41

وقد لا يحصل هذا القطع لإنسان ما بسبب بعض الشبهات:

 

شبهة عدم إمكان الانتصار في عصر الغيبة:

 

فقد يزعم الزاعم أنّه سبق في علم اللّه أنّ المؤمنين لا ينتصرون في زمان الغيبة، ولذا لم يكلّفهم بخوض المعارك لهدف إقامة الحكم، واحتمال هذا كاف في عدم حصول القطع الذي أشرنا إليه.

ويضمّ ذلك إلى عدم وجود إطلاق لفظي لأدلّة الجهاد يشمل زمان الغيبة، وكثير من الإطلاقات تتوقف تماميّتها على القطع بعدم اختصاص الخطاب بالمشافهين، أو ضرورة الاشتراك في الحكم بيننا وبين من خوطب به، ولكنّنا ما دمنا نحتمل وجود فارق موضوعيّ بيننا وبينهم، وهو عدم مؤاتاة ظروف الانتصار بالنّسبة لنا بخلاف المؤمنين الذين كانوا في زمن الرّسول (صلى الله عليه وآله) لا نستطيع الاستفادة من قاعدة الاشتراك في الحكم، أو عدم اختصاص الخطاب بالمشافهين. وروايات مدح الغزو في سبيل اللّه مثلا ليست بصدد بيان شرائط الغزو، في حين أنّ الارتكاز العقلائيّ والمتشرّعيّ يدلّ إجمالا على وجود شرائط له، فلا يتّم لها الإطلاق في مورد الشكّ. وللردّ على هذه الشّبهة طريقان:

 

تساوي الأُمم في الطاقات الأوّليّة:

 

الطّريق الأوّل: إلفات النظر إلى أنّ سنّة اللّه على وجه الأرض لم تقتضِ كون الإيمان ملازماً للضعف والانكسار، وأنّ القوى والقدرات والطاقات والقابليّات

42

الأوّليّة وزّعت على المجتمعات بشكل متساو ومتقارب بغضّ النظر عن كونها مجتمعات مؤمنة أو ملحدة أو كافرة، فلا نحتمل أنّنا لو فسقنا وكفرنا أمكننا استلام زمام السلطة والحكومة، ولو آمنّا وأصبحنا صالحين عجزنا عن ذلك وقدّر لنا الانكسار، بل حالنا حال سائر الناس، إن استيقظنا وعملنا وخطّطنا الخطط الحكيمة لاستلام الحكم ننتصر كما ينتصر الآخرون وقد ننكسر أيضاً كما ينكسر الآخرون. وهذا واضح لمن يطالع المجتمعات الإسلاميّة ووضع الأفراد المسلمة والكافرة، ويلتفت إلى طاقاتهم وقدراتهم، وقد زادت ذلك وضوحاً التجربة الإسلامية الرائعة التي حصلت في أرض إيران، لكنّنا أردنا صوغ البيان بنحو يتمّ حتى مع غضّ النظر عن هذه التجربة العظيمة، فلنفترض أنفسنا فيما قبل هذه الثورة المباركة، وعندئذ نرى أيضاً أنّ قابليّات فرد مسلم ومؤمن لا تنقص عن قابليّات فرد كافر أو فاسق أو منحرف لا لشيء إلاّ لكونه مسلماً ومؤمناً، ولا قابليّات مجتمع تختلف عن مجتمع آخر باختلافها في الإيمان وعدم الإيمان، بل في كل مجتمع من المجتمعات يوجد أفراد مستضعفون، ويوجد أفراد أقوياء وأذكياء وذوو طاقات وقابليّات.

أمّا الشاهد القرآني على ما ذكرناه فهو قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّة وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾(1). فقد دلّت هذه الآية على أنّ القدرات والطاقات والقابليّات والنعم والحظوظ موزّعة على الفئات من المؤمنين


(1) سورة الزخرف: الآية 33 ـ 35.

43

والكافرين بالسّوية، ولولا المصلحة التي تقتضي أن يكون النّاس أُمّة واحدة أي متساوين في هذه الحظوظ لكانت تعطى النّعم الدنيويّة والرفاه للكفّار، ولعل ذلك بنكتة استيفائهم لجزاء أعمالهم الحسنة في هذه الدنيا؛ إذ لا خلاق لهم في الآخرة. أمّا النّعم في الآخرة فهي خاصّة بالمتّقين على حدّ التعبير الوارد في ذيل هذه الآيات حيث قال: ﴿ وَالاْخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾. كما قال اللّه تعالى في آية أُخرى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُْمِّيَّ... ﴾(1).

وهذه الآيات المباركات وإن كانت ناظرة إلى خصوص الجانب الاقتصاديّ، ولكن بالإمكان التمسّك بما فيها من عموم التعليل؛ حيث إنّ قوله: ﴿ لَوْلاَأَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً... ﴾ علّة للتّسوية الاقتصاديّة فيما بين الفئاتالمؤمنة والكافرة.

وقد جاء في تفسير عليّ بن إبراهيم تفسير ﴿ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾بمذهب واحد(2)، أي إنّما لم يجعل اللّه لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضّة ومعارج عليها يظهرون... خشية أن يصبح النّاس على مذهب واحد، وهو مذهب الكفر. وهذا التفسير يبدو أنّه خلاف ظاهر القرآن فلا يعبأ به، ولكنّه روي هذا التفسير في تفسير البرهان عن عليّ بن الحسين (عليه السلام)، وفيما يلي نصّ الرواية:

ابن بابويه قال حدّثنا أبي قال: حدّثنا سعد بن عبداللّه عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن عبداللّه بن غالب الأسديّ عن أبيه عن سعيد بن المسيّب


(1) سورة الأعراف: الآية 156 ـ 157.

(2) تفسير عليّ بن إبراهيم 2: 284.

