616

فإنّ هذا الحساب غير صحيح، بل يجب أن يحسب حساب آخر هو أن يُرى أنّ ملاك التقييد يوجب التقييد بأيّ شيء؟ فنرى أنّ ملاك التقييد هو الإرفاق، وذلك يوجب التقييد بعدم استلزام التصرّف في مال الغير وهو القيد الأوّل، وأمّا القيد الثاني وهو عدم المزاحمة لسلطنة الغير فليس هذا إرفاقاً، وإنّما هو شيء عقلي من باب استحالة وجود سلطنتين متضادّتين.

ثمّ إنّ الصحيح أنّ قاعدة السلطنة ليس لها إطلاق حتّى يكون لهذا البحث الذي ذكره هو(قدس سره) موضوع، فإنّ رواية «الناس مسلّطون على أموالهم» مرسلة غير مشمولة لأدلّة الحجيّة، والروايات الخاصّة في الموارد الخاصّة لا إطلاق لها، وأمّا الإجماع والسيرة فمن المعلوم أنّ المتيقّن منهما لا يشمل المقام بنحو يترتّب عليه هذا البحث الذي ذكره.

نسبة (لا ضرر) الى الأحكام الأوّليّة

الأمر الثالث: في نسبة القاعدة مع أدلّة الأحكام الأوّليّة، وهنا قالوا بتقدّم القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّليّة، وهناك عدّة تقريبات لإثبات هذه الدعوى:

التقريب الأوّل: دعوى تقدّم القاعدة على أدلّة الأحكام وإن كان بينهما عموم من وجه، وذلك باعتبار كون القاعدة قطعيّة السند، وتلك الأدلّة ظنيّة السند ومعه تصبح الأخيرة معارضة للسنة القطعيّة.

وهذا الوجه لا يتمّ في موارد قطعيّة دليل الحكم الأوّلي، وأمّا في سائر الموارد فتماميّته موقوفة أوّلاً على إثبات التواتر ولو إجمالاً للقاعدة، وقد مضى منّا منع ذلك، وثانياً على عدم تماميّة جمع دلالي بينهما حتّى يستحكم التعارض وسوف ترى أنّ هذا أيضاً في غير محلّه.

التقريب الثاني: أنّ القاعدة وإن كانت معارضة بالعموم من وجه لكلّ واحد من الأدلّة الأوّليّة، ولكن لو قسناها الى مجموع الأدلّة لكانت أخصّ منها مطلقاً، فتقدّم عليها.

وأورد على ذلك السيد الاُستاذ: بأنّ المعارضة إنّما وقعت بين كلّ واحد من تلك الأدلّة وهذه القاعدة، والنسبة بينهما عموم من وجه، ولا يوجد عندنا دليل يسمّى مجموع الأدلّة حتّى نوقع التعارض بينه وبين هذه القاعدة، ونقدمّها عليه بالأخصيّة(1).


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 333.

617

أقول: إنّ هذا الكلام تامّ بناءً على أنّ الوجه في تقديم الخاصّ على العامّ هو الأظهريّة مثلاً من دون الاعتراف بأنّ الفاصل الزمني بين كلمات الشارع يعتبركلافصل.

وأمّا بناءً على ما سوف ياتي في محلّه تحقيقه ـ إن شاء اللّه ـ من أنّ الشارع حيث نصب قرينة عامّة على كونه بانياً على التدرّج في الكلام يُرى أنّ الفاصل الزمني بين كلماته كأنّه غير موجود، ولولا ذلك لم نقبل تقديم الخاصّ على العامّ، فإنّ العرف لا يجمع بين كلامين متنافيين بمجرّد كون أحدهما أخصّ من الآخر، بل يرى التعارض بينهما مستحكماً، وعند اتصال الخاصّ بالعامّ يرى بمقتضى السياق أنّ الخاصّ قرينة على العامّ، وكذلك إذا نصب المتكلّم قرينة عامّة على التدرّج في الكلام أصبح ـ بلحاظ عالم الحجيّة ـ الفصل بين كلماته كلافصل، فيقدّم الخاصّ على العامّ؛ لقرينيّته عليه لدى فرض الاتّصال. فعندئذ تتقدّم قاعدة (لا ضرر) على مجموع الأدلّة؛ لكونها أخصّ من المجموع؛ لأنّ الاتّصال لا يفرض بين كلّ واحد من تلك الأدلّة وهذه القاعدة فقط، بل يفرض الاتصال بينها وبين الكلّ معاً، ومن المعلوم أنّه لو كانت كلّ تلك الأدلّة مع تلك القاعدة متّصلاً بعضها ببعض لكانت القاعدة قرينة على تخصيص كلّ الأدلّة، فتقدّم على الكلّ(1).

التقريب الثالث: أنّ الأمر دائر بين أن تقدّم القاعدة على كلّ الأدلّة الأوليّة، أو تقدّم كلّ الأدلّة الأوليّة على القاعدة، أو يقدّم بعضها على القاعدة دون بعض، والثالث يوجب الترجيح بلا مرجح والثاني يوجب لغويّة القاعدة وسقوطها رأساً،


(1) لا يخفى أنّ ديدن الشريعة وعادتها إن كان قائماً على فصل المتّصلات بحيث يعتبر العرف الفصل كلا فصل، صحّ ما ادّعي في المقام، وكان حال ذلك حال ما لو تكلّم المتكلّم بالعامّ ثم غشي عليه ساعات ثمّ أفاق وتكلّم بالمخصّص، وإذا بلغ الأمر الى هذا المستوى كانت القرينة المنفصلة هادمة للظهور، ولكنّ الظاهر أنّ هذا المستوى من العادة للشريعة غير ثابت في المقام، وأمّا ما يكون دون ذلك من العادة ممّا لا يسقط الظهور، فلو أفاد شيئاً فإنّما يفيد بمقدار أن يبنى رغم الانفصال على قرينيّة أحدهما على الآخر، وأمّا تعيين كون القرينة هو الخاصّ مثلاً رغم أنّ قرينيّته كانت نتيجة الاتّصال المفقود في المقام بالانفصال الذي ليس كلا انفصال، فيتوقّف على دعوى أنّ جعل ما كان قرينة لدى الاتّصال قرينة لدى الانفصال أولى من جعل ما لم يكن قرينة لدى الاتّصال قرينة لدى الانفصال، وليس هناك وجه واضح لهذه الأولويّة، فبعد ما فقدنا الاتّصال يكون المحذوران متساويين، ولا يرجعان الى الأقلّ والأكثر.

618

فيتعيّن الأوّل، وهو المطلوب.

وأورد على ذلك السيد الاُستاذ: بأنّ الثالث لا يستلزم الترجيح بلا مرجّح، فإنّ الأدلّة الأوليّة بعضها مطلقة وبعضها عامّة، والقاعدة مطلقة، والتعارض إنّما يستحكم بين مطلق ومطلق، وأمّا المطلق مع العامّ فيقدّم العامّ عليه، فتقديم بعض الأدلّة الأوليّة وهي العمومات على القاعدة ليس ترجيحاً بلا مرجّح، فالعمومات تقدّم على إطلاق القاعدة، والإطلاقات تتعارض مع إطلاقها ويتساقطان(1).

أقول: إنّ هذا الكلام وإن كان رفعاً لمحذور الشقّ الثالث، ولكنّه رجوع الى محذور الشقّ الثاني، فإنّه على كلّ حال قد فرض سقوط القاعدة رأساً بتقدّم العامّ عليها في بعض الموارد، وبالتساقط مع المطلقات في الباقي.

