لحصل الذي حصل لمن سبقنا من الاُمم.
النهضة الحسينيّة:
أجل، إنّ جانباً من أسرار هذه المهمّة الرساليّة والدور التاريخيّ الكبير تجده ـ أيّها القارئ الكريم ـ في سطور هذا السفر الجليل والذي تسمّى بـ (النهضة الحسينيّة) مقتبساً من محاضرات علَمين من أعلام الدين وفقيهين جليلين: أحدهما: المرجع الفقيد والإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره)، والذي دوّنت محاضراته في كتابه المعنون بـ (أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة). وثانيهما: الفقيه الكريم والمرجع العظيم سماحة السيّد كاظم الحسينيّ الحائريّ دام ظلّه، والذي دوّنت محاضراته في كتابه المعنون بـ (الإمامة وقيادة المجتمع) مع شيء من التصرّف في العبارة بما يناسب حال كتابنا الحاضر.
فكتابنا الحاضر ـ إذاً ـ يركّز الكلام على الملحمة التاريخيّة والدور الرساليّ العظيم الذي تبنّاه الإمام الشهيد والسبط الرشيد سيّد شباب
أهل الجنّة الحسين بن عليّ وأهل بيته وصحبه البررة (عليهم السلام) في ملحمةعاشوراء الخالدة على أرض كربلاء المقدّسة، ودورهم في تحصين الرسالة من الضياع، والاُمّة من الاُفول والزوال، تاركين شرح وتوضيح ما اضطلع به باقي أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) من أدوار على نفس الصعيد إلى مضانّها من الكتب التي بحثت ذلك مكتفين بالإشارة المختصرة في كتابنا الحاضر.
فلو أنّ اُمّة ورسالة تعرّضت لما تعرّض له الإسلام ومصالحه واُمّته في عصره الأوّل لما بقي من معالمها شيء، ولحرّفت كما حرّفت الديانات السابقة وتلاشت في متاهات الانحرافات والرؤى، فإنّ الاُمّة عندما تفقد مقدّساتها تخمد، ولن تصارع ولا تكافح من أجل دينها ومبادئها، وتصبح عرضة لأطماع الطامعين ومؤامرات المتربّصين.
فالحسين السبط (عليه السلام) بملحمته الخالدة وبدمه الطاهر وتضحيته الفريدة بنفسه الزكيّة والخيرة من أهل بيته وصحبه أدام للرسالة حياتها وللاُمّة وعيها ويقظة ضميرها وهيجان عاطفتها وتحسّس وجدانها تجاه رسالتها ومقوّمات وجودها، لذا كان الهدف المطلوب من وراء إعداد هذا الكتاب هو بيان معالم وأهداف هذه النهضة المباركة والملحمة الخالدة التي سطّرها سيّد شباب أهل الجنّة (عليه السلام).
أجل كان ما سطّره (عليه السلام) في نهضته الخالدة هو الهدف النهائيّ من هذا الكتاب لما انتهى إليه بحركته الربّانيّة ومشروعه التضحويّ
الرساليّ، فصار الميزان الواضح والقسطاس المستقيم في تشخيص ماهو حقّ وثابت، وتمييزه عمّا هو باطل وزائف، وفرقان ما هو عدل وقسط عمّا هو بطلان وظلم، وكان بمظلوميّته وعظيم المأساة التي حلّت به وبأهل بيته ذا النفوذ العاطفيّ العميق في أحاسيس الاُمّة وعواطفها، والمنبّه الأقوى لوجدانها وضميرها، ومن ثمّ يقظتها وتحرّكاتها، ويشهد لهذا ما ورد عن ابن سنان عن جعفر بن محمّد (عليه السلام) قال: «نظر النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى الحسين بن عليّ (عليه السلام) وهو مقْبِل فأجلسه في حجره وقال: إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تَبْرُدُ أبداً. ثمّ قال (عليه السلام): بأبي قتيل كلّ عَبْرَة. قيل: وما قتِيل كلّ عَبْرَة يا ابن رسول الله؟ قال: لا يذْكُره مؤمن إلّا بَكى»(1).