44

قال: سألت عليّ بن الحسين (عليه السلام) عن قول اللّه عزوجلّ: ﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ قال: عنى بذلك أُمّة محمد أن يكونوا على دين واحد كفاراً كلّهم(1)، إلاّ أنّ هذا السّند ضعيف لعدم ثبوت وثاقة غالب الأسديّ وسعيد بن المسيّب. وروي أيضاً في تفسير البرهان عن كتاب الزهد للحسين بن سعيد عن النضر عن إبراهيم بن عبدالحميد عن إسحاق بن غالب قال: سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول في هذه الآية: ﴿ وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّة وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾ قال: «لو فعل لكفر الناس جميعاً»(2). وسند هذا الحديث المنقول عن كتاب الزهد تامّ، إلاّ أنّ الشأن في ثبوت سند صاحب تفسير البرهان إلى هذا الكتاب. وعلى أيّة حال فدلالته على تفسير ﴿ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ بمعنى مذهب واحد، وهو الكفر غير واضحة؛ إذ قد يكون المقصود مجرّد بيان حكمة لجعل النّاس أُمّة واحدة، أي متساوية في تقسيم الحظوظ والمواهب، وهي أنّه لولا ذلك لكفر النّاس جميعاً.

وحتّى لو ثبت هذا التفسير بسند تامّ لا يبعد سقوطه عن الاعتبار؛ لأنّ خبر الواحد إذا كان مخالفاً لظهور الكتاب، ولم تكن مخالفته بنحو يقبل الجمع العرفيّ كموارد التخصيص والتقييد، فهو من الأخبار التي تعارض الكتاب ولابدّ من طرحها، والقرآن إنّما نزل كتاب هداية، وليس المفروض فيه أن تؤوّل ظواهره بغير ما يستسيغه الجمع العرفيّ، ووجود المتشابهات في القرآن لا يعني وجود آيات قصد بها خلاف ظاهرها، فإنّ للتشابه معنىً آخر شرح في الأُصول، ولسنا الآن بصدد شرح ذلك.


(1) تفسير البرهان 4: 141.

(2) المصدر السابق: 142.

45

وتوضيح الكلام في ما استقربناه من ظهور الآية في كون المقصود من افتراض النّاس أُمّة واحدة تساوي الأُمم في القابليّات والحظوظ لا تساويهم في المذهب، كما هو المفهوم من تفسير عليّ بن إبراهيم، وما مضت من الرواية هو أنّ قوله تعالى: ﴿ لَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ يشتمل على شيء من التّقدير أو ما بحكمه، والمقدّر إمّا مثل كلمة ( الإرادة )، أو مثل كلمة ( المخالفة )، فالتّقدير: لولا إرادة أن يكون النّاس أُمّة واحدة... الخ، أو لولا مخافة أن يكون الناس أُمّة واحدة. وعلى الثاني يكون وزان الآية وزان الحديث المرويّ عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «لولا أن أشقّ على أُمّتي لأمرتهم بالسّواك عند كلّ صلاة، أو مع كلّ صلاة»(1)، والتقدير: لولا مخافة أن أشقّ على أُمّتي. ويحتمله قوله تعالى: ﴿ إِنِّي لاََجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴾(2). فلعلّ المعنى لولا مخافة أن تفنّدون.

فعلى التقدير الثاني يتمّ التفسير الذي نقلناه عن عليّ بن إبراهيم وعن بعض الروايات، وعلى التقدير الأوّل يتمّ التفسير الذي استقربناه، ولكنّ التقدير الثاني بعيد؛ إذ بناءً على التفسير الثاني ليس الذي يخاف منه ـ لو رجّح الكفّار على المؤمنين في الوضع الاقتصادي ـ عبارة عن كون النّاس أُمّة واحدة بمعنى مذهب واحد، وإنّما الذي يخاف منه هو صيرورتهم كفّاراً، أي أنّ العيب في الكفر لا في عنوان وحدة المذهب التي تنسجم مع كونهم جميعاً كافرين ومع كونهم جميعاً مسلمين. فالمفروض بالآية عندئذ أن تقول: لولا أن يكفر النّاس جميعاً لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سُقُفاً من فضّة... لا أن تقول: لولا أن يكون النّاس أُمّة


(1) وسائل الشيعة 1: 355، الباب 5 من أبواب السواك، الحديث 3.

(2) سورة يوسف: الآية 94.

46

واحدة... وهذا بخلاف التفسير الذي استقربناه، فإنّ العنوان المطلوب عندئذ حقّاً هو عنوان وحدة الأُمّة بمعنى تساوي الأُمم في القابليّات والحظوظ، فاللّه تعالى أراد تساوي الفرص لجميع الأُمم كي يتمّ الامتحان وتتمّ التجربة، فترجيح هذه الأُمّة على تلك الأُمّة في القابليّات غير مطلوب وعكسه أيضاً غير مطلوب، بخلاف عدم مطلوبيّة وحدة المذهب، فإنّه بمعنى عدم مطلوبيّة كفر الجميع لا عدم مطلوبيّة وحدة المذهب حقّاً الشامل لإسلام الجميع.

ولا يخفى أنّ المقصود إنّما هو فرض تساوي الفرص والقابليّات والحظوظ بالنسبة للأُمم لا بالنسبة للأفراد. وأمّا بالنسبة للأفراد فعدم التساوي واضح، وهذا هو المقصود بقوله تعالى فيما قبل هذه الآيات: ﴿ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَات لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَ رَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾(1)، فلا تهافت بين الآيتين.

 

إطلاق الأدلّة في أجواء المدرسة الإسلاميّة:

 

والطريق الثاني: بيان أنّ الكلام الذي يصدر من صاحب مدرسة معيّنة يتكوّن ظهوره ضمن ما يناسب معطيات تلك المدرسة، فكما أنّ العرف العامّ والمناسبات والأجواء العرفيّة العامّة تؤثّر على ظهور الكلام فلا يتحدّد ظهور الكلام على ضوء المعطيات اللغويّة فحسب، كذلك مناسبات مدرسة مّا وأجواؤها تؤثّر على ظاهر كلام يصدر من أصحاب تلك المدرسة، فربّ إطلاق يتمّ بحدّ ذاته لو خلّينا نحن


(1) سورة الزخرف: الآية 32.

47

والظهور الأوّليّ للكلام مع مقدّمات الحكمة، لكنّه ينكسر بلحاظ جوّ تلك المدرسة. وربّ إطلاق لا يتمّ بمحض الصناعة لو أغفلنا أجواء المدرسة التي صدر عنها ذاك الكلام ومناسباتها، لكن تلك الأجواء والمناسبات تخلق الإطلاق وتثبّته للكلام، فلو أنّ سيبويه مثلا تكلّم بكلام بما هو إنسان نحويّ فأجواء علم النحو ومناسباته قد تؤثّر على تحديد ظهور كلامه.

وعليه نقول: إنّ مدرسةً تشابك نظامها مع نظام الحكم والإدارة والسلطة بحيث لو فصلت عن الحكم سقط الكثير الكثير من أحكامها ونُظمها عن إمكانيّة التطبيق، حينما يأتي فيها الأمر بإقامة حكم اللّه والجهاد والقتال، وإعداد ما استطعنا من قوّة نُرهب به عدوّ اللّه، وتقديم المقدّمات لذلك، والعمل في سبيل خلق الأجواء المناسبة لذلك.. يفهم منه الإطلاق لكلّ زمان وفق الفرص المؤاتية ظاهراً في الفهم الاجتماعيّ السليم. وهذا بنفسه ينفي الاحتمال الغيبيّ لنفي الفرصة بنحو يفترض إسقاطه للتكليف، بدعوى أنّه لعلّه كان من المقدّر في علم اللّه أنّ المؤمنين لا ينتصرون في عصر الغيبة.

فحتّى من لا يحصل له القطع ـ الذي أشرنا إليه في مستهلّ البحث ـ بعدم اختصاص ضرورة إقامة الحكم الإسلاميّ بزمان الظهور، يكفيه هذا الإطلاق لتشخيص الوظيفة ولو تعبّداً.

أمّا القول بأنّ عدم انتصار المؤمنين قبل ظهور الحجّة ليس صدفةً متكرّرة، وليس مستنداً إلى تقصير المؤمنين في العمل، بل هو مستند إلى أنّ تطبيقالحقّ أصعب من تطبيق الباطل، وذلك إمّا بمعنى أنّ الحقّ مرّ فلا يتحمّلهالناس والباطل حلو للنفوس يتحمّله النّاس، أو بمعنى أنّ الإسلام قيد

48

الفتك(1) وأنّ الغاية لا تبرّر الوسيلة، وهذا ما يجعل المؤمن مكتوف الأيدي ومضيّقاً عليه في طريق العمل بخلاف الكافر أو الفاسق الفاجر، فهو يتذرّع للوصول إلى الحكم بأيّ طريق يحلو له بلا أيّ قيد، كما وردت عن إمامنا أميرالمؤمنين (عليه السلام) قولته المشهورة: «لولا كراهيّة الغدر لكنت أدهى النّاس»(2)، فهذا أيضاً غير صحيح بكلتا نكتتيه اللتين أشرنا إليهما.

أمّا بنكتته الأُولى ـ وهي صعوبة تحمّل الناس للحقّ وسهولة تحمّلهم للباطل ـ فالجواب: أنّ بعض ألوان الباطل يكون تحمّله للناس أصعب من تحمّل الحقّ، ومع ذلك استطاع ذاك الباطل أن يسيطر على الناس ويهيمن عليهم، ويأخذ بيده السلطة والحكم يسومهم سوء العذاب يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم كما في زمن فرعون، أو يذيقهم ألوان العذاب الأُخرى كما في زمن الحجّاج، وأبرز مصداق لذلك ما هو موجود في زماننا من سيطرة البعث على العراق، فلئن كان عدم تحمّل الناس لمرارة الحقّ موجباً لخروجهم على الحقّ وعدم إمكانيّة الهيمنة لدولة إسلاميّة حقّة عليهم، فلم لم يوفّقوا حتّى الآن أن يثوروا على حكم أذاقهم الأمرّين وأُتيحت الفرص لأقسى ألوان الحكم أن يهيمن على العراق؟!

وأمّا بنكتته الثانية ـ وهي أنّ الإيمان قيد الفتك وأنّ الغاية لا تبرّر الوسيلة، وأنّه لولا كراهيّة الغدر لكان عليّ (عليه السلام) أدهى الناس ـ فالجواب: أنّ هذه القيود في الإسلام ليست إلى حدّ يمنع عن تقدّم الإسلام في النفوذ والسيطرة؛ إذ حينما يبلغ


(1) بحار الأنوار 44: 344.

(2) نهج البلاغة: 639، الخطبة 191، طبعة الفيض.

49

الأمر إلى هذا الحدّ تنكسر القيود بقاعدة التزاحم وتقديم الأهمّ على المهمّ، وإنّما تكون هذه القيود بحدود تنظيم العمل وأخذ الاحتياطات ونفي اللامبالاة، وبالقدر الذي لا يشلّ العمل، وليس هذا مشكلة خاصّة بزمن الغيبة، وكلّ ما قام به المعصومون (عليهم السلام) الذين خاضوا الحروب والذين لم يخوضوا الحروب، ولكنّهم عملوا المقدار الممكن من العمل في سبيل نشر الحقّ قد أدّى ضمناً أيضاً إلىتلف النّفوس البريئة وخسارة الأرواح الطاهرة، وعلى رأسها أرواح نفس المعصومين ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ولولا قانون التزاحم لكان يجب عليهم حفظ النفوس البريئة.

 

شبهة الشكّ في القدرة:

 

وقد تقول: إنّ الإطلاق مهما يتمّ فهو مشروط بالقدرة كما هو شأن كلّ خطاب، ومهما أردنا العمل في سبيل تطبيق نظام الإسلام وإقامة الحكم فلا شكّ في أنّه لا يحصل لنا منذ البدء العلم بالقدرة على تحصيل المطلوب، ومع الشكّ فيها نشكّ في أصل الوجوب.

أو تقول: إنّنا عادةً نعلم قبل طيّ المقدّمات البعيدة بأنّنا فعلا عاجزون عن إقامة الحكم الإسلاميّ، فلا يبقى إلاّ فرض وجوب تحصيل المقدّمات البعيدة والعمل في سبيل تهيئة الأجواء إلى أن تحصل القدرة على إقامة الحكم، ولكن هذا لا يجب؛ لأنّ القدرة شرط الوجوب وليست شرط الواجب، وتحصيل شرط الوجوب غير واجب.

50

ولا أُريد أن أُناقش في التقريب الأوّل بما ذكر في علم الأُصول من أنّ الشكّ في القدرة لدى إحراز الملاك يوجب الاحتياط، كما لا أُريد أن أشكّك في كون القدرة شرطاً للوجوب لا للواجب ـ فقد ثبت في محلّه في الأُصول أنّ القدرة شرط للوجوب ـ لكنّني أُريد أن أُلفت النظر إلى نكتتين:

الأُولى: أنّ القدرة على تحصيل القدرة على الشيء قدرة على ذلك الشيء، فمن يقدر على تهيئة المقدّمات التي بها يقدر على إقامة الحكم يكون قادراً على إقامة الحكم، فليست القدرة المشروطة في كلّ خطاب عبارة عن معنىً خاصّ سمّي بالاستطاعة في باب الحجّ والذي لا يشمل القدرة على تحصيلها، ولذا لم يجب على من يقدر على تحصيل الاستطاعة للحجّ تحصيلها، وإنّما القدرة التي هي شرط لكلّ تكليف عبارة عن مجرّد الإمكانية ولو مع الوسائط.

والثانية: أنّ أدلّة وجوب نصرة اللّه ودينه والدفاع عن الحقّ ونصرة المظلومين ودفع المنكر وما إلى ذلك ليس المفهوم عرفاً منها هو إيجاب النتيجة فحسب، بل المفهوم عرفاً من أمثال هذه الخطابات الاجتماعيّة هو الأمر بالمقدّمات بملاك احتمال انتهائها إلى ذي المقدّمة، كما هو الحال أيضاً في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي قال عنه الفقهاء بأنّه مشروط باحتمال التأثير لا بالقطع بذلك، وهذه المقدّمات قد تنتهي إلى النتيجة وقد لا تنتهي، كما كان الأمر كذلك في زمن المعصومين (عليهم السلام)، فهذه المشكلة أيضاً ليست مخصوصة بزمن الغيبة.

والخلاصة: أنّ المرتكز عرفاً واجتماعيّاً في القضايا الاجتماعية السياسية أنّ الأمر ليس متوجّهاً إلى النتيجة فحسب ـ والتي هي غالباً غير مضمونة الحصول ـ وإنّما هو متوجّه إلى المقدّمات من باب رجاء احتمال حصول النتيجة، لا بمعنى

51

كونه أمراً ظاهريّاً احتياطيّاً، بل بمعنى أنّ الاحتياط من قبل نفس المولى، فالمولى أوجب المقدّمات احتياطاً في موارد احتمال الانتهاء إلى النتيجة ولو في أجيال متأخّرة غير الجيل الذي هيّأ تلك المقدّمات البعيدة.

 

شواهد ضدّ إطلاق الأدلّة:

 

وفي مقابل ما ذكرناه من أنّ أجواء المدرسة الإسلاميّة تساعد على تكوّن الإطلاق في أدلّة الجهاد وأدلّة العمل في سبيل رفع راية الحقّ قد تبرز نكات وشواهد على خلاف ذلك، إمّا بمعنى أنّ تلك النكات والشواهد تخلق أجواءً معاكسة لتلك الأجواء بحيث لا يتكوّن عندئذ ذاك الإطلاق، أو بمعنى أنّها تؤدّي إلى تقييد ذاك الإطلاق وإخراج زمن الغيبة عنه بالتخصيص، ولعلّ تلك النكات منحصرة في أُمور ثلاثة:

الأوّل: نفس غيبة الإمام صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه، فلو كانت إقامة الحكم الإسلاميّ ممكنة وواجبة كان أجدر الناس بذلك هو الإمام صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه، فهو إنّما غاب لأنّه لم تكن من الوظيفة اليوم إقامة الحكم،ولم تكن الظروف مؤاتية لذلك، فكانت نتيجة حضوره أنّه يقتل وينقطع بذلكآخر حبل ممدود بين السماء والأرض، فشاءت الحكمة الإلهيّة أن يغيب كييبقى محفوظاً من كيد الأعداء إلى أن تحين الفرصة لإحياء الحقّ وقطع دابرالظلم، فعندئذ سيظهر الإمام المعصوم ويملأ الأرض قسطاً وعدلا بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.

52

والثاني: ما قد يستدلّ بها من بعض الروايات على أنّ القتال يجب أنيكون بإشراف الإمام المعصوم وأمره، وأنّ الجهاد مع غير الإمام المفترضالطاعة حرام.

والثالث: ما قد يستدلّ بها من بعض الروايات على النهي عن الخروج والجهاد قبل قيام القائم، أو بيان حتميّة عدم الانتصار وما إلى ذلك.

 

حكمة الغيبة:

أمّا الأوّل: فغيبة الإمام صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه، لا تصلح شاهداً على عدم إمكانية إقامة الحكم الإسلامي في أيّة فترة زمنية، وأيّة بقعة من البقاع على الإطلاق قبل الظهور؛ إذ لا توجد أيّ قرينة تشهد لكون علّة الغيبة هي العجز المطلق للمؤمنين عن إيجاد حكم إسلامي بهذا الشكل، وقد ذكرت في الروايات في علّة الغيبة عدّة أُمور من قبيل:

1 ـ مخافة القتل، كما في حديث عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «إنّ للغلام ( للقائم خ ل ) غيبة قبل ظهوره. قلت: ولِمَ؟ قال: يخاف، وأومأ بيده إلى بطنه، قال زرارة: يعني القتل»(1).

2 ـ أن لا تقع على عنقه بيعة طاغية، من قبيل ما ورد عن ابن فضال عن أبيهعن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قال: «كأ نّي بالشيعة عند فقدانهمالثالث من ولدي يطلبون المرعى فلا يجدونه. قلت: ولمَ ذلك يابن رسول اللّه؟


(1) بحار الأنوار 52: 91، الباب 20 علّة الغيبة، الحديث 15، وكمال الدين: 481، الباب 44، علّة الغيبة، الحديث 9.

53

قال: لأنّ إمامهم يغيب عنهم، فقلت: ولمَ؟ قال: لئلاّ يكون لأحد في عنقه بيعةإذا قام بالسيف»(1).

3 ـ امتحان الناس، كما في حديث روي عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) في علّة غيبته: «ليعلم اللّه من يطيعه بالغيب ويؤمن به»(2).

4 ـ أنّ لغيبته حكمة مجهولة لا يكشف النقاب عنها إلاّ بعد الظهور، من قبيل ما ورد عن عبداللّه بن الفضل الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام)يقول: «إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة لابدّ منها، يرتاب فيها كلّ مبطل. فقلت له: ولمَ جعلت فداك؟ قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم. قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ فقال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدّمه من حجج اللّه تعالى ذكره، إنّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلاّ بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر (عليه السلام) من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لموسى (عليه السلام) إلاّ وقت افتراقهما. يابن الفضل إنّ هذا الأمر أمر من أمر اللّه وسرّ من سرّ اللّه وغيب من غيب اللّه، ومتى علمنا أنّه عزّ وجلّ حكيم صدّقنا بأنّ أفعاله كلّها حكمة وإن كان وجهها غير منكشف لنا»(3).

وقد ورد في التوقيع المروي عن إسحاق بن يعقوب قوله: وأمّا علّة ما وقع من الغيبة فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ


(1) بحار الأنوار 52: 96، الباب 20 علّة الغيبة، الحديث 14، وكمال الدين: 480، الباب 44 علّة الغيبة، الحديث 4.

(2) كمال الدين: 331، الباب 32 ما أخبر به الباقر (عليه السلام) من وقوع الغيبة، الحديث 16.

(3) بحار الأنوار 52: 91، الباب 20 علّة الغيبة، الحديث 4، وكمال الدين: 482، الباب 44 علّة الغيبة، الحديث 11.

54

لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾(1). إنّه لم يكن لأحد من آبائي إلاّ وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي(2).

ولعلّ الاستشهاد بقوله تعالى: ﴿ لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾إشارة إلى العلّة المجهولة التي ورد في الحديث السابق أنّه لم يؤذن لهم (عليهم السلام)في كشفها، ولعلّ ذيل الحديث وهو قوله: «إنّه لم يكن لأحد من آبائي...»إشارة إلى ما مضى ذكره من العلّة الثانية، ولعلّ المقصود به أن وقوع البيعة عليهمن طاغية الزمان يؤثّر اجتماعياً في صعوبة الانتصار، أمّا الخارج عن هذهالدائرة فحينما يخرج على طاغية الزمان يكون لخروجه تأثير أقوى في خلق الرعب في نفوس الأعداء.

وعلى أيّة حال فلعلّ أقرب هذه المضامين إلى الشبهة التي طرحناها هو ما ورد من أنّه (عليه السلام) غاب خشية القتل.

والواقع أنّ شيئاً من هذه المضامين بما فيها التعليل بحفظ الحياة والهروبمن القتل لا علاقة لها بتلك الشبهة، فلعلّ غيبته ـ صلوات اللّه عليه ـ كانتلأجل أنّه مدّخر لإقامة الدولة الإسلامية العالمية لملء الأرض قسطاً وعدلابعد ما ملئت ظلماً وجوراً، فكان من الضروري الحفاظ على حياته إلى أنيحقّق هذه المهمّة. وهذا لا ينفي فرضيّة إمكان تحقّق الحكم الإسلامي بشكل جزئي في فترة من الزمان أو في بقعة من البقاع بأيدي المؤمنين وبجهودهم المباركة.


(1) سورة المائدة: الآية 102.

(2) كمال الدين: 485، الباب 45 ذكر التوقيعات، الحديث 4.

55

أخبار اختصاص الجهاد بزمن الحضور:

وأمّا الثاني وهو ما قد يستدلّ به على أنّ الجهاد والقتال لابدّ أن يكون بإشراف الإمام المعصوم، فمن قبيل:

1 ـ ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن عليّ بن النعمان عن سويد القلا عن بشير عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: قلت له: إنّي رأيتفي المنام أ نّي قلت لك: إنّ القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثلالميتة والدم ولحم الخنزير؟ فقلت لي: نعم هو كذلك. فقال أبو عبداللّه (عليه السلام):هو كذلك هو كذلك(1).

وبشير الدهّان روى عنه صفوان الذي شهد الشيخ الطوسي (رحمه الله) بأنّه لا يروي إلاّ عن ثقة، ورواية صفوان عنه واردة في الخصال على ما ذكره الشيخ عرفانيان في كتاب مشايخ الثقات.

أمّا الشاهد على كون المقصود من بشير في المقام هو بشير الدهّان فهو ورود نفس الحديث بسند مرسل عن عليّ بن النعمان عن سويد القلا عن بشير الدهّان عن أبي عبداللّه (عليه السلام) على أنّه شوهد نقل سويد القلا عن بشير الدهّان في غير هذا الموضع أيضاً.

2 ـ رواية عبدالرحمن الأصمّ عن جدّه عن أبي جعفر (عليه السلام): «... ولا جهاد إلاّ مع الإمام»(2)، والسند ضعيف بعبد الرحمن الأصمّ وجدّه.

3 ـ رواية الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون،


(1) وسائل الشيعة 11: 32، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث الأول.

(2) وسائل الشيعة 8: 83، الباب 42 من أبواب وجوب الحج، الحديث 17.

56

قال: «والجهاد واجب مع الإمام العادل»(1)، وهي ضعيفة السند.

4 ـ رواية الأعمش عن جعفر بن محمد (عليه السلام) في حديث شرائع الدين، قال: والجهاد واجب مع إمام عادل(2). والرواية ضعيفة سنداً.

5 ـ رواية تحف العقول عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون قال: والجهاد واجب مع إمام عادل(3). وهي ضعيفة سنداً.

والاعتراض على دلالة هذه الروايات باستثناء الحديث الأوّل باختصاصها بالحرب الابتدائية ـ بمعنى الهجوم على الكفّار في بلادهم ـ في غير محلّه، فلئن كان هناك اصطلاح متأخّر لكلمة الجهاد في ذلك لا ينبغي تحميل ذلك على النصوص التي سبقت هذا الاصطلاح. نعم يمكن القول بانصراف هذه الروايات عن الدفاع بمعنى صدّ الهجوم.

وكذلك الاعتراض على دلالة ما عدا الحديث الأوّل بعدم إيماننا بمفهوم الوصف واللقب أيضاً غير صحيح؛ لأنّ الظاهر أنّ هذه الروايات بصدد بيان شرط مشروعية الجهاد.

وكذلك الاعتراض على ما عدا الحديث الأوّل بأنّ عدم الوجوب لا يدلّ على عدم الجواز مردود بأننا لا نحتمل فقهياً جواز الجهاد للأُمة بشكل عامّ بالمعنى الخاصّ من الجواز المقابل للأحكام الأربعة الأُخرى، بل الجهاد إن كان مشروعاً فهو واجب على الأُمة، وإن لم يكن مشروعاً فهو حرام.


(1) المصدر السابق: 11، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 24.

(2) المصدر السابق: 35، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 9.

(3) المصدر السابق، الحديث 10.

57

والاعتراض الأساس على دلالة هذه الروايات هو أن كون كلمة ( الإمام ) مصطلحاً خاصاً لدى الشيعة فيمن هو السبب المتّصل بين الأرض والسماء، والذي لا يناقش فيما يأمر به؛ لأنّه لا يأمر إلاّ بالحقّ، بخلاف الوليّ غير المعصوم الذي يناقش ويخطّأ وإن فرض وجوب طاعته حتى مع العلم بالخطأ.. إنّما هو اصطلاح متأخّر لا ينبغي حمل النصوص عليه خاصة، وإن المجتمع الذي صدرت فيه هذه النصوص كانت أكثريّته من أهل السنّة الذين لا يؤمنون بوجود إمامة بهذا المعنى حتّى في خلفائهم، وتوصيف الإمام بالعادل في غير الحديث الأوّل يدعم أيضاً ما قلناه من أنّه ليس المقصود هو الإمام المعصوم، ويؤيّد أيضاً ذلك أنّ هذه الروايات بصدد الردع عن القتال مع خلفاء الجور ما عدا الحديث الأوّل الذي يحتمل فيه ذلك، ويحتمل فيه كونه بصدد الردع عن القتال مع الخارجين منآل محمد (صلى الله عليه وآله).

ولو فرض إجمال هذه النصوص في عصرها كفانا ذلك.

هذا، ويمكن أن يقال: إنّ هذا الإشكال الذي شرحناه وهو عدم وجود نكتة لحمل كلمة ( الإمام ) على الإمام المعصوم يختصّ أيضاً بما عدا الرواية الأُولى، وذلك لأنّ التوصيف بالمفترض طاعته الوارد في الرواية الأُولى قد يقال: إنّه قرينة على إرادة الإمام المعصوم الذي هو المفترض طاعته على الإطلاق، أمّا غير الإمام المعصوم فلو ثبتت له الولاية وجبت إطاعته في أحكامه الولائية ولم تجب إطاعته في آرائه الفقهية لغير مقلّديه.

فلو صحّ هذا الاستظهار فهذا يعني أن الرواية الأُولى تمّت سنداً ودلالةً وإن كان ما عداها غير تام سنداً ولا دلالةً.

58

ولكنّ الذي يحسم لنا مادّة الإشكال حتى بعد فرض تماميّة السند والدلالة أمران:

الأوّل: ما يمكن القول به من أنّ إسقاط الحكومات الاستعمارية المعادية للإسلام دفاع عن بيضة الإسلام ودار الإسلام الذي لا شكّ في وجوبه، ودلّت عليه بعض الروايات من قبيل رواية يونس التامّة سنداً، قال: «سأل أبا الحسن (عليه السلام)رجل وأنا حاضر... إلى أن قال: قال: يقاتل عن بيضة الإسلام. قال: يجاهد؟ قال: لا إلاّ أن يخاف على دار المسلمين، أرأيتك لو أنّ الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ لهم ( لم يسع لهم خ ل ) أن يمنعوهم، قال: يرابط ولا يقاتل، وإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل، فيكون قتاله لنفسه ليس للسلطان؛ لأنّ في دروس الإسلام دروس ذكر محمد (صلى الله عليه وآله)»(1).

وهذا الوجه كاف لدفع الإشكال في الخروج على الطاغوت بخصوص ما هو محلّ الابتلاء فعلا في بلادنا الإسلامية.

والثاني: أنّه لو حمل الإمام في هذه الروايات على الإمام المعصوم، ثمّ تمّ لنا نصّ على مبدأ ولاية الفقيه، وأنّ ما للإمام فهو للفقيه كان هذا حاكماً على هذه الروايات بملاك النظر.

 

أخبار المنع عن الخروج قبل قيام القائم:

وأمّا الثالث، وهي روايات المنع عن الخروج قبل قيام القائم فبعضها ينظر إلى عدم إمكانيّة الانتصار، وبعضها يمكن حمله على ذلك، أو على شرط إشراف المعصوم.


(1) وسائل الشيعة 11: 20، الباب 6 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.

59

والكل مناقش دلالةً أو سنداً، وهي على طوائف:

الطائفة الأُولى: ما يحتمل فيه أو يظهر منه النظر إلى خروج الشخص لنفسه وفي مقابل الإمام المعصوم، فيكون أجنبياً عن المقام من قبيل:

1 ـ ما عن أبي بصير بسند تامّ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: كلّ راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون اللّه عزّ وجلّ(1). فالتعبير بالطاغوت وأنّه يعبد من دون اللّه يعطي معنى الصنمية، وهذا يناسب فرض كون خروجه لنفسه لا بنيّة تسليم الأمر إلى الإمام المعصوم لو حضر.

2 ـ رواية عيص بن القاسم التامّة سنداً: «قال: سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: عليكم بتقوى اللّه وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم، فواللّه إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه، ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، واللّه لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثمّ كانت الأُخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد واللّه ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آت منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون، ولا تقولوا خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً، وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه، فالخارج منّا اليوم إلى أيّ شيء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)؟ فنحن نشهدكم أنا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم، وليس معه أحد وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منّا إلاّ من اجتمعت بنو فاطمة


(1) وسائل الشيعة 11: 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.

60

معه، فواللّه ما صاحبكم إلاّ من اجتمعوا عليه، إذا كان رجب فأقبلوا على اسم اللّه، وإن أحببتم أن تتأخّروا إلى شعبان فلا ضير، وإن أحببتم أن تصوموا في أهاليكم، فلعلّ ذلك يكون أقوى لكم، وكفاكم بالسفياني علامة»(1).

وما في هذا الحديث من استثناء خروج زيد؛ لأنه دعا للرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، وكذلك قوله: «فالخارج منّا اليوم إلى أيّ شيء يدعوكم...» واضح في التفسير الذي ذكرناه.

الطائفة الثانية: ما يكون الخطاب فيها خطاباً إلى شخص أو أشخاص بنحو القضية الخارجية، وليست مشتملة على الخطاب العام بنحو القضية الحقيقية، فيحتمل فيها أيضاً كونها ناظرة إلى الخروج بعنوان كونه هو الرأس وهو الأصل في مقابل الإمام المعصوم، ولا يمكن استنباط الكبرى المطلقة منها، والتعدّي إلى ما يحتمل الفرق فيه عن المورد، وذلك من قبيل:

1 ـ رواية سدير التامّة سنداً: «قال: قال أبو عبداللّه (عليه السلام): الزم بيتك، وكن حلساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أنّ السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك»(2).

2 ـ رواية جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «الزم الأرض، ولا تحرّك يداً ولا رجلا حتى ترى علامات أذكرها لك، وما أراك تدركها: اختلاف بني فلان، ومناد ينادي من السماء، ويجيئكم الصوت من ناحية دمشق...»(3). ويستخلص من


(1) وسائل الشيعة 11: 35 ـ 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو.

(2) المصدر السابق: 36، الباب 3 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة 11: 41، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 16.

61

«غيبة النعماني»(1) سندٌ تامّ لهذا الحديث كالتالي: الكليني عن عليّ بنإبراهيم عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن عمرو بن أبي المقدام عن جابر بن يزيد الجعفي. وابن أبي المقدام مع جابر روى عنهما بعض الثلاثة، ولكن جابرقال عنه النجاشي: «وكان في نفسه مختلطاً»(2)، وهذا لا ينفي التوثيق،وذكر المفيد في الرسالة العددية بشأنه: أنّه ممّن لا يطعن فيهم، ولا طريقلذمّ واحد منهم(3).

ويحتمل كون المقصود بالاختلاط الوارد في كلام النجاشي الجنون، وهو الذي تظاهر به فترة من الزمن كما ورد في الكافي(4).

3 ـ رواية عمر بن حنظلة التامّة سنداً قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة، والسفياني، والخسف، وقتل النفس الزكية، واليماني. فقلت: جعلت فداك إن خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات أنخرج معه؟ قال: لا...»(5).

4 ـ رواية عبدالرحمن بن أبي هاشم عن الفضل بن سليمان الكاتب قال: كنت عند أبي عبداللّه (عليه السلام) فأتاه كتاب أبي مسلم، فقال: ليس لكتابك جواب، اخرج عنّا... ـ إلى أن قال ـ: إنّ اللّه لا يعجل لعجلة العباد، ولإَزالة جبل عن موضعه أهون من إزالة ملك لم ينقضِ أجله... ـ إلى أن قال ـ:


(1) الغيبة للنعماني: 149، طبعة مكتبة الصابري بتبريز.

(2) رجال النجاشي: 128.

(3) الرسالة العددية ( مصنفات الشيخ المفيد 9 ): 25 و 35.

(4) الكافي 1: 397.

(5) وسائل الشيعة 11: 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 7.

62

قلت: فما العلامة فيما بيننا و بينك جعلت فداك؟ قال: لا تبرح الأرضيا فضل حتى يخرج السفياني فإذا خرج السفياني فأجيبوا إلينا ـ يقولها ثلاثاً ـ وهو من المحتوم(1).

ويمكن إدخال هذه الرواية في الطائفة الثالثة.

ولم تثبت وثاقة عبدالرحمن بن أبي هاشم إلاّ بناءً على اتّحاده مع عبدالرحمن بن محمد بن أبي هاشم، ولا دليل على وثاقة الفضل، وذكر أنّه كان يكتب للمنصور وللمهدي.

الطائفة الثالثة: ما يكون حاكياً عن عدم إمكانية الانتصار، وأسانيدها جميعاً ضعيفة من قبيل:

1 ـ مرفوعة ربعي عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) قال: واللّه لا يخرج أحد منّا قبل خروج القائم إلاّ كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوى جناحاه، فأخذه الصبيان فعبثوا به(2).

وكلمة ( أحد منّا ) تجعل القضية خارجية لا كلّية، والظاهر من كلمة ( منّا ) أنّه يقصد بها أهل البيت أعني القريبين من الرسول (صلى الله عليه وآله)، لا كلّ من كان منتسباً إليه (صلى الله عليه وآله)ولو بوسائط كثيرة، كما هو الحال في السادة الذين هم من نسل فاطمة (عليها السلام) في مثل زماننا هذا.

2 ـ ومثل هذه الرواية رواية جابر عن الباقر (عليه السلام): «مَثَلُ خروج القائم منّا أهل البيت كخروج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، ومثل من خرج منّا أهل البيت قبل قيام القائم مثل


(1) وسائل الشيعة 11: 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5.

(2) المصدر السابق: 36، الحديث 2.

63

فرخ طار ووقع من وكره، فتلاعبت به الصبيان»(1)، وسند الحديث مشتمل على عدّة أشخاص غير موثوقين.

3 ـ ومثلهما رواية صالح بن أبي الأسود عن أبي الجارود: «قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ليس منّا أهل البيت أحد يدفع صنماً، ولا يدعو إلى حقّ إلاّ صرعته البلية حتّى تقوم عصابة شهدت بدراً، لا يورّى قتيلها، ولا يداوى جريحها. قلت: من عنى أبو جعفر (عليه السلام)؟ قال: الملائكة»(2).

بناءً على كون قوله: «حتى تقوم عصابة... إلخ» إشارةً إلى زمان ظهور القائم عجّل اللّه تعالى فرجه.

4 ـ ومثلها ما عن أبي الجارود أيضاً عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قلت له: أوصني، فقال: أُوصيك بتقوى اللّه، وأن تلزم بيتك، وتقعد في دهماء هؤلاء الناس، وإيّاك والخوارج منّا، فإنّهم ليسوا على شيء ولا إلى شيء، واعلم أنّ لبني أُميّة ملكاً لا يستطيع الناس أن يردعه، وأنّ لأهل الحقّ دولة إذا جاءت ولاّها اللّه لمن يشاء منا أهل البيت من أدركها منكم كان عندنا في السنام الأعلى، وإن قبضه اللّه قبل ذلك جاز له، واعلم أنه لا تقوم عصابة تدفع صنماً أو تعزّ ديناً إلاّ صرعتهم البلية حتى تقوم عصابة شهدوا بدراً مع رسول (صلى الله عليه وآله)لا يورّى قتيلهم، ولا يرفع صريعهم، ولا يداوى جريحهم. قلت: من هم؟ قال: الملائكة»(3).

وسند الحديث في غاية السقوط.


(1) الغيبة للنعماني: 105، طبعة مكتبة الصابري.

(2) المصدر السابق: 102.

(3) الغيبة للنعماني: 102.

64

5 ـ ومثلها ما في أوّل الصحيفة السجّادية من حديث عن متوكّل بن هارون عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «ما خرج ولا يخرج منّا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلماً أو ينعش حقّاً إلاّ اصطلمته البلية، وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا»(1).

وهذه الروايات جميعاً تشترك في ما أشرنا إليه من اختصاصها بمن يخرج من أهل البيت، كما أنّها جميعاً تشترك فيما قلناه أيضاً من ضعف السند.

ولا بأس هنا بالإشارة إلى نكتة، وهي: أنّ أمثال هذه الروايات لو كثرت لم تحقق فائدة التواتر أو الاستفاضة إلاّ إذا وصلت الكثرة إلى حدّ واسع جدّاً وذلك لثبوت احتمال داع مشترك للكذب، وهو الدفاع عن السلطة، وهذا ممّا يضرّ بسرعة حصول القطع بتكثّر النقل.

وهناك نكتة أُخرى ـ ينبغي توضيحها أيضاً ـ وهي: أنّ هذه الروايات ـ بعد غضّ النظر عمّا عرفت من مناقشتها الدلالية ـ لو أُريدت الاستفادة منها كحجّة على مضمونها فقد عرفت أنّها ضعيفة السند، وأنّها حتى لو كثرت لا يتمّ تواترها أو استفاضتها، ولو أُريدت الاستفادة منها بعنوان كسر أجواء المدرسة الإسلامية ـ التي أشرنا فيما سبق إلى أنّها تحقّق الإطلاق في أدلّة الجهاد والقتال، وعندئذ لا يضرّ ضعف أسانيدها؛ لأنّ احتمال صدقها كاف في احتمال انكسار تلك الأجواء، وبالتالي احتمال عدم انعقاد الإطلاق ـ قلنا في مقام الجواب: إنّ هذه الروايات ـ حتى لو تمّت سنداً ـ لا تكسر تلك الأجواء، وذلك لأنّ من الطبيعي في جوّالاختناق المسيطر على وضع الشيعة وقتئذ أن يكثر صدور مثل هذه التصريحات


(1) شرح الصحيفة السجادية ( للمعلم الثالث السيد محمد باقر الداماد ): 69.

65

من الأئمة (عليهم السلام) تقية: إمّا بمعنى التقيّة في أصل الصدور، أو بمعنى إرادة تهدئة الأجواء الثائرة التي لم تكن وفق الحكمة والمصلحة وقتئذ، حيث قد يكون إصدار إطلاقات من هذا القبيل مؤثّراً في تهدئتهم، فتكون المصلحة في إظهار الإطلاق وإن لم يكن الإطلاق مقصوداً حقيقة.

ولا يقال: إنّ هذا خلاف أصالة الجهة.

فإنّه يقال: إنّ التمسّك بأصالة الجهة إنّما يفيد لأجل إثبات حجّية المضمون، ولكنّ الهدف لم يكن الآن عبارة عن الاستفادة من هذه الروايات كحجّة على مضمونها، وإلاّ لورد على ذلك ضعف أسانيدها، وإنما كان الهدف الاستفادة منها كعنصر كاسر للأجواء التي تخلق الإطلاق في أدلّة الجهاد والقتال، وكون صدورها تقيّةً أمراً طبيعياً ومترقّباً باعتبار جوّ الاختناق الحاكم وقتئذ كاف في عدم مساهمتها في كسر الجوّ الخالق للإطلاق في أدلّة الجهاد وإن فرض ذلك خلاف أصالة الجهة.

الطائفة الرابعة: روايات التقيّة:

ومطلقاتها لا تدلّ على المقصود، فإنّها إنما وردت بشأن فضيلة التقيّة في ذاتها، وليست بصدد الإخبار عن تحقّق شروطها المعلومة والمرتكزة ولو إجمالا، فالتمسّك بها في المقام تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية كما هو واضح، وهيمن قبيل:

1 ـ رواية هشام بن سالم بسند تامّ قال: سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام)يقول: ما عُبد اللّه بشيء أحبّ إليه من الخباء. قلت: وما الخباء؟ قال: التقية(1).


(1) وسائل الشيعة 11: 462، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 14.