هذا. ويمكن توجيه ما عرفته من التقريب الثالث(2): بأن يكون مراد من ذكره أنّ (لا ضرر) بنصوصيّته على نفي الضرر في الجملة وتخصيص بعض الأحكام يقدّم على المجموع، فيوقع التعارض بين أدلّة الأحكام الأوليّة أنفسها، وبعد التساقط نرجع الى إطلاق (لا ضرر). ولا يرد على ذلك أنّه إذا وقع التعارض بين أدلّة الأحكام الأوليّة أنفسها قدّمت عموماتها على إطلاقاتها، فإنّ تقديم العموم على الإطلاق إنّما نقول به عند تعارضهما بالتكاذب الصريح، فنقول ـ عندئذ ـ: إنّ العامّ قد يكون بأقوائيّته قرينة على رفع اليد عن الإطلاق، ولكن إذا كان تعارضهما بملاك تشكّل العلم الإجمالي بكذب أحدهما فلا يأتي هذا الكلام.

ويمكن الاستشكال في هذا التقريب بعد توجيهه بما عرفت بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّه لا وجه للرجوع الى إطلاق (لا ضرر) بعد تساقط إطلاقات


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 333 ـ 334.

(2) كأنّ السبب في حاجة هذا التقريب الى التوجيه رغم ما مضى من الاعتراض على ما أورده السيد الخوئي(رحمه الله) عليه: أنّ ذاك الاعتراض لا يصحّح التقريب بكامل جوانبه؛ وذلك لأنّ خلاصة الاعتراض على كلام السيد الخوئي والذي هو تأييد لذاك التقريب هي: أنّه لو قدّمت العمومات على (لا ضرر) واُسقط (لا ضرر) بالتعارض مع المطلقات لزم سقوط (لا ضرر) نهائياً، فهذا الشقّ الثالث ـ أيضاً ـ باطل كالشقّ الثاني، ولكنّ هذا كما ترى لا يثبت الشقّ الأوّل كاملاً؛ إذ يمكن أن يقال: إنّه يكفي لعدم سقوط (لا ضرر) نهائياً تقديمه على المطلقات فقط، فالعمومات تقدّم على (لا ضرر) لأرجحيّة العموم على الإطلاق و (لا ضرر) يقدّم على المطلقات؛ لكي لا يلزم سقوطه نهائياً، فدفعاً لهذا الضعف احتجنا الى التوجيه الوارد في المتن.

619

الإدلّة الأوليّة، فإنّه يكون معارضاً لتلك الإطلاقات، ويتساقط الكلّ في عرض واحد.

وتحقيق هذا الوجه يبتني على بحث مضى في بعض الأبحاث السابقة: وهو أنّه إذا كان عندنا تعارضان ولم يمكن تقديم أحد المتعارضين بعينه في واحد من التعارضين مع تقديم أحدهما بعينه في الآخر، فقد يقال بتقديم المعارض الآخر في كلا التعارضين.

وتوضيحه: أنّه إذا تعارض (أ) مع (ب) وتعارض (أ) آخر مع (ب) آخر وفرض أنّه لا يمكن تقديم كلا الباءين على ألفيهما، فهنا يقدّم الألفان على الباءين؛ وذلك لأنّ تقديم كلّ واحد من البائين على ألفه ليس محذوره فقط لزوم ترجيحه على (أ) بلا مرجّح، بل ذلك لا يمكن في نفسه؛ لأنّ الجمع بين الترجيحين غير ممكن حسب الفرض، وترجيح أحد الترجيحين على الآخر ترجيح بلا مرجّح، فيبقى تقديم الألفين على الباءين بلا محذور.

فإن تمّ هذا الكلام ارتفع الإشكال فيما نحن فيه، وإلّا فلا، فالأمر هنا رهين ما اخترناه هناك في ذلك.

وأمّا بيان تطبيق ما ذكرناه على ما نحن فيه فهو أنّ قاعدة (لا ضرر) لها إطلاقات، وكلّ إطلاق منها معارض لإطلاق من إطلاقات الأدلّة الأوليّة، ونسمّي إطلاقات (لا ضرر) بألف وإطلاقات الأدلّة الأوليّة بباء، وتقديم جميع الباءات على ألفاتها ينافي نصوصيّة (لا ضرر) في نفي الضرر في الجملة، وتقديم بعض دون بعض ترجيح بلا مرجّح.

الوجه الثاني: أنّه بعد تعارض إطلاقات الأدلّة الأوليّة بنصوصيّة (لاضرر) في نفي الحكم الضرري في الجملة لا يسقط كلّ الإطلاقات، بل يبقى بعضها غير المعيّن حجّة؛ لأنّنا علمنا إجمالاً بتخصيص بعضها فقط، فيقع التعارض بين البعض الباقي وإطلاق القاعدة ويتساقطان، وهذا الوجه مبنيّ على تماميّة هذا المبنى، وهو مبنى عدم سقوط كل الإطلاقات عند تعارضها بالعلم الإجمالي بتخصيص البعض، وهذا ما يأتي تحقيقه ـ إن شاء اللّه ـ في بحث التعادل والتراجيح.

التقريب الرابع: هو أنّه تتعارض الأدلّة الأوليّة مع (لا ضرر) ويتساقط الكلّ، ونرجع الى دليل البراءة، وهو مطابق لمفاد القاعدة.

واعترض السيد الاُستاذ على ذلك: بأنّه لا تثبت بذلك الأحكام الإلزاميّة المترتّبة على عدم التكليف، فمثلاً حينما ننفي وجوب الوضوء، أو وجوب الصلاة

620

قائماً عند الضرر بـ(لا ضرر) يثبت بذلك وجوب التيمّم، أو وجوب الصلاة جالساً، وهذا ما لا يثبت بالرجوع الى البراءة(1).

أقول: إنّ لنا علماً إجماليّاً في هذه الموارد مردّداً بين التكليف الثابت بالأدلّة الأوليّة بغضّ النظر عن (لا ضرر)، والتكليف المترتّب على عدم التكليف الأوّل، فنعلم إجمالاً مثلاً بوجوب الوضوء الضرري أو التيمّم، ومقتضى هذا العلم الإجمالي الاحتياط بالعمل بكلا الجانبين ولكن وجوب الاحتياط في جانب الحكم الأوّل الضرري وهو الوضوء في المثال منفيّ بـ(لا ضرر)، وهنا لا يكون (لا ضرر) مبتلى بالمعارض إذا لم يكن وجوب الاحتياط ثابتاً بعموم أو إطلاق، وإنّما كان ثابتاً بحكم العقل الذي يرتفع بثبوت الترخيص، فيبقى لزوم الاحتياط في الجانب الآخر فقط، فبالتالي توصّلنا الى ما يطابق عملاً نتيجة (لا ضرر).

التقريب الخامس: أنّ القاعدة وردت في مقام الامتنان، فتقدّم على سائر الأدلّة.

أقول: هذا التقريب بهذا المقدار يتراءى أنّه لا محصّل له، إلّا أنّه يمكن توجيهه بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: هو أنّ هذا الحديث وارد في مورد الامتنان، فلا يناسب ورود التخصى عليه، فيكون أظهر في الشمول من الأدلّة الأوليّة، فيقدّم عليها. وهذا الوجه واضح الضعف.

الوجه الثاني: أنّ القاعدة بما أنّها وردت في مقام الامتنان فقد فرض في موضوعها ثبوت المقتضي للحكم في نفسه حتّى يتعقّل الامتنان في رفعه، فهي ناظرة الى الأحكام الأوليّة فتقدّم عليها. وهذا الوجه هو أحد تقريبات الحكومة التي سوف تأتي إن شاء اللّه.

التقريب السادس: الحكومة، وقد ذكر المحقّق النائيني(قدس سره) هنا كلاماً في أصل قانون الحكومة محاولاً تطبيقها على المقام(2)، ونحن نقتفي هنا أثره فنقول:

أمّا الكلام في أصل قانون الحكومة فالذي يتحصّل من مجموع ما ذكره


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 333.

(2) راجع قاعدة (لا ضرر) للشيخ موسى النجفي ص 314 ـ 315 بحسب ما هو مطبوع في ملاحق منية الطالب، ج 2.

621

المحقّق النائيني(قدس سره) وما ذكرته مدرسته بما فيهم السيد الاُستاذ هو: أنّ الفرق بين التخصيص والحكومة: هو أنّ قرينيّة الخاصّ في التخصيص على العامّ قرينيّة عقليّة أي: بما أنّ العقل يحكم بأنّ المولى لا يصدر منه حكمان متضادّان، وأنّ العامّ والخاصّ متضادّان فيثبت لديه أنّ أحدهما لم يقصد به ظاهره، وبما أنّ الخاصّ هو الأظهر، فيتحفّظ على ظهوره، ويرفع اليد عن ظهور العامّ.

وأمّا في الحكومة فالقرينيّة تكون بالدلالة العرفيّة، فالحاكم بلسانه ينظر الى المحكوم ويفسّره، وهذا على قسمين: أحدهما: ما يكون ناظراً الى عقد الموضوع ومتصرّفاً فيه توسعة أو تضييقاً. والثاني: ما يكون ناظراً الى عقد المحمول. فالأوّل كما في: (لا ربا بين الوالد وولده)، والثاني كما في دليل نفي الحكم الحرجي، والحاكم في كلا القسمين مقدّم على المحكوم من دون ملاحظة النسبة بينه وبين المحكوم.

أمّا تقدّم الأوّل: فلأنّه يرفع موضوع دليل الحكم الأوّلي، فليس منافياً ومعارضاً له، فإنّ دليل الحكم الأوّلي كقوله: «يحرم الربا» يدلّ في الحقيقة على قضية شرطيّة: وهي إن كان هذا ربا فهو حرام، وصدق القضية الشرطيّة لا يستلزم صدق طرفيها، فيجوز للدليل الحاكم أن يدلّ على عدم الشرط، ولا توجد أيّ معارضة بين دليل عدم تحقّق الشرط خارجاً ودليل الملازمة الشرطيِّة بين تحقّق الشرط وتحقّق الجزاء، وبكلمة اُخرى: أنّ دليل حرمة الربا لا يتعرّض لصدق الربا وعدمه، والدليل الحاكم إنّما يدلّ على عدم صدق الربا، ويرفع موضوع دليل حرمة الربا.

وقال المحقّق النائيني(رحمه الله): إنّ هذه هي نكتة الجمع بين الأمر بالمهمّ والأمر بالأهمّ مع تضادّهما، فإنّ الأمر بالمهمّ معلّق على شيء وهو القدرة، والأمر بالأهمّ يُفني بامتثاله المعلّق عليه المهمّ؛ إذ بامتثال الأمر بالأهمّ يخرج المكلّف عن كونه قادراً (1).

وأمّا تقدّم الثاني فلأنّ التعارض بين القسم الثاني والأدلّة الأوليّة وإن كان مستحكماً؛ لأنّه لا يفني شرط القضيّة الشرطيّة المبيّنة للحكم الأوّلي بل يكون الشرط مفروغاً عنه ويخصّص الجزاء، فهو معارض للدليل الأوّلي، إلّا أنّه يتقدّم عليه باعتبار أنّه يرفع موضوع الإطلاق فيه وهو الشكّ، فإنّه يثبت العلم تعبّداً، ولهذا يكون حاكماً؛


(1) راجع قاعدة (لا ضرر) المطبوعة في ملحق ج 2 من منية الطالب للشيخ موسى النجفي، ص 215.

622

إذ بعد التحليل وصلنا الى رفع الموضوع.

أقول: إنّ تمام هذا الكلام قابل للمناقشة:

أمّا ما ذكر من أنّ الفرق بين التخصيص والحكومة: هو أنّ القرينيّة في التخصيص عقليّة، وفي الحكومة تكون بالدلالة العرفيّة فغير صحيح.

والتحقيق: أنّ الدلالة في كليهما عرفيّة، وإنّما الفرق بينهما: هو أنّ قرينيّة الحاكم تكون بظهور عرفي لنفس الحاكم في القرينيّة والمفسّريّة للمحكوم، وقرينيّة المخصّص تكون بظهور عرفي لسياق مجموع الكلام من المخصِّص والمخصَّص إذا كان أحدهما متّصلاً بالآخر ـ ويقصد بالظهور السياقي الظهور الناشىء من نسبة بعض أجزاء الجملة الى بعض من حيث التقديم والتأخير أو التخصيص والتعميم أو غير ذلك ـ فلو قال المولى: (أكرم كلّ عالم) و (لا تكرم النحويين) فمقتضى الظهور السياقي كون قوله: (لا تكرم النحويين) هو القرينة على التصرّف في (أكرم كلّ عالم)، وباعتبار اتّصال المخصِّص بالكلام لا ينعقد ظهور للكلام في العموم، وأمّا إذا كان أحدهما منفصلاً عن الآخر، فلو كان في كلام من يكون الانفصال في كلامه بحكم الاتّصال، كما هو الحال في الشارع الأقدس على ما سوف يأتي في محله ـ إن شاء اللّه ـ من أنّه جرت عادة الشارع الحكيم على الفصل بين أشياء من هذا القبيل، وأنّ وظيفتنا هي اعتبار الفصل بين كلماته كلافصل، وفرض الجمل المنفصلة في كلامه ككلام متّصل بعضه ببعض، فأيضاً يكون تقديم المخصِّص على أساس ما له من قرينيّة سياقيّة لو كان متّصلاً، فيقدّم المخصِّص على العامّ وتنهار به حجيّة العموم، لا أصل الظهور في العموم؛ لكونه منفصلاً بالفعل.

وأمّا لو كان في كلام إنسان عادي ليس مبناه على الفصل بين المتّصلات، فهنا ننكر الجمع بين العامّ والخاصّ بالتخصيص رأساً، بل يكونان كلامين متعارضين ومتنافيين، كما سوف يأتي ـ إن شاء اللّه ـ في محلّه، وإن كان يتراءى في بادىء النظر هذا شيئاً عجيباً يصعب قبوله باعتبار اُنس ذهننا بما قرأناه في الكتب الاُصوليّة من كون التخصيص جمعاً مقبولاً عند العرف.

والسرّ في المعاملة معهما معاملة المتعارضين وعدم كون الجمع بينهما عرفيّاً: هو ما عرفت من أنّ الظهور في القرينيّة إنّما كان مستفاداً من السياق، والمفروض انتفاء السياق بالانفصال بين الجملتين، وهذا بخلاف باب الحكومة، فالحاكم سواءً كان متّصلاً أو منفصلاً يقدّم على المحكوم، فعند الاتّصال يهدم الظهور، وعند

623

الانفصال يهدم الحجّيّة؛ وذلك لأنّ الظهور في القرينيّة لم يكن ظهوراً سياقيّاً حتّى ينتفي بانتفاء السياق، بل كان ظهوراً لفظياً لنفس الحاكم محفوظاً معه سواء اتّصل بالمحكوم أو انفصل عنه.

فتحصّل أنّ الفرق بين قرينيّة المخصِّص وقرينيّة الحاكم أمران:

أحدهما: أنّ قرينيّة المخصّص مستفادة من السياق، وقرينيّة الحاكم مستفادة من نفس الظهور اللفظي للحاكم.

والثاني: أنّ المخصِّص المنفصل إذا لم يكن بحكم المتّصل لم يكن قرينة بخلاف الحاكم.

وأمّا ما ذكر من أنّه في باب الحكومة على عقد الوضع لا يكون دليل الحاكم معارضاً ومنافياً لدليل المحكوم أصلاً؛ لأنّ دليل المحكوم إنّما دلّ على قضية شرطيّة، ودليل الحاكم دلّ على انتفاء الشرط، وسينتفي الجزاء بانتفاء الشرط، وصدق القضية الشرطيّة لا يستلزم صدق طرفيها، فغير صحيح أيضاً؛ وذلك لانّ الشرط بالفعل ثابت، فقوله: «الربا حرام» قد شمل الربا بين الوالد وولده، وقوله: «لا ربا بين الوالد وولده» وإن كان ينفي الجزاء وهو الحرمة بلسان نفي الشرط وهو الربا، لكنّ المفروض أنّنا نعلم بتحقّق الشرط، وصدق القضية الشرطيّة وإن كان لا يستلزم صدق الجزاء عند عدم تحقّق الشرط، لكنّه يستلزم صدق الجزاء عند تحقّق الشرط، ففي ظرف تحقّق الشرط لو دلّ دليل على عدم صدق الجزاء يكون منافياً لا محالة للدليل الأوّل، فالتصرّف في عقد الوضع ـ أيضاً ـ بحسب الحقيقة تصرّف في عقد الحمل، وإنّما الاختلاف في التعبير. فهذا الكلام بهذا المقدار غير تامّ، إلّا أن تضاف إليه فرضيّة سوف تأتي ـ إن شاء اللّه ـ عند تحقيق المطلب، وهي مجرّد فرضيّة غير منطبقة على ظاهر الأدلّة والأخبار.

وبما ذكرناه ظهر الفرق بين المقام وبين باب الترتّب، فإنّ الأمر بالأهمّ يُفني بامتثاله موضوع الأمر بالمهمّ وهو القدرة حقيقة، وأمّا في المقام فدليل الحاكم لا يفني الشرط في دليل المحكوم حقيقة، وإنّما يفنيه عنواناً استطراقاً الى تكذيب الجزاء، والتكذيب التوأم مع الفراغ عن وجود الشرط خارجاً يستحيل اجتماعه مع صدق القضية الشرطيّة.

وأمّا ما ذكر في الحكومة على عقد الحمل: من أنّه يقدّم الحاكم على دليل المحكوم؛ لأنّه يرفع موضوع أصالة الإطلاق في دليل المحكوم وهو الشكّ، فهذا ـ

624

أيضاً ـ ليس بياناً فنيّاً فإنّه:

أوّلاً: أنّ هذا يوجب حكومة الدليل الثاني، وهو دليل نفي الحرج مثلاً على دليل حجيّة الإطلاق، لا على الدليل الأوّل وهو دليل وجوب الوضوء مثلاً، ولو التزم بالحكومة بهذا المعنى فهو ثابت في كلّ مخصِّص، فإنّ كلّ مخصّص قد اُخذ عدمه في موضوع أصالة العموم في العامّ، فلو كان هذا ملاك الحكومة في هذا القسم لم يبق فرق بين هذه الحكومة وبين التخصيص.

وثانياً: أنّه يمكننا أن نعكس المطلب ـ بغض النظر عن مسألة الأظهريّة والقرينيّة ـ ونقول: إنّه كما اُخذ في موضوع أصالة الإطلاق الشكّ في المراد، كذلك اُخذ في موضوع أصالة الظهور في الدليل الحاكم الشكّ في المراد، فليكن كلّ منهما موجباً لإلغاء موضوع الآخر.

فلابدّ من استئناف بحث آخر في المسألة؛ لأجل توضيح ضابط الحكومة. وإجمال التحقيق في باب الحكومة هو:

أنّ الحكومة تارة تكون لدليل على دليل آخر بلحاظ المرحلة اللغويّة، واُخرى تكون بلحاظ المرحلة التشريعيّة، والنحو الأوّل مجرّد فرض غير واقع في واقع التشريع، والمتعارف هو النحو الثاني.

أمّا النحو الأوّل: فتوضيحه: أنّه قد يكون للمتكلّم نظر في تشخيص مصاديق الموضوع الذي يحكم عليه بحكم، ولا أقصد بذلك النظر الأخباري كأن يخبر اشتباهاً مثلاً بأنّ زيداً خارج عن موضوع الحكم الذي هو العالم مثلاً، فإنّ هذا النظر لا أثر له في المقام، وإنّما أقصد بذلك النظر الإنشائي سنخ الادّعاء السكّاكي، فإنّ المتكلّم إذا كان له نظر إنشائي في كلامه في تشخيص موضوعه سعةً أو ضيقاً فهذا النظر لابدّ من اتّباعه، فإنّه في الحقيقة يتدخّل في المدلول الاستعمالي للكلام، وهذا النظر الإنشائي يفهم بقرينة تدلّ عليه: وهي إمّا قرينة عامّة: وذلك كما في الارتكازات العرفيّة العامّة التي تكشف عن أنظار إنشائيّة عرفيّة عامّة، فتكون تلك قرينة على النظر الإنشائي لهذا المتكلّم؛ لأنّه فرد من العرف وابن العرف، فمن باب أصالة عرفيّته واتّباعه للعرف في الارتكازات وباب الألفاظ والمعاني يُحمل كلامه على هذا النظر الإنشائي. وإمّا قرينة خاصّة: وهي عبارة عن تصريحه بهذا النظر الإنشائي، بأن يقول مثلاً: «لا ربا بين الوالد وولده» بناءً على حمله على بيان نظره الإنشائي في باب الربا، وهذه القرينة الخاصّة هي الحاكم، وفي الحقيقة لا معارضة ولا منافاة بينه وبين

625

دليل المحكوم أصلاً، فإنّ دليل المحكوم ـ عند فرض وجود نظر إنشائي للمتكلّم في موضوعه ـ يدلّ في الحقيقة على قضية شرطيّة: وهي أنّ الشيء إن كان ربا بنظري الإنشائي فهو حرام، والدليل الحاكم يدلّ حقيقة على انتفاء الشرط، ويصبح الدليل الذي يكون من هذا القبيل حاكماً على كلّ أدلّة أحكام ذلك الموضوع وهو الربا مثلاً؛ لأنّه قد كشف لنا عن نظر إنشائي خاصّ لهذا المتكلّم في تعيين مصاديق هذا الموضوع، وهذا يعني تعيين المدلول الاستعمالي لهذه الكلمة: وهي كلمة (الربا) مثلاً في لسان هذا الشخص، فكلّما لا يكون ربا بهذا المعنى لا يترتّب عليه أيّ حكم من أحكامه؛ لأنّه خارج عن المدلول الاستعمالي في كلّ كلمات هذا الشخص المرتِّبة لأحكام على هذا الموضوع.

إلّا أنّ هذا القسم من الحكومة مجرّد فرض في واقع الشريعة، وحمل الأدلّة الموسّعة للموضوع، أو المضيّقة له الواردة في لسان الشارع على هذا المعنى خلاف الظاهر، فإنّ ظاهرها هو صدورها من المولى بما هو مولى وبما هو شارع، لا بما هو مستعمِل ومتصرّف في المداليل اللغويّة والاستعماليّة، فالظاهر من قوله مثلاً (لا ربا) هو نفي الربا من حيث أنّ الربا حرام، لا من حيث عالم الاستعمال.

وأمّا النحو الثاني: فهو ما لو كان النظر الى مرحلة المولويّة والتشريع لا مرحلة الاستعمال، فيكون قد انعقد الإطلاق في الدليل المحكوم في نفسه، ويكون الدليل الحاكم منافياً له ولو كان بلسان التصرّف في عقد الوضع، وفي الحقيقة يكون الدليل الحاكم بهذا النحو دائماً متصرّفاً في عقد الحمل، وإنّما يختلف التعبير فتارة يعبّر بمثل (لا حرج)، واُخرى يعبّر بمثل (لا ربا)، وكلاهما ينافي الأدلّة الأوليّة، ولكنّهما يقدّمان عليها تطبيقاً لقانون تقديم القرينة على ذي القرينة، وبما إنّ قرينيّة بعض الجمل تكون بظهور لفظي في نفس تلك الجملة لا بظهور سياقي يستفاد من سياق مجموع القرينة وذي القرينة، فلذا تكون القرينيّة محفوظة حتّى لدى الانفصال، وعند الانفصال لا ينهدم ظهور الدليل الأوّل، ولكن تنهدم حجيّته؛ لأنّ مدرك الحجيّة هو السيرة العقلائيّة، وهي غير ثابتة على حجيّة ذي القرينة مع صدور القرينة ولو منفصلة.

وقد تحصّل بما ذكرناه: أنّ معنى التقدّم بالحكومة ليس هو رفع الموضوع للدليل المحكوم، كما هو مصطلح مدرسة المحقّق النائيني(رحمه الله)، ولذا اضطرّوا الى تأويل الحاكم بلحاظ عقد الحمل بأنّه يرفع موضوع دليل أصالة الإطلاق، وإنّما معناه

626

التقدّم بالمبيّنيّة والمفسّريّة.

كما أنّه ظهر بما ذكرناه: أنّ نكتة تقديم الحاكم هي بنفسها نكتة تقديم المخصِّص فيما إذا كان المخصّص قرينة، غاية الأمر أنّ المفسّريّة: تارة تكون ذاتيّة للمفسِّر، واُخرى تكون موقوفة على اتّصاله بالمفسَّر، فمفسّريّة الحاكم للمحكوم ذاتيّة له، ولذا تكون محفوظة عند الانفصال، ومفسّريّة المخصّص للعامّ مشروطة بالاتّصال، إذ معه ينتزع منه عرفاً عنوان المفسّريّة دون الانفصال.

هذا تمام الكلام في أصل قانون الحكومة.

وأمّا الكلام في تطبيقها على المقام فنقول: إنّ القاعدة حاكمة على الأدلّة الأوليّة بملاك المفسّريّة والمبيّنيّة التي مرجعها بحسب الروح الى النظر، فإنّ الناظر يعتبر بالنظر العرفي مفسّراً ومبيّناً للمنظور إليه.

وتقريب كون قاعدة (لا ضرر) ناظرة يحتاج الى مزيد بيان؛ لأنّه في النظرة الاُولى قد يشكّك في ذلك ويقال: إنّ النظر إنّما يكون في النفي التركيبي بأن يقول مثلاً: الأحكام التي جعلتها (أو اجعلها) لا تكون ضرريّة، فهذا من الواضح أنّه ناظر الى الأحكام الأوليّة، وأنّه فرضها مفروغاً عنها، وقال عنها: إنّها لا تكون ضرريّة، وأمّا إذا كان النفي بسيطاً كأن يقول: (لا تصدر منّي أحكام ضرريّة). فهذا ليس له نظر الى الأحكام الأوليّة، ولم يفرض فيها الفراغ عنها والنظر إليها، وعليه فنحتاج في مقام إثبات نظريّة القاعدة وحاكميّتها الى إثبات إفادتها للنفي التركيبي، والنفي التركيبي واضح في قوله: ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج بقرينة كلمة (في الدين) يعني أنّ الدين وهو وجوب الوضوء أو الغسل أو الصوم بعد فرض وجوده ليس فيه حرج، وكذلك قاعدة (لا ضرر) تكون ظاهرة في النفي التركيبي لو ثبتت كلمة (في الإسلام) لكنّها لم تثبت، فقد يشكّك في بادىء الأمر في الحكومة ويقال: بأنّ أمر القاعدة دائر بين النفي التركيبي والنفي البسيط، ومع فرض النفي البسيط يصير مرجعها الى أنّه لم تصدر منّي أحكام ضرريّة، وهذا لا يفرض في المرتبة السابقة الفراغ عن وجود وجوب الوضوء أو الغسل؛ ليكون له نظر الى تلك الأحكام.

ويمكن أن تبيّن هنا نكتة الحكومة بأحد تقريبات ثلاثة:

التقريب الأوّل: أن نضمّ الى هذا النفي ارتكاز الشريعة، فلولا ارتكازها كان يبقى أمر النفي مردّداً بين أن يكون تركيبيّاً أو بسيطاً، ولكن ارتكازيّة أنّ المتكلّم له شريعة وأحكام تعوّض عن كلمة (في الإسلام)، فكأنّه قال: لا ضرر من ناحية الشريعة

627

المفروغ عن وجودها.

التقريب الثاني: أن يقال: إنّ القرينة على تركيبيّة النفي هي ظهور الدليل في الامتنان.

وتوضيحه: أنّ هذه القاعدة باعتبار كونها امتنانيّة لا تكون إلّا بمعنى جعل الضرر مانعاً عن التشريع، وكون التشريع لولا الضرر ثابتاً، وأمّا لو فرض أنّ التشريع غير ثابت من باب عدم الاقتضاء فمثل هذا لا يكون فيه امتنان على الناس، فظهوره في الامتنان مساوق لظهوره في مانعيّة الضرر عن التشريع، وهذا الظهور مساوق للمفروغيّة عن وجود التشريع لولا المانع، وبكلمة اُخرى: أن دليل (لا ضرر) ورد في مقام إنشاء شرط عامّ في التشريع، وهو عدم الضرر، أو عبِّر بإنشاء مانع عامّ عن التشريع، وهو الضرر، فحاله حال أدلّة الشرائط والموانع من قبيل «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» و «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه» وغير ذلك من أدلّة المانعيّة التي تكون لها حكومة ونظر الى دليل الحكم الممنوع.

التقريب الثالث: أنّه لو كان يُحتمل ـ بغضّ النظر عن بيان المولى ـ أنّ المولى سوف يجعل أحكاماً ضرريّة فقط وكانت القاعدة متصدّية لرفع هذا الاحتمال لم تكن القاعدة ناظرة الى وجود الشريعة؛ لأنّ عدم جعل تلك الأحكام يكون أعمّ من وجود الشريعة وعدمها، ولكن من البديهي أنّه ليس من المحتمل ذلك، وهو جعل أحكام تكون كلّها ضرريّة دائماً، فالتصدّي لرفع هذا الاحتمال لغو، وإنّما المحتمل في شأنه أنّه حين يشرّع أحكاماً فقد يجعلها أحياناً ضرريّة، فالقاعدة إنّما تنفي الضرر في مقابل هذا الاحتمال، وهو أن يجعل تشريعاته بنحو تسري الى حالة الضرر، إذن فقد فرض في المقام أصل التشريع.

ويرد على هذا التقريب: أنّنا وإن لم نحتمل ضرريّة تمام الأحكام الشرعيّة، لكنّنا نحتمل ـ بغضّ النظر عمّا مضى في الوجه الأوّل والثاني من ارتكازيّة الشريعة أو امتنانيّة القاعدة ـ عدم أصل الشريعة وعدم مقتض لها، وهذا الاحتمال لا يخالف القاعدة بما هي هي، فكيف يثبت نظرها الى الأحكام الأوّليّة؟!

وبكملة اُخرى: أنّه ليس الأمر دائراً بين كون الأحكام مشتملة على الضرري وغير الضرري، وكونها جميعاً غير ضرريّة حتّى يقال: إنّ القاعدة تكون بصدد نفي اتّصاف الأحكام أحياناً بالضرريّة وقد فرغ فيها عن أصل الحكم، بل هنا احتمال ثالث وهو عدم الحكم رأساً، ولابدّ في إثبات الفراغ في القاعدة عن أصل الحكم من

628

التمسّك بقرينة ارتكازيّة الشريعة أو امتنانيّة القاعدة، وهذا عبارة عن التقريب الأوّل والثاني.

هذا تمام الكلام في وجه تقدّم القاعدة على أدلّة الأحكام الأوليّة.

الإضرار بالتصرّف في الملك

الأمر الرابع: في تصرّفات المالك فيما يملك إذا كانت ضرريّة بالنسبة الى شخص آخر، من قبيل أن يحفر بالوعة في داره فيتضرّر بذلك بئر جيرانه أو جداره، فهل تبقى سلطنة المالك على حفر البالوعة ثابتة، أو لا؟

والكلام في ذلك تارة يقع بلحاظ القواعد الأوّليّة، أي: بغضّ النظر عن قاعدة (لا ضرر)، واُخرى بلحاظ قاعدة (لا ضرر).

أمّا الكلام بلحاظ القواعد الأوّليّة: فقد يتصوّر أنّ إطلاق دليل سلطنة الناس على أموالهم يحكم في المقام بأنّ من حقّ المالك حفر البالوعة في بيته وإن أضرّ بالجار، ولكن هذا غير صحيح لما يلي:

أوّلاً: لأنّ قاعدة السلطنة ليس لها دليل لفظي معتبر يتمسّك بإطلاقه، وإنّما هي قاعدة متصيّدة من الموارد المختلفة زائداً على الإجماع والارتكاز والسيرة، فيلتزم بها بمقدار قابليّة هذه المصادر لها لا أوسع من ذلك، ومن المحتمل أن لا تكون السلطنة ثابتة على ماله على الحصة الملازمة للإضرار بشخص آخر، ويكون ذلك خارجاً عن القدر المتيقّن لهذا الدليل اللبّي الناشىء من هذه المصادر، وحديث الناس مسلّطون على أموالهم ليس معتبراً سنداً.

ثانياً: لأنّنا لو سلّمنا هذا الحديث وفرضناه دليلاً لفظيّاً له إطلاق في نفسه لم يصحّ ـ أيضاً ـ التمسّك بإطلاقه في المقام، فإنّنا إمّا أن نفهم من حديث السلطنة أنّها سلطنة في مقابل قانون الحجر المجعول على السفيه ونحوه، فيدلّ على أنّ الأصل الأوّلي في الإنسان هو أن يكون غير محجور عليه، ويكون هو بنفسه الذي يمارس الصلاحيات المشروعة، وكلّ من خرج بدليل خاصّ عن ذلك يكون محجوراً عليه، ويكون وليّه هو الذي يمارس الصلاحيات المشروعة، وعليه فنفس هذه القاعدة لا تشرّع تلك التصرّفات المشروعة ولا تعيّنها، فكلّما شُكّ في جواز تصرّف تكليفاً أو وضعاً لا يمكن إثبات جوازه بالقاعدة.

وإمّا أن نفهم من الحديث أنّه في مقام إعطاء السلطنة على ماله بمعنى تجويز

629

التصرّفات التي يريدها، لا أنّ جوازها في نفسه مفروغ عنه في المرتبة السابقة، ويكون الحديث في مقام نفي المانع وهو أسباب الحجر، فعندئذ نقول ـ أيضاً ـ: إنّه لا يمكن الاستدلال بإطلاق الحديث في المقام؛ لأنّ المتفاهم منه عرفاً أنّه في مقام بيان أنّ المال ليست له عصمة في مقابل إرادة المالك كما له عصمة في مقابل الآخرين، فإذا احتملنا ضيقاً في دائرة سلطنة المالك من باب أنّ المال له عصمة في مقابله فذلك يُنفى بالقاعدة، ولكن إذا احتملنا ضيقاً في دائرة السلطنة لا بلحاظ المال، بل باعتبار كونه مؤدّياً الى الإضرار بالغير فهذا الاحتمال لا يرفع بالقاعدة، فإنّ غاية ما يستفاد منها أنّه من ناحية المال وكونه محترماً لا مانع أن يتصرّف فيه المالك.

هذا. وللمحقّق العراقي(رحمه الله) وجه آخر غير ما ذكرناه من الوجهين في مقام إثبات عدم إمكان الرجوع في المقام الى قاعدة السلطنة، وحاصله: إيقاع المعارضة بين إطلاق القاعدة لسلطنة المالك على حفر البالوعة في داره، وإطلاقها لسلطنة الجار على المحافظة على جداره وبئره، ولا يعقل جعلهما معاً؛ لأنّ كلاّ من السلطنتين تلازم منع الآخر من سلطنته(1).

ويرد عليه: أنّه لو سُلّم إطلاق القاعدة في نفسها لسلطنة صاحب البيت على تمام أنحاء التصرّف في بيته بما فيها حفر البالوعة، فذلك لا يعارض بإطلاقها لمحافظة الجار على جداره أو بئره، فإنّ المفهوم من كلمة (على) أنّ القاعدة إنّما تنظر الى السلطنة بلحاظ التصرّفات التي تمثّل جانب القهر والغلبة على المال، فله البيع والصلح والهدم واستيفاء المنافع ونحو ذلك، لا جعل الولاية له على كلّ ما له مساس بالمال وإضافة إليه، ولو كان عبارة عن منع الجار عن حفر البالوعة مثلاً في ملكه من باب أنّ هذا محافظة على ماله فله نحو إضافة إليه، ولكن ليس مصداقاً للقهر والغلبة على المال. وعلى أيّ حال، فقد عرفت أنّ قاعدة السلطنة لا أثر لها في المقام.

وبعد هذا قد يقال: إنّ المرجع هو الأصل، فنجري أصالة جواز حفر البالوعة، فينتج الأصل النتيجة التي كان يُرام تحصيلها من قاعدة السلطنة.

إلّا أنّ الصحيح أنّه لابدّ من الرجوع الى مدارك قاعدة السلطنة، ولا يبعد أن يقال: إنّ السيرة العقلائيّة تقتضي بحسب الارتكاز التفصيل بين ما لو كان المالك لا يتضرّر بترك حفر البالوعة، أو يتضرّر ضرراً يكون مندكّاً عرفاً في مقابل ضرر الجار، من


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 120.

630

قبيل مثال لوح السفينة الذي هو للغير، أو الأرض المستأجرة للزراعة لو أرادها صاحبها بعد انقضاء مدّة الإجارة، وما لو كان يتضرّر ضرراً غير مندكّ كأن يفرض مثلاً: أنّه لو لم يحفر البالوعة لانهدم بيته، ففي الأوّل لا يجوز للمالك التصرّف المضرّ بالآخر، وفي الثاني له هذا التصرّف، وما دام ضرر المالك لم يصل في الضآلة الى مرتبة القطع بالاندكاك بنحو يخرج التصرّف بحسب الارتكاز عن سلطنة المالك يكون الأصل هو الجواز.

وهذا المطلب مطابق لما هو المعروف في فتاوى الفقهاء، وأظن أنّ الفقهاء (قدس سرهم) تأثّروا بارتكازهم أكثر مما تأثّروا بالصناعات الاستدلاليّة.

وأمّا الكلام بلحاظ قاعدة (لا ضرر): فبعد أن نفرض تماميّة قاعدة السلطنة في نفسها، وأنّه وجد لها إطلاق لفظي، هل يمكن نفي هذه السلطنة باعتبار كونها ضرريّة أو لا؟

اعترض على التمسّك بالقاعدة لنفي السلطنة بوجوه أهمّها وجهان:

1 ـ أنّ القاعدة إرفاقيّة، وجريانها هنا خلاف الإرفاق بالنسبة للمالك.

ويرد عليه: أنّ هذا الكلام مبني على كبرى خاطئة: وهي أنّه اُخذ في القاعدة أنّ لا تكون خلاف الإرفاق على أحد، والصحيح أنّها إنّما تكون ارفاقيّة بالنسبة لمن تجري في حقّه، نعم لو بلغ خلاف الإرفاق بالنسبة لشخص آخر الى حدّ الضرر عليه دخل في باب تعارض الضررين، فلا تشمل القاعدة كلا الطرفين.

2 ـ دعوى المعارضة بين الضررين بافتراض أنّ تحريم الحفر ضرر على المالك، وذلك إمّا بدعوى أنّ نفس حرمانه من التصرّف في ماله ضرر عليه، أو بفرض مؤونة زائدة في المقام، بأن يفرض أنّه لو لم يحفر البالوعة لتجمّع الماء في بيته وتضرّر به بيته.

والكلام تارة يقع في الصغرى أي: أنّه هل يكون المقام من باب تعارض الضررين، أو لا؟ واُخرى في الكبرى أي: أنّه بعد فرض كونه من باب التعارض بين الضررين هل يتساقط الإطلاقان، أو يقدّم أحدهما على الآخر؟

أمّا البحث في الصغرى: فقد قالوا: إنّ تعارض الضررين إنّما يكون عند فرض تلك المؤونة الزائدة بأن يكون عدم حفر البالوعة مستلزماً لضرر في الدار، وأمّا مجرّد حرمانه عن التصرّف فليس ضرراً، وإنّما هو عدم النفع. وهذا الكلام صحيح إلّا أنّ تحقيقه: هو أنّ كون مجرّد الحرمان عن التصرّف ضرراً من دون فرض المؤونة الزائدة

631

أو لا، يتفرّع على أن نرى في المرتبة السابقة أنّ دائرة الارتكاز العقلائي في مقام إعطاء السلطنة للمالك هل تشمل السلطنة على التصرّف الضرري بالنسبة للجار من دون أن يكون في تركه ضرر غير مندكّ على المالك، أو لا؟ فإن شملت ذلك لم نحتج في مقام تصوير تعارض الضررين الى تلك المؤونة الزائدة، وكان مجرّد منع المالك عن التصرّف في ملكه ضرراً عليه، وإلّا احتجنا الى تلك المؤونة، وقد مضى عند التكلّم على مقتضى القواعد الأوليّة أنّ الارتكاز العقلائي لا يساعد على مثل هذه السلطنة، فصغرى تعارض الضررين إنّما تتمّ عند فرض تلك المؤونة الزائدة.

وأمّا البحث في الكبرى: فقد ذكر المحقّق النائيني(رحمه الله)(1): أنّ قاعدة (لا ضرر) إنّما تجري بالنسبة الى تصرّف المالك، فتحرّم عليه التصرّف، ولا تجري لنفي الضرر على المالك، ولا يقع التعارض بين الإطلاقين؛ وذلك لأنّ حرمة التصرّف على المالك هي وليدة للقاعدة فلا تُنفى بالقاعدة، فإنّ القاعدة إنّما تكون حاكمة على الأدلّة الأوليّة، ومقتضى الأدلّة الأوليّة: إمّا هو جواز الحفر للمالك، أو حرمته، ولا يمكن أن تكون الأدلّة الأوليّة مقتضية لكلا الحكمين، فلا معنى للتعارض بين إطلاقين للقاعدة، والواقع عند المحقّق النائيني(رحمه الله): أنّ مقتضى الأدلّة الأوليّة هو جواز الحفر للمالك، فيرفع ذلك بقاعدة (لا ضرر) وتثبت الحرمة، وهذه الحرمة التي تولّدت من تطبيق القاعدة لا ترفع بالقاعدة، ولا تكون موضوعاً من جديد للنفي المجعول بها.

ثمّ اعترض(قدس سره) على نفسه: بأنّكم تقولون في باب دليل حجيّة خبر الواحد: إنّ القضية الحقيقيّة يمكن أن تشمل نفسها، وإنّ (صدّق العادل) يطبّق على إخبار الشيخ، فيولّد موضوعاً جديداً للحجيّة وهكذا، فلماذا لا تقولون بمثل ذلك في المقام؟!

وأجاب عن ذلك: بأنّ هذا إنّما يعقل فيما إذا لم تكن القضية الحقيقيّة مسوقة مساق النظر والحكومة، وأمّا إذا كانت كذلك كما هو الحال في قاعدة (لا ضرر)، فلا يعقل فيها ذلك، فلو كانت القاعدة مجرّد نفي للحكم الضرري من دون نظر الى الأدلّة التي تشمل بإطلاقها صورة الضرر، فلا بأس بأن يقال: إنّ الحكم الضرري المتولّد منها يصبح موضوعاً جديداً للنفي المستفاد من القاعدة، ولكنّ المفروض أنّ القاعدة حاكمة، ومعنى الحكومة النظر الى تلك الأدلّة نظراً تقييديّاً، فبالإمكان أن ينفى بها


(1) راجع قاعدة (لا ضرر) بقلم الشيخ موسى النجفي، ص 225.

632

إطلاق دليل السلطنة الشامل للفرد الضرري، فإنّها تنظر الى دليل السلطنة وتقيّده بالحكومة، ولكن ليس بالإمكان أن ينفى بها إطلاق نفس القاعدة الشامل للفرد الضرري، بأن تنظر الى نفسها، وتفرض ثبوت نفسها في المرتبة السابقة عليها، وتقيّدها بالحكومة، فإنّ هذا غير معقول وتهافت في عالم اللحاظ والنظر.

أقول: إنّ هذا الكلام إنّما تكون له صورة بناءً على مبنى المحقّق النائيني(قدس سره): من أنّ قوام حكومة القاعدة يكون بالنظر الى أدلّة الأحكام الواقعيّة نظراً تقييديّاً، ومن هنا يقول(رحمه الله): إنّ القاعدة لا يمكن أن ينفى بها أصل حكم ضرري من رأس كوجوب الجهاد مثلاً، وأمّا بناءً على ما هو الصحيح من أنّ القاعدة تنظر الى الشريعة الإسلاميّة ككلّ، ويكون نظرها نظراً توضيحيّاً وشرحيّاً لها لا تقييديّاً، فهي إنّما تبيّن وصف الشريعة الإسلاميّة وتصفها بأنّها ليس فيها حكم ضرري، ومن هنا نبني على أنّ القاعدة تنفي ـ أيضاً ـ الحكم الذي يكون ضرريّاً من رأس، فلا يلزم أن يتصوّر نظر القاعدة الى شخص الأدلّة والأحكام الأوليّة حتّى يقال:إنّه يستحيل أن تنظر الى نفسها، وتفرض نفسها في المرتبة السابقة، وإنّما تنظر الى الشريعة الإسلاميّة ككلّ، وتنفي وجود حكم ضرري فيها، ولو تولّد حكم ضرري من نفس القاعدة أصبح موضوعاً جديداً لنفي الضرر الموجود فيها.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أن مقتضى قاعدة (لا ضرر) هو التفصيل بين ما لو كان ترك الحفر موجباً لضرر على المالك كانهدام بيته مثلاً أو لا، فإن لم يكن موجباً لضرر عليه جرت القاعدة في حقّ الجار فقط ولم يجز للمالك حفر البالوعة، وإن كان موجباً لضرر عليه تعارض الإطلاق، وكان مقتضى الأصل هو الجواز، وهذه هي نفس النتيجة التي توصّلنا إليها عندما تكلّمنا على مقتضى القواعد الأوليّة بغضّ النظر عن قاعدة (لا ضرر)، فقد تحصّل: أنّ إدخال عامل قاعدة (لا ضرر) وعدم إدخاله لا يغيّر من الموقف شيئاً.

هذا كلّه من حيث بيان الحكم التكليفي للمسألة، وأمّا الضمان فحتّى لو جاز للمالك حفر البالوعة كان ضامناً فيما إذا صدق عنوان الإتلاف؛ لأنّ الضمان بملاك الإتلاف، ومجرّد جواز التصرّف لا يخرج الإتلاف عن كونه موضوعاً لدليل الضمان.

هذا. وذكر المحقّق العراقي(رحمه الله)(1): أنّ من حفر بالوعة تؤثّر على بئر جيرانه


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 119 ـ 120.

633

فتارة يفرض أنّ ذلك يتلف أصل المال بأن ينضب ماء البئر، واُخرى يفرض أنّه يتلف وصفاً من الأوصاف الدخيلة في ماليّة الماء كالعذوبة، وثالثة يفرض أنّه لا يتلف وصفاً حقيقيّاً، ولكن يوجب نوعاً من تنفّر الطبع قائم على أساس تصوّر كون البئر قريباً من البالوعة ونحو ذلك من دون أيّ تغيير حقيقي في أوصاف الماء، ففي الأوّل والثاني يضمن؛ لأنّه أتلف مال الغير ذاتاً أو وصفاً، وأمّا في الثالث: فلا يضمن، بل ليس عمله حراماً أيضاً؛ لأنّه لم يتلف مال الغير، وإنّما اتلف ماليّته لكون التنفّر الطبعي يوجب قلّة الماليّة والرغبة العقلائيّة فيه، وذلك ليس من المحرّمات ولا من موجبات الضمان، ولهذا لا يستشكل أحد في أنّه لو قلّل ماليّة مال شخص آخر بإصدار بضاعة مماثلة لبضاعته الى السوق لم يكن ذلك حراماً، ولا موجباً للضمان.

أقول: إنّ مسألة ضمان الماليّة لها عرض عريض في باب الضمانات، وهذا النقض يتمسّك به دائماً لإثبات عدم ضمان الماليّة؛ لكونه مصداقاً واضحاً لعدم الضمان.

والفرع الآخر الذي يكون شبيهاً بما نحن فيه: هو أنّه لو غصب شخص كميّة من العباءات الصيفيّة في الصيف، وأرجعها في الشتاء فقد قال الفقهاء بأنّه لا يضمن؛ لأنّه أرجع إليه نفس ماله؛ لأنّ العباء لم ينقص ذاتاً ولا وصفاً، غاية الأمر أنّ قيمته الآن أنزل منها وقتئذ، والماليّة غير مضمونة، وإلّا لانتقض بتاجر الحنطة مثلاً الذي يستورد حنطة كثيرة فينزّل قيمة الحنظة الموجودة عند الآخرين.

وتفصيل الكلام في هذا المطلب موكول الى بحث الضمان أي: بحث المقبوض بالعقد الفاسد من المكاسب وليس هنا موضعه، إلّا أنّني أذكر هنا كلمة واحدة بنحو الاختصار كأساس لبحث الضمان وهي:

أنّه لابدّ من التمييز بين نقصان الماليّة الناشىء من نقصان القيمة الاستعماليّة للمال، ونقصان الماليّة الناشىء من نقصان القيمة التبادليّة للمال، فإنّ للمال قيمتين: قيمة استعماليّة: وهي القيمة التي تتحصّل من منافع هذا المال وإشباعه لحوائج الإنسان الطبيعيّة بغضّ النظر عن عرضه بالسوق ووجود مشتر له، وقيمة تبادليّة والتي يعبّر عنها في العرف الاعتيادي بالسعر والثمن السوقي أي: قوة تبادل هذا المال مع مال آخر، والقيمة التبادليّة تؤثّر فيها القيمة الاستعماليّة، فإنّ الشيء الذي ليست له قيمة استعماليّة ولا ينفع أصلاً ليست له قيمة تبادليّة في السوق، فالقيمة الاستعماليّة دخيلة في تكوين القيمة التبادليّة، لكن يدخل في تكوين القيمة التبادليّة

634

عامل آخر أيضاً وهو كميّة العرض والطلب، وهذا العامل ليس مؤثّراً في القيمة الاستعماليّة.

إذا اتّضح هذا قلنا في المقام: إنّ القيمة الاستعماليّة للشيء في الواقع هي وصف من الأوصاف القائمة بالشيء، فإنّها عبارة عن قابليّة الشيء للانتفاع به، وهي حيثيّة قائمة به كسائر حيثيّاته القائمة به كسواده ونعومته وهذه الحيثيّة تستند الى اُمور خارجيّة واُمور نفسيّة، فإنّها كما تستند الى سواد العباءة ومتانتها مثلاً، كذلك تستند الى الحاجة الى العباءة، وكون الجوّ حارّاً أو بارداً، وكذلك ماء البئر يستند في قابليّته لإشباع حاجة الإنسان الى صفائه وعذوبته، والى انشراح الإنسان له، فقميته الاستعماليّة تضعف بإيجاد تنفّر الطباع عنه، ويكون ذلك من قبيل ما لو أوجد شخص حركات معيّنة ومشاغبات في بيت شخص بحيث أوهم أنّه مسكون للجن، وبذلك اشمأزّت الطباع منه من دون أن يؤثّر في هذا البيت شيئاً، فهذا قد قلّل القيمة الاستعماليّة للبيت، وتقليلها كتقليل أيّ حيثيّة من الحيثيّات القائمة بالبيت يوجب الضمان، فلو قلّلها بعنوان الإتلاف يوجب الضمان بقاعدة الإتلاف، ولو قلّت تحت يده ويده يد ضمان ثبت الضمان بمقتضى قاعدة اليد كلّ حسب شرائطه وقانونه.

وأمّا لو فرض أنّ القيمة الاستعماليّة لم تقلّ بوجه من الوجوه، وإنّما قلّت القيمة التبادليّة من باب زيادة العرض بحسب الخارج، فهذا ليس ضرراً ونقصاً فيما هو تحت يد المالك فعلاً، وإنّما النقص أمر تقديري تعليقي يعني: لو أنّه بدّله بمال آخر سابقاً لحصل على مال أكثر ممّا يبدّله به الآن، ومثل هذا النقص التعليقي ليس ضرراً بالفعل، ولا ينبغي أن يقاس به محل الكلام. وتحقيق المطلب مفصلاً موكول الى بحث المكاسب(1).

 


(1) الإضرار بالنفس

وفي ختام بحث (لا ضرر) لا بأس بالإشارة الى مسألة الإضرار بالنفس ضرراً غير واصل الى مستوى يشمله دليل حرمة الإلقاء في التهلكة ونحو ذلك؛ لكي نرى هل يمكن إثبات تحريمه بـ(لا ضرر) كما يثبت تحريم الإضرار بالغير من دون رضاه بـ(لا ضرر)، أو لا؟ وإن كان يتّضح ذلك بالتأمّل فيما مضى من الأبحاث السابقة.

ونشرح ذلك وفق مبنيين من المباني في تفسير (لا ضرر):

الأوّل: مبنى تفسيره بنفي الحكم الضرري، فعلى هذا المبنى من الواضح عدم دلالة (لا

635

وبهذا انتهى البحث في قاعدة (لا ضرر)، وبه تمّ الكلام في مباحث البراءة والاشتغال ولنشرع بعد هذا في مباحث الاستصحاب إن شاء اللّه.

 


ضرر) على تحريم الإضرار بالنفس؛ وذلك لأنّ جواز الإضرار بالنفس لا يعتبر حكماً ضرريّاً؛ لأنّ المكلّف لا يكون أمام هذا الجواز مكتوف اليد شرعاً لا محيص له إلّا الرضوخ لتحمّل الضرر كي يعتبر الجواز حكماً نشأ منه الضرر، وإنّما ينسب هذا الضرر الى اختيار نفس الشخص لا غير، وهذا بخلاف الإضرار بالغير، فإنّه لو جاز ذلك كان هذا يعني تحميل الغير الضرر؛ لأنّ الغير لا يملك أمام هