

4 ـ ما رواه في العلل عن أحمد بن الحسن القطان عن الحسن بن علي السكري عن محمد بن زكريّا الجوهري عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه قال: «سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول: المؤمن علوي... ـ إلى أن قال ـ: والمؤمن مجاهد؛ لأنّه يجاهد أعداء اللّه عزّ وجلّ في دولة الباطل بالتقيّة، وفي دولة الحق بالسيف»(3).

وأحمد بن الحسن القطان لم يرد بشأنه شيء عدا أنّه من مشايخ الصدوق، وأنّه ترحّم عليه. والسكري مجهول، ويوجد في كتب الرجال أكثر من واحد باسم محمد بن عمارة دون توثيق، وجعفر بن محمد بن عمارة مجهول.

وأمّا روايات التقيّة المصرّحة باستمرار التقيّة إلى زمان ظهور الحجّة فمن قبيل: ما ورد عن محمد بن مسلم ـ بسند تامّ ـ عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، قال: كلّما تقارب هذا الأمر كان أشدّ للتقية(4). بناءً على كون المشار إليه بكلمة ( هذا الأمر )عبارة عن ظهور القائم عجّل اللّه تعالى فرجه، وأنّ النظر في هذا الحديث إلى


(1) المصدر السابق: الحديث 12.

(2) المصدر السابق: 460، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة 11: 464، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 19.

(4) المصدر السابق: 462، الحديث 11.

67

الزمان المستمرّ من زمان الإمام الصادق (عليه السلام) إلى ظهور الحجّة، ولكن بناءً على ذلك يكون ظاهر هذا الحديث مقطوع الكذب، فإنّ الحديث لم يرد في التقيّة، بمعنى خصوص ترك القتال، بل ورد في مطلق التقية، وما أكثر الأزمنة التي جاءت بعد زمان الإمام الصادق (عليه السلام) وكانت أخفّ للتقيّة من ذاك الزمان لا أشدّ.

وهناك رواية أُخرى آمرة بالتقية إلى زمان ظهور الحجّة، وهي ما ورد عن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام) قال: «لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقيّة له، وإنّ أكرمكم عند اللّه أعملكم بالتقية. قيل: يابن رسول اللّه إلى متى؟ قال: إلى قيام القائم، فمن ترك التقيّة قبل خروج قائمنا فليس منّا...»(1)، وفي كمال الدين: «فقيل له يابن رسول اللّه: إلى متى؟ قال: إلى يوم الوقت المعلوم، وهو يوم خروج قائمنا أهل البيت»(2).

والذي روى الحديث عن الحسين بن خالد هو عليّ بن معبد، وهو لم يوثّق.

إلاّ أنّ في نسخة إعلام الورى المطبوعة في طهران ورد: «عليّ بن الحسين بن خالد» وهذا مشتمل على السقط، فكان الأصل عليّ بن معبد عن الحسين بن خالد فسقطت كلمتا ( معبد عن )، ولو فرضت صحّة تلك النسخة فعلي بنالحسين بن خالد مجهول لا ذكر له في الرجال.

الطائفة الخامسة: روايات الأمر بالسكون إلى ظهور الحجة:

وبإمكانك أن تجعلها مع القسم الثاني من الطائفة الرابعة، وهو روايات استمرار التقيّة إلى زمان الظهور طائفة واحدة، وهي من قبيل:


(1) وسائل الشيعة 11: 466، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 25.

(2) كمال الدين: 371.

68

1 ـ ما جاء في كمال الدين بسند فيه المغيرة عن المفضّل بن صالح عن جابر عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فيا طوبى للثابتين على أمرنا في ذلك الزمان... فقلت: يابن رسول اللّه فما أفضل ما يستعمله المؤمن في ذلك الزمان؟ قال: حفظ اللسان ولزوم البيت»(1).

والمفضّل بن صالح قال عنه الغضائري: ضعيف كذّاب يضع الحديث، وروى عنه أنّه قال: أنا وضعت رسالة معاوية إلى محمد بن أبي بكر، ولكن روى عنه بعض الثلاثة.

وأمّا المغيرة فمردّد بين أشخاص عديدين لم يوثّق واحد منهم.

2 ـ ما رواه الشيخ في غيبته عن أحمد بن إدريس عن عليّ بن محمد عن الفضل بن شاذان عن محمد بن أبي عمير عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي بصير عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لمّا دخل سلمان (رضي الله عنه) الكوفة ونظر إليها ذكر ما يكون من بلائها حتّى ذكر ملك بني أُمية والذين من بعدهم، ثمّ قال: فإذا كان ذلك فالزموا أحلاس بيوتكم حتى يظهر الطاهر بن الطاهر المطهّر ذو الغيبة الشريد الطريد»(2).

وهذا الحديث وإن لم يكن منتهياً إلى المعصوم ولكن يحدس أنّ سلمان (رضي الله عنه)أخذ مفاده من المعصوم، كما أنّ نقل المعصوم وهو الإمام الصادق (عليه السلام) لهذا الكلام عن سلمان لا يخلو من دلالة على إمضائه كاملا أو في الجملة.

وعليّ بن محمد بن قتيبة لم يثبت توثيقه، وسند الشيخ إلى أحمد بن إدريسفي مشيخة التهذيبين سند تامّ، لكن هذا الحديث غير موجود في التهذيبين


(1) كمال الدين: 330.

(2) كتاب الغيبة للطوسي: 103، مطبعة النعمان في النجف الأشرف.

69

كي يصحّ الرجوع في سنده إلى المشيخة، وسنده إليه في الفهرست فيه: أحمد بن جعفر بن سفيان البزوفري.

3 ـ رواية الحسين بن خالد قال: «قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إنّ عبداللّه بن بكير كان يروي حديثاً، وأنا أُحبّ أن أعرضه عليك، فقال: ما ذلك الحديث؟ قلت: قال ابن بكير: حدّثني عبيد بن زرارة قال: كنت عند أبي عبداللّه (عليه السلام) أيّام خرج محمد ( إبراهيم ) بن عبداللّه بن الحسن إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك إنّ محمد بن عبداللّه قد خرج، فما تقول في الخروج معه؟ فقال: اسكنوا ما سكنت السماء والأرض. فقال: عبداللّه بن بكير: فإن كان الأمر هكذا ولم يكن خروج ما سكنت السماء والأرض فما من قائم وما من خروج. فقال أبوالحسن (عليه السلام): صدق أبو عبداللّه (عليه السلام)، وليس الأمر على ما تأوّله ابن بكير، إنّما عنى أبو عبداللّه (عليه السلام) اسكنوا ما سكنت السماء من النداء والأرض من الخسف بالجيش»(1).

ولهذا الحديث سندان ورد في أحدهما أحمد بن محمد العلوي ولم يردبشأنه عدا ما في تذكرة المتبحرين من أنّه فاضل فقيه، وورد في الآخرسهل بن زياد.

4 ـ رواية ابن أبي عمير عن مفضّل بن يزيد عن أبي عبداللّه (عليه السلام)قال: «قال لي: يا مفضّل من تعرّض لسلطان جائر فأصابته بليّة لم يؤجر عليها، ولم يرزق الصبر عليها»(2)، ورواه الصدوق بسند غير تامّ عن المفضّل بن عمر عن أبي عبداللّه (عليه السلام).


(1) وسائل الشيعة 11: 40، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 14.

(2) وسائل الشيعة 11: 401، الباب 2 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 3.

70

أمّا السند الأوّل ففيه مفضّل بن يزيد، وهو وإن لم يوثّق في كتب الرجال إلاّأنّ الراوي عنه هو محمد بن أبي عمير الذي قال عنه الشيخ الطوسي: إنّه لا يروي إلاّ عن ثقة(1).

ومفضّل بن يزيد غير مذكور في كتب الرجال، وإنما المذكور فيها مفضّل بن مزيد، ومن هنا يأتي احتمال كون كلمة ( يزيد ) تصحيفاً لكلمة ( مزيد )، وكان مفضّل بن مزيد ـ على نقل الكشيّ ـ أخا شعيب الكاتب، وكان خليفة أخيه على الديوان، ومن هنا يقوى احتمال التقية في الحديث باعتبار أنّ الكلام قد ينتقل منه إلى رؤوس الدولة المرتبط بهم.

وعلى أيّة حال فهذا الحديث لو حمل على معنى من تعرّض لسلطان جائر في ما قبل ظهور القائم أصبح من روايات هذه الطائفة، ولو حمل على خصوص زمان الصدور كان الحديث أجنبياً عن المقصود، ولو أُبقي على إطلاقه كان مقطوع الكذب أو التقيّة.

هذا، ولنا تعليق على كلّ هذه الأحاديث لا ينجو منه عدا الحديث الثاني من القسم الثاني من روايات التقيّة ـ أعني ما يدلّ على استمرار التقيّة إلى زمان الظهور ـ وهو أنّها جميعاً وردت قبل قصّة حسين بن عليّ في وقعة ( فخ ) الذي لم يرد بشأنه أيّ ذمّ، بل ورد المدح الكثير على نقل صاحب كتاب مقاتل الطالبيين وإن كان متّهماً في نقله المديح لكونه زيدي المذهب، في حين أنّ وصول الذم في مثل هذه المسألة ـ ولو كان خروجه مقبولا واقعاً ـ عن الإمام (عليه السلام)أمر طبيعي ومترقّب جداً، وقلّة وصول المدح أيضاً أمر طبيعي ولو كان واقعاً ممدوحاً، وذلك


(1) عدة الأُصول 1: 154.

71

بسبب جوّ الاختناق الطاغي وقتئذ على الوضع الاجتماعي من قبل الطغاة المتحكّمين ،فمن المترقّب أن يردنا الذمّ الكثير إمّا كذباً بدسّ أعوان الظلمة للأكاذيب في صالح السلطة، أو تقية من قبل الإمام (عليه السلام)، فلو لم يصلنا ولا ذمّواحد ووصلنا المدح كان ذلك قرينة قطعية على مشروعية الخروج قبل الظهورفي الجملة، وأنّ كلّ نصّ ورد قبل هذا التاريخ على المنع لو كان صادراًحقّاً من المعصوم وقصد به الإطلاق فهو محمول على التقيّة، وليس مراداًبالإرادة الجديّة.

ويشهد لذلك أنّ روايات المنع معارضة بروايات عديدة دلّت على مشروعية الخروج قبل الظهور في الجملة، وقد أوردناها في كتابنا «الكفاح المسلح في الإسلام»، وهي غير تامّة سنداً إلاّ رواية واحدة منها، وهي ما مضى من رواية العيص التامّة سنداً، والتي ورد فيها قوله: «ولا تقولوا خرج زيد فإنّ زيداً كان عالماً، وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه...»(1).

وبغضّ النظر عن كلّ ما ذكرناه يأتي هنا أيضاً ما أشرنا إليه في روايات مشروطية الجهاد بحضور الإمام من أنّ إسقاط الحكومات الاستعمارية المعادية للإسلام دفاع عن بيضة الإسلام والمسلمين، فلا شكّ في وجوبه وعدم مشموليته لما هو المقصود من إطلاقات المنع لو تمّت سنداً ودلالة.

هذا تمام ما أردنا أن نبيّنه هنا باختصار حول جواز الخروج على الطغاة في عصر الغيبة ومحاولة إقامة الحكم الإسلامي.


(1) وسائل الشيعة 11: 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث الأوّل.

72

المسائل المبحوثة في هذا الكتاب:

 

وأما المسائل التي أردنا بحثها حول ولاية الأمر في عصر الغيبة فهي ما يلي:

المسألة الأُولى: هي أصل مسألة ولاية الفقيه في عصر الغيبة بمستوى إدارة الحكم.

والمسألة الثانية: في مدى دخل الانتخاب في الولاية أو عدم دخله.

والمسألة الثالثة: في شورى القيادة.

والمسألة الرابعة: هل يصح فصل المرجعية في التقليد عن الولاية، أو لا؟

والمسألة الخامسة: هل ينفذ حكم الولي على سائر الفقهاء، أو لا؟

والمسألة السادسة: هل أحكام الولي الفقيه تنقسم إلى قسمين: قسم ولائي لابدّ من اتّباعه حتّى مع القطع بالخطأ، وقسم كاشف لا يُتّبع لدى العلم بالخطأ لزوال الكشف، أو لا؟

ولنبدأ بتفصيل الكلام في هذه المسائل، واللّه وليّ التوفيق.

73

 

 

 

المقدمة:

 

 

الفقيه

رئيس الدّولة الإسلاميّة

في عصر الغيبة

 

ولاية الفقيه:

1 ـ على أساس مبدأ الأُمور الحسبيّة.

2 ـ على أساس الأدلّة اللفظيّة لوجوب إقامة الحكم.

3 ـ على أساس النصّ الخاص.

 

 

 

 

 

75

 

 

 

 

 

المسألة الأُولى: في البحث عن مبدأ ولاية الفقيه بمستوىً يجعله رئيساً للدولة الإسلامية.

ولكي يمكن مواكبة هذا البحث ـ حتى لمن لم يقتنع بما مضى من جواز الخروج على الطغاة في عصر الغيبة ـ نفترض في المقام أنه عرضت الحكومة على المؤمنين بلا حرب ولا قتال، فهل يجوز للمؤمنين الامتناع عن استلام الحكم ليبقى الحكم بيد الفسقة والفجرة أو بيد الكفار ! أو يجب عليهم التصدّي للحكم في هذه الحالة؟

من الواضح أنه يجب التصدي للحكم في هذه الحالة، ولا يجوز جعل السلطة عمداً واختياراً بيد الظلمة أو الكفرة ممّا يؤدّي إلى حصول الظلم والطغيان ومعصية اللّه عزّ وجلّ واضمحلال كثير من الأحكام، وعندئذ فهل تكون ولاية الأمر للفقيه، أو لا؟

 

الأساس الفقهي لولاية الفقيه

 

يمكن إثبات ولاية الأمر للفقيه على مستوى إدارة سلطة البلاد على أحد أُسس ثلاثة:

الأوّل: أساس الأُمور الحسبية وتطبيق ذلك يكون على أحد أُسلوبين:

76

أوّلهما: تطبيق عنوان الأُمور الحسبيّة على المصالح التي تحفظ بالسلطة والحكم من مصالح الإسلام وأحكامها التي تنتهك لولا حكم إسلامي عادل، أو مصالح المسلمين التي لا تراعى ضمن حكم غير إسلامي أو غير عادل، فبما أننا نجزم بعدم رضا الشارع بفوات تلك المصالح ثبت لدينا ضرورة التصدّي للحكم في الجملة بعنوان التصدّي للأُمور الحسبية، ونضمّ إلى ذلك أحد أمرين: إمّا القول بأن القدر المتيقن ممن نعلم برضا الشارع بتصدّيه لهذه الأُمور الحسبية هو الفقيه، وبما أن الولاية خلاف الأصل فلابد من الاقتصار فيها على القدر المتيقّن، وإمّا القول بورود أدلّة خاصّة تشترط الفقاهة في قيادة الأُمة، وبهذا يثبت أنّ ولاية الأُمور تكون للفقيه.

إلاّ أن هذه الولاية التي ثبتت عن هذا الطريق فيها بعض النقائص، فمثلا لا تثبت بهذا ولاية الفقيه في الأُمور التي لم تصل إلى مستوى الضرورة وإن كانت في إجرائها مصلحة للبلاد، ففتح الشوارع ـ مثلا ـ أو الإصلاحات الزراعية أو تقسيم الأراضي وما شابه ذلك إنما يجوز إجراؤها على خلاف رضا المُلاّك بمقدار ما وصل الأمر فيها إلى حد الضرورة واللابدية التي نقطع معها بعدم رضا الشارع بفوات ذلك، ولا يجوز إجراؤها بمقدار ما يعدّ من الأُمور الكمالية والمصالح الثانوية للبلاد لعدم ثبوت كونها من الأُمور الحسبية التي لا يرضى الشارع بفواتها.

ولو وقع الخلاف بين السلطة وبين شخص من الأشخاص في ثبوت الضرورة وعدمها، فالسلطة أرادت إعمال الولاية لما تراه من الضرورة، والشخص لم يكن مقتنعاً بذلك لم تجب على الشخص الطاعة؛ لأنه لا يعتقد بدخول ذلك في الأُمور الحسبية.

77

ولو أصدرت السلطة أمراً عامّاً لضرورته، ولكن الشخص رأى في مصداق من مصاديق ذلك الأمر انتفاء الضرورة لم تجب عليه الطاعة، فنظام المرور مثلا وإن كان بشكل عام أمراً ضرورياً لحفظ سلامة الأُمة، ولكن حينما يتفق صدفة خلوّ الطرق بحيث لا يبقى أي ضرر في مخالفة نظام المرور جازت المخالفة، إلاّ إذا كانت تلك المخالفات بمستوىً يوجب تضعيف الدولة، وبالتالي العجز عن تحقيق المصالح المهمّة التي نقطع بعدم رضا الشارع بفواتها.

وثانيهما: تطبيق عنوان الأُمور الحسبية على نفس السلطة والحكم ببيان: أنّ إعمال السلطة حتى في الموارد التي يرى الشخص عدم الضرورة في ذلك أمر ضروري؛ لأنه إذا صار القرار على استثناء كلّ مورد يرى الشخص عدم ضرورة إعمال السلطة والولاية فيه ـ بأن يقال: إنه لا تجب على ذاك الشخص في ذلك المورد الطاعة ـ انهارت المصالح المهمة أيضاً؛ إذ حتى لو فرضنا أن الناس يصدقون فيما يدّعون من اعتقاد عدم الضرورة يكون هذا الاعتقاد منهم في كثير من الأحيان خطأً، فلو سمح لكل واحد أن يعمل وفق اعتقاده لانهارت المصالح المهمة الثابتة في موارد أخطاء البعض.

أمّا تخصيص السماح بالمخالفة بخصوص من طابق اعتقاده الواقع فلا يحلّ الإشكال؛ إذ لا يمكن تمييز ذلك لهم وكلّ منهم يدّعي أنه هو الذي لم يخطأفي اعتقاده.

فإذا طبّقنا عنوان الأُمور الحسبية بهذا البيان على نفس استلام زمام السلطة وإعمالها ضممنا إلى ذلك هنا أيضاً أحد الأمرين الماضيين، أي إما كون القدر المتيقّن ممن يجوز له ذلك هو الفقيه، أو أدلّة اشتراط الفقاهة في قيادة الأُمّة.

78

وهذا البيان خير من البيان الأوّل؛ لأنه عالج النقص الثاني من النقصين اللذين أشرنا إليهما في ذيل البيان الأوّل، نعم بقي النقص الأوّل على حاله، وهو أنه لا تثبت بذلك ولاية السلطان عندئذ على تنفيذ ما يراه من الكماليات والمصالح الثانوية غير الضرورية.

الثاني: أساس الأدلّة اللفظية الدالّة على أنه يجب على الناس خلق السلطة الإسلامية والحكم الإسلامي عند عدمها، كآيات الخلافة والأمانة بعد ضمّ ذلك أيضاً إلى أنّ المتيقن ممّن يجوز له ذلك هو الفقيه أو إلى أدلّة شرط الفقاهةفي الإمامة.

وهذا الوجه يكون في نتيجته أقوى من الوجهين الأوّلين؛ لأنّه لا يشتمل حتى على النقص الأوّل من النقصين اللذين مرّت الإشارة إليهما، فكلّما يعدّ عرفاً من شؤون إدارة النظام والحكم يصبح جائزاً للفقيه الوليّ ولو عدّ من الكماليات والمصالح الثانوية.

الثالث: أساس الدليل اللفظي الدالّ على مبدأ ولاية الفقيه، ونقتصر في بحث ذلك على نصّ واحد، وهو التوقيع المشتمل على قوله (عليه السلام): «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللّه» ولا نبحث هنا باقي النصوص التي قد يستدل بها على ذلك اختصاراً للحديث.

كما أننا نقتصر أيضاً في مقام التعرّض لإشكالات هذا النص وعلاجها على أهمّ تلك الإشكالات وهي:

1 ـ الإشكال السندي: لعدم معروفية راوي الحديث، وهو إسحاق بنيعقوب.

79

2 ـ احتمال كون اللام في الحوادث الواقعة لام عهد إشارة إلى حوادث وردت في سؤال السائل، والتي لا نعلم ما هي.

3 ـ كون كلمة الرواة ظاهرة في الارجاع إلى الرواة بما هم رواة، وهذا يعني الإرجاع إليهم في أخذ الروايات وأخذ الفتاوى، وهو غير الولاية، أو الإرجاع إليهم في ذلك وفي ملء منطقة الفراغ في ما يحتاج ملؤه إلى تضلّع روائي، وهذا غير الولاية المطلقة.

ولنبدأ الآن ببحث هذه الأُسس التي أشرنا إليها لولاية الفقيه:

 

1 ـ على أساس مبدأ الأُمور الحسبيّة:

 

الأساس الأول لمبدأ ( ولاية الفقيه ) هو مبدأ الأُمور الحسبية، وهذا الوجه مركب من مقدمتين:

إحداهما: إحراز عدم رضا الشارع بفوات المصالح واضمحلال الأحكام التي تبطل وتضمحلّ بفقدان السلطة والحكومة الإسلاميّة، أو قُل: عدم رضاه بترك حكم البلاد وإدارة أُمور المسلمين بيد الكفار أو الفسقة والفجرة رغم فرض إمكان الاستيلاء عليها من قبل المؤمنين الذين لا يسرّهم إلاّ إعلاء كلمة اللّه، ولا يحكمون ـ لو حكموا ـ إلاّ بما أنزل اللّه.

وهذه المقدمة ضرورية واضحة لا ينبغي لأحد التشكيك فيها فقهياً.

والثانية: تعيّن الفقيه لهذه المهمّة، لأحد سببين: إما لورود الدليل على اشتراط الفقاهة في قائد الأُمة الإسلامية، وإما لأنه القدر المتيقّن في الأُمور الحسبية، ولابدّ من الاقتصار عليه في مقام الخروج عن أصالة عدم الولاية.

80

شرط الفقاهة في ضوء الدليل:

أمّا الدليل على اشتراط الفقاهة لدى الإمكان في قائد الأُمّة الإسلاميّة فقد عقد في كتاب «دراسات في ولاية الفقيه» فصل خاصّ للبحث عن ذلك(1) ولكنّي لم أجد فيه ما يكون مقنعاً لإثبات المقصود، وقد استدلّ في هذا الكتاب على اشتراط الفقاهة في وليّ الأمر بالعقل والكتاب والسنّة.

