هذا القسم هو الذي عبّر عنه الفرزدق في كلامه مع الإمام الحسين (عليه السلام) حينما قال: «سيوفهم عليك وقلوبهم معك»(1)؛ فهم يؤمنون بأنّ الإسلام يُنتهك على أيدي بني اُميّة، ولكنّهم لا يستطيعون أن يتحرّكوا، فيتحرّكون إلى جانب بني اُميّة، ويحملون السيوف ضدّ الإمام الحسين (عليه السلام).
القسم الثاني: الذين عزّت عليهم نفوسهم وهان عليهم الإسلام:
هذا القسم(2) ـ والذي كان يمكن أن يشمل عدداً كبيراً أيضاً ممّن شملهم القسم الأوّل ـ هو ذاك القسم الذي هان عليه الإسلام نفسُه، لا
(1) المعروف أنّه قول الفرزدق، راجع: تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:386 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت، والأخبار الطوال: 245 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم، ومقاتل الطالبيّين: 111 بحسب طبعة دار المعرفة ببيروت.
(2) ذكر السيّد الشهيد الصدر (قدس سره): أنّه حينما يقسّم لا يقصد من ذلك: التقسيم الحدّي، بحيث لا ينطبق قسمان منهما على فرد واحد، فهناك عناوين أربعة، ويمكن أن يتصادق عنوانان من هذه العناوين على فرد أو أفراد في الاُمّة الإسلاميّة.
هانت عليه نفسه، بل هان عليه نفس الإسلام والرسالة؛ فلم يعد يهتمّبالرسالة بقدر اهتمامه بمصالحه الشخصيّة، تضاءلت أمامه الرسالة، وكبر أمامه وجوده ومصلحته واعتباراته ودراهمه.
هذا القسم فرقُه عن القسم الأوّل: أنّ القسم الأوّل كان يشعر بالمصيبة، لكن لم يكن يستطيع الحلّ، من قبيل المدخّن الذي يشعر بأنّ الدخان ضرر عليه لكنّه لا يستطيع أن يتركه. وأمّا القسم الثاني فمن قبيل المدخّن الذي لا يعرف أنّ الدخان يضرّه.
القسم الثالث: البسطاء الذين تنطلي عليهم المخطّطات الاُمويّة:
هذا القسم هو قسمٌ من الاُمّة من الأفراد المغفّلين الذين كان بالإمكان أن تنطلي عليهم حيلة بني اُميّة لو سكت صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأجمعوا على السكوت عن تحويل الخلافة إلى كسرويّة وقيصريّة.
في عهد معاوية بن أبي سفيان طرأ على نفس مفهوم الخلافة ـ بقطع النظر عن الشخص الذي يتقمّص هذا الثوب، وأنّه محقّ أو معتد ـ تغيّر أساسي، ولم تعد الخلافة حكماً للاُمّة، وإنّما هي كسرويّة وقيصريّة
بلغة صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله) حينما كانوا يقولون: إنّ معاوية حوّل الخلافة إلى حكم كسرى وقيصر(1).
هذا التحويل ـ أي: التحويل في المفهوم بهذه الدرجة الخطيرة، والذي كان يمارسه معاوية، وكان يحاول أن يلبسه الثوب الشرعي ـ لو أنّه تمّ دون مجابهة من قبل الصحابة ومع سكوت من قبلهم، لأمكن أن تنطلي حيلة معاوية على كثير من السذّج والبسطاء وأنصاف البسطاء، الذين يقولون بأنّ هذا التحويل شرعي بدليل إمضاء الصحابة لذلك.
القسم الرابع: البعيدون عن حيثيّات الأحداث في قلب الدولة الإسلاميّة:
هناك قسمٌ رابع ـ أو بالإمكان أن نفترض قسماً رابعاً ـ يرتبط بمسألة تنازل الإمام الحسن (عليه السلام)؛ فإنّ تنازل الإمام الحسن (عليه السلام) عن
(1) قالها ـ مع تفاوت ـ عبدالله بن عمر في حياة معاوية. الإمامة والسياسة 1:196 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت. وقالها عبد الرحمن بن أبي بكر لمروان عند إرادة أخذ البيعة ليزيد. المنتظم في تاريخ الاُمم والملوك 5: 299 بحسب الطبعة الاُولى لدار الكتب العلميّة ببيروت.
المعركة مع معاوية وإعلانه الهدنة مع معاوية(1) لم يكن ـ في أكبر الظنّ ـ مكشوفاً بالدرجة الكافية الواضحة إلّا داخل دائرة الجماهير الكبرى في العالم الإسلامي التي كانت تعيش المأساة عن قرب، من قبيل الكوفة، ومن قبيل العراق بشكل عامّ، والتي كانت بيدها خيوط الحكم في العالم الإسلامي.
وأمّا ذاك الإنسان الواقع في آخر حدود العالم الإسلامي ـ في أقاصي خراسان مثلاً ـ ولم يكن يعيش المحنة يوماً بعد يوم، ولم يكن يكتوي بالنار التي اكتوى بها الإمام الحسن (عليه السلام) في الكوفة من قواعده وشيعته وطائفته وأعدائه، وإنّما تجيئه الأخبار عبر المسافة ما بين الكوفة وأطراف خراسان مثلاً، ذاك الإنسان لم يعرف بشكل واضح شيئاً محدّداً عن هذا التنازل: أَ هو اعترافٌ بشرعيّة الاُطروحة الاُمويّة؟ أم هو تصرّف اقتضته الضرورة والظروف الموضوعيّة التي كان يعيشها الإمام الحسن (عليه السلام) ؟
(1) راجع: كتاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، المحاضرة الرابعة عشرة: 381، والمحاضرة الخامسة عشرة: 407.
مبرّرات الإمام الحسين(عليه السلام) في اختيار (الموقف الرابع)
رفض المبايعة وهزّ ضمير الاُمّة بحيثيّات الخروج
فكان لابدّ للإمام الحسين (عليه السلام) أن يختار موقفاً يعالج فيه هذه الأقسام الأربعة من الاُمّة الإسلاميّة، وعن طريق النقاط الأربعة:
1 ـ كان لابدّ وأن يختار الموقف الذي يستطيع به أن يُرجع للقسم الأوّل من الناس إرادتهم التي فقدوها بالتمييع الاُموي.
2 ـ وأن يختار الموقف الذي يحاول به أن يرجع إلى القسم الثاني من الناس إيمانهم بالرسالة وشعورهم بأهمّيّة الإسلام.
3 ـ وأن يختار الموقف الذي يحاول فيه أن لا يجعل هناك دليلاً لمعاوية على شرعيّة تحويل الخلافة إلى كسرويّة وقيصريّة، وذلك عن طريق معارضة الصحابة ـ المتمثّلة فيه، وفي البقيّة الباقية من الصحابة والتابعين ـ لعمليّة التحويل هذه.
4 ـ وكان لابدّ وأن يختار الموقف الذي يشرح فيه ـ حتّى لمن كان بعيداً عن الأحداث ـ أنّ تنازل الإمام الحسن (عليه السلام) لم يكن معناه أنّ أهل البيت (عليهم السلام) أمضوا عمليّة التحويل وأنّهم باركوا اُمويّة معاوية
وحكم معاوية واُطروحة أبي سفيان، وإنّما كان موقفاً تحكمه الظروفالموضوعيّة وقتئذ.
كان لابدّ له أن يختار الموقف الذي يشرح فيه كلّ هذا، ويردّ فيه على كلّ هذا، ويعالج هذه الأقسام الأربعة من الاُمّة الإسلاميّة، ولم يكن بإمكان أيّ موقف أن يحقّق كلّ هذا إلّا الموقف الأخير، كما سيتّضح في استعراض ومناقشة المواقف الثلاثة الاُولى:
الموقف الأوّل: مبايعة يزيد بن معاوية:
الموقف الأوّل هو أن يبايع يزيد بن معاوية.
وهذا لم يكن بالإمكان أن يحقّق أيّ مكسب على مستوى هذه الأقسام الأربعة. وقد كان التحويل هنا تحويلاً على مستوى مفهوم الخلافة، كان المفهوم يتحوّل، لا أنّ مجرّد الشخص يتحوّل.
