90


يرجعوا فيه بالخصوص إليه، وهذا يناسب منصب الفتوى لا الولاية، والإرجاع إلى الحرث في الفتوى إنـّما هو ـ حسب المرتكز العقلائي ـ إرجاع إليه بما هو فقيه ثقة، لا بما هو شخص معيّن، فيستفاد منه جواز تقليد الفقيه الثقة على الإطلاق.

ورواية عليّ بن المسيّب قال: قلت للرضا (عليه السلام): شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال من زكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا(1) . وأخذ معالم الدين يشمل الأخذ بالفتوى، ولا يختصّ بأخذ الرواية.

ورواية عبد العزيز بن المهتديّ، والحسن بن عليّ بن يقطين عن الرضا (عليه السلام)، قلت: لا أكاد أصل اليك أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم(2).

والروايتان الأخيرتان غير تامّتين سنداً.

القسم الثاني ـ ما دلّ على منصب الولاية كالتوقيع الوارد إلى إسحاق بن يعقوب : .... وأمـّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنـّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله(3).

ولا إشكال في أنّ منصب الولاية مشروط بالكفاءة، والقدرة على إدارة الاُمور، وهذا واضح بحكم العقل والارتكاز العقلائيّ. إذن فإطلاق الرواية مقيّد بقيد ارتكازيّ كالمتّصل، وهو قيد الكفاءة، إلاّ أنّ قيد الكفاءة يمكن أخذه بأحد شكلين:

الأوّل: أن يجعل قيداً للرواة، فكأنـّما قال (عليه السلام): أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا الكفوئين، فإنـّهم حجّتي عليكم.

والثاني: أن يجعل قيداً لما يرجع فيه إلى الرواة، فكأنـّما قال (عليه السلام): أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا إلى الرواة في كلّ ما لهم الكفاءة بالنسبة له، فإنـّهم حجّتي عليكم في تلك الاُمور الداخلة في كفاءتهم. إذن، فمن كان منهم كفوءاً في استنباط الحكم الفقهيّ فحسب دون إدارة اُمور المجتمع يرجع إليه في أخذ الفتوى فحسب، ومن كان كفوءاً في إدارة اُمورالمجتمع يرجع


(1) نفس المصدر ح 27 ص 106.

(2) نفس المصدر ح 33 ص 107.

(3) نفس المصدر ح 9 ص 101.

91


إليه في إدارتها، وتكون له الولاية.

والاحتمال الثاني أوفق بالإطلاق، والاحتمال الأوّل أوفق بارتكازيّة الترابط بين مرافق القيادة وعدم الانحلال والتفكيك فيما بينها بالفصل بين منصب الفتوى ومنصب ملء منطقة الفراغ أو تشخيص الموضوعات. فنتكلّم تارةً بناءً على استظهار الاحتمال الأوّل، واُخرى بناءً على استظهار الاحتمال الثاني.

أمّا على الاحتمال الأوّل: وهو فرض الترابط بين شؤون القيادة، وكون الكفاءة قيداً ارتكازياً راجعاً إلى الرواة ـ فهذه الرواية إنـّما دلّت على ثبوت منصب التقليد ضمن منصب القيادة لمن يكون أهلاً للقيادة متمتّعاً بالكفاءة لها، فإذا وقع التعارض بين فتوى الأعلم غير الكفوء للقيادة وفتوى الكفوء لها غير الأعلم. فنحن نتكلّم عندئذ في ما هو مقتضى الفنّ بناءً على فروض ثلاثة بالنسبة للقسم الأوّل من أدلّة التقليد الذي أثبت منصب التقليد فحسب للفقيه دون منصب القيادة:

الفرض الأوّل: أن ننكر ارتكازيّة تقدّم رأي الأعلم على الإطلاق عقلائيّاً في باب الرجوع إلى أهل الخبرة، ونفترض التعارض الداخليّ بين إطلاقي تلك الأدلّة، لعدم كون الفاصل بين الأعلم وغير الأعلم كبيراً، إذن تلك الأدلّة تبتلي بالإجمال الداخليّ، في حين أنّ القسم الثاني من أدلّة التقليد ـ وهو الذي أثبت التقليد ضمن منصب القيادة لا منفصلاً عنها ـ غير مبتل بالتعارض الداخليّ، لاختصاصه بالكفوء قياديّاً، فنأخذ به، ويكون التقليد لدى تعارض الفتويين للكفوء قياديّاً لا للأعلم غير الكفوء.

الفرض الثاني: أن نؤمن بالارتكاز العقلائيّ الدالّ على تقديم رأي الأعلم على الإطلاق، أي حتى مع كون الفاصل بينهما ضئيلاً، ولكن نبني ـ مع ذلك ـ على التعارض الداخليّ في القسم الأوّل من الأدلّة اللفظيّة للتقليد، لعدم قبول تأثير ذاك الارتكاز على ظهور الألفاظ، ولعدم كون الفاصل بين الأعلم وغير الأعلم كبيراً. وعندئذ فالقسم الأوّل من الدليل اللفظيّ ساقط بالإجمال. أمـّا البناء العقلائيّ على تقليد الأعلم الذي فرضنا الإيمان به، فهو مقيّد بفرض عدم نصب قائد من قبل الشريعة للرجوع إليه في كلّ شيء حتى الفتوى، إذ من الواضح أنـّه مع مفرض نصب قائد من هذا القبيل لا يبني العقلاء في أخذ آراء تلك الشريعة، والعمل بها على الرجوع إلى غير ذاك المنصوب، ولوكان أعلم، والنصب هنا ثابت بحكم القسم الثاني من الأدلّة الخاصّة بمن هو كفوء قياديّاً، فلا يبقى موضوع للرجوع إلى بناء العقلاء.

92


الفرض الثالث: أن لا نفترض التعارض الداخليّ والإجمال في القسم الأوّل من الدليل اللفظيّ للتقليد، بل نؤمن باختصاصه بالأعلم، إمـّا لفرض كون الفاصل بينهما كبيراً، أو لفرض ارتكاز عقلائيّ يدلّ على تقديم رأي الأعلم وإن كان الفاصل بينهما ضئيلاً، مع الإيمان بأنّ هذا الارتكاز يؤثّر على ظهور الألفاظ، ويوجب حمل الأدلّة اللفظيّة على نفس المنهج المرتكز عقلائيّاً. وعندئذ يقع التعارض بين قسمي الدليل اللفظيّ للتقليد؛ لأنّ الأوّل منهما يشير إلى تقليد الأعلم، والثاني منهما يشير إلى تقليد الكفوء المفروض اختلافه عن الأعلم في الفتوى.

فقد يقال: إنـّهما يتساقطان، ونرجع إلى الارتكاز العقلائيّ الدالّ على ترجيح رأي الأعلم.

ولكن قد يقال في قبال ذلك: إنّ العرف يتعامل مع الدليلين اللفظيين في المقام معاملة العموم والخصوص المطلق لا العموم من وجه، فالنسبة بينهما بالدقّة وإن كانت هي العموم من وجه ـ بعد فرض سقوط رأي غير الأعلم بلحاظ القسم الأوّل لدى التعارض لرأي الأعلم، فيبقى رأي الأعلم كمادّة افتراق للقسم الأوّل، كما بقي رأي الكفوء كمادّة افتراق للقسم الثاني ـ ولكن المفهوم عرفاً هو أنّ النسبة بينهما عموم مطلق، لأنّ القسم الأوّل شمل كلّ الفقهاء، والقسم الثاني اختصّ بالفقهاء الكفوئين قياديّاً، فيكون المرجع هو الفقيه الكفوء قياديّاً تقديماً للخاصّ على العامّ؛ لأنّ الإرجاع إلى الفقيه الكفوء يدلّ على عدم جواز الرجوع إلى غير الكفوء حتى فيما لو لم يتعارض الفتويان، فالقسمان من دليلي التقليد متعارضان رغم كونهما مثبتين للعلم بوحدة الحكم، أي: أنـّه لا يوجد لدينا وجوبان للتقليد، وإنـّما لدينا وجوب واحد إمّا مقيّد بكفاءة المقلَّد للقيادة، أو غير مقيّد بها، ووزان الدليلين في المقام وزان ما لو ورد دليلان للتقليد: أحدهما لم يدلّ على اشتراط العدالة في المقلَّد، والثاني دلّ على اشتراط العدالة فيه، فعندئذ لا إشكال في أنّ الثاني يقدّم على الأوّل بالأخصّيّة، رغم أنـّه يمكن أن يقال بالتدقيق: إنّ النسبة بينهما عموم من وجه، لأنـّه لو وقع التعارض بين رأي الأعلم غير العادل، ورأي العادل غير الأعلم، فقد سقط رأي غير الأعلم عن الأماريّة، والحجّيّة بلحاظ الدليل الأوّل، وكان رأي العادل غير الأعلم مادّة للافتراق للدليل الثاني.

وإذا ثبت بهذا البيان نصب الفقيه الكفوء، فلا تصل النوبة إلى الرجوع إلى بناء العقلاء، المرجّح لرأي الأعلم كما مضى.

وأمّاعلى الاحتمال الثاني، وهو فرض الانحلال، وجعل قيد الكفاءة راجعاً إلى الاُمور التي

93


تكون فيها الكفاءة، لا إلى نفس الرواة على الإطلاق، فيصبح حال القسم الثاني من أدلّة التقليد اللفظيّة حال القسم الأوّل، ولا يفتح لناباباً للرجوع من الأعلم إلى الكفوء، فقد يكون المرجع للتقليد هو الأعلم، للفاصل الكبير بينهما في العلم، أو لكون الارتكاز قائماً على ترجيح الأعلم ولو مع الفاصل الصغير، ويكون المرجع للقيادة هو الكفوء.