أمّا العقل فقد أشار إليه في هذا الفصل محيلا إلى التفصيل الوارد في كلامه في فصل سابق، حاصله التمسّك بحكم العقل وبناء العقلاء، حيث إنّهم إذا أرادوا أن يفوّضوا أمراً من الأُمور إلى شخص فلا محالة يختارون له من يكون عاقلا عالماً بكيفيّة العمل وفنونه، قادراً على إيجاده وتحصيله، أميناً يعتمد عليه ولا يُخشى من خيانته، والولاية وإدارة شؤون الأُمّة من أهمّ الأُمور وأعظلها، فلا محالة تشترط في الوالي بحكم العقل والفطرة هذه الشروط.

وإذا فرض أن المفوّضين لأمر الولاية إلى شخص خاصّ يعتقدون بمبدأ خاصّ وإيديولوجيّة خاصّة متضمّنة لقوانين مخصوصة في نظام الحياة، وأرادوا إدارة شؤونهم السياسيّة على أساس هذا المبدأ وهذه المقرّرات الخاصّة، فلا محالة ينتخبون لذلك من يعتقد بهذا المبدأ، ويكون عارفاً بمقرّراته، بل ينتخبون من يكون أعلم وأكثر اطّلاعاً ما لم يزاحم ذلك جهة أقوى(2).

ولا أدري هل مقصوده هو التمسّك بحكم العقل، أو التمسّك ببناء العقلاء، أو أنّه خلط بين الأمرين؟ فالعقل هو دليل مستقلّ في عرض الكتاب والسنة، وقد نصّ


(1) راجع دراسات في ولاية الفقيه 1: 301 ـ 318.

(2) المصدر السابق: 275 ـ 277.

81

في أوّل كلامه على أنّ المرجع في إثبات الشرائط هو العقل والكتاب والسنّة، وهذا يعني أنّ مقصوده هو التمسّك بالعقل بدقيق معنى الكلمة، وأمّا بناء العقلاء فليس ينشأ دائماً من حكم العقل بحتاً، بل قد تتدخّل فيه عوامل أُخرى من عواطف أو عادات أو صُدف و أسباب أُخرى، ولهذا تكون حجّيّة الارتكازات والسير العقلائيّة في طول إثبات موافقة الشارع لها وإمضائه إيّاها ولو بدليل عدم وصول الردع، فليس هو دليلا مستقلاّ في عرض الكتاب والسنّة، بل التمسّك في الحقيقة يكون بتقرير المعصوم الذي هو قسم من أقسام السنّة في مقابل قول المعصوم وفعله، فطريقة الاستدلال ببناء العقلاء تختلف عن طريقة الاستدلال بحكم العقل، واستشهاده بفعل العقلاء ودأبهم وديدنهم يعني أنّ المقصود هو الاستدلال ببناء العقلاء، وفي أكبر الظن أنّه خلط بين الأمرين وتخيّل أنّ بناء العقلاء دليل على حكم العقل، ففي واقع الأمر أراد التمسّك بحكم العقل.

وعلى أ يّة حال فلا ينبغي الإشكال في ما ذكره من حكم العقل أو بناء العقلاء، على أنّ من يلي أمراً يجب أن يكون عارفاً به، فمن يلي أُمور المسلمين يجب أن يكون عارفاً بأحكام اللّه؛ لأنّ الهدف هو تطبيق أحكام اللّه والحكم بما أنزل اللّه ﴿ وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ... هُمُ الظَّالِمُونَ... هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾(1)، وإنّما السؤال الذي يتوجّه في المقام هو أنّه هل يدّعى وجوب كون المعرفة بالأحكام معرفة واقعيّة ـ أي علماً وجدانيّاً بالأحكام الواقعيّة ـ أو تكفي المعرفة الظاهريّة التعبّديّة؟


(1) سورة المائدة: الآية 44، 45، 47.

82

فإن قيل بالأوّل كان ذلك منحصراً بالمعصوم، ولكن مفروض كلامنا هو الحديث عن إدارة أُمور المسلمين في أيام غيبة المعصوم.

وإن قيل بالثاني توجّه سؤال آخر، وذلك لأنّ المقلّد المطّلع على فتاوى من يقلّده كالفقيه له معرفة ظاهرية تعبّدية بالأحكام لا يختلف عن الفقيه في أصل ثبوت هذه المعرفة، وإنما يختلف عنه في طريق تحصيل هذه المعرفة، فالفقيه حصل على هذه المعرفة عن طريق الأدلّة التفصيليّة، والمقلّد حصل عليهاعن طريق دليل إجمالي هو التقليد وحجيّة رأي من يقلّده، فالفقيه يعتمد مثلاعلى حجية خبر الواحد والأُصول العملية وغيرها من الأدلّة، والمقلّد يعتمدعلى حجيّة الفتوى.

فهنا يتوجه السؤال الجديد، وهو أنه هل يشترط أن تكون هذه المعرفة الظاهرية قائمة على أساس الأدلّة التفصيلية، أو يكفي جامع المعرفة الظاهرية، فيجوز إعطاء ولاية الأمر بيد من لا يكون فقيهاً بشرط أن يلتزم في خصوص ما يؤثّر فيه الحكم الفقهي بأخذ الرأي الفقهي من الفقيه، ولا يستبدّ برأي فقهي مخترع من قبل نفسه؟ والدليل العقلي أو العقلائي الذي أُشير إليه لا يعطينا إجابة علىهذا السؤال.

وأما الكتاب فقد استدلّ أيضاً على مقصوده من شرط الفقاهة في وليّ الأمر ببعض الآيات من قبيل قوله تعالى: ﴿ أفمن يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَ يَهدّي إلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾(1). وقوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوي


(1) سورة يونس: الآية 35.

83

الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُواْ الأَلْبَابِ ﴾(1). وقوله تعالى في قصّة طالوت: ﴿ إنَّ اللّه اصْطَفاهُ عليكُمْ وزادَهُ بَسْطةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ ﴾(2).

والاستدلال بهذه الآيات على المطلوب غير صحيح، أمّا الآية الأُولى فهي واردة في ردع المشركين عن الشرك حيث قال اللّه تعالى: ﴿ قُلْ هلْ من شُرَكائِكم من يَهْدي إلى الْحقّ قُل اللّه يَهدِي للحقّ أَفَمَن يَهدي إلى الحقِّ أحقُّ أَن يُتَّبَعَ أمّن لاَ يَهدّي إلاّ أن يُهدَى فما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾. فقد فُسّر ﴿ يَهدّي ﴾ بمعنى يهتدي، فكأنّ المقصود بقوله: ﴿ أَفَمَن يَهدي ﴾ بقرينة المقابلة بقوله: ﴿ أمّن لاَ يَهدّي إلاّ أن يُهدَى ﴾ هو ترجيح اتّباع من تكون الهداية نابعة منه وليست مكتسبة على من لا يهتدي بنفسه فضلا عن أن تنشأ منه الهداية، وهذا يعني أنّ العبودية للّه لا لغيره؛ لأنّ اللّه هو الذي يهدي بنفسه من دون استمداد من غيره، سواء كان المقصود الهداية التكوينيّة والإيصال إلى المطلوب، أو الهداية التشريعيّة وإراءة الطريق، وأمّا غيره تعالى فلا يهتدي بنفسه فضلا عن أن يهدي غيره إلاّ أن يُهدى، فلا يجوز اتخاذ أحد غير اللّه ربّاً، وذلك يشمل جميع المخلوقين بما فيهم المعصومون (عليهم السلام)؛ لأنّهم جميعاً لا يهتدون إلاّ أن يُهدَوا، فالآية ناظرة إلى التبعيّة بمستوى العبوديّة والربوبيّة، ولا تدلّ على شرط الفقاهة في وليّ الأمر، فإنّ الفقيه بل وكذا المعصوم أيضاً لا يَهدّي إلاّ أن يُهدى.

أما لو قُرئت الآية هكذا: ﴿ أمّن لاَ يَهدي إلاّ أن يُهدَى ﴾ بحذف التشديدفقد يقال: إنّ نفس المطلب الذي ذكرناه في قراءة التشديد يأتي هنا، فعنوان


(1) سورة الزمر: الآية 9.

(2) سورة البقرة: الآية 247.

84

( من لاَ يَهدّي إلاّ أن يُهدَى ) شامل للفقيه والمعصوم أيضاً، والذي يَهْدِي بلا أن يُهدى منحصر باللّه تعالى.

وبكلمة أُخرى: إنّ ( من لاَ يَهدّي إلاّ أن يُهدَى ) متحد مصداقاً مع ( من لا يهتدي إلاّ أن يهدى )، وهو الذي لا يملك هداية في ذاته. إذن فلسنا بحاجة إلى مناقشة جديدة في دلالة الآية.

وقد يقال: إن التضايف الموجود بين عنوان ( الهادي ) وعنوان (المهدي) يجعل المفهوم عرفاً من المقابلة بين ( من يهدي ) و ( من لا يهدي إلاّ أن يهدى ) هو التقابل بشكل إضافي و نسبي، فالعاميّ بالنسبة للفقيه لا يهدي إلاّ أن يُهدى، والفقيه هو الذي يَهدي، والفقيه بالنسبة للمعصوم لا يهدي إلاّ أن يُهدى، والمعصوم هو الذي يهدي، والمعصوم بالنسبة للّه لا يَهدِي إلاّ أن يُهدى، واللّه هو الذي يهدي.

إذن فعند دوران الأمر في الولاية والقيادة بين العاميّ والفقيه تدلّ الآية على أنّ الولاية للفقيه؛ لأنّ العاميّ لا يهدي إلاّ أن يُهدى، والفقيه هو الذي يهدي.

وبالإمكان تسرية هذا الاستظهار إلى قراءة ( يَهدّي ) بالتشديد أيضاً، فرغم عدم التضايف بين عنواني المهتدي و الهادي يستظهر توسعة الأمر إلى كلّ مهتد وهاد بالنسبة، فالمقلّد بالقياس إلى الفقيه مهتد، والفقيه هو الهادي له، والفقيه بالقياس إلى المعصوم مهتد، والمعصوم هو الهادي له، والمعصوم بالقياس إلى اللّه مهتد، واللّه تعالى هو الهادي له، ودائماً يكون اتّباع الهادي أولى من اتّباع من لا يملك هداية إلاّ بسبب ذاك الهادي.

إلاّ أنّ هذا الاستظهار لو تمّ فهو لا ينفع بالنسبة للفقيه إلاّ في حصر التقليد به بأن يقال: إنّ التقليد للفقيه لا للعاميّ؛ لأنّ العاميّ لا يهدي إلاّ أن يهديه الفقيه، فتكون

85

التبعية للفقيه، لا بالنسبة للقيادة، وذلك لأنّ القيادة لا تكون بمجرّد إعطاء الفتاوى الفقهية التي يصدق فيها بشأن الفقيه أنه يهدي، ويصدق بشأن العامّي أنه لا يهدي إلاّ أن يُهدى من قبل الفقيه، وإنما القيادة تكون بإعطاء آراء وأحكام يكون أحد جذورها ـ وأُسسها التي انبنت عليها ـ الفقه، وهناك جذور أُخرى لها قد لا يكون هذا الفقيه أولى بها من غير الفقيه من خبرات سياسية واجتماعية وعسكرية واقتصادية وأمنيّة وغيرها، فليست نسبة الفقيه إلى غير الفقيه في النتائج التي بها تقاد الأُمّة نسبة من يهدي إلى ( من لا يهدي إلاّ أن يُهدى ) إلاّ بقدر ما يكونمن حصّة الفقه، وهذا يعني أخذ الجانب الفقهي من الفقيه لا أكثر من ذلك.

نعم، تدلّ الآية عندئذ على أولوية المعصوم من غير المعصوم في الولاية والقيادة؛ لأنّ المعصوم أخبر الناس بكل ما له دخل في القيادة لا بخصوص الفقه، فنسبته إلى غيره نسبة من يهدي إلى ( من لا يهدي إلاّ أن يهدى ).

ومن هنا يتضح: أن ما في بعض الروايات من الاستشهاد بهذه الآية بشأن اتباع المعصومين ـ كما في رواية سليم بن قيس بشأن خلافة أميرالمؤمنين (عليه السلام)(1) ـ لا يكون مؤيّداً لكون القيادة للفقيه؛ إذ ليس الفقيه غالباً هو الأعلم بجميع فنون القيادة بخلاف المعصوم.

ولو وجد فقيه كان أكثر الناس خبرة في كل ما هو دخيل في قيادة الأُمّة فلا بأس بدعوى أولويته من غيره في استلام القيادة.

وأما قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ فإن حُمل على العلم بمعنى الدرْك بأن تكون الآية بياناً لعدم صلاحية الأصنام ونحوها


(1) دراسات في ولاية الفقيه 1: 303، نقلا عن كتاب سليم بن قيس: 118.

86

للعبادة؛ لأنها لا درْك لها ولا علم فهي أنزل مستوىً من البشر الذي يدرك ويعلم، فضلا عن أن تكون أهلا للعبادة، فعندئذ من الواضح أنّ الآية أجنبيّة عن المقام.

وإن حُمل على العلم في مقابل الجهل فالفقيه والمقلّد بلحاظ مفاد الآية سيّان، فكلاهما فاقدان للعلم الوجداني بالأحكام الواقعية وكلاهما واجدان للعلم التعبّدي بها أو العلم الوجداني بالأحكام الظاهرية، بفرق أن أحدهما يستندإلى الأدلّة التفصيلية والآخر يستند إلى الدليل الإجمالي كما مضى في جواب الدليل العقلي.

على أنّ الآية إنّما تدلّ على عدم الاستواء بين العالم وغير العالم في الدائرة التي يكون أحدهما فيها عالماً والآخر غير عالم، فإن دلّت بالنسبة للفقيه على شيء فإنّما تدلّ على أنه يجب الرجوع في الفقه إلى الفقيه لا إلى غيره، أما القيادة وإصدار الأحكام الولائية التي يشكّل الفقه أحد جذورها لا تمام جذورها فلا تدل الآية على أحقّية الفقيه بها من غير الفقيه الملتزم في قيادته بقدر ما يمتّ الأمر إلى الفقه بصلة بالرجوع إلى الفقيه.

وأما قوله تعالى: ﴿ إنّ اللّه اصْطَفاه عليكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً في الْعلْم وَالْجسْم ﴾فهذه الآية واردة بشأن طالوت الذي جعل ملكاً في حربهم، وفي مصطلح اليوم جعل قائداً للقوات المسلّحة، وأمّا وليّهم العامّ فقد كان هو نبيّهم، والآية دلّت على أن حكمة اختيار اللّه تعالى لطالوت ملكاً في الحرب هو أن اللّه زاده بسطة في العلم والجسم، فكأنّ المقصود من البسطة في العلم هي البسطة في العلم بفنون الحرب، ومن البسطة في الجسم هي رجحانه على الآخرين في القوى الجسمانيّة المؤثّرة في الغلبة في حرب الأعداء، وعندئذ يقال: إنّه يفهم من ذلك أنّ القيادة في

87

كلّ شيء تتطلّب التفوّق على الآخرين في العلم المرتبط بتلك القيادة، وبما أنّ قيادة الأُمّة نحو تطبيق الإسلام ترتبط ـ فيما ترتبط به ـ بالفقه، إذن فلابدّ أن يكون وليّ الأمر أرجح منهم في الفقه، وهذا لا يكون إلاّ بأن يفترض فقيهاً.

ولكنّ هذا الاستدلال أيضاً لا يخلو من نقاش وذلك:

أوّلا: أنّ لحن الآية لا يدلّ على أكثر من أنّ زيادة العلم كانت حكمة لاختياره تعالى لطالوت واصطفائه عليهم، أمّا أن يكون ذلك دائماً ـ وفي كلّ الحالات ـ علةً لأهلية القيادة فلا يفهم من الآية المباركة، فلو فرضنا أنّ أحدهم كان أعلم من الآخر، والآخر كان أقدر على القيادة لما يمتلك من سعة في الحلم ورحابة الصدر وقوّة الرؤى الصائبة في المصالح الاجتماعية والسياسية، وهو مستعدّ للرجوع إلى ذاك الأعلم في الفقه بعنوان التقليد ـ إن لم يكن هو فقيهاً ـ بقدر ما يمتّ أمر القيادة إلى الفقه بصلة، فالآية لا تدلّ على أرجحية الأوّل على الثاني في القيادة.

وثانياً: أنّ الآية حتى مع الحمل على العليّة لا تدلّ على أكثر من أولوية الأعلم للقيادة في دائرة ما هو أعلم فيها، فطالوت كان أعلم بفنون الحرب، فكان أولى للقيادة في تلك الدائرة، والفقيه أيضاً أعلم من غير الفقيه في دائرة الفقه، فلابدّ أن يكون هو المرجع بقدر ما يمتّ الأمر إلى الفقه بصلة، فإذا كان غير الفقيه يتزعّم ولاية المجتمع ولم يكن الفقيه أعلم منه في فهم المصالح السياسية والاجتماعية، بل قد يكون هو أعلم من الفقيه في ذلك، وكان هو ملتزماً في أحكامه بالرجوع إلى الفقيه بقدر ما تمتّ إلى الفقه بصلة فالآية لا تدلّ على أولوية ذاك الفقيه بالولاية من هذا المقلّد.

وأمّا السنّة فقد استدلّ في كتاب (دراسات في ولاية الفقيه) أيضاً على مقصوده من شرط الفقاهة في وليّ الأمر بالروايات الدالّة على شرط العلم بل الأعلميّة في الإمامة.

88

وبما أنّ العمدة من تلك الروايات كانت ناظرة ضمناً إلى الوضع المعاش للإمامة وقتئذ، فالمنصرف منها هو الإمامة المطلقة أعني الإمامة في الأحكام الولائية وفي الأحكام الفقهية في وقت واحد لا الإمامة في خصوص الأحكام الولائية، فإنّ تلك الروايات قد ورد قسم منها قبل استحكام الفصل ـ لدى مدرسة الخلفاء ـ بين الإمامة في الأحكام الولائية والمرجعية في الآراء الفقهية، وهي محمولة لا محالة على الإمامة بقول مطلق، وقسم آخر منها ورد بعد استحكام هذا الفصل في مدرسة الخلفاء، ولكن ما هو العمدة في هذا القسم وارد في جوّ الحديث حول الثائرين على خلفاء بني العباس والداعين إلى إمامة جديدة، وهم على الأكثر لم يكونوا معترفين بهذا الفصل، فالمفهوم منها أيضاً هو الحديث عن الإمامة بالمعنى المطلق الشامل للإمامة في الأحكام الفقهية، وعليه فلا يرد على الاستدلال بهذه الروايات ما أوردناه على الاستدلال ببعض الآيات: من أنّ العلم أعمّ من العلم الاستنباطي والعلم التقليدي، فإن الإمامة ـ بمعنىً يشمل المرجعية في الأحكام الفقهية ـ لا تنسجم مع فرض العلم التقليدي، خصوصاً أنّ أغلبية تلك الروايات تصرّح بشرط الأعلمية، ومن الواضح أنّ الأعلمية لا توجد في المقلد، فمهما بلغ المقلّد من العلم بالأحكام ببركة تقليده لأحد الفقهاء يبقى ذاك الفقيه الذي يقلّده أعلم منه ويبقى الفقهاء أعلم من المقلّدين.

وإليك بعض تلك الروايات:

أوّلا: ما ورد قبل استحكام الفصل في مدرسة الخلفاء بين الولاية فيالأحكام السلطانية والمرجعية في الأحكام الفقهية من قبيل ما في نهج البلاغةمن قوله (عليه السلام):

89

«... وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهْمته، ولا الجاهل فيُضلّهم بجهله...»(1).

وهذا صريح في ما قلناه من النظر إلى الإمامة التي تشمل المرجعية الفقهية.

ومن قبيل ما في نهج البلاغة أيضاً من قوله (عليه السلام): «أيها الناس إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر اللّه فيه، فإن شَغَبَ شاغبٌ استعتب، فإن أبى قوتل...»(2).

ومن قبيل ما في كتاب سليم بن قيس عن أميرالمؤمنين (عليه السلام): «أفينبغي أن يكون الخليفة إلاّ أعلمهم بكتاب اللّه وسنة نبيّه، وقد قال اللّه: ﴿ أَفَمَن يَهدي إلى الحقِّ أحقُّ أن يُتَّبَع أمّن لاَ يَهدّي إلاّ أن يُهدَى ﴾. وقال ﴿ وزادَهُ بَسْطةً في العلمِ والجسم ﴾، وقال: ﴿ أو أثارةً من علم ﴾(3)، وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): ما ولّت أُمّةٌ قطّ أمرها رجلا وفيهم أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا. يعني الولاية، فهي غير الإمارة على الأُمّة»(4).

وغير ذلك من الروايات الموجودة في كتاب «دراسات في ولاية الفقيه»، وفي هذا القسم لا يوجد حديث تامّ السند إطلاقاً.

ثانياً: ما ورد بعد استحكام الفصل بين الأمرين في مدرسة الخلفاء، حيث كان


(1) نهج البلاغة: 398، الخطبة 131.

(2) نهج البلاغة: 549، الخطبة 172.

(3) سورة الأحقاف: الآية 4.

(4) دراسات في ولاية الفقيه 1: 303 ـ 304 نقلا عن كتاب سليم بن قيس: 118.

90

الخليفة مرجعاً في الأحكام السلطانية، والفقهاء ـ كرؤوس المذاهب الأربعة ـ مراجع في الأحكام الفقهية، وذلك من قبيل:

1 ـ ما في أُصول الكافي عن الرضا (عليه السلام) من مرفوعة القاسم بن علاء عن عبد العزيز بن مسلم قال: «كنّا مع الرضا (عليه السلام) بمرو، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيدي (عليه السلام) فأعلمته خوض الناس فيه، فتبسّم (عليه السلام) ثم قال: يا عبدالعزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم...» إلى أن يقول (عليه السلام): «فكيف لهم باختيار الإمام؟! والإمامُ عالم لا يجهل، وراع لا ينكل، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول (صلى الله عليه وآله) ونسل المطهّرة البتول...»(1).

والحديث مفصّل جداً، وهو صريح في أنّ محطّ كلامه هو الإمام بالمصطلح الشيعي الخاص، أعني الإمام المعصوم الذي لا يناقش في رأي ولا يرتئي إلاّ ما يريده اللّه تعالى، فمورد الحديث أجنبيّ عن المقام إلاّ أنه جاء في كتاب «دراسات في ولاية الفقيه» ما نصّه: «وغرض الإمام في الحديث وإن كان بيان أحقيّة الأئمة الاثني عشر بالأمر لأجل واجديتهم للصفات المذكورة، ولكن بالملاك يثبت الحكم لكل من يصير والياً على المسلمين بما هم مسلمون...»(2).

2 ـ وما في الكافي بسند تامّ عن عبدالكريم بن عتبة الهاشمي عن الصادق (عليه السلام)في قصّة دعوة الناس إلى محمد بن عبداللّه بن الحسن، حيث جاء جماعة إلى


(1) الكافي 1: 198 ـ 203، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، الحديث الأول.

(2) دراسات في ولاية الفقيه 1: 305.