وهذه العمليّة ـ عمليّة التحويل المفهومي، التي أصبحت هي الأساس بعد هذا لتاريخ المسلمين ـ لم يكن بالإمكان أن تمضي دون أن يقف الصحابة ـ الممثّلون لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ وأهل البيت (عليهم السلام) ـ الذين هم القادة الحقيقيّون للصحابة ـ الموقفَ الدينيَّ الواضح المحدّد من عمليّة التحويل هذه.
الموقف الثاني: رفض المبايعة مع البقاء في المدينة أو مكّة:
الموقف الثاني هو أن يظلّ الإمام الحسين (عليه السلام) في المدينة أو في مكّةويرفض البيعة. حينما يرفض البيعة يبيّن بذلك شجبه لعمليّة التحويل، ولكنّه يظلّ باقياً في مكّة أو المدينة حتّى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
والإمام الحسين (عليه السلام) نفسه كان يؤكّد ـ والظروف الموضوعيّة كلّها كانت تشهد على طبق تأكيده، بقطع النظر عن إمامته وعصمته ـ أنّه لو بقي في المدينة أو في مكّة لقتل من قِبل بني اُميّة وبنو اُميّة لا يدعونه حتّى يقتلوه ويغتالوه، ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة.
وهذا القتل الضائع لم يكن يحقّق ذلك المكسب الذي يريده على مستوى هذه الأقسام الأربعة.
صحيحٌ أنّه يقتل في سبيل امتناعه عن مبايعة يزيد بن معاوية، لكن أين هذا من ذاك القتل الذي استطاع أن يحرّك البقيّة الباقية من عواطف المسلمين تجاه نبيّهم ورسالتهم وقرآنهم؟!
الناس حينما يفتقدون إيمانهم بالدين أو إيمانهم بأيّ عقيدة، تبقى عندهم مجموعةٌ من العواطف بعد انطفاء العقيدة، ولكي يمكن إرجاعهم إلى تلك العقيدة لابدّ من تحريك هذه العواطف.
وهذه العواطف لم يكن بالإمكان تحريكها في قتل عابر سهل من
هذا القبيل، وإنّما كان لابدّ لكي تتحرّك هذه العواطف من أن تحشد كلُّالمثيرات وكلّ المحرّكات وكلّ المنبّهات لهذه العواطف، إلى درجة أنّ عمر بن سعد بنفسه يبكي ويُصدر الأوامر بالسلب والنهب في بقيّة الإمام الحسين (عليه السلام).
الموقف الثالث: اللواذ بثغر من ثغور المسلمين:
الموقف الثالث هو أن يذهب إلى ثغر من ثغور المسلمين، يذهب إلى اليمن مثلاً ـ وله شيعة في اليمن على ما شهد أخوه محمّد بن الحنفيّة(1) ـ ويبقى هناك.
ولعلّ هذا كان أنفع أو أسلم على الخطّ القصير؛ لأنّه يمكِنُه في اليمن أن يعتصم من يزيد بن معاوية إلى برهة من الزمن. ولكنّه سوف لن يحقّق بذلك المكسب المقصود؛ لأنّه بهذا سوف ينعزل ويتقوقع ويحيط نفسه بإطار منغلق، بينما مسرح الأحداث وقتئذ كان هو الشام والعراق والمدينة ومكّة في كلّ العالم الإسلامي.
(1) راجع: تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:342 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت، والفتوح 5:20 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت، حيث قال له: «فإنّهم أنصار جدّك وأخيك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً، وأوسع الناس بلاداً، وأرجحهم عقولاً».
فكان لابدّ أن يباشر عمليّته على مسرح الأحداث حتّى يمكن لهذه العمليّة أن تنعكس على كلّ العالم الإسلامي، ويمكن لهذه العمليّة أن تؤثّر تربويّاً وروحيّاً وأخلاقيّاً ودينيّاً في كلّ العالم الإسلامي.
ولماذا يذهب إلى زاوية من الزوايا فيعيش هناك؟ لأجل أن يُنشئ مجتمعاً إسلاميّاً؟!
هذا هو الشيء الذي لم يكن بالإمكان على عهد أبيه (عليه السلام) في الكوفة، التي كان فيها عددٌ كبير من البقيّة الصالحة من الصحابة والتابعين، كانت الظروف الموضوعيّة لا تسمح بذلك في الكوفة لعليٍّ (عليه السلام)، فكيف تسمح بذلك للحسين (عليه السلام) في اليمن؟!
أو يذهب لليمن لكي يمدّد عمره برهة أطول؟!
مثل هذا لا يتّفق مع مقصوده (عليه السلام)، هو يريد أن يعيش على مسرح الأحداث لكي يستطيع بذلك أن يساهم في التغيير الذهني والروحي والنفسي للاُمّة الإسلاميّة.
الموقف الرابع: رفض المبايعة وهزّ ضمير الاُمّة بحيثيّات الخروج:
ولهذا كان لابدّ له (عليه السلام) أن يختار الموقف الرابع الذي استطاع به:
1 ـ أن يهزّ ضمير الاُمّة من ناحية.
2 ـ وأن يشعر الاُمّة ـ من ناحية اُخرى ـ بأهمّيّة الإسلام وكرامته،
هذا الدين الذي ضحّى هو (عليه السلام) بنفسه وبالصفوة من أولاده وأهله وكلّ كراماته واعتباراته في سبيله.
3 ـ واستطاع ـ من ناحية ثالثة ـ أن يدفع عمليّة التحويل ـ تحويل الخلافة إلى كسرويّة وقيصريّة ـ بدليل على البطلان لا يمكن أن ينطفئ إلى يوم القيامة.
4 ـ ومن ناحية رابعة أوضح لكلّ المسلمين مفهوم التنازل عند الإمام الحسن (عليه السلام)، وأنّ تنازل الإمام الحسن (عليه السلام) لم يكن إمضاء، وإنّما كان اُسلوباً تمهيديّاً لموقف الإمام الحسين (عليه السلام).
اللّهمّ اكتبنا من شيعته، واحشرنا معه ومع المتولّين له، بجاه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين آمين ربَّ العالمين.
4النهضة الحسينيّة
مقوّمات
ثورة الإمام الحسين(عليه السلام)
°. ـ المقوّمات الشخصيّة للثائر.
°. ـ الحجّة.
°. ـ الشعار.
°. ـ المقوّم العاطفي.
جاءت(1) واقعة الطف ـ كقضيّة مأساويّة مثيرة ـ لتحرّك في الاُمّة ضميرها وتعيدها نحو رسالتها، وتبعت شخصيّتها العقائديّة من جديد. وكان من اللازم أن يقوم بهذا الدور مجموعةٌ من الناس قادرون ـ بما يمتلكون من قدرات ومقوّمات ـ على جعل دورهم فاعلاً ومؤثّراً في حياة هذه الاُمّة الميْتة مع إدراكها، كما يصوّر الفرزدق الناسَ بقوله للإمام (عليه السلام)، قال: «سيوفهم عليك وقلوبهم معك»(2).
وكانت أهمّ هذه المقوّمات ما يلي:
(1) راجع: كتاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، المحاضرة الثامنة عشرة: 483 بحسب الطبعة الثالثة والمحقّقة من قِبل اللجنة التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر (قدس سره).
(2) راجع: تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:386 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
1 ـ المقوّمات الشخصيّة للثائر:
إنَّ الثائر الذي يقود جبهة الحقّ كان إماماً معصوماً يمتلك كلَّ المواصفات القدسيّة بنصّ حديث الرسول (صلى الله عليه وآله): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1)؛ فهذه الصفة القدسيّة التي يمتلكها الحسين (عليه السلام) تدركها الاُمّة، خصوصاً مع وجود عدد غير قليل من الصحابة الذين عاصروا الرسول (صلى الله عليه وآله)، وسمعوا منه (صلى الله عليه وآله) تلك الأحاديث بشأن هذا الإمام (عليه السلام).
وبالإضافة إلى ذلك، فالإمام (عليه السلام) يمتلك عنصر النَسَب الذي لا تشوبه شائبة ولا يناله شكّ: أبوه علي (عليه السلام)، واُمّه فاطمة (عليها السلام) وجدّه الرسول (صلى الله عليه وآله)، والصحابة يتذكّرون حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) بشأنه: «حسين منّي وأنا من حسين»(2)، ويدركون هذا التمازج الروحي والتمازج النَسَبي.