ولو قلنا بإجمال ا لقسم الثاني بين الاحتمالين، سقط بالإجمال، وكان المرجع هو القسم الأوّل بناءً على تعيينه للأعلم، أو بناء العقلاء بناءً على ثبوته في تعيين الأعلم للتقليد، فيتحقّق التفكيك أيضاً بين التقليد والقيادة.

وينبغي أن نلتفت هنا إلى نكتة، وهي أنـّه متى ما انتهينا إلى التفكيك بين التقليد والقيادة، على أثر الكفاءة وعدم الكفاءة، فإنـّما ننتهي إليه في التقليد عن الفتاوى التي لا تعارض الأحكام القياديّة للقائد، وتوضيح ذلك: أنّ الأحكام القياديّة للقائد لا شكّ أنـّها تتأثّر بالفتاوى، إذ لا بدّ له من ملاحظة حدود الأحكام الأوّليّة الفقهيّة، كي لا تعارض أحكامه القياديّة لتلك الحدود، إلاّ بمقدار ما يقتضيه قانون التزاحم، وبلحاظ تلك الأحكام القياديّة يكون المرجع هو القائد الكفوء لا الفقيه غير الكفوء، رغم أنّ تلك الأحكام القياديّة قد تستبطن فتاوىً معارضة لفتوى الأعلم غير الكفوء؛ وذلك لأنّ نكتة الأخصّيّة ـ التي شرحناها في آخر بحثنا على الاحتمال الأوّل ـ تأتي هنا لا محالة.

بل بالإمكان أن يقال: إنّ القائد الفعليّ الذي يعمل ولايته على المجتمع في سدّ نقائص المجتمع تشمل أحكامه الولائيّة النافذة، حتى على من يعلم بخطأه من باقي الفقهاء، حتى الكفوئين منهم بما هم من أفراد المجتمع المولّى عليه، فهم أيضاً يتّبعون القائد في أحكامه الولائيّة ولو ابتنت على فتاوىً في الأحكام الأوّليّة تعارض فتاواهم.

هذا، ولنا طريق ثان لإثبات كون التقليد للفقيه الكفوء، لا للأعلم غير الكفوء، يمكن الالتجاء إليه حتى بناءً على الاحتمال الثاني الذي أنتج الفصل بين القيادة والتقليد، وهو دعوى وقوع التزاحم بين حكم ظاهريّ وهو وجوب تقليد الأعلم وحكم واقعيّ وهو وجوب تهيئة المناخ لقيادة الكفوء للمجتمع، إذ لو أصبح التقليد لغير الكفوء، عجز الكفوء تكويناً عن القيادة، لأنّ التفكيك بين المقامين بفرض القيادة لمن لا يرون كلامه حجّة في الأحكام الشرعيّة خلاف طبع عامّة الناس، فلو اتّبع الناس الأعلم غير الكفوء في الأحكام والفتاوى دون الفقيه الكفوء، عجز

94


الفقيه الكفوء عن قيادتهم.

لا يقال: إنّ هذا يعني أنّ و جوب تقليد الكفوء الذي هو حكم ظاهريّ أيضاً، أصبح تابعاً لمصلحة سلوكيّة، أي أنّ هناك مصلحة في نفس تقليدهم له، وهي مصلحة تهيئة المناخ المناسب للقيادة أثّرت على تعيين الحكم الظاهريّ، في حين أنّ ظاهر أدلّة الأحكام الظاهريّة هي الطريقيّة البحتة لحفظ مصالح الأحكام الواقعيّة المتزاحمة فيما بينها في الحفظ لدى الجهل.

فإنـّه يقال: إنّ حجّيّة الفتوى في ذاتها حكم ظاهريّ، لا يشذّ عن باقي الأحكام الظاهريّة في أنـّها ـ بحسب طبعها الأوّليّـ إنـّما تكون لأجل حفظ الأحكام الواقعيّة لدى التزاحم الحفظيّ، ولكن سقوط رأي الأعلم عن الحجّيّة، ووصول النوبة بالتالي إلى حجّيّة رأي غير الأعلم، إنـّما كان نتيجة التزاحم بين هذا الحكم الظاهريّ ـ وهو حجّيّة رأي الأعلم ـ والحكم الواقعيّ ـ وهو وجوب تهيئة المناخ لقيادة القائد ـ وهذا له نظير في سائر الأبواب، فإنّ التزاحم كما قد يتّفق بين حكمين واقعيّين كما في الصلاة والإزالة، كذلك قد يتّفق بين حكمين ظاهريّين، أو حكم واقعيّ وحكم ظاهريّ، من دون سراية التزاحم إلى الحكمين الواقعيّين، كما لو فرضنا أنّ واجبي النفقة لم يكن تزاحم بين وجوبي الإنفاق عليهما، لكون المنفق مالكاً لما يكفي لنفقتهما معاً، ولكن كلّ منهما وقع الاشتباه فيه بين شخصين، فكان مقتضى الحكم الظاهريّ في كلّ منهما هو العمل بالعلم الإجماليّ بالانفاق على شخصين، بناءً على أنّ الاحتياط في مورد العلم الإجماليّ حكم ظاهريّ، والمنفق لم يكن قادراً على الإنفاق على أربعة أشخاص، فهنا قد وقع التزاحم بين حكمين ظاهريّين، من دون سريان التزاحم إلى الحكمين الواقعيّين، وكما لو فرضنا أنّ واجب النفقة تردّد بين شخصين، وقلنا: بأنّ وجوب الاحتياط بالإنفاق عليهما احتياط شرعىّ، فهو حكم ظاهريّ، ولكن كان ذلك مزاحماً لمصرف أهمّ يؤدّي إلى حفظ النفس مثلاً، حيث لم يكن المنفق قادراً على الجمع بين ذاك المصرف والإنفاق على طرفيّ العلم الإجماليّ بوجوب النفقة، في حين كان قادراً على الجمع بين ذاك المصرف والإنفاق على أحدهما، فالتزاحم وقع بين حكم ظاهريّ وحكم واقعيّ، من دون سراية ذلك إلى التزاحم بين حكمين واقعيّين.

هذا، ولو لم نقبل بالتزاحم بين تقليد الأعلم وقيادة غير الأعلم بلحاظ الفتاوى غير المرتبطة بموارد قيادته، فقد لا نناقش في قبول التزاحم بينهما بلحاظ الفتاوى التي لها دخل في أحكامه الولائيّة، حيث يصعب على القائد تنظيم أحكامه القياديّة وفق فتاوى من يقلّده الناس

95


عندما يختلف الناس في التقليد، فهم يقلّدون فقهاء مختلفين يصعب الجمع بين فتاواهم وأخذها جيمعاً ـ رغم تعارضها ـ بعين الاعتبار في أحكامه الولائيّة، فحتى لو لم نؤمن في مثل هذا المورد بما مضى من تقديم رأي الكفوء على أساس الأخصّيّة التي شرحناها تأتي فكرة تقديم رأيه بلحاظ التزاحم الذي عرفت، ولو لم يصعب عليه تنظيم أحكامه القياديّة وفق فتاوى الآخرين، لكنّه لم يرَ داعياً إلى ذلك، ونظّمها وفق فتاواه هو باعتبار اعتقاده بأنـّها أحقّ من فتاوى غيره، تحقّق التزاحم أيضاً بالنسبة للناس، فتقدّم آراء الوليّ باعتبار أهمّيّة الولاية.

وهذان الطريقان اللذان سلكناهما لإثبات ترجيح رأي الكفوء في التقليد على رأي الأعلم يختلفان في بعض النتائج، فلو أخذنا بالاحتمال الثاني من الاحتمالين الماضيين في تفسير دليل الولاية، والذي أدّى إلى التفكيك بين القيادة والتقليد، ثمّ أثبتنا كون التقليد للكفوء بالطريق الثاني، فالنتائج لا تأتي مطابقة تماماً لما إذا أخذنا بالاحتمال الأوّل من الاحتمالين، وبالتالي آمنّا بالطريق الأوّل لترجيح الكفوء في التقليد، فمثلاً:

1 ـ إنّ الكفوء للقيادة لو لم يكن مستعدّاً للتصدّي للقيادة بأيّ سبب من الأسباب، فالطريق الثاني لا يعيّنه للتقليد في مقابل الأعلم غير الكفوء، بينما الطريق الأوّل يعيّنه لذلك.

2 ـ لو فرض كفوءان للقيادة أحدهما: هو المتصدّي عملاً، والآخر: هو الأعلم، فالطريق الثاني يعيّن الأوّل للتقليد حينما يكون تقليد الثاني مضرّاً بممارسة الأوّل لقيادة الساحة، بينما الطريق الأوّل لا يفي بذلك، فلو اقتصرنا على الطريق الأوّل كان مقتضى نظام الترجيح بالأعلميّة هو تقليد الثاني.

3 ـ إنّ الطريق الثاني ليس حدّيّاً كالطريق الأوّل؛ إذ ليس تقليد غير الكفوء بأيّ مستوىً من المستويات مزاحماً لقيادة الكفوء، فلو كان هناك قلّة من الناس يقلّدون غير الكفوء وكان غالبيّة أفرادهم يميّزون بين منصب القيادة ومنصب التقليد في الفتوى غير المؤثّرة على الأحكام الولائيّة للوليّ، فرغم تقليدهم لغير الكفوء يخضعون لقيادة الكفوء مثلاً، فلا تزاحم بين هذا التقليد وتلك القيادة كما هو واضح.

