110

المشهد الرابع: مغادرة بني أسد محلّ سكناهم:

حبيب بن مظاهر يستأذن من الإمام الحسين (عليه السلام) أن يذهب ويدعو عشيرته بني أسد للالتحاق بخطّ سيّد الشهداء (عليه السلام)، وكلّ المسلمين يعرفون من هو حبيب بن مظاهر، في مواقفه، وفي جهاده، في بياض تاريخه، في صفاء سيرته، وفي ورعه وتقواه.

يذهب حبيب بن مظاهر ليطلب العون والمدد من عشيرة بني أسد للإمام (عليه السلام)، وتكون النتيجة لذلك أنّ عشيرة بني أسد تغادر بأجمعها تلك الليلة المنطقة، وتنسحب هذه العشيرة انسحاباً إجماعيّاً.

فيرجع حبيب بن مظاهر ليبلّغ الإمام الحسين (عليه السلام) هذه النتيجة الغريبة، أنّ عشيرةً تخشى أن تبقى بعد اليوم، بل تخشى أن تبقى حتّى حياديّة؛ لأنّ بالإمكان أنّ عمر بن سعد لا يكتفي بهذا الحياد، فتغادر المنطقة نهائيّاً. ولم يكن جواب سيّد الشهداء (عليه السلام) على ذلك إلّا قال: «لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم»(1).

هذا البرود، هذا السكون، هذه الهزيمة النفسيّة قبل الهزيمة الخارجيّة، هذه الهزيمة هي مرض الاُمّة الذي كان يعالجه الإمام الحسين (عليه السلام).



(1) الفتوح 5:90 ـ 91 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.

111

المشهد الخامس: موقف أهل الكوفة من مقتل رسول الحسين(عليه السلام):

الصيداوي ـ أظنّه قيس بن مسهّر الصيداوي(1) ـ الذي أرسله الإمام الحسين (عليه السلام) ، الذي أرسله لكي يبلّغ رسالته إلى أهل الكوفة، لكي يُعطي لأهل الكوفة إشعاراً بأنّه في الطريق وأنّه على الأبواب، هذا الرسول يدخل الكوفة بعد أن انقلبت الكوفة، وبعد أن تغيّرت الكوفة غير الكوفة، وسيطر عبيد الله بن زياد على كلّ القطّاعات العسكريّة في الكوفة، يؤخذ أسيراً إلى عبيد الله بن زياد.

وقبل أن يصل إلى عبيد الله بن زياد يمزّق الكتاب، فيقف بين يدي عبيد الله بن زياد، يقول له: «لماذا مزّقت الكتاب؟»، يقول: «لأ نّي لا اُريد أن تطّلع عليه»، يقول: «وماذا كان فيه؟»، يقول: «لو كنت اُريد أن اُخبرك لما مزّقت هذا الكتاب»، فيقول له عبيد الله بن زياد: «إنّي أقتلك، إلّا إذا صعدت على هذا المنبر وقلت بالصراحة شيئاً في سبِّ عليِّ بن أبي طالب والحسن والحسين».



(1) كان أهل الكوفة قد أرسلوه بكتبهم إلى الحسين (عليه السلام)، ثمّ أرسله (عليه السلام) مع مسلم إليهم، ثمّ أرسله بكتابه إلى أهل الكوفة، حيث أخذه الحصين بن تميم وبعث به إلى عبيد الله بن زياد. راجع: تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:352، 354، 394 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.

112

هذا الرسول الأمين يغتنمها فرصة، ويصعد على المنبر في هذه اللحظةالحاسمة، في آخر لحظة من حياته.. في هذا الإطار العظيم من البطولةوالشجاعة والتضحية، أمام عبيد الله بن زياد وأمام شرطته وجيشه، يوجّه خطابه إلى أهل الكوفة ويقول: «أنا رسول الحسين إليكم، إنّ الحسين على الأبواب»، يؤدّي هذه الرسالة بكلّ بطولة وبكلّ شجاعة، فيأمر عبيد الله بن زياد به فيقتل.

وماذا يكون الصدى لمثل هذه الدفعة المثيرة القويّة؟!

هؤلاء الذين كتبوا إلى الإمام الحسين (عليه السلام) يطلبونه، الآن رسول الإمام الحسين (عليه السلام) على المنبر بهذا الشكل غير الاعتيادي، رسول الإمام الحسين (عليه السلام) على المنبر والسيف فوق رقبته، وهو يودّع الحياة في آخر لحظة من اللحظات، وهو يبلّغهم الرسالة بكلّ أمانة وشجاعة، ويضحّي في سبيل تبليغها بدمه، بروحه، فماذا يكون أثر ذلك؟

يكون أثر ذلك أنّه حينما يأمر عبيد الله بن زياد به أن يُقتل فيُقتل، يأتي شخصٌ من أهل الكوفة(1) فيقطع رأسه، فيقال له: لماذا قطعت رأسه؟ يقول: لكي اُريحه بذلك(2).



(1) هو: عبدالملك بن عمير اللخمي.

(2) وردت هذه الزيادة في: أنساب الأشراف 3:169 بحسب الطبعة الاُولى لدار التعارف للمطبوعات ببيروت، والإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 2:71 بحسب طبعة دار المفيد ببيروت.

113

هذه الاُمّة لا تفكّر إلّا هذا المستوى من الشفقة في حياتها، الشفقة التي تشعر بها هي الشفقة على هذا المستوى. أمّا الشفقة على الوجود الكلّي، الشفقة على الكيان، والشفقة على العقيدة، هذه الشفقة انتزعت من قلوبها؛ لأنّها شفقة تكلّف ثمناً غالياً.

الشفقة التي لا تكلّف ثمناً هي أن يقطع رقبة هذا الشخص، أن يريحه من هذه الحياة، من الحياة في ظلِّ عبيد الله بن زياد. ولكنّ الشفقة التي تكلّف ثمناً، تلك الشفقة انتزعت من قلوبهم.

هذه المظاهر من البرود والسكون بالرغم من قوّة الإثارة، هذه المظاهر هي دليلٌ على عمق ما وصلت إليه الاُمّة من انحلال.

المشهد السادس: الاندفاع نحو خطّ السلطة:

إلى جانب ذلك، أو في عكس ذلك: ذلك الاندفاع المحموم نحو خطّ السلطان، نحو خطّ الحكم القائم.

فعبيد الله بن زياد استطاع خلال اُسبوعين ـ أو خلال ثلاثة أسابيع على أكثر تقدير ـ بعد مقتل مسلم بن عقيل (رضوان الله عليه) إلى أوّل

114

المحرّم أن يجنّد عشرات الاُلوف من أبناء هذا البلد، الذي كان ـ ولا يزالإلى ذلك الوقت ـ يحمل رسالة علي (عليه السلام)، والولاء لعلي، جنّد من هذا البلد عشرات الآلاف، واستجاب له مئاتٌ من الأشخاص الذين كانوا قد حاربوا مع الإمام علي (عليه السلام) في صفّين، وحاربوا مع الإمام علي في سائر مراحل جهاده:

أ ـ استجاب له شخصٌ من قبيل عمرو بن الحجّاج. ومن هو عمرو بن الحجّاج؟

عمرو بن الحجّاج هو من اُولئك الذين اضطُهدوا في سبيل الإمام علي (عليه السلام)، ومن اُولئك الذين عاشوا المحنة أيّام زياد، ولكنّه لم يستطع أن يواصل المحنة، طلّق عقيدته قبل أن يصل إلى آخر الشوط؛ لأنّه شعر أنّ هذه العقيدة تكلّف ثمناً غالياً، وأنّه إذا طلّقها أمكنه أن يشتري بدلاً عنها دنيا واسعة.

هذا الشخص (عمرو بن الحجّاج) الذي رافق الإمام عليّاً (عليه السلام) في جهاده انهار أخيراً، انتهت إرادته، وانتهت شخصيّته كإنسان مسلم يفكّر في الإسلام.

عمرو بن الحجّاج نفسه هو الذي كلّفه عمر بن سعد بأسوأ عمل يمكن أن يُكلَّف به إنسان، كلّفه بالحيلولة دون سيّد الشهداء (عليه السلام) والماء، فبقي واقفاً على الماء يمنع ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والبقيّة الباقية من ثقل النبوّة عن أن يشربوا من الماء.

115

ب ـ واستجاب لذلك شبث بن ربعي. ومن هو شبث بن ربعي؟

هذا الرجل الذي عاش مع جهاد أميرالمؤمنين (عليه السلام)، هذا الرجل الذي كان يعي مدلول حرب صفّين، وكان يدرك بأنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) في حرب صفّين يمثّل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غزوة بدر.

ولكنّ الدنيا، ولكنّ الانهيار النفسي، ولكنّ النَّفَسَ القصير خَنَقَه في النهاية، فذاب وتميّع، واشتدّ تميّعه بالتدريج، إلى أن وصل إلى حدٍّ أنّ عبيد الله بن زياد يبعث عليه ليقاتل الحسين ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فماذا يكون العذر؟ ماذا يكون الجواب؟

لا يملك أن يعتذر بعذر من الأعذار إلّا أن يقول: «أنا مريض»؛ يعتذر بأنّه مريض، كلمة باردة جدّاً على مستوى بروده النفسي.

ثمّ يبعث عبيد الله بن زياد إليه الرسول مرّة اُخرى، يقول: «المسألة حدّيّة، لا مرض في هذه الحالة، إمّا أن تكون معنا، وإمّا أن تكون عدوّنا».

فبمجرّد أن يتلقّى هذه الرسالة ويعرف أنّ المسألة حدّيّة يقوم شبث بن ربعي ويلبس ما كان يلبسه، ثمّ يخرج متّجهاً إلى عبيد الله بن زياد وهو يقول: «لبّيك»(1).



(1) «أمّا شبث فاعتلّ بمرض، فقال له ابن زياد: أتتمارض؟ إن كنت في طاعتنا فاخرج إلى قتال عدوّنا، فلمّا سمع شبث ذلك خرج». الأخبار الطوال: 254 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم، والفتوح 5:89 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.

وكان شبث قد استجاب قبل ذلك لطلب ابن زياد في تفريق الناس عن مسلم بن عقيل. راجع: تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:369 ـ 370 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.

116

هذه الاستجابات من هذا الطرف وذاك البرود وتلك السلبيّة من ذلك الطرف هو أكبر دليل على هذا المرض.

المشهد السابع: محنة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة:

والدليل الذي هو أكبر من هذا هو محنة مسلم وهانئ. محنة مسلم وهانئ التي يقلّ نظيرها في التاريخ، هذه المحنة تصوّر هذا المرض ـ وهو في قمّته، وهو في شدّته ـ بأفظع تصوير.

قد يذهب وهمُ الإنسان إلى أنّ مسلم بن عقيل (رضوان الله عليه) كيف استطاع ـ أو كيف اتّفق له ـ أن يفرّط بكلّ هذه القوى الضخمة التي كانت بين يديه؟! كيف فرّط بهذه القوى الشعبيّة التي بين يديه؟! بين عشيّة وضحاها بقي وحيداً فريداً يتسكّع في الطرقات؟! كيف فرّط بمثل هذه القوى؟! كيف لم يستثمر هذه القوى في معركته مع عبيد الله بن زياد؟!

117

في الواقع: إنّ هذه القوى لم تكن قوىً إلّا على الورق، لم تكن هذه القوى قوىً إلّا في سجلّ تسجيل الأسماء حينما سجّل الأسماء فبلغت ثمانية عشر ألفاً(1)، أو بلغت عشرين ألفاً(2)، أو بلغت ثلاثين ألفاً(3)، كانت قوىً على الورق؛ وذلك لأنّ هؤلاء الثمانية عشر ألفاً أو العشرين ألفاً كانوا جزءاً من هذه الاُمّة الميْتة، من هذه الاُمّة المنهارة.

هذا الانهيار العجيب المفاجئ في لحظة، هذا الانهيار العجيب المفاجئ في ساعة هو يعكس تلك الهزيمة السابقة.. هذه الهزيمة وراؤها هزيمة: هزيمة النفس، هزيمة الوجدان، هزيمة الضمير، تلك الهزيمة في النفس والوجدان والضمير هي أساس هذه الهزيمة(4):

أ ـ عبيد الله بن زياد يبعث على هانئ بن عروة، يقول له: «تعالَ زر الأمير، الاُمراء لا يطيقون الجفاء، لماذا أنت منقطع عن الأمير؟»، هذا



(1) الأخبار الطوال: 241، 243، 253 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.

(2) الوارد في كتاب مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين (عليه السلام) يبشّره فيه بمبايعة أهل الكوفة له بحسب نقل ابن الأعثم: «نيّف وعشرون ألفاً». الفتوح 5:45 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.

(3) المختصر في أخبار البشر 1:235 بحسب طبعة دار المعارف بمصر.

(4) أي: «الانهيار العجيب المفاجئ في ساعة».

118

في الوقت الذي كان فيه مسلم بن عقيل موجوداً في بيت هانئ بن عروة، والشيعة يذهبون إلى زيارة مسلم متستّرين.

هانئ بن عروة يأتي إلى عبيد الله بن زياد، فعبيد الله بن زياد يتّهمه بأنّ مسلماً موجودٌ عندك، وأنّك تفكّر في الخروج وشقّ عصا الطاعة، هانئ بن عروة يصطدم مع عبيد الله بن زياد، يقول له بـ «أنّي لا أدري أين مسلم»، يقول: «لابدّ لك أن تجده»، يقول: «لو أنّ مسلماً كان تحت قدمي لَما رفعت قدمي»، ثمّ يقدّم له نصيحة بكلّ قوّة، وبكلّ شجاعة.

هذا هو من الأفراد القلائل الذين استطاعت حركة الحسين (عليه السلام) أن تكشفهم في مجموع هذه الاُمّة الميْتة. قال: «لي نصيحة، نصيحة لك»، فقال عبيد بن زياد: «وما هي هذه النصيحة؟» ـ انظروا إلى شخص يقف بين يَدَي أمير يقدّم إليه النصيحة ـ قال: «النصيحة أن تذهب أنت وأهل بيتك، وتحمل معك كلَّ ما لديك من أموال إلى الشام سالماً صحيحاً، لا شغل لنا بك».

كان هانئ بن عروة يتكلّم وهو يتخيّل أنّ له رصيداً، وأنّ عشرات الآلاف من خلفه سوف تنفّذ إرادته إذا أصبحت هذه الإرادة في موضع التنفيذ، إذا أصبحت بحاجة إلى التنفيذ.

وحينما اشتدّ غضب عبيد الله بن زياد على هانئ وأمر بسجنه، انعكس الخبر في الكوفة بأنّ هانئاً قتل، أو في معرض القتل.

119

فجاء عمرو بن الحجّاج ـ الذي تكلّمنا عنه ـ وجاء معه أربعة آلاف إنسان من عشيرته لكي يتفقّدوا أحوال هانئ بن عروة، جاؤوا، ووقفوا بباب القصر يطالبون بحياة هانئ بن عروة.

عبيد الله بن زياد يبعث على من؟ يبعث على شريح القاضي، باعتباره قاضياً لابدّ وأن تتوفّر فيه الشرائط المطلوبة في مثل هذا المنصب، فهو يعتبر شاهداً ثقة إذا استعمل شهادته.

بعث على شريح القاضي، قال له: «تعال ادخل إلى الغرفة ـ الغرفة التي سُجن فيها هانئ ـ اُنظر إليه حيّاً، واشهد أمام هؤلاء بأنّه حيّ».

دخل شريح القاضي إلى الغرفة، ورأى أنّ هانئاً حيّ يقول شريح القاضي: «بمجرّد أنْ دخلت إلى الغرفة ورأيت هانئ بن عروة صاح في وجهي، قال: أين ذهب المسلمون؟! أين ذهب المسلمون؟! لو أنّ عشرةً يهجمون على القصر الآن لأنقوذني»(1)؛ لأنّ القصر ليس فيه شرطة، ليس فيه جيش.

لو أنّ عشرةً يهجمون على القصر اليوم، يعني: لو أنّ عشرة كانوا مستعدّين لأن يموتوا في سبيل الله، عشرة فقط، لو كانوا مستعدّين لأن يموتوا في سبيل الله، لتغيّر وجه الكوفة يومئذ؛ لأنّ القصر ليست فيه شرطة.



(1) «يا شريح!.. إن دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:368 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.

120

ولكنّ الشرطة كانت أوهام هذه الاُمّة التي فقدت شجاعتها وإرادتها، هذه الاُمّة التي فقدت شخصيّتها خُيِّل لها أنّ هذا القصر هو جبروت الحكّام، هذا القصر هو المعقل الذي لا يمكن اجتيازه، بينما هذا القصر كان أجوف؛ لم يكن فيه شرطة ولا جيش، ولم يكن فيه سلاحٌ بالقدر الكافي الذي يمكن أن يصمد أمام عشرة فقط.

قال: «أين ذهب المسلمون؟ عشرة فقط، عشرة فقط يكفون لإنقاذي، يكفون للقضاء على هذا القصر، ويكفون لاحتلال هذا القصر».

شريح القاضي يقول: «أنا رجعت إلى عمرو بن الحجّاج وأنا مكلَّف بأن اُؤدّي الشهادة الشرعيّة بأنّ هانئ بن عروة حيّ؛ حتّى يرجع عمرو بن الحجّاج»؛ لأنّ عمرو بن الحجّاج والأربعة آلاف الذين جاؤوا معه قصارى همِّهم أن يكون هذا حيّاً، ليس لهم همٌّ وراء أن يكون هذا حيّاً، يقول شريح القاضي: «رجعت، فهممت أن اُبلّغ عبارة هانئ بن عروة لعمرو بن الحجّاج، وأقول له: إنّ هانئاً يطلب عشرة فقط».. يقول: «لو أنّ عشرةً يهجمون على هذا (البُعبُع)(1)، على هذا



(1) «بُع بُع: من حكاية الصبيان». تاج العروس من جواهر القاموس 11:25 ـ بحسب الطبعة الاُولى لدار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت ـ وهي هنا بمعنى الأمر المرعب والمخيف.

121

الشبح الرهيب المزعوم الذي يكمن فيه عبيد الله بن زياد، لتمزّق هذاالشبح وتحطّم هذا (البُعبُع)». يقول: «هممت، ثمّ التفتّ إلى أنّ شرطي عبيد الله بن زياد(1) واقف إلى جنبي، فسكتّ». وأدّى الشهادة المطلوبة منه رسميّاً وحكوميّاً بأنّ هانئاً حيّ، ورجع عمرو بن الحجّاج، وقتل هانئ(2).

ب ـ مسلم بن عقيل (رضوان الله عليه) بنفسه يخرج مع أربعة آلاف شخص يطوّقون قصر الإمارة.

عبيد الله بن زياد ليس معه إلّا ثلاثون من الشرطة ـ على ما تقول الرواية(3) ـ وعشرون من أشراف الكوفة، ومسلم بن عقيل معه أربعة آلاف(4)، لكنْ أربعة آلاف ليس لهم قلوب، ليس لهم أيد، ليس لهم إرادة.

ولو قرأنا أسماء قادة مسلم بن عقيل في هذه المعركة لوجدنا أنَّ



(1) وهو: حميد بن بكير الأحمري.

(2) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:364 ـ 368 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.

(3) المصدر السابق: 369.

(4) المصدر السابق: 350.

122

هؤلاء الأربعة آلاف فيهم جماعة من كبار يوم عاشوراء، لكنّهم انهزموا جميعاً، لم يبقَ مع مسلم واحدٌ أبداً(1). يعني: أنّ حركة الحسين (عليه السلام) هي بنفسها صنعت هؤلاء، وهي بنفسها صعّدت هؤلاء، فهؤلاء السبعون الذين استشهدوا مع الحسين (عليه السلام) كان عددٌ منهم نتاجَ محنة حركة سيّد الشهداء، وإلاّ: لماذا انهزموا عن مسلم بن عقيل؟ على الأقلّ يبقى معه شخصٌ يدلّهُ على الطريق، صلّى مسلم في المسجد، وتفرّق الناس من حوله(2).

يقول التاريخ: بأنّه كانت تأتي المرأة فتنتزع زوجها وأباها وأخاها وتقول: «ما لك وعمل السلاطين»(3).



(1) «تفرّق عنه الباقون حتّى بقي وحده يتلدّد في أزقّة الكوفة ليس معه أحد». أنساب الأشراف 2:81 بحسب الطبعة الاُولى لمؤسّسة الأعلمي للمطبوعات ببيروت.

(2) «فدخل مسلم بن عقيل المسجد الأعظم ليصلّي المغرب، وتفرّق عنه العشرة». الفتوح 5:50 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.

(3) «إنّ المرأة كانت تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:371 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.

123

هذا نهاية فقدان الإرادة عندما الرجل يذوب ويتميّع؛ لأنّ امرأةًواحدةً تأتي وتنتزعه انتزاعاً.

هذه المرأة هي نفسها تلك المرأة التي وقفت بعد الإمام الحسين (عليه السلام) تلك المواقف العظيمة على طول الخطّ.. هذه المرأة هي نفس تلك المرأة التي أحبطت مؤامرةَ إمارة عمر بن سعد حينما مات يزيد بن معاوية، وبويع من قبل الاُمويّين في الكوفة لعمر بن سعد مؤقّتاً، عمر بن سعد أصبح أميراً على الكوفة، من الذي أسقط إمارة عمر بن سعد؟

أسقطته تلك المرأة التي كانت تذهب إلى زوجها وأبيها وأخيها تنتزعهم انتزاعاً عن مساندة مسلم بن عقيل، وتقول لهم: «لا شغل لك مع السلاطين»، هذه المرأة بنفسها قامت بمظاهرة، وقفت أمام عمر بن سعد تندب الحسين (عليه السلام) وتصيح: «إنّ قاتل الحسين لا يمكن أن يكون أميراً في الكوفة»، حتّى سقط عمر بن سعد(1).



(1) «فلمّا همّوا بتأميره أقبل نساء من همدان وغيرهنّ من نساء كهلان والأنصار وربيعة والنخع حتّى دخلن المسجد الجامع صارخات باكيات معوّلات يندبن الحسين، ويقلن: أما رضي عمرو بن سعد بقتل الحسين حتّى أراد أن يكون أميراً علينا على الكوفة، فبكى الناس، وأعرضوا عن عمرو». مروج الذهب 3:85 بحسب الطبعة الثانية لدار الهجرة بقم.

124

المشهد الثامن: التناقض بين عمل الاُمّة وعواطفها:

وأعجب مظهر من مظاهر هذا الانهيار هو التناقض الذي كان يوجد بين قلب الاُمّة ـ بين عواطف الاُمّة ـ وعملها، هذا التناقض الذي عبّر عنه الفرزدق بقوله للإمام الحسين (عليه السلام): «إنّ قلوبهم معك وسيوفهم عليك»(1)، لا أنّ جماعةً قلوبهم معك وجماعة اُخرى سيوفهم عليك.

هؤلاء كانوا يبكون ويقتلون الإمام الحسين (عليه السلام) لأنّهم يشعرون بأنّهم بقتلهم للإمام الحسين يقتلون مجدهم، يقتلون آخر آمالهم، يقتلون البقيّة الباقية من تراث الإمام علي.. هذه البقيّة التي كان يعقد عليها كلّ الواعين من المسلمين الأملَ في إعادة حياة الإسلام، في إعادة الحياة إلى الإسلام، كانوا يشعرون بأنّهم يقتلون بهذا الأملَ الوحيدَ الباقي للتخلّص من الظلم القائم، ولكنّهم مع هذا الشعور لم يكونوا يستطيعون إلّا أن يقفوا هذا الموقف ويقتلوا الإمام الحسين، قتلوا الإمام الحسين (عليه السلام) وهم يبكون.



(1) المعروف أنّه قول الفرزدق، فراجع: الأخبار الطوال: 245 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم، ومقاتل الطالبيّين: 111 بحسب طبعة دار المعرفة ببيروت، وتاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:386 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.

125

قاتل الحسين(عليه السلام) هو قاتل أهدافه، والبكاء عليه غير كاف:

أسأل الله أن لا يجعلنا نقتل الإمام الحسين (عليه السلام) ونحن نبكي، أن لا يجعلنا نقتل أهداف الحسين (عليه السلام) ونحن نبكي.

الإمام الحسين (عليه السلام) ليس إنساناً محدوداً عاش من سنة كذا ومات في سنة كذا.. الإمام الحسين (عليه السلام) هو الإسلام ككلّ، الإمام الحسين (عليه السلام) هو كلُّ هذه الأهداف التي ضحّى من أجلها هذا الإمام العظيم، هذه الأهداف هي الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لأنّها هي روحه، وهي فكره، وهي قلبه، وهي عواطفه، كلّ مضمون الإمام الحسين (عليه السلام) هو هذه الأهداف، هو هذه القيم المتمثّلة في الإسلام.

فكما أنّ أهل الكوفة كانوا يقتلون الحسين (عليه السلام) وهم يبكون، فهناك خطرٌ كبيرٌ في أن نُمنى نحن بنفس المحنة، أن نقتل الحسين (عليه السلام) ونحن نبكي، يجب أن نشعر بأنّنا يجب أن لا نكون على الأقلّ قتلةً للحسين (عليه السلام) ونحن باكون.

البكاء لا يعني أنّنا غير قاتلين للحسين (عليه السلام)؛ لأنّ البكاء لو كان وحده يعني أنّ الإنسان غير قاتل للحسين (عليه السلام) إذاً لما كان عمر بن سعد قاتلاً للحسين (عليه السلام)؛ لأنّ عمر بن سعد بنفسه بكى(1).



(1) «قالت زينب بنت علي لعمر بن سعد: يا عمر! أيقتل أبو عبدالله وأنت تنظر؟! فبكى (عمر) وانصرف بوجهه عنها». أنساب الأشراف 3:206 بحسب الطبعة الاُولى لدار التعارف للمطبوعات ببيروت.

126

حينما جاءت زينب (عليها الصلاة والسلام) ومرّت في موكب السبايا، في الضحايا، حينما التفتت إلى أخيها، حينما اتّجهت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) تستنجده، أو تستصرخه، أو تخبره عن جثّة الإمام الحسين (عليه السلام) وهي بالعراء، عن السبايا وهنّ مشتّتات، عن الأطفال وهم مقيّدون، حينما أخبرت جدّها (صلى الله عليه وآله) بكلّ ذلك ضجّ القتلة كلّهم بالبكاء، بكى السفّاكون، بكى هؤلاء الذين أوقعوا هذه المجازر، بكوا بأنفسهم(1).

إذاً، فالبكاء وحده ليس ضماناً، العاطفة وحدها ليست ضماناً لإثبات أنّ هذا ـ صاحب العاطفة ـ لا يقف موقفاً يقتل فيه الإمام الحسين (عليه السلام)، أو يقتل فيه أهداف الإمام الحسين (عليه السلام).

لابدّ من امتحان، ولابدّ من تأمّل، لابدّ من تدبّر، لابدّ من تعقّل؛



(1) «فَلَطَمْنَ النسوة وصِحْنَ حين مررن بالحسين، وجعلت زينب بنت علي تقول: يا محمّداه! صلّى عليك مليك السماء، هذا حسين بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، يا محمّداه! وبناتك سبايا وذرّيّتك مقتّلة تسفي عليها الصبا! فأبكت كلّ عدوّ وولي». المصدر السابق، وتاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:456 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.

127

لكي نتأكّد من أنّنا لسنا قتلةً للإمام الحسين (عليه السلام).

مجرّد أنّنا نحبّ الإمام الحسين (عليه السلام)، مجرّد أنّنا نزور الإمام الحسين (عليه السلام)، مجرّد أنّنا نبكي على الإمام الحسين (عليه السلام)، مجرّد أنّنا نمشي إلى زيارة الحسين (عليه السلام)، كلّ هذا شيء عظيم، شيء جيّد، شيء ممتاز، شيء راجح، لكنّ هذا الشيء الراجح لا يكفي ضماناً ودليلاً لكي يثبت أنّنا لا نساهم في قتل الإمام الحسين (عليه السلام)، لأنّ بالإمكان لإنسان أن يقوم بكلّ هذا عاطفيّاً وفي نفس الوقت يساهم في قتل الإمام الحسين (عليه السلام).

يجب أن نحاسب أنفسنا، يجب أن نتأمّل في سلوكنا، يجب أن نعيش موقفنا بدرجة أكبر من التدبّر والعمق والإحاطة والانفتاح على كلّ المضاعفات والملابسات؛ لكي نتأكّد من أنّنا لا نمارس ـ من قريب أو بعيد، بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر ـ قتلَ الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام).

129

6النهضة الحسينيّة

التحوّل من أخلاقيّة الهزيمة

إلى أخلاقيّة الإرادة

° الإمام الحسين (عليه السلام) بين أخلاقيّة الهزيمة وأخلاقيّة الإرادة.

° هزُّ ضمير الاُمّة دون استفزاز أخلاقيّة الهزيمة.

° تخطيط الإمام الحسين (عليه السلام) لعمليّة التحويل.

° شعارات الإمام الحسين (عليه السلام) في تبرير مخطّطه.

° أساليب تحويل أخلاقيّة الهزيمة إلى أخلاقيّة الإرادة دون استفزازها.

° الدرس الذي نستفيده من التخطيط الحسيني.

131

حينما(1) تنهزم الاُمّة وتُنتزع منها شخصيّتها وتموت إرادتها تنسج بالتدريج ـ كما قلنا(2) ـ أخلاقيّةً معيّنةً تنسجم مع الهزيمة النفسيّة التي تعيشها بوصفها اُمّة بدون إرادة، اُمّة لا تشعر بكرامتها وشخصيّتها.

بالرغم من وضوح الطريق وجلاء الأهداف وقدرتها على التمييز المنطقي بين الحقّ والباطل، وبالرغم من أنّ اُطروحة معاوية كانت قد تكشّف كاُطروحة جاهليّة في ثوب الإسلام، وأنّ اُطروحة عليّ (عليه السلام) كان



(1) راجع: كتاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، المحاضرة العشرون: 519 بحسب الطبعة الثالثة والمحقّقة من قِبل اللجنة التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر (قدس سره).

(2) تقدّم ذلك في بحث المشهد الثالث من مشاهد موت الإرادة في المجتمع الحسيني تحت عنوان: كيف تبرّر الاُمّة المهزومة هزيمتها؟

132

قد اتّضح أنّها التعبير الأصيل عن الإسلام في معركة ثانية مع الجاهليّة، بالرغم من وضوح كلّ ذلك بعد الهدنة التي أعلنها الإمام الحسن (عليه السلام)،بدأت الاُمّة ـ نتيجةً لفقدان إرادتها ـ تنسج أخلاقيّةً معيّنةً تنسجم مع هزيمتها النفسيّة والروحيّة والأخلاقيّة.

133

الإمام الحسين(عليه السلام) بين أخلاقيّة الهزيمة وأخلاقيّة الإرادة

وبهذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) بين أخلاقيّتين: بين أخلاقيّة الهزيمة التي تعيشها الاُمّة الإسلاميّة قبل أن تُهزم فعليّاً يوم عاشوراء، وبين الأخلاقيّة الاُخرى التي كان يريد أن يبثّها وأن ينشرها في الاُمّة الإسلاميّة، أخلاقيّة الإرادة والتضحية والعزيمة والكرامة.

كان الإمام الحسين (عليه السلام) يواجه تلك الأخلاقيّة التي ترسّخت، ورَسّخت من المفاهيم ما يشلُّ طاقات التحرّك، وكان يريد أن يغيّر تلك الأخلاقيّة دون أن يستفزّها:

أ ـ كان يواجه الأخلاقيّة التي تمثّلت في كلام للأحنف بن قيس ـ كما تقدّم(1) ـ حينما وصف المتحرّكين في ركاب الإمام الحسين (عليه السلام) بأنّهم اُولئك «الذين لا يوقنون»، وبأنّهم اُولئك الأشخاص الذين يتسرّعون قبل أن يتثبّتوا من وضوح الطريق.

هذا المفهوم من الأحنف بن قيس كان يعبّر عن موقف أخلاقيّة الهزيمة من التضحية، وهو أنّ التضحية والإقدام على طريق قد يؤدّي



(1) تقدّم تحت عنوان: المشهد الثالث: موقف زعماء البصرة.

134

إلى الموت هو نوعٌ من التسرّع وقلّة الأناة، والخروجِ عن العرفالمنطقي للسلوك.

هذا المفهوم هو معطى أخلاقيّة الهزيمة، هذا المفهوم الذي تبدّل بعد حركة الحسين (عليه السلام) وحلَّ بديله، أي مفهومُ التضحية، الذي على أساسه قامت حركة التوّابين، حركةُ أربعةِ آلاف لا يرون لهم هدفاً في طريقهم إلّا التضحية؛ لكي يكفّروا بذلك عن سيّئاتهم وموقفهم السلبي تجاه الإمام الحسين (عليه السلام) (1).

ب ـ أخلاقيّة الهزيمة هي هذه الأخلاقيّة التي انعكست في كلام لأخي الحسين عمر الأطرف(2)، حينما قال للإمام الحسين (عليه السلام): «أنْ تبايع يزيد خيرٌ لك من أن تقتل»(3)، من أن تموت.

أخلاقيّة الهزيمة هذه هي التي تبدّلت بعد هذا خلال خطّ حركة الحسين (عليه السلام)، وانعكست في مفهوم لعليِّ بن الحسين (عليه السلام) حينما قال



(1) «كان منهم بالكوفة زهاء عشرين ألف رجل». الأخبار الطوال: 288 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.

(2) هو عمر بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

(3) اللهوف على قتلى الطفوف: 26 ـ 27 بحسب طبعة منشورات جهان بطهران.