(1) علل الشرائع 1:211 بحسب طبعة منشورات المكتبة الحيدريّة بالنجف.
(2) الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 2:127 بحسب طبعة دار المفيد ببيروت.
والحسين (عليه السلام) يمتلك الجاه والشرف، كيف لا! وهو محطُّ أنظار المسلمين وكهف المستغيثين واللاجئين، ويمتلك الإمامُ المالَ والثروة.
أتذكرون يوم عاشوراء حينما خاطب (عليه السلام) اُخته الحوراء قائلاً: «ناوليني ملابس استبدل بها ملابسي هذه لئلاّ يطمع القوم فيها فيسلبونيها؟»، فلمّا أعطته ملابس رديئة بالية، قال لها مستنكراً: «أَوَيلبس ابن أبيك مثل هذا؟!»(1). فلو كان لباسه الأوّل عاديّاً لقبل تلك الخرق البالية، فلابدّ أن يكون لباسه في أوّل الأمر من أفخر الألبسة وأثمنها. والروايات تذكر أنّ القافلة الهاشميّة كانت محمّلة بالأموال الكثيرة(2)؛ فالحسين (عليه السلام) كان يمتلك كلّ المقوّمات الشخصيّة للقداسة: الشرف والجاه، الغنى والثروة والعصمة.
(1) لم نعثر عليه بهذه الصيغة. نعم، ورد أنّه (عليه السلام): «دعا بسراويل محقّقة يلمع فيها البصر، يماني محقّق، ففرزه ونكثه لكي لا يُسلَبَه، فقال له بعض أصحابه: لو لبست تحته تبّاناً. قال: ذلك ثوب مذلّة». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:541 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
(2) قد يستفاد ذلك من حمل الإمام الحسين (عليه السلام) الورس والحلل في طريقه إلى العراق. المصدر السابق: 385.
2 ـ الحجّة:
ولكي لا تكون الثورة هامشيّة فلا تعطي ثمرتها المرجوّة، فقد كان الثائر يمتلك الوثائق الكفيلة بإضفاء المشروعيّة على هذه الثورة، وأنّها الحلّ الوحيد والخيار الذي لا بديل له.
فقد كانت الرسائل الواردة من زعماء العراق ـ ومن الكوفة خاصّة ـ من الإمام (عليه السلام) بإلحاح القدومَ إلى العراق، وكان مضمون هذه الرسائل ـ كما تنقل الروايات ـ: «أقدم على جند لك مجنّدة؛ فقد طاب الجنان واخضرّ المقام»(1).
ولا شكّ في أنّ عدم تلبية الإمام لهذه الطلبات ـ التي تقدّر على أقلّ الروايات باثني عشر ألف رسالة ـ سيلزم الإمام (عليه السلام) الحجّة في تفويته للفرصة. وبالعكس، فإنّ المجيء سيلزم الاُمّة الحجّة إن هي خانت.
والأمر الآخر هو أنّ الإمام (عليه السلام) كان أمام التهديد الاُموي إن هو لم يبايع، ولو بايع فإنّه سيعطي في مثل هذه الحالة الوثيقةَ الشرعيّةَ
(1) «فقد اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، وطمّت الجمام، فإذا شئت فأقدم على جند لك مجنّد». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:353، 425 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
للحكّام الاُمويّين الظَلَمَة، وسيطفئ بالتالي بصيصَ الأمل الذي ترصده الاُمّة في تلك الشخصيّة المعارضة، أعني شخصيّة الإمام.
وفي حالة رفضه فإنّه أمام خيارين:
أ ـ إمّا الموت الذي قرّره الاُمويّون له، ولو كان متعلِّقاً بأستار الكعبة.
ب ـ وإمّا الرحيل إلى إحدى المناطق التي يمتلك فيها شعبيّة وشيعة، ولا تتعدّى هذه المناطق: اليمن، الكوفة والبصرة. ومن المعلوم أنّ الطلب الاُموي سوف يلاحقه في هذه المناطق بلا فرق.
ومادامت الكوفة تحتوي أكثر القواعد الشعبيّة المؤيّدة له (عليه السلام)، بالإضافة إلى الطلب الشديد من قبل أهلها، فإنّ الخيار الصحيح لابدّ أن يكون بالرحيل إلى الكوفة عاصمة أبيه أميرالمؤمنين (عليه السلام).
ولهذا رفض الإمام (عليه السلام) إلحاح أخيه محمّد بن الحنفيّة وممانعته من الذهاب إلى الكوفة(1)، كما رفض طلب ابن عبّاس (رحمه الله) الذي أشار على الإمام (عليه السلام) بالذهاب إلى اليمن(2).
(1) المصدر السابق: 342.
(2) المصدر السابق: 383.
3 ـ الشعار:
ولكي لا تشوّه هذه الثورة، خصوصاً وأنّ الإمام (عليه السلام) قد علم بخيانة أهل الكوفة، وكيف أنّهم قتلوا رسوله مسلم بن عقيل (عليه السلام) وصاحبه هانئ بن عروة، وشرّدوا بقيّة الأنصار، واعتقلوا قسماً منهم.. إنّ هذه الصورة جعلت الإمام الحسين (عليه السلام) أمام مواجهة عسكريّة لا مناص منها.
ولكي لا تشوّه هذه الثورة كما قلنا، فقد أعلن الحسين (عليه السلام) عن أهدافها وطرح شعاراتها ابتداءً من المدينة حتّى يوم المجزرة الكربلائيّة؛ فهو يقول: «والله إنّي ما خرجت أشِراً ولا بطِراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي، لآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»(1).
ثمّ إنّه وضع الاُمّة أمام الخيارات التي لا مناص منها ليجعل من ثورته الاُسلوبَ الوحيدَ أمام التحدّيات الكافرة؛ فبعد أن التقى الحرَّ
(1) «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب النجاح والصلاح في اُمّة جدّي محمّد، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر». الفتوح 5:21 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
بن يزيد الرياحي قال (عليه السلام): «هذه أرض الله واسعة، فدعوني أذهب وشأني»، أو ما يقارب هذه العبارة.
وفي هذه الكلمة ـ في أقلّ تقدير ـ أن يُترَك الإمام (عليه السلام) يختار حياة العزلة، ولكنّ جيش الحرّ رفض التخلّي عن أوامر السلطة الجائرة، فجعجعوا به إلى كربلاء(1).
وهناك أيضاً وضع أصحابه أمام الخيار، فلم يُرِدْ إقحامهم في معركة خاسرة من الناحية العسكريّة، لذا جمعهم ليلة العاشر من المحرّم ثمّ خطبهم وقال: «إنّ هذا الليل قد أرخى سدوله فاتّخذوه جملاً، ليس عليكم منّي ذمام»(2). ولقد رفض هؤلاء الأخيار هذا الطلب حينما قام زهير بن القين فقال: «ماذا نقول للعرب؟! ـ وفي رواية: لجدّك ـ أَيقتل ابن بنت رسول الله ونظلّ أحياء؟! لا والله! لا نفعل ذلك أبداً»، وقال غيره مثل قوله(3).
(1) المصدر السابق: 77.
(2) «ليس عليكم منّي ذمام، هذا ]الليل[ قد غشيكم، فاتّخذوه جملاً». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:418 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
(3) القول لبني عقيل: «فما يقول الناس؟! يقولون إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا! لا والله! لا نفعل، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا، ونقاتل معك حتّى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك»، ثمّ قال سعيد بن عبدالله الحنفي وزهير بن القين قريباً من مقالتهم. راجع: المصدر السابق: 419.
ولمّا كانت المواجهة حتميّة، وكان السيف هو الحَكَم الفصل، أصرّ الإمام الحسين (عليه السلام) على خوض هذا الحرب.
وعلى كلّ حال، فقد وضع الإمام الحسين (عليه السلام) أهداف الثورة أمام عينيه منذ حركته من المدينة حتّى مصرعه في الطف، بل واصلت اُخته الحوراء (عليها السلام) حمل تلك الرسالة، فكانت الوسيلة الإعلاميّة التي تذيع أخبار الثورة، والمِعْوَلَ الهدّام في العرش الاُموي الحاكم.
4 ـ المقوِّم العاطفي:
وهو عمليّة إثارة المشاعر في نفوس المسلمين الذين لم تحرِّك الأفكار المنطقيّة عقولهم.
ويلاحظ المقوِّم العاطفي في الثورة الحسينيّة من خلال اُسلوبين:
الاُسلوب الأوّل: إشراك العقائل من الهاشميّات في الثورة، بالإضافة إلى اشتراك الأطفال، بالدرجة التي يساهم فيها رضيعٌ وَلَدٌ
في اليوم العاشر من المحرّم أثناء المعركة؛ فإنّ وجود نساء البيت العلوي ومخدّرات الهاشميّين في خضم هذه المحنة لابدّ أن يثير في النفوس العطف، وفي القلوب الانكسار، مهما كانت تلك النفوسُ متوحّشةً والقلوبُ قاسية.
أمّا الأطفال، فقد قدّمتهم الثورة كدليل على أنّ هؤلاء القوم الذين يحاربون خوفاً وطمعاً قد بلغ بهم الأمر ـ حينما نسوا الله فأنساهم ذكر أنفسهم(1)، بلغ بهم الأمر ـ حدّاً لا يوصف من الدناءة والوضاعة واللؤم، فلهذا خاطبهم الحسين (عليه السلام) بقوله: «إن كان الذنب ذنب الكبار، فما هو ذنب هؤلاء الأطفال؟»(2).
(1) قال تعالى: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون). الحشر: 19.
(2) «ويلكم! إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا في أمر دنياكم أحراراً ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهّالكم». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:450 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت. و«إنّي اُقاتلكم وتقاتلوني، والنساء ليس عليهنّ جناح». مثير الأحزان: 73 بحسب الطبعة الثالثة لمنشورات مدرسة الإمام المهدي (عليه السلام) بقم. و«إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل». تذكرة الخواصّ: 227 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.
وبهذه المشاركة أضاف للثورة رصيداً عاطفيّاً ضخماً، جعلها تحتلّ مركز القمّة بين الفواجع على طول التاريخ، وتحرّك مشاعر المسلمين وعواطفهم وأحاسيسهم إلى يومنا هذا.
والاُسلوب الثاني: اُسلوب التذكير والوعظ الذي استخدمه الإمام (عليه السلام) وصحبه (رضوان الله عليهم)؛ فلقد ذكَّر الإمامُ القومَ بقوله: «انسبوني من أنا، أَلستُ ابن بنت نبيّكم؟»(1)، ثمّ يقول: «لم تحاربونني؟! أَلِسُنّة غيّرتها أم لبدعة ابتدعتها؟!»(2). وفي موضع آخر يقول: «إن لم يكن لكم دينٌ وكنتم عرباً كما تزعمون، فكونوا أحراراً في دنياكم»(3)؛ ذلك في إشارة منه للقوم حينما هجموا على بيوت عقائل الرسالة، إلّا أنّهم
(1) «فانسبوني فانظروا من أنا.. ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه؟!». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:424 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
(2) «أتقتلوني على سنّة بدّلتها؟! أم على شريعة غيّرتها؟!». ينابيع المودّة لذوي القربى 3:80 بحسب الطبعة الاُولى لدار الاُسوة للطباعة والنشر بقم.
(3) «إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون». اللهوف على قتلى الطفوف: 120 بحسب طبعة منشورات جهان بطهران.
وصلوا حدّاً لم ينسوا دينهم فحسب، بل نسوا حتّى أعرافهم العربيّة التي تعوّدوها وتسالموا عليها.
ولهذا أيضاً نجد الإمام (عليه السلام) يصف حال الناس بقوله: «والدين لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون»(1).
وعلى ضوء ما سبق نكون قد رسمنا صورة موجزة لمقوّمات الثورة من جهة ولحالة الاُمّة أيضاً: فالاُمّة ـ كما قلنا ـ بلغت حالة الاحتضار أو الموت، لا تقوى على المعارضة، وتعيش أزمة معقّدة من الخوف، في الوقت الذي يحاول الحكّام جرَّ الاُمّة إلى الهاوية، وقتل روح العزّة والكرامة، وتفتيت كيانها الحضاري، وإبعادها عن رسالتها السمحاء.
(1) كشف الغمّة في معرفة الأئمّة (عليهم السلام) 2:32 بحسب طبعة مكتبة بني هاشم بتبريز.