كما أنـّه لو تمّت توعية الاُمّة على التفكيك بين القيادة والتقليد في غير الاُمور الدخيلة في الأحكام الولائيّة للقائد، بحيث ارتفع التزاحم عملاً بين الأمرين، لم يبق مورد للاستفادة من الطريق الثاني، كما أنّ الطريق الأوّل عندي مشكل؛ لعدم وضوح ترجيح الاحتمال الأوّل من الاحتمالين الذين أبديناهما في القسم الثاني من أدلّة التقليد، ولا أقلّ من الإجمال.

96


ثمّ إنـّنا لو سلكنا مسلك من يقول بأنّ ولاية الفقيه ليست بنصّ دالّ على نصبه، وإنـّما تكون ولايته بالانتخاب بعد دلالة الأدلّة على أنّ من ينتخب للولاية تشترط فيه الفقاهة، فهنا نفقد الطريق الأوّل، وينحصر الأمر في الطريق الثاني، لأنّ الطريق الأوّل كان مبتنياً على افتراض إطلاق لفظيّ، لا يحمل على الانحلال والتفكيك بين منصب القيادة ومنصب الفتوى. أمـّا إذا فقدنا مثل هذا الإطلاق، فاحتمال التفكيك موجود عقلاً لا محالة، ولا علاج له إلاّ فرض التزاحم.

نعم نحن مصرّون على أنّ التفكيك بين منصب القيادة ومنصب التقليد في الفتاوى التي انبنت عليها الأحكام الولائيّة للقائد لا معنىً له، وأنّ دليل القيادة، أيّ شيء كان، فهو مقدّم في هذا المورد على دليل التقليد، سواء آمنّا بوجود نصّ يدلّ على نصب الفقيه الكفوء وليّاً، أو افترضنا أنّ الدليل إنـّما دلّ على اشتراط الفقاهة والكفاءة في الوليّ، فإنـّه على كلا التقديرين تكون ولايته بلحاظ الفتوى التي انبنت عليها أحكامه الولائيّة منافية لحجّيّة فتاوى غيره المعارضة لتلك الفتاوى، فيقدّم دليل الولاية على دليل التقليد في الفتاوى التي انبنت عليها أحكامه الولائيّة بنكتة الأخصّيّة.

لا يقال: إنّ النسبة هي العموم من وجه؛ إذ لئن كان موضوع دليل الولاية أخصّ ـ لاختصاصه بالكفوء، بخلاف موضوع دليل التقليد؛ لعدم اختصاصه بالكفوء ـ فمحمول دليل التقليد أخصّ؛ لاختصاصه بالفتاوى، بخلاف محمول دليل الولاية، فإنـّه عبارة عن حجّيّة الفتاوى والأحكام.

هذا، ولو أنكرنا دلالة دليل الولاية على الولاية الفعليّة، وقلنا: إنـّه إنـّما دلّ على شرط الفقاهة والكفاءة في من ينتخب وليّاً، قلنا: إنّ دليلاً من هذا القبيل لا يمنع عن افتراض كون المرجع في الفتاوى غير القائد إلاّ في الفتاوى التي انبنت عليها الأحكام الولائيّة، فتكون النسبة بين الدليلين بلحاظ المحمول عموماً من وجه، يجتمعان في الفتاوى التي انبنت عليها الأحكام الولائيّة، ويفترقان في سائر الفتاوى، وفي الأحكام الولائيّة الاُخرى غير المنبنية على فتاوىً مخالفة، وعندئذ لا ينفع كون النسبة بين الدليلين بلحاظ الموضوع عموماً مطلقاً؛ لأنّ النسبة إذا كانت من جهة عموماً مطلقاً، ومن جهة اُخرى عموماً من وجه، فالنسبة بين الدليلين بالتالي هي العموم من وجه، لا العموم المطلق.

فإنـّه يقال: إنـّه متى ما كان الدليلان المتعارضان أحدهما أخصّ من الآخر بلحاظ

97

وعلى أيّة حال، فالترخيص في جانب غير الأهمّ في ما نحن فيه إنـّما يبطله دليل خاصّ وارد في المقام، وهو ما مضت الإشارة إليه من الأخبار المتفرّقة الواردة في موارد مختلفة في الشبهة المحصورة، كما ورد من لزوم الاجتناب من الأغنام التي نعلم بكون بعضها موطوءاً، أو الأمر بإراقة المائين اللذين علمنا بنجاسة أحدهما، فما تمّ سنداً من هذه الأخبار يدلّ على تساقط الأصلين، وعدم جريان الأصل ولو في أحدهما، فهذه الأخبار تشمل فرض أهمّيّة أحد الطرفين، فإنـّه وإن لم تكن في موردها أهمّيّة في أحد الطرفين من حيث المحتمل، لكنّها بإطلاقها تشمل فرض الأهمّيّة من حيث الاحتمال، فيشكل بذلك إجراء الأصل الواحد عند عدم الابتلاء بالمعارض من باب أهمّيّة الجانب الآخر.

 


الموضوع، والثاني أخصّ من الأوّل، أو أعمّ من وجه بلحاظ المحمول، فالجمع العرفيّ يقدّم فيه جانب الموضوع على جانب المحمول على ما ذكر في علم الاُصول.

ولو لم نقبل بهذا الكلام، قلنا: تنقّح أيضاً في علم الاُصول: أنـّه متى ما وقع التعارض بين دليلين بالعموم من وجه، وكان أحدهما آبياً عن التخصيص بالآخر عرفاً، بخلاف العكس، عوملت معهما معاملة العموم المطلق. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ تخصيص دليل التقليد، بإخراج الفتاوى التي انبنت على خلافها الأحكام الولائيّة للوليّ أمر معقول، ولكن تخصيص دليل الولاية بإخراج تلك الأحكام ليس عرفيّاً، فإنـّنا إن قبلنا أنّ التفكيك بين منصب الولاية، ومنصب التقليد في الفتاوى غير المنبنية عليها الأحكام الولائيّة أمر عرفيّ، فمن الواضح جدّاً أنّ التفكيك بين الأحكام الولائيّة بلحاظ معارضة بعضها لفتاوى غيره ليس عرفيّاً، ويعتبر شلاًّ لمنصب الولاية، كما أنـّه ليس من المعقول بقاء تلك الأحكام الولائيّة على حجّيّتها مع بقاء فتاوى غيره المخالفة لما انبنت عليه تلك الأحكام على الحجّيّة أيضاً، فإنـّهما متضادّان ولا يمكن حجّيّتهما معاً.

وبهذا البيان يتّضح: أنـّنا حتى لو قلنا بنصب كلّ الفقهاء الكفوئين وليّاً من قبل الإمام (عليه السلام)، فالذي يمارس الولاية بالفعل هو الذي يتّبع في أحكامه الولائيّة، حتى لو كانت تلك الأحكام على خلاف فتاوى من يقلّده المكلّف من فقيه آخر كفوء.

98

نعم، فرض عدم الابتلاء بالمعارض من باب جريان أصل مثبت للتكليف في أحد الطرفين حاكم على هذا الأصل، أو من باب كونه في نفسه خارجاً عن مورد الأصل غير مشمول لإطلاق هذه الأخبار.

فتحصّل: أنّ اختصاص أحد الطرفين بالأصل؛ لنكتة كون التكليف على تقدير وجوده في الطرف الآخر أهمّ لا يبرّر جريان الأصل في ذاك الطرف غير الأهمّ؛ وذلك للرويات الخاصّة، ولولا الروايات الخاصّة لكان مقتضى القاعدة جريان الأصل في الطرف غير الأهمّ بلحاظ حديث الحلّ(1) .

بقي الكلام في دفع شبهة اُخرى تثبت التخيير في أطراف العلم الإجماليّ، وهي أن يقال: إنـّنا نجري كلا الأصلين في المقام، بلا حاجة إلى تقييد الأصل في كلّ من الجانبين، ولا يلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعيّة، وذلك ببيان: أنّ الترخيص في هذا الجانب بالخصوص، وفي ذاك الجانب بالخصوص، لا ينافي لزوم الإتيان بالجامع وبأحد الفردين، وذلك نظير التخييرات الواقعيّة، كالتخيير بين خصال الكفارات الثلاث، حيث إنّ الجامع واجب، وبالرغم من ذلك نحن مرخّصون في كلّ طرف من الأطراف في الترك.

والجواب: أنـّنا إمـّا أن نختار في باب الواجب التخييريّ بالإلزام بالجامع أنّ الإلزام يسري من الجامع إلى الأفراد، لكنّه إلزام مشوب بالترخيص في الترك إلى البدل


(1) لا بلحاظ (رفع ما لا يعلمون)، ولا بلحاظ الاستصحاب. أمّا الأوّل؛ فلما عرفت من أنـّه لا ينظر إلى حلّ التزاحم بلحاظ الإلزام المعلوم إجمالاً. وأمّا الثاني فأظنّ أنّ نظر اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)في عدم جريانه في المقام إلى أنّ دليل الاستصحاب ورد بلسان الكشف، ومن الواضح عرفاً أن أهمّيّة المحتمل وعدمها ليس لهما دخل في الكشف وعدمه.

أمّا إذا افترضنا أنّ الأهمّيّة لم تكن للمحتمل، بل كانت للاحتمال، أي: أنّ احتمال التكليف في أحد الطرفين كان أقوى، فهنا أيضاً لا يجري حديث الرفع في الطرف الموهوم؛ لما عرفت من عدم علاجه للتزاحم بلحاظ الإلزام المعلوم إجمالاً، ولكن يجري حديث الحلّ والاستصحاب، لولا ما عرفته من الأخبار الخاصّة المانعة بإطلاقها عن ذلك، والفرق بينه وبين فرض أهمّيّة المحتمل ـ حيث قلنا بعدم جريان الاستصحاب في ذاته في مورد أهمّيّة المحتمل، بخلاف فرض أهمّيّة الاحتمال ـ واضح، لأنّ أهمّيّة المحتمل أو عدمها ليس لها دخل في الكشف، لكن أهمّيّة الاحتمال أو عدمها يفهم عرفاً دخلها في الكشف.

99

في كلّ واحد من الطرفين، أو نختار أنـّه لا يسري منه إلى الأفراد، فإن اخترنا الأوّل، فمنافاة الترخيص المطلق في كلّ طرف من الأطراف للإلزام بالجامع واضحة، وإن اخترنا الثاني، فعندئذ وإن لم تكن منافاة عقلية بينهما، إلاّ أنّ العرف يفهم من قوله: (ارخّصك في هذا وارخّصك في ذاك) ـ مع فرض التحفّظ على الإطلاقين ـ الترخيص في ترك الجامع، ويرى التهافت بين الترخيصين المطلقين والإلزام بالجامع، فما يمكن أن يستفاد من دليل الأصل لا يمكن التحفّظ عليه بلا تقييد، ومع التقييد يرجع إلى ما عرفت جوابه.

وقد تحصّل إلى هنا: أنّ الاُصول الترخيصيّة في أطراف العلم الإجماليّ تتساقط، إمـّا لمحذور عقليّ، وهو كون حكم العقل بحرمة المخالفة القطعيّة تنجيزيّاً كما هو مبناهم، أو لقصور في مرحلة الإثبات، وهو ارتكاز المناقضة بين الحكم الواقعيّ والترخيص في الأطراف في نظر العرف والعقلاء كما اخترناه.

إلاّ أنّ هنا شبهة تأتي على مبنانا دون مبناهم في المقام، وهي أنـّه لو فرضنا أنّ كلّ واحد من طرفي العلم الإجماليّ كان مورداً لأصل ترخيصيّ ليس الآخر مورداً له، فلو كان في الترخيص في المخالفة القعطيّة محذور عقليّ لتساقط الأصلان، لكن على مبنانا من كون الوجه في تساقط الاُصول ارتكاز المناقضة للحكم الواقعيّ في نظر العرف لا وجه لتساقط الأصلين في المقام، وذلك لأنّ الترخيصين لو كانا مستفادين من دليل واحد، فهذا الدليل كان يبتلى بالإجمال من ناحية الارتكاز، فكانت الاُصول تتساقط، ولكن حيث إنـّهما مستفادان من دليلين، فكلّ واحد من الدليلين بخصوصه ليس خلاف الارتكاز، فظهوره محفوظ، وإذا تحقّق الظهوران أخذنا بهما رغم أنـّهما بمجموعهما خلاف الارتكاز، إذ الظهور حجّة ما لم ترد حجّة على خلافه، والارتكاز ليس حجّة في المقام على خلافه، وغاية أثره هي رفع الظهور لو كان على خلافه، والمفروض انحفاظ الظهورين في المقام لعدم كون واحد منهما بنفسه خلاف الارتكاز.

لكنّ الصحيح في المقام: أنّ هذا الارتكاز يولّد ارتكازاً آخر، وهو ارتكاز استلزام الترخيص في أحد الطرفين للإلزام في الطرف الآخر، والملازمة العرفيّة كالملازمة العقليّة في توليد الدلالة الالتزاميّة للكلام، فتصبح لدليل الترخيص في كلّ واحد من الطرفين دلالة التزاميّة على الإلزام في الطرف الآخر، فيقع التعارض بين الدلالة المطابقيّة في كلّ من الجانبين والدلالة الالتزاميّة في الجانب الآخر، وتتساقطان(1) .


(1) وقد يجاب عن الإشكال في المقام بجواب آخر غير ما أفاده اُستاذنا الشهيد، وهو أن

100

 

 

 

 


الدليل الذي دلّ على حجّيّة الأصلين في الموردين ـ وهو دليل حجّيّة الظهور والإطلاق ـ مبتلىً بتعارض داخليّ؛ وذلك لأنّ الأصلين بمجموعهما يؤدّيان إلى جواز المخالفة القطعيّة، وهو خلاف الارتكاز، فكونهما خلاف الارتكاز وإن كان لا يؤدّي إلى إجمال دليل هذا الأصل، ولا إلى إجمال دليل ذاك الأصل؛ لأنّ أحدهما منفصل عن الآخر، لكن دليل حجّيّة كلّ من إطلاقي الأصلين للموردين هو دليل واحد مشترك بينهما، فذاك الدليل هو الذي يبتلي بالإجمال إن كان ظهوراً، وينعدم إن كان ارتكازاً عقلائيّاً.

ويرد عليه: أنّ كون مجموع ظهورين مؤدّياً إلى خلاف الارتكاز لا يمنع عن شمول الارتكاز العقلائيّ القائم على حجّيّة الظهور لهما، ما لم يؤدِّ ذاك الارتكاز إلى القطع بالكذب، أو إلى تعارض أحدهما للدلالة الالتزاميّة للآخر، كما أفاده اُستاذنا، وحتى لو فرضنا أنّ ذاك الارتكاز أدّى إلى الظنّ بالكذب، فارتكاز حجّيّة الظهور شامل للظهور المظنون كذبه.

نعم، قد يفترض أنّ الارتكاز الذي كان مجموع الظهورين مخالفاً له يكون قويّاً إلى حدّ نقطع بأنّ الردع عنه ـ لو كان مردوعاً ـ لا يكون بظهور من هذا القبيل، بل لا بدّ له من ردع قوّي يصلنا ـ لو كان ـ بأقوى ممّا وصلنا من ظهور، وهذا مطلب آخر .

101

 

 

 

 

 

 

تنبيهات العلم الإجماليّ

 

تقيّد أحد الطرفين بعدم الآخر

 

التنبيه الأوّل: إذا علم إجمالاً بأحد تكليفين، أخذ في موضوع أحدهما عدم الآخر، فهل هذا العلم الإجماليّ يكون منجّزاً، أو لا؟ مثاله: ما إذا علم إجمالاً بأنـّه: إمـّا يجب عليه الوفاء بالدين، فلا يبقى له مال، فلا يكون مستطيعاً ولا يجب عليه الحجّ، أو لا يجب عليه الوفاء بالدين فيجب عليه الحجّ، ويمثّل ـ أيضاً ـ بما لو نذر أنـّه لو لم يجب عليه الوفاء بالدين صام مثلاً، فيعلم إجمالاً بوجوب الوفاء بالدين أو الصوم.

وهذه المسألة ذكرها المحقّق العراقي (رحمه الله) نقضاً على قوله بالعلّيّة، وأجاب عنه(1). ومن هنا جعلنا ذلك أوّل التنبيهات، فإنـّه وإن كان في نفسه مسألة مستقلّة ينبغي البحث عنها، لكنّه مرتبط أيضاً بأصل مبحث العلم الإجماليّ والعلّيّة والاقتضاء، إذ يمكن اعتباره نقضاً على العلّيّة أورده المحقّق العراقيّ على مبناه ودفعه.

ويتّضح الوجه في كونه نقضاً على مبناه بالالتفات إلى أمرين:

الأمر الأوّل: ما مضى من أنّ مبنى المحقّق العراقيّ (رحمه الله) في باب العلم الإجماليّ، هو أنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، وموجب لسقوط الأصل في أطرافه حتى بقطع النظر عن المعارض. نعم، هو يقبل جريان


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 315 ـ 316، وراجع المقالات: ج 2 ص 13.

102

الأصل الترخيصيّ في بعض الأطراف في موردين:

المورد الأوّل: ما إذا جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، أي أن يعبّدنا الشارع بأنـّه هو الواقع. وهذا ما مضى في ما سبق، ومضى تحقيق الحال فيه.

المورد الثاني: ما إذا انحلّ العلم الإجماليّ. و أحد أسباب انحلال العلم الإجماليّ عند المحقّق العراقيّ (رحمه الله) هو جريان الأصل المثبت للتكليف في أحد الجانبين، فلا بدّ من أن يجري أوّلاً الأصل المثبت في أحد الطرفين، حتى ينحلّ العلم الإجماليّ، ثمّ يجري الأصل الترخيصيّ في الجانب الآخر. وهذا ما يأتي بيانه ـ إن شاء الله ـ بعد هذا، مع الإيراد عليه.

الأمر الثاني: أنّ الفقهاء التزموا في هذه المسألة بجريان الأصل في الطرف الأوّل، ووجوب العمل بالطرف الثاني المترتّب على عدم الطرف الأوّل، فيجب عليه الحجّ مثلاً دون الوفاء بالدين.

وعليه يتضّح وجه كون هذا نقضاً على المحقّق العراقي (رحمه الله)، فإنـّه وإن فرض وجوب الحجّ، لكن هذا إنـّما هو في طول نفي وجوب الوفاء بالدين بالأصل الترخيصيّ، مع أنّ المفروض عند المحقّق العراقيّ أنّ الأصل الترخيصيّ إنـّما يجري بعد أن جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، أو ينحلّ العلم الإجماليّ بأصل مثبت في أحد الطرفين، وهنا جعل البدليّة مفقود، فلا بدّ أولاً من ثبوت وجوب العمل بأحد الطرفين، حتى ينحلّ العلم الإجماليّ، فيجري الأصل الترخيصيّ، لا أن يجري الأصل الترخيصيّ في بعض الأطراف، ويثبت بعد ذلك وجوب العمل بالطرف الآخر.

وذكر المحقّق العراقيّ (رحمه الله) في مقام الجواب عن هذا النقض: أنـّه تارةً يفترض أنّ وجوب الحجّ موقوف على عدم وجوب أداء الدين واقعاً، واُخرى يفترض أنـّه موقوف على مطلق عدم الوجوب ولو ظاهراً، وثالثة يفترض أنـّه موقوف على مطلق المعذوريّة عن أداء الدين، أي: عدم تنجّز ذلك عقلاً عليه.

فإن فرض الأوّل فاستصحاب العدم في جانب الدين محكّم في المقام، إذ الاستصحاب يدلّ بالمطابقة على ذات المستصحب، وبالملازمة على آثار المستصحب، فهنا كما يدلّ على عدم الدين كذلك يدلّ على وجوب الحجّ، ونحن نأخذ أولاً بالدلالة الثانية فينحلّ بها العلم الإجماليّ، ثمّ نأخذ بالدلالة الاُولى.

ولا يرد على المحقّق العراقيّ إشكال تبعيّة الدلالة الالتزاميّة في الحجّيّة

103

للمطابقيّة، بناءً على مبناه من إنكار هذه التبعيّة، على أنّ الدلالتين في المقام عرضيّتان لا طوليّتان.

وإن فرض الثاني، فالكلام هو عين الكلام على الفرض الأوّل، إلاّ أنـّه هنا يمكن التمسّك بأصالة البراءة أيضاً؛ إذ المفروض أنّ وجوب الحجّ أثر لمطلق عدم وجوب الدين ولو ظاهراً.

وإن فرض الثالث، فهنا نقول: إنّ العلم الإجماليّ يستحيل تنجيزه في المقام، إذ يشترط في تنجيزه أن يكون كلا طرفيه قابلاً للتنجيز في عرض واحد، وهنا ليس الأمر كذلك، إذ لو تنجّز الدين لم يعقل تنجّز الحجّ، لأنّ المفروض أنّ وجوبه فرع عدم تنجّز الدين.

هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ (رحمه الله) في المقام. ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ التمسّك أوّلاً بدلالة دليل الأصل على الأثر، وهو وجوب الحجّ، ثمّ الأخذ بدلالته على نفي وجوب أداء الدين إنّما يتمّ لو سلّمنا أن دليل الأصل متكفّل لبيان حكمين، وهذا في أصالة البراءة ممنوع عندنا وعندهم، فلا يدلّ الأصل إلاّ على حكم واحد، وهو رفع وجوب أداء الدين، ويترتّب عليه وجوب الحجّ ذاتاً ترتّب الحكم على موضوعه، من باب أنّ المفروض أنـّه اُخذ في موضوعه عدم وجوب الدين ولو ظاهراً، فلا بدّ أولاً من إثبات عدم وجوب الدين، حتى يثبت وجوب الحجّ، فالنقض في هذا الفرض وارد عليه.

نعم، في الاستصحاب لا بأس بهذا الكلام حسب مبناه (قدس سره)، لكن يرد عليه الإشكال المبنائيّ، حيث إنـّه سوف يأتي ـ إن شاء اللهـ في بحث الاستصحاب أنّ الصحيح أنّ دليل الاستصحاب لا يتكفّل عدا جعل ذات المستصحب، دون آثاره الشرعيّة، ولا العقليّة ولا العاديّة، لكن الآثار الشرعيّة تترتّب ذاتاً بالبيان الذي سوف يأتي هناك(1)، بخلاف الآثار العقليّة والعاديّة.

 


(1) سوف يأتي في بحث الاستصحاب أنّ معنى التعبّد بالمستصحب هو الأمر بالجري العمليّ وفق ما يتطلّبه عقلا ً اليقين بالمستصحب، وأنّ أثر الأثر إذا كانا شرعيّين يترتّب باعتبار كون المستصحب جزء موضوع الأثر الثاني، فيرجع إلى الأثر المباشر.

أقول: إذا رجع الى الأثر المباشر، فترتّبه يكون في عرض ترتّب الأثر الأوّل، إذن فيتمّ ما

104

وثانياً: أنـّه لو كان وجوب الحجّ مترتّباً على مطلق عدم وجوب أداء الدين ولو ظاهراً، فهنا تسليمه (رحمه الله) لمانعيّة العلم الإجماليّ عن جريان الأصل في نفسه، وحل الإشكال بإثبات وجوب الحجّ أولاً، حتى ينحلّ العلم الإجماليّ، ثمّ ينفى وجوب الدين بالأصل، في غير محلّه، فإنّ نفي وجوب الدين يقلب العلم الإجمالي في المقام إلى العلم التفصيليّ بوجوب الحجّ؛ لأنّ المفروض ترتّبه على مطلق عدم وجوب الدين ولو ظاهراً، وقد ثبت ذلك فيقطع بوجوب الحجّ، ولا تعقل مانعيّة مثل هذا العلم الإجماليّ في نفسه عن الأصل؛ إذ هذه المانعيّة دوريّة، فإنـّها لو سلّمت لكان معناها توقّف جريان الأصل على عدم تنجّز هذا العلم الإجماليّ المتوقّف على عدم هذا العلم الإجماليّ، مع أنّ هذا الأصل سبب لانتفاء العلم الإجماليّ، فعدم العلم الإجماليّ موقوف على هذا الأصل توقّف المسبّب على السبب، وهذا دور، ويمكن التعبير عن هذا الدور بشيء من المسامحة، بأنّ مانعيّة هذا العلم الإجماليّ موقوفة على تنجّزه، الموقوف على وجوده، وعدم انقلابه إلى العلم التفصيليّ، الموقوف على عدم نفي وجوب الدين بالأصل، الموقوف على مانعيّة هذا العلم الإجماليّ.

وإن شئت فقل: إنّ مانعيّة العلم الإجماليّ عن الأصل إنـّما كانت لاستلزام الأصل لمحذور عقليّ، وهو الترخيص في المخالفة القطعيّة مثلاً، وهذا المحذور إنـّما يترتّب عند التحفّظ على أمرين: الأصل، والعلم الإجماليّ، فإن فرض أنّ الأصل يقتضي رفع العلم الإجماليّ، فمثل هذا الأصل ليس مخالفاً لحكم العقل، فلا وجه لعدم جريانه.

وثالثاً: أنـّه لو كان وجوب الحجّ مترتّباً على عدم تنجّز الدين، فهنا ليس لدينا علم اجماليّ يتكلّم في تنجيزه وعدم تنجيزه، فإنـّه لو فرض علم إجماليّ في المقام، فما هما طرفاه؟

 


يقوله المحقّق العراقي من أنّ الحجّ تنجّز فأوجب ذلك انحلال العلم الإجماليّ، بناءً على مبناه من أنّ تنجّز أحد طرفي العلم الإجماليّ يوجب انحلاله. وهذا واضح في ما إذا كان المقصود بالاستصحاب استصحاب عدم الدين، فيثبت الأثران: وهما عدم وجوب أداء الدين، ووجوب الحجّ في عرض واحد، وكذلك الحال في ما إذا كان المقصود الاستصحاب الحكمي، أعني: استصحاب عدم وجوب اداء الدين، فإنـّه ـ عندئذ ـ يثبت كون الوظيفة هي الجري العمليّ وفق المستصحب، ووفق أثره، وهو وجوب الحجّ في عرض واحد.

105

فإن قيل: إنّ طرفيه عبارة عن وجوب الحجّ ووجوب أداء الدين، قلنا: إنـّه لا يعقل تحقّق هذا العلم الإجماليّ، حتى قبل إجراء الأصل الشرعيّ والعقليّ المؤمّن عن وجوب أداء الدين، فإنـّه وإن فرض أنّ المكلّف يحتمل تنجّز أداء الدين عليه، ويحتمل عدم تنجّزه، وعلى تقدير عدم تنجّزه يجب عليه الحجّ، لكن ليس هنا علم إجماليّ بوجوب أحد الأمرين؛ إذ من المحتمل أن يكون وجوب أداء الدين منجّزاً عليه من دون أن يكون هذا الوجوب ثابتاً في الوقع، لأنّ التنجّز واللابديّة العقليّة، وكذا الشرعيّة الظاهريّة لا يستلزم ثبوت الحكم واقعاً. وعلى هذا الفرض لا يجب عليه أداء الدين كما هو المفروض، ولا الحجّ؛ لتوقّف وجوبه على عدم تنجّز أداء الدين، والمفروض تنجّزه.

وإن قيل: إنّ طرفيه عبارة عن وجوب الحجّ وتنجّز أداء الدين، قلنا: لا معنى للشكّ في تنجّز أداء الدين وعدمه بعد أن استقرّ عند كلّ شخص مبانيه في العلم الاجماليّ والشكّ البدويّ، من المنجّزيّة وعدم المنجّزيّة وغير ذلك، بل إمـّا يحصل القطع بتنجّزه، وإمـّا يحصل القطع بعدم تنجّزه.

وعلى أيّة حال، فالصحيح في المقام: أنّ الأصل يجري في الطرف الذي اُخذ عدمه في موضوع الآخر، ويثبت وجوب الآخر واقعاً إن كان مترتّباً على عدم وجوب الأوّل ولو ظاهراً، أو عدم تنجّزه، وإمـّا إن كان مترتّباً على عدم وجوب الأوّل واقعاً، فهذا العلم الإجماليّ لا يمنع عن جريان الاستصحاب في الطرف الأوّل، والتأمين من ناحيته بذلك، وإثبات وجوب الطرف الثاني ظاهراً بإحراز موضوعه بالاستحصاب، بناءً على مبنانا من عدم علّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة، وعدم مانعيّته عن الاستصحاب في أحد الطرفين من دون معارض.

وفي الختام لا بأس ببيان الحال في ما ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله)من أنّ العلم الإجماليّ يجب أن ينجّز كلا طرفيه في عرض واحد، فإذا لم يمكن ذلك لم يؤثّر العلم الإجماليّ في التنجيز.

وهذا صحيح بناءً على ما يحكم به عقلنا من أنّ الموافقة القطعيّة ـ بما هي موافقة قطعيّة ـ واجبة للتكليف المعلوم بالإجمال. ومن المعلوم أنّ الإتيان بكلّ واحد من الطرفين جزء للموافقة القطعيّة والتنجّز الثابت للمجموع، وهو الموافقة القطعيّة، ينبسط ـ لا محالة ـ على الأجزاء على حدّ سواء.

وهذا الكلام صحيح حتى على مبنانا: من أنّ العلم الإجماليّ ليس بياناً إلاّ

106

بمقدار الجامع، فإنـّنا لا نلتزم بأنّ تأثيره يجب أن يكون بمقدار بيانيّته، بل نقول: بأنـّه ينجّز الموافقة القطعيّة للواقع.

ولكنّ المحقّق العراقيّ (قدس سره) لم يكن من حقّه أن يدّعي أنّ تنجّز طرفي العلم الإجماليّ يجب أن يكون في عرض واحد؛ وذلك لأنـّه لا يقول بتنجيز العلم الإجماليّ ابتداءً للموافقة القطعيّة، بل يقول بأنّ العلم الإجماليّ ينجّز على العبد الإتيان بالواقع، وإذا تنجّز الإتيان بالواقع تنجّز كلّ واحد من الطرفين من باب أنّ احتمال الواقع المنجّز منجِّز، وعليه ففي المثال الماضي لو كان الواجب الواقعيّ هو الحجّ لا أداء الدين، فيتنجّز أوّلاً وجوب الحجّ؛ لأنـّه الواقع، والعلم الإجماليّ إنـّما ينجّز بذاته ابتداءً الواقع، وفي طول تنجّز ذلك يتنجّز وجوب أداء الدين، وعندئذ يستحيل أن يكون وجوب الحجّ فرع عدم تنجّز أداء الدين المتفرّع على عدم تنجّز وجوب الحجّ، فإنّ كون وجوب شيء فرعاً لعدم تنجّز نفس هذا الوجه غير معقول(1) .

 


(1) وعليه فلو دلّ الدليل على كون وجوب الحجّ فرع عدم تنجّز أداء الدين، يجب أن يحمل على كونه فرعاً لعدم التنجّز الثابت بقطع النظر عن نفس هذا العلم الإجماليّ، كي لا نتوّرط في هذه الاستحالة، وبما أنـّه من الواضح أنّ أداء الدين في المقام ـ بقطع النظر عن نفس هذا العلم الإجماليّ ـ غير منجّز، إذن نعلم تفصيلاً بوجوب الحجّ، ولا يبقى لنا في المقام علم إجماليّ.

107

 

 

 

اختصاص الأصل ببعض الأطراف:

 

التنبيه الثاني: أنّه رتّب على القول بكون العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة ـ كما قال به بعضهم ـ أو كون تأثيره في ذلك بمجرد الاقتضاء ـ كما اخترناه ـ، اّنـّه على الأوّل لا يجري الأصل في بعض أطراف العلم الإجمالي وان لم يكن معارض، وعلى الثاني يجري الأصل عند عدم المعارض، والمحقّق النائيني (رحمه الله)ذكر على ما في تقرير بحثه(1) : أنّ هذه الثمرة مجرّد ثمرة فرضيّة، ولا تتّفق بحسب الخارج، ونحن عقدنا هذا التنبيه هنا لنذكر أولاً: ما هو التحقيق في مسألة جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض في الصور المختلفة التي يتصوّر فيها ذلك، ونتعرّض بعد ذلك لكلام المحقّق النائينيّ (رحمه الله) ومناقشته.

فنقول: إنّ اختصاص الأصل ببعض أطراف العلم الاجماليّ يكون في ثلاث صور:

 

فرض الاختصاص في نفسه:

الصورة الاُولى: أن يكون هذا الاختصاص لأجل عدم كون الطرف الآخر مجرىً للأصل في نفسه، أي بقطع النظر عن محذور الترجيح بلا مرجّح، كما لو علم إجمالاً بأنـّه إمـّا لم يصلِّ صلاته الحاضر وقتها، وإمـّا أنّ هذا الجبن حرام؛ لوجود الميتة فيه، فالطرف الأوّل ليس مجرىً للاصل المؤمّن في نفسه؛ لأنّ الشكّ فيه شك في الفراغ لا في أصل التكليف، فهو مجرىً لقاعدة الاشتغال، لا للأصل المؤمّن، وهنا يقول الاصحاب ـ حتى القائلون بعلّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة ـ بجريان الأصل المؤمّن في الطرف الخاصّ به، لأنّ العلم الإجماليّ ـ حتى بناءً على علّيّته لذلك ـ منحلّ بجريان الأصل المثبت في أحد الطرفين، وهو أصالة الاشتغال،


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 12 ـ 16، وأجود التقريرات: ج 2، ص 245 ـ 249.

108

أو استصحابه في جانب الصلاة، فإنّ جريان الأصل المثبت في أحد الطرفين شرعيّاً أو عقليّاً موجب عندهم لانحلال العلم الإجماليّ انحلالاً حكمياً، كما سيأتي تفصيله ـ إن شاء الله ـ.

ولكن اتّضح في بحثنا مع الأخباريين في وجوب الاحتياط في الشبهات وعدمه: أنّ الأصل المثبت في أحد الطرفين لا يوجب الانحلال الحكميّ، وإنـّما الذي يترقّب حلّه للعلم الإجماليّ حكماً هو الأصل النافي في الطرف الآخر، وعليه فلا يمكن تبرير الأصل النافي في المقام بالانحلال، فبناءً على العلّيّة لا يمكن إجراء الأصل هنا، وأمـّا بناءً على ما هو الصحيح من الاقتضاء، فيجري الأصل وينحلّ به العلم الإجماليّ.

نعم، نحن لا نقول لما قالوا به من عدم منع العلم الإجماليّ عن شيء من الاُصول المؤمّنة، بل نفصّل بين الاُصول المؤمّنة الثلاثة التي تبحث في علم الاُصول، وهي أصالة البراءة، وأصالة الحلّ، والاستصحاب.

وتوضيح ذلك: أنّه لا مانع ثبوتاً عن جريان شيء من هذه الاُصول في المقام، لمنع القول بالعليّة، ولا إثباتاً من باب معارضة الأصلين لغرض عدم المعارضة، لكن يوجد مانع اثباتي عن بعضها، وهو قصور الدليل في نفسه عن إثبات المقصود، من حلّيّة خصوص هذا الطرف، وهذا المانع موجود في أصالة البراءة؛ لما مضى من أنـّها غير ناظرة إلاّ إلى رفع الإلزام من ناحية ذات احتمال التكليف، لا إلى رفع الإلزام حتى من ناحية العلم الإجماليّ، واحتمال انطباق المعلوم بالإجمال.

وأمـّا الاستصحاب فلا بأس بجريانه في المقام؛ لأنّ دليل الاستصحاب يثبت الحالة السابقة حتى مع لحاظ العلم الإجماليّ.

وكذلك الحال في أصالة الحلّ، بناءً على ما مضى من أنّ صحيحة عبد الله بن سنان ناظرة إلى فرض العلم الإجماليّ، بقرينة كلمة (بعينه)، وأنـّها ظاهرة في النظر إلى فرض اشتمال الكلّي على أفراد محللة وأفراد محرّمة، أما لو فرضناها ناظرة إلى فرض اشتمال الكلّ على الجزء المحلل والجزء المحرم، أو فرضاناها مجملة، فلا يمكن التمسّك بها في المقام؛ وذلك لأنّ الحديث ـ بناء على حمله على النظر إلى الكلّ المشتمل على الجزء الحرام ـ إنـّما يدلّ بمدلوله المطابقي على الترخيص في المجموع، الذي هو ترخيص فى المخالفة القطعيّة، وهذا خاصّ بموارد العلم الإجماليّ، إلاّ أنـّه يختصّ بالشبهة غير المحصورة؛ لعدم الترخيص في الشبهة

109

المحصورة في المخالفة القطعيّة، لأنـّه يصادم الحكم الواقعيّ، إمـّا عقلاً أو ارتكازاً عقلائيّاً، ونتعدّى من مورد العلم الإجماليّ إلى الشبهات البدويّة؛ إمـّا لأنـّه عادة يوجد في أطراف الشبهة غير المحصورة الشكّ البدويّ أيضاً، أو لأنّ العرف يتعدّى من الترخيص في احتمال انطباق المعلوم بالإجمال إلى الترخيص في الاحتمال البدويّ.

ولا يقال: إنّ الاحتمال البدويّ قد يكون قويّاً، واحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على طرف معيّن في الشبهة غير المحصورة ضعيف جدّاً؛ لكثرة الأطراف، فلا يتعدّى العرف إلى مورد الاحتمال البدويّ.

فإنـّه يقال: إنـّه في مورد الشبهة غير المحصورة بالإمكان فرض الظنّ بانطباق المعلوم بالإجمال على ذاك الطرف، بأن يضعف احتمال الانطباق في باقي الأطراف بمقدار ما تتوجّه قوة الاحتمال إلى هذا الطرف، ومعه قد رخّص الشارع بمقتضى إطلاق الحديث في هذا الطرف، فيتعدّى منه إلى مورد الاحتمال البدويّ، وأمـّا التعدّي إلى ما نحن فيه، وهو مثل ما لو علم إجمالاً بعدم الإتيان بالصلاة الحاضرة، أو حرمة هذا الجبن فغير ممكن؛ لعدم تأتّي شيء من النكتتين؛ لوجود العلم الإجماليّ بنحو الشبهة المحصورة، فلئن صحّ تعدّي العرف من مورد الشبهة غير المحصورة إلى مورد الشكّ البدويّ، فليس من المحتمل تعدّيه منها إلى مورد الشبهة المحصورة، كما أنّ غلبة وجود الشكّ البدويّ في أطراف الشبهة غير المحصورة لا يبرّر التعدّي إلى موارد الشبهة المحصورة، وليس من الغالب وجود شبهة محصورة في بعض أطراف الشبهة غير المحصورة.

والسرّ في الفرق بين ما إذا حمل الحديث على تحليل الكليّ المشتمل على فرد حرام، أو على تحليل الكلّ المشتمل على جزء حرام ـ حيث نقول على الأوّل: بشمول الحديث لما نحن فيه، وعلى الثاني: بعدم شموله أيّاه ـ هو أنـّه على الأوّل يكون هذا الجبن بنفسه مصداقاً من مصاديق ذاك الكلّيّ، ومحلّلاً بمنطوق الحديث الذي حلّل الكلّيّ المشتمل على مصاديق محلّلة ومصاديق محرّمة، من دون فرق بين افتراض علم إجماليّ في دائرة الجبن بوجود الحرام وافتراض عدمه، كما لو كان العلم الإجماليّ منحلاّ بوجدان عشرة أفراد محرّمة مثلاً، فإنّ معنى قوله: (فيه حلال وحرام) ليس فرض العلم الإجماليّ، وإنـّما معناه فرض الشكّ من ناحية اشتمال الكليّ في نفسه على الفرد الحلال والفرد الحرام، وإن كان هذا الشكّ بدويّاً،

110

فالحديث ينطبق على هذا الجبن ويحكم بحلّيّته، وقد جعل هذا الحكم مُغيّىً بالعلم التفصيليّ بالحرمة، فلا ينتفي هذا الحكم إلاّ بذلك، لا بالعلم الإجماليّ بعدم اتيان الصلاة، أو حرمة هذا الجبن.

والخلاصة: أنّ الحديث بمدلوله المطابقي يدلّ على حلّيّة هذا الجبن، ولو لم يكن طرفاً لعلم إجماليّ متعلّق بحرمة بعض أفراد الجبن؛ إذ يكفي في شمول الحديث له كونه مصداقاً لكلّيّ يكون بطبيعته منقسماً إلى حلال وحرام، سواء وجد فعلاً علم إجماليّ بالحرمة أو لا.

وأمّا على المعنى الثاني فالتحليل منصبّ على المركَّب من الحلال والحرام مع عدم تمييز الحلال من الحرام، فهو مُختصّ بمدلوله المطابقي بفرض العلم الإجماليّ غير المنحلّ، باشتمال الجبن على الحرام وتحليل المجموع، وإسراء الحكم إلى ما نحن فيه يتوقّف على التعدّي من مورد الحديث إلى هذا المورد، وتقريب التعدّي هو أن يقال: إنّ ما نحن فيه وإن لم يفرض الجبن طرفاً لعلم إجماليّ بحرمة بعض أفراد الجبن، فالشكّ بلحاظ دائرة الجبن قد يكون شكّاً بدوياً، ولكن التعدّي إليه يتمّ بما أشرنا إليه، من دعوى أنـّه إنْ صحّ تحليل الجبن لدى طرفيّته لعلم إجماليّ من هذا القبيل، فالعرف يتعدّى إلى فرض الشكّ البدوي، وعدم طرفيّته لذلك، أو دعوى وجود شكّ بدويّ من هذا القبيل عادة وغالباً في أطراف الشبهة غير المحصورة.

ولكنّنا قد أوضحنا أنّ هذا التعدّي في المقام غير ممكن؛ لعدم تأتّي شيء من النكتتين، لأنّ الشكّ في المقام ليس شكاً بدوياً صرفاً لاقترانه ـ حسب الفرض ـ بالعلم الإجماليّ بعدم الإتيان بالصلاة، أو حرمة هذا الجبن، فهذا يمنع عن تعدّي العرف، كما أن وجود علم من هذا القبيل في أطراف الشبهة غير المحصورة ليس غالبياً.

وقد يقال: إنّنا نفترض أوّلاً وجود علمين إجماليّين في المقام: أحدهما: العلم الإجماليّ غير المحصور بحرمة بعض أفراد الجبن في البلد، والثاني: العلم الإجماليّ بعدم الإتيان بالصلاة أو كون هذا الجبن هو المنطبق عليه المعلوم بالإجمال بالعلم الأوّل، ونفترض أنّ احتمال كون الحرام هو هذا الفرد من الجبن كان أقوى من الاحتمال في باقي أطراف العلم الإجماليّ الأوّل، بحيث لم يكن هناك اطمئنان بالخلاف، لا مساوياً لها، كي يلزم من كثرة الأطراف الاطمئنان بعدم كون هذا الفرد هو

111

ذاك الحرام المعلوم بالإجمال، وبالتالي الاطمئنان بعدم الإتيان بالصلاة، وعندئذ نقول: إنّ هذا الجبن حلال بحكم هذا الحديث؛ لأنـّه داخل في منطوق الحديث بكونه طرفاً للعلم الإجماليّ في الجبن، وليس شكّاً بدوياً بلحاظ دائرة الجبن، ثمّ نتعدّى من هذا إلى فرض الشكّ البدوي بلحاظ دائرة الجبن بإحدى النكتتين الماضيتين.

والجواب: أنّ المستفاد من تحليل المجموع المركب من حلال وحرام، حتى يتميّز الحرام من الحلال، هو التحليل وعدم المنع من ناحية العلم بوجود الحرام ضمن هذا المركّب، وبكلمة اُخرى: أنّ الحلّية حكم بها على المركب من حيث المجموع بلحاظ تركّبه من حلال وحرام، فالحلّيّة بهذا اللحاظ تسري إلى هذا الجزء، وهذا يعني التأمين من ناحية ما في المركّب من حرام معلوم، وهذا لا ينافي عدم التأمين من ناحية اُخرى، وهي ناحية العلم الإجماليّ بحرمة هذا أو عدم الصلاة، ولا يوجد شيء من النكتتين لتصحيح التعدّي من ذاك التأمين إلى هذا التأمين، وهذا بخلاف ما لو فرض أنّ معنى الحديث تحليل الكليّ الذي يوجد فيه بطبعه حلال وحرام، سواء وجد بالفعل علم إجماليّ بالحرام أو لا، فهذا ليس تأميناً من ناحية العلم الإجماليّ غير المحصور في دائرة الجبن فحسب، كي يقال: لا نتعدّى إلى التأمين من ناحية العلم الإجماليّ بعدم الإتيان بالصلاة، أو حرمة هذا الجبن، بل هو تأمين من ناحية احتمال حرمة هذا الجبن، ولا قيد لهذا التأمين عدا كون هذا الاحتمال ناشئاً من كون الشيء بطبعه فيه حلال وحرام، وهذا القيد ثابت في محلّ الكلام، فإنـّه وإن علم إجمالاً بترك الصلاة أو حرمة هذا الجبن، لكنّه لولا كون الجبن بطبعه ممّا فيه الحلال والحرام، لم يحتمل حرمة هذا الجبن، فالاحتمال في المقام ناشيء من كون الشيء بطبعه فيه حلال وحرام، وقد حكم عليه بالتأمين، وجعلت غاية التأمين هي العلم التفصيليّ بالحرمة، لا العلم الإجماليّ بالحرمة أو ترك الصلاة.

وعلى أيـّة حال، فالأمر هيّن بما عرفته سابقاً من استظهار حمل الحديث على النظر إلى الكلّيّ المشتمل على الفرد الحرام، لا الكلّ المشتمل على الجزء الحرام، إذن فبالإمكان استفادة الحلّ فيما نحن فيه من الحديث بلا إشكال.

 

حكومة الأصل المثبت في بعض الأطراف:

الصورة الثانية: أن يكون الأصل النافي لو خليّ ونفسه جارياً في كلا الطرفين،

112

لكنّه كان محكوماً في أحد الطرفين لأصل مثبت مثلاً، كما لو جرت أصالة الحلّ في نفسها في كلا الطرفين، وكان الاستصحاب في أحدهما مثبتاً للحرمة، فيقال عندئذ: إنّ أصالة الحلّ تجري في الطرف الآخر؛ لأنـّها غير مبتلاة بمشكلة المعارضة، لسقوط ما يعارضها بحكومة الاستصحاب عليه.

وهذا الكلام صحيح، إلاّ أنّ هنا شبهة تقدّم ذكرها مع الجواب عنها بالمناسبة في بعض الأبحاث السابقة، وهي:

أنّ معارضة الأصلين في الطرفين كانت بنكتة المحذور العقلي، أو الارتكاز العقلائي، وذلك يكون لوضوحه وبداهته بحكم القرينة المتّصلة، خصوصاً بناءً على كون المحذور هو الارتكاز العقلائي ـ كما هو المختار ـ، فإنّ معنى الارتكاز هو الوضوح في الأذهان، وإذا كان الأمر كذلك، حصل الإجمال في دليل الأصل، أي: أنـّه سقط دليل الأصل عن الظهور، لا عن حجّيّة الظهور، وبعد فرض انحفاظ أصل الظهور، فإنّ المخصص إذا كان متّصلاً مجملاً أوجب إجمال العامّ لصلاحيته للقرينيّة بالنسبة لأيّ واحد من الفردين، بخلاف ما لو كان منفصلاً، فإنـّه ـ عندئذ ـ لا يوجب الإجمال، بل يبقى الظهور على حاله لكنّه يسقط عن الحجّيّة إن كان المخصّص مردّداً بين المتباينين.

وإذا أصبح دليل الأصل مجملاً بلحاظ هذين الطرفين، وغير ظاهر في الترخيص في شيء منهما، فمجرّد وجود أصل مثبت حاكم في أحد الطرفين لا يوجب رفع الاجمال حتى يجري الأصل في الطرف الآخر بلا محذور.

وهذه الشبهة لو تمّت فهي لا تجري في أربعة فروض، وتختصّ بغيرها:

الفرض الأوّل: ما إذا ادّعى أنّ المحذور العقليّ، أو العقلائيّ مخصّص منفصل لا متّصل، فإنّ الظهور ـ عندئذ ـ يبقى محفوظاً، فيجري الأصل في الجانب الذي لا يوجد فيه أصل حاكم؛ لوجود المقتضي وهو أصل الظهور، وعدم المانع وهو حجّيّة الظهور في الطرف الآخر.

ولكنّ دعوى كون المحذور منفصلاً لا كالمتّصل لا مجال لها، بناءً على ما اخترناه: من كون المحذور عقلائياً، فإنّ هذا الارتكاز العقلائيّ إنّ لم يصل إلى درجة هدم الظهور لا قيمة له، فإنّ تأثيره فى حسابنا إنـّما هو باعتبار هدمه للظهور، لا أنّ هناك حجّيّة لهذا الارتكاز بذاته.

إذن فدعوى كون المحذور منفصلاً لا كالمتّصل، إنـّما يكون لها مجال بناءً

113

على كون المحذور عقليّاً، فمن يدّعي إدراك محذور عقليّ في المقام تارةً يفرض كون ذلك بديهيّاً كالمتّصل، فيهدم الظهور، واُخرى يفرض عدم كونه كذلك، فلا يهدم الظهور وإن كان ذلك خلاف ما نبني عليه من أنّ أحكام العقل العملي في غير باب تزاحم المحسّنات والمقبّحات بديهية لا يشكّ فيها عادةً إنسان خال ذهنه عن شبهة وتشكيك علمي ونحوه .

والخلاصة: أنّه لو ادّعى أحدٌ أنّ هناك محذوراً عقليّاً لا يدركه كلّ أحد، أو يكون دركه بعد تروٍّ وتأمل، أصبح هذا مخصّصاً منفصلاً، ولكن هذه الدعوى غير صحيحة عندنا؛ لإنكارنا للمحذور العقلي من ناحية؛ ولأنّنا نرى أنّه لو كان لكان بديهيّاً كالمتّصل من ناحية اُخرى.

الفرض الثاني: ما إذا كان الأصل الحاكم مدلولاً لنفس دليل الأصل المحكوم، كما لو علم إجمالاً بنجاسة هذا الشيء، أو وجوب الإنفاق على هذه المرأة لكونها زوجة، فتعارض استصحاب ذاك الشيء مع استصحاب عدم زوجيّة هذه المرأة، ولكن كان الشكّ في زوجيّة هذه المرأة ناشئاً ـ مثلاً ـ من الشكّ في بقائها حين العقد على الإسلام، وجرى استصحاب الإسلام، فكان حاكماً عى استصحاب عدم الزوجيّة، فيجري ـ عندئذ ـ استصحاب الطهارة في ذلك الطرف بلا محذور؛ لأنّ دليل الأصل في نفسه ليس له ظهور في الأصل النافي إلاّ بلحاظ ذلك الجانب، وهذا الظهور ليس منافياً للارتكاز العقلائيّ أو المحذور العقليّ حتى ينهدم، فهو ظهور باق على حاله ولا مانع عن حجّيّته.

الفرض الثالث: أن يكون الأصل النافي في كلّ من الطرفين بدليل غير دليل الأصل النافي في الطرف الآخر، كما لو جرت في أحد الطرفين أصالة الصحّة، وفي الآخر أصالة الحلّ، وكانت أصالة الحلّ محكومة لاستصحاب مثبت للحرمة، فنجري أصالة الصحّة بلا مانع؛ لأنّ المحذور العقليّ أو العقلائيّ ليس منافياً لظاهر دليل أصالة الصحّة، كي يصبح مجملاً، كما أنـّه ليس منافياً ـ أيضاً ـ لظاهر دليل أصالة الحلّ، كي يصبح مجملاً، وإنـّما الارتكاز العقلائيّ أو حكم العقل ينافي مجموعهما، فاُوقع بذلك التعارض بينهما، فكانت حجّيّة كلّ منهما ذاتاً مانعة عن حجّيّة الآخر، فإذا سقط أحدهما عن الحجّيّة خلت حجّيّة الآخر عن المانع.

الفرض الرابع: أن يكون الأصل الثالث رافعاً لموضوع أحد الأصلين، أمـّا بالورود، كما إذا قلنا: إنّ الاستصحاب وارد على أصالة الحلّ، أو بالحكومة، إذا كان

114

مبنانا في الحكومة أنّ روحها لا ترجع إلى التخصيص، بأن يكون الفرق بينهما من ناحية التفّنن في التعبير فحسب، بل تخرج الفرد حقيقة عن العام، والظاهر أنّ مدرسة المحقّق النائينيّ (قدس سره)عادةً أو غالباً تقول بذلك، ولكن المختار خلافه، فلو بنينا على هذا المبنى فدليل الأصل الحاكم يرفع موضوع الأصل المحكوم حقيقة، ويكون مرجعه إلى الورود.

فلو كان كلّ واحد من الطرفين في نفسه مجرىً لاصالة الحلّ مثلاً، لكن جرى في أحد الطرفين الاستصحاب المثبت للحرمة، وقلنا بأنـّه يرفع حقيقة موضوع أصالة الحلّ، فقد انهدم بذلك ظهور دليل أصالة الحلّ بالنسبة لذاك الطرف لغرض ارتفاع موضوعه حقيقة، وظهوره بالنسبة للطرف الآخر ليس مخالفاً للارتكاز، كي يصبح مجملاً، أو غير حجّة، فتجري فيه أصالة الحلّ بلا محذور، فالشبهة لو تمّت فإنـّما تتمّ في غير هذه الفروض الأربعة.

والجواب عن أصل الشبهة يظهر بالالتفات إلى ما نقوله في تخصيص العامّ بمخصّص متّصل مردّد بين المتباينين، كما لو قال:«يجب إكرام العالم ـ أو كلّ عالم ـ إلاّ زيداً»، وكان في العلماء شخصان مسمّيان بزيد، فهذا العامّ إنـّما يصبح مجملاً في قبال ظهوره في هذا الفرد بعنوانه، وفي ذاك الفرد بعنوانه، ولكنّه يبقى ظهوره في عنوان (الفرد الآخر) ثابتاً، فقوله: «يجب إكرام كلّ عالم» يكون ظاهراً ـ لولا التخصّص ـ في تمام الأفراد، وقوله:« إلاّ زيداً» بعد فرض عدم صحة إرداة المعنيين منه إنـّما أخرج واحداً معيّناً عند اللّه، فبالإمكان أن نشير إلى الفرد الآخر، ونقول: إنّ ظاهر هذا الكلام هو وجوب إكرام الفرد الآخر، (أو قل: الفرد الثاني)، وهذا الظهور حجّة، وفائدة ذلك تكوّن العلم الإجماليّ بوجوب إكرام أحد الزيدين .

واستشكلنا في ذلك بان هذا إنـّما يتمّ لو كان للفرد الخارج بهذا المخصّص تعيّن واقعي، فيكون للفرد الآخر أيضاً تعيّن واقعي، فنشير إليه، ونقول: إنّ الكلام بظهوره شامل له، وهذا ثابت في المثال الذي ذكرناه، فإنّ المولى قد أراد من كلمة (زيد) في قوله: «إلاّ زيداً» فرداً معيّناً عنده، وشككنا في خروج الفرد الآخر، أمـّا إذا لم يكن الأمر كذلك، أي: لم يثبت تعيّن واقعيّ للفرد الخارج به، فلا معنى للإشارة إلى غيره بعنوان الفرد الآخر، أو الفرد الثاني مثلاً، والقول بحجّيّة العامّ في ذلك الفرد، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ المخصّص فيه هو الارتكاز، والارتكاز نسبته إلى الفردين على حدّ سواء، فلم يثبت تعيّن للفرد الخارج به، فلو كان في الواقع كلاهما خارجاً