فكان مصباح الهدى وسفينة النجاة لهذه الاُمّة الممتحنة، بمبادئه تستنير دربها وتسترشد طريق الهداية وسبيل الرشاد، وبتضحياته وتفانيه من أجل العقيدة تشحذ هممها وقدرتها على التضحية والاستشهاد، وتستعيد مجدها ومكانتها، وتصدّ المتربّصين بها وبمستقبل رسالتها.. فكان الحسين (عليه السلام) مدرسة للوعي واليقظة والثورة والتضحية عبر التاريخ حيث أسقطت مبادؤه حكم بني اُميّة
(1) مستدرك الوسائل للمحدّث النوريّ 10:318 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث بقم المقدّسة.
وقضى على أركانهم، وقارع الثوّار بشعارات ثورته وبطلب الثأرلدمه الزكيّ تحت لواء «الرضا من آل محمّد»(1) أركان دولة الظلم، بل
(1) روى الشيخ الكلينيّ (رحمه الله) عن عيص بن القاسم قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: «...إن أتاكم آت منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون، ولا تقولوا: خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً، وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، إنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد (عليهم السلام)، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه، فالخارج منّا اليوم إلى أيّ شيء يدعوكم: إلى الرضا من آل محمّد (عليهم السلام)؟ فنحن نشهدكم أ نّا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منّا إلّا مع من اجتمعت بنو فاطمة معه..». الكافي 8:264 بحسب طبعة دار الكتب الإسلاميّة بطهران، الطبعة الرابعة.
وروى النعمان بن محمّد المغربيّ عن محمّد بن سلام الكوفيّ، بإسناده عن عبدالله بن الحسن: «أنّه كان في أيّام بني اُميّة إذا خلا بمن يثق به ذكر له سرّ أحوال بني اُميّة، وأومى إلى القيام عليهم. فلمّا ظهر أبو مسلم بخراسان، سكت عن ذلك. فقيل له: هذا أبو مسلم قد قام يدعو إلى الرضا من آل محمّد (صلى الله عليه وآله)، ولبس السواد، وسوّد راياته على الحسين (عليه السلام)، وقد كنت تذكر مثل هذا، وأنت اليوم لا تذكره، فما الذي فيه؟...». شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار للقاضي أبي حنيفة النعمان بن محمّد التميميّ المغربيّ 3:417 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم المقدّسة.
كان من أهمّ المعالم في الثورات التي حدثت بعد شهادته.
فكان لابدّ من هذا الكتاب الذي يجمع بين دفّتيه صورة من تلك المواقف الباسلة والتضحيات الخالدة. كيف لا وقد أصلح مسار اُمّة جدّه محمّد (صلى الله عليه وآله) وهو القائل: «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي (صلى الله عليه وآله)، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر...»(1). كيف لا ونحن اليوم وبحكم الظروف الراهنة بحاجة ماسّة إلى تهيئة العناصر التي تشدّ الاُمّة بأهداف الحسين (عليه السلام) ومبادئ نهضته، وإلى يقظة حسينيّة تقوم على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعادة الإصلاح إلى ما فسد من الاُمور في بلدنا الإسلاميّ وعراقنا الحبيب، بل نرى ضرورة أن يستمرّ هذا النهج على مسارين:
الأوّل: أن يتبنّى علماء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) قيادة ساحات العمل في وسط الاُمّة وتوجيه حركة النهضة الحسينيّة ميدانيّاً وبكلّ إمكاناتهم المتاحة، وتنمية المشاعر الفوّارة تجاه مأساة الحسين بما يخدم المصالح الإسلاميّة ومستقبل وضع الاُمّة.
والثاني: أن يقتدي مثقّفو الاُمّة ومفكّروها وإعلاميّوها بالمرجعيّة
(1) بحار الأنوار للعلاّمة المجلسيّ 44:329 بحسب طبعة دار إحياء التراث العربيّ ببيروت، الطبعة الثالثة.
الرشيدة ويكونوا بحقّ ذراعها العاملة ولسانها الناطق في الاُمّة سيّما في ما يتعلّق بنهضة الحسين (عليه السلام) وقيمه ومبادئ ثورته العظيمة، والسعي نحو تجسيد شعاراته التي تعدّ مبادئ ثورته وتجسيد الثقافة القائمة على ما صدح به من قبيل: «ألا ترون الحقّ لا يعمل به، والباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برما»(1). و«ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين: بين الذلّة والسلّة، هيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام»(2).
فكان كتابنا (النهضة الحسينيّة) خطوة في هذا الطريق الطويل مستلهمين مباحثه وأفكاره ـ كما أسلفنا ـ ممّا كتبه العلَمان المفكّران: المرجع الشهيد الصدر (قدس سره)، والمرجع المعظّم سماحة السيّد الحائري دام ظلّه، مع حفاظنا على الاُسلوب الإلقائيّ الذي تميّز به كتاب (أئمّة
(1) المصدر السابق: 192، وتحف العقول عن آل الرسول لابن شعبة الحرّانيّ: 245 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم المقدّسة.
(2) بحار الأنوار للعلاّمة المجلسيّ 74:162 بحسب طبعة دار إحياء التراث العربيّ ببيروت، الطبعة الثالثة، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3:250 بحسب طبعة مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ بقم المقدّسة.
أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة) الذي جمعت فيه محاضرات السيّد الشهيد الصدر؛ إذ لم نرَ في تحويل الاُسلوب الإلقائيّ المتّبع في المحاضرة إلى الصياغة الإنشائيّة المتّبعة في الكتابة إلّا تضييعاً لبعض محاسن ذلك الاُسلوب من كونه أكثر تأثيراً في القارئ، وأشدّ نفوذاً إلى قلب المخاطَب، وأبلغ في إيصال الفكرة إليه ممّا عليه الاُسلوب الآخر.
هذا، وقد ذكرنا مصادر البحوث التي نقلناها عن ذلك الكتاب في هامش الصفحات، مع اعتمادنا على تخريج مصادر النصوص على ما هو مخرّج في هامش صفحات كتاب (أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة) الذي تمّ تحقيقه من قِبل اللجنة التابعة لمؤتمر الشهيد الصدر (قدس سره).
والسلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.
النهضة الحسينيّة
° مراحل تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) .
° موقف الإمام الحسين (عليه السلام) من طمس معالم النظريّة الإسلاميّة وتمييع الاُمّة.
° الإمام الحسين (عليه السلام) ومبرّرات رفض البيعة.
° مقوّمات ثورة الإمام الحسين (عليه السلام).
° مشاهد موت الإرادة في المجتمع الحسيني.
° التحوّل من أخلاقيّة الهزيمة إلى أخلاقيّة الإرادة.
° نماذج مهمّة من الآراء في تفسير ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ودراستها.
1النهضة الحسينيّة
مراحل تاريخ أهل البيت(عليهم السلام)
° مرحلة تفادي صدمة الانحراف.
° مرحلة بناء الكتلة الصالحة.
° مرحلة التوسّع والإعداد لتسلّم الحكم.
يمكن تقسيم تاريخ الأئمّة (عليهم أفضل الصلاة والسلام) بعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلى ثلاث مراحل(1):
المرحلة الاُولى: مرحلة تفادي صدمة الانحراف:
المرحلة الاُولى هي مرحلة تفادي صدمة الانحراف، والإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين والإمام عليّ بن الحسين (عليهم السلام) يشكّلون تمام هذه المرحلة.
وهذه المرحلة هي المرحلة التي عاش فيها قادة أهل البيت (عليهم السلام) مرارة الانحراف ونكسة انحراف التجربة الإسلاميّة بعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).
(1) راجع: كتاب أئمّة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، المحاضرة الرابعة: 124 بحسب الطبعة الثالثة والمحقّقة من قِبل اللجنة التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر (قدس سره).
وكان لمرارة هذا الانحراف ولصدمة هذا الانحراف آثارُها وفجائعُها ومضاعفاتُها التي كان من الممكن أن تمتدَّ فتقضي على الإسلام ومصادره، وعلى الاُمّة الإسلاميّة، فتصبح قصّةً في التاريخ لا وجود لها في خطّ الزمن المستمرّ.
الأئمّة في هذه المرحلة الاُولى ـ مرحلة مجابهة هذا الانحراف ـ عاشوا صدمة الانحراف، وقاموا (عليهم السلام) بالتحصينات اللازمة ـ بقدر الإمكان طبعاً، لا بالقدر الذي لم يكن داخلاً في الإمكان ـ لكلّ العناصر الأساسيّة للرسالة ضدّ صدمة الانحراف، فحافظوا على الرسالة الإسلاميّة، وحافظوا على التصوّرات الإسلاميّة، وحافظوا على الاُمّة الإسلاميّة نفسها.
هذه هي المرحلة الاُولى، وهي تبدأ بعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مباشرة، وتستمرّ إلى الإمام الرابع من قادة أهل البيت، وهو الإمام زين العابدين (عليه السلام).
المرحلة الثانية: مرحلة بناء الكتلة الصالحة:
ثمّ تبدأ المرحلة الثانية. والإمام الباقر (عليه السلام) يشكّل شبه البداية لها. وإنّما نقول: شبه البداية؛ لأنّ تطوّر هذا العمل ليس حدّيّاً، بحيث يمكن أن نقف على لحظة فنقول: هذه اللحظة هي نهاية مرحلة وبداية مرحلة، وإنّما هذا التطوّر يتّفق مع طبيعة الأحداث المتطوّرة في خطّ تاريخ الإسلام.
والمرحلة الثانية التي شرع فيها قادة أهل البيت (عليهم السلام) ـ بعد أن وضعوا
التصميمات اللازمة، وفرغوا من الضمانات الأساسيّة ضدّ صدمة الانحراف ـ هي مرحلة بناء الكتلة، بناء الجماعة المؤمنة بزعامة أهل البيت (عليهم السلام)، المنضوية تحت لوائهم، الشاعرة بكلّ الحدود والأبعاد للمفهوم الإسلامي المتبنّى من قبل أهل البيت (عليهم السلام).
منذ زمان عليّ بن الحسين (عليهما السلام)، وعلى زمان الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) كان هذا العمل يبلغ القمّة.
وليس معنى هذا أنّ العمل الأوّل ـ الذي كان هو الخصّيصة الرئيسيّة للمرحلة الاُولى ـ قد انقطع، وإنّما معنى هذا أنّ العمل الأوّل ـ الذي كان هو الخصّيصة الرئيسة للمرحلة الاُولى ـ استمرّ، ولكن حيث إنّ صدمة الانحراف كان قد أمكن تقليل خطرها خلال ما قام به اُولئك الأئمّة الأربعة العظام من جهود وتضحيات في سبيل حفظ الإسلام؛ ولهذا تحتّم أن يواجه قادة أهل البيت (عليهم السلام) المهمّة الجديدة، مهمّة بناء الجماعة الصالحة من مجموع هذه الاُمّة التي حصّنت بالحدّ الأدنى من التحصين، لابدّ من أن يُنتخَبَ مجموعةٌ من هذه الاُمّة، فيحصَّنون بأعلى درجة ممكنة من التحصين، ويوعَّون بأعلى درجة ممكنة من التوعية؛ حتّى تكون هذه الجماعة هي الرائد والقائد والحامي للمجموع الإسلامي الذي حُصِّن بالحدّ الأدنى من التحصين.
هذا العمل مارسه الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) على مستوى القمّة، وهذه المرحلة استمرّت إلى زمان الإمام الكاظم (عليه السلام).
المرحلة الثالثة: مرحلة التوسّع والإعداد لتسلّم الحكم:
في زمان الإمام الكاظم (عليه السلام) بدأت المرحلة الثالثة. والمرحلة الثالثة هنا لا يحدّدها بشكل بارز النشاطُ الإيجابيُّ من قِبَل الأئمّة أنفسهم، بل يحدّدها ـ بشكل بارز ـ موقفُ الحكم المنحرف من الأئمّة أنفسهم؛ وذلك لأنّ الجماعة التي نشأت في ظلّ المرحلة الثانية ـ التي وُضِعَت بذرتُها في ظلّ المرحلة الاُولى، ونشأت ونمت في ظلّ المرحلة الثانية ـ غزت العالم الإسلامي، وبلغت إلى درجة من الاتّساع والنموّ والنفوذ الفكري بحيث إنّها أخذت تشكّل خطراً حقيقيّاً على الزعامات المنحرفة التي كانت تحكم المجتمع الإسلامي وقتئذ.
وبدا للخلفاء يومئذ أنّ قيادة أهل البيت (عليهم السلام) أصبحت على مستوى تسلّم زمام الحكم، والعود بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام الحقيقي؛ ولهذا اختلفت بشكل رئيسيٍّ ردودُ الفعل للخلفاء تجاه الأئمّة من أيّام الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) (1).
(1) وفي ما يلي نختصر البحث بذكر أهمّ ما بيّنه الإمام الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر (قدس سره) بشأن ثورة الإمام الحسين ودوره في تحصين الرسالة الإسلاميّة ـ مع شيء من التصرّف ـ كما بيّنّا ذلك في المقدّمة، وللوقوف على كامل أبحاث السيّد الشهيد في أدوار الأئمّة (عليهم السلام) يراجع كتاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة. (مكتب سماحة السيّد كاظم الحسينيّ الحائريّ دام ظلّه).
2النهضة الحسينيّة
موقف الإمام الحسين (عليه السلام)
من طمس معالم النظريّة الإسلاميّة
وتمييع الاُمّة
° خطّة معاوية لتثبيت حكمه.
° موقف الإمام الحسين (عليه السلام) تجاه تآمر معاوية.
° سياسة الإمام الحسين (عليه السلام) في هزّ ضمير الاُمّة.
إنّ(1) الهدنة المعلَنة بين الإمام الحسن (عليه السلام) ومعاوية بن أبي سفيان كانت نتيجة عجز كامل من قيادة خطّ الإمام علي (عليه السلام) عن مواصلة تجربتها واُطروحتها(2) نتيجةً لأسباب متعدّدة: لتفاقم وتضاعف الشكّ ـ الشكّ الذاتي ـ لدى الاُمّة الإسلاميّة والقواعد الشعبيّة التيكانت تعتمد عليها تجربة الإمام علي، هذه القواعد تضاعف باستمرار ـ وفق ظروف خاصّة ـ شكُّها في هذه القيادة، حتّى أصبحت هذه القيادة غير قديرة على مواصلة خطّ جهادها قبل أن تكشف أعداءها.
(1) راجع: كتاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، المحاضرة السادسة عشرة: 446 بحسب الطبعة الثالثة والمحقّقة من قِبل اللجنة التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر (قدس سره).
(2) تجد الشرح التفصيلي لذلك في المصدر السابق، المحاضرة الرابعة عشرة: 381، والمحاضرة الخامسة عشرة: 407.
ولهذا كان من المحتوم أن يتوقّف العمل السياسي والعسكري الواضح الصريح مدّةً من الزمن؛ لكي تسترجع قيادة الإمام علي (عليه السلام) ثقة الجماهير بها، وإيمانها، واعتقادها بأنّ هذه القيادة لا تدافع عن مكاسب شخصيّة وعن مصالح قَبَليّة، وإنّما تدافع عن اُطروحة الله في الأرض، تدافع عن رسالة السماء، كان لابدّ أن تعيَ الجماهير هذا، الجماهير التي لم تكن تعي إلّا على مستوى الحسّ لابدّ أن تعيش على مستوى الحسّ الاُطروحة المقابلة.
وهكذا كان، وخلال المدّة التي حكم فيها معاوية بن أبي سفيان تكشّف فيها اُطروحة معاوية، أو اُطروحة هذه الجاهليّة التي تزعّمها معاوية بن أبي سفيان، حتّى أنّه في يوم مات فيه معاوية بن أبي سفيان، حينما صعد الضحّاك على المنبر لينعى للمسلمين خليفتهم وكان يزيد مسافراً، أو حينما صعد يزيد نفسه على المنبر يعلن نبأ وفاة أبيه، لم يستطع ـ لا الضحّاك، ولا يزيد نفسه ـ أن يمدح معاوية بكلمة واحدة، قال: «إنّ معاوية مات، ذهب هو وعمله».
معاوية بن أبي سفيان فَقَد كلّ رصيده الروحي، وكلّ المبرّرات الاصطناعيّة التي كان يحاول تزريقها في نفوس المسلمين، حتّى إنّ وليّ عهده لم يستطع أن يترحّم عليه أو أن يشايع عهده بكلمةِ ثناء واحدة.
خطّة معاوية لتثبيت حكمه(1)
حينما سيطر معاوية بن أبي سفيان على العالم الإسلامي نتيجةً للهدنة مع الإمام الحسن (عليه السلام) (2)، بدأ يعمل من أجل تثبيت اُطروحته وخطّه وقيادته، إذ قام بعملين:
أ ـ بعمل على مستوى النظريّة لطمس معالم النظريّة الإسلاميّة الحقيقيّة.
ب ـ بعمل آخر على مستوى الاُمّة لتمييعها وجعلها تتعوّد على التنازل عن وجودها وكرامتها وإرادتها في مقابل الحاكم.
أ ـ عمل معاوية على طمس النظريّة الإسلاميّة الحقيقيّة:
أمّا العمل على المستوى الأوّل والقضاء على النظريّة الإسلاميّة الحقّة التي كان يمثّلها جناح الإمام علي (عليه السلام)، والقواعد الواعية من
(1) راجع: كتاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، المحاضرة السادسة عشرة: 447 بحسب الطبعة الثالثة والمحقّقة من قِبل اللجنة التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره) .
(2) راجع: المصدر السابق، المحاضرتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة: 381، 407.
أبنائه النَسَبيّين أو الروحيّين في الاُمّة الإسلاميّة فكان من خلال الطرق الآتية:
1 ـ كان يحاول أن يقضي على هذه النظريّة عن طريق شراء الأكاذيب من الأشخاص الذين كانوا على استعداد للكذب في الحديث على رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وقد وضع كلّ وسائل الإغراء والترغيب في سبيل أن يتبارى الكَذَبة في النقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، في تبريكات رسول الله للوضع المنحرف.
2 ـ ومن ناحية اُخرى قام بممارسة ضغط على الآخرين ليسكتوا عن المفاهيم والأفكار التي هي تعابير عن شعار هذه النظريّة في الحكم، وعن اُسلوبها في القيادة.
فقد بعث معاوية بن أبي سفيان إلى ولاته وحكّامه في مختلف أقطار العالم الإسلامي أنّه: برئت الذمّة ممّن يتكلّم بشيء عن خطّ الإمام علي (عليه السلام) (1).
(1) «نادى منادي معاوية: أن برئت الذمّة ممّن روى حديثاً من مناقب علي وفضل أهل بيته». أخبار الدولة العبّاسيّة: 47 بحسب طبعة دار الطليعة ببيروت، وانظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 11:44.
كلّ هذا كان يحاول فيه أن يطمس النظريّة ذاتها، لا أن يكون حاكماً فقط، بل أن يستلَّ من الاُمّة الإسلاميّة آخر أمل في أن ترتبط باُطروحة صحيحة عن الإسلام، في أن يجعلها تعيش الإسلام في هذا الثوب والبرقع الذي برقع به معاوية جاهليّته ورواسبه الجاهليّة.
هذا على مستوى النظريّة.
ب ـ عمل معاوية على تمييع الاُمّة الإسلاميّة:
وأمّا على مستوى الاُمّة فقد مارس معاوية ألواناً كثيرةً من الإذلال للاُمّة، وتمييع شخصيّتها، وإشاعة الضغائن والأحقاد القوميّة والإقليميّة والقَبَليّة في داخل العالم الإسلامي، فأشغلهذه الاُمّة.
هذه الاُمّة القائدة الرائدة التي من المفروض أن تحمل هموم البشريّة على وجه الأرض، قد أشغلها بأرخص الهموم وأتفه الهموم، وبأضيق النزاعات والخلافات في ما بينها؛ لكي يواصل حكمه، ولكي يعيش على النحو الذي يحلو له.
وإذا بابن الاُمّة الإسلاميّة الذي كان يزحف إلى طاغوت ككسرى ليقول له: «نحن لم نأتِ إليك طمعاً في غنمك ولا في دراهمك ولا
دنانيرك، وإنّما جئنا لأنّ مظلوماً في بلادك نريد أن نخلّصه من الظالم، ولأنّ انحرافاً في بلادك نريد أن نعيده إلى طبيعة التوحيد»(1)، ابن الاُمّة الإسلاميّة الذي كان يعيش هموم المظلوم في أقصى بلد لم يعرفه ولم يره بعينيه، هذا ينقلب بين عشيّة وضحاها ـ بفعل هذه المؤامرة ـ إلى شخص لا تهمّه إلّا الدراهم التي يقبضها في نهاية الشهر أو في السنة ثلاث مرّات.
تحوّل رؤساء العشائر في الكوفة ذاتها إلى عيون ورقباء على خطّ الإمام علي (عليه السلام)، كانوا يشون بشبابهم وبأولادهم الذين ينفتحون على خطّ الإمام علي (عليه السلام)، فيقادون قسراً إلى القتل أو إلى السجن.
(1) كلامه (قدس سره) ناظرٌ إلى ما ذكره في المحاضرة الخامسة تحت عنوان: الاُمّة الإسلاميّة حملت طاقةً حراريّةً لا وعياً مستنيراً، الشاهد الثالث حول عبادة بن صامت، راجع لذلك: كتاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة: 163 وانظر: تعليق لجنة التحقيق هناك.
موقف الإمام الحسين(عليه السلام) تجاه تآمر معاوية
هذه هي مؤامرة معاوية بن أبي سفيان على مستوى النظريّة وعلى مستوى الاُمّة، وكان لابدّ للإمام الحسين (عليه السلام) أن يتّخذ موقفاً تجاه كلٍّ من هاتين المؤامرتين:
أ ـ الإمام الحسين(عليه السلام) على مستوى النظريّة:
أمّا الموقف الذي اتّخذه تجاه المؤامرة على النظريّة، فقد جمع الإمام الحسين (عليه السلام) ـ في أحرج اللحظات وأشدّ الظروف ـ الصحابةَ من المهاجرين والأنصار ـ من تبقّى من المهاجرين والأنصار ـ في سنة من سنين الحجّ في موقف عرفات، في ذلك الموقف الذي يتورّع فيه أيّ إنسان مسلم اعتياديٍّ عن أن يكذب على الله أو على رسوله، أو أن لا يؤدّي الأمانة كما هي.
جَمَع البقيّة الباقية من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم من حملة تراث محمّد (صلى الله عليه وآله) ووقف فيهم خطيباً، وقال ما مضمونه: إنّ تراث النبي (صلى الله عليه وآله)، وإنّ مفهوم الإمام علي (عليه السلام) يعيش الآن في خطر، وعليكم أن تنقذوا هذا التراث وهذا المفهوم من الخطر، وإنقاذ ذلك بأن
تشهدوا بكلّ ما سمعتم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا الخطّ، ولو تحمّلتم فيهذا السبيل كلّ ما تحمّلتم من وسائل الإخافة والتهديد والحرمان من قبل طاغوت هذا الزمان(1).
هؤلاء البقيّة الباقية من المهاجرين والأنصار الذين استجابوا لدعوة الإمام الحسين (عليه السلام) هزّهم الإمام الحسين، وهزّتهم هذه المظلوميّة التي يعيشها خطّ الإمام الحسين (عليه السلام)، وهزّهم موقفُ عرفات ويومُ عرفة، الزمانُ والمكانُ والشخصُ، فتبارى هؤلاء، انطلقت ألسنتهم في يوم الحجيج مع المسلمين، فكان يقف الواحد منهم تلو الآخر وينقل ما كان يستذكره وقتئذ من أحاديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله).
وكان كلّ حديث من هذه الأحاديث، كانت قيمته الواقعيّة النفسيّة وقيمته الموضوعيّة أكبر بكثير من مئات من الروايات التي تنقل في الحالة الاعتياديّة؛ لأنّ هذا حديث يتحدّث به إنسان وأمامه جبروت معاوية وسيف معاوية وظلم معاوية بن أبي سفيان.
بهذا استطاع الإمام الحسين (عليه السلام) أن يثبّت معالم النظريّة، وأن يرسّخ في أذهان الاُمّة الإسلاميّة أنّه لا يزال هناك بقيّة من حملة
(1) راجع: كتاب سليم بن قيس: 788 ـ 789 بحسب طبعة منشورات دار الهادي بقم، والاحتجاج 2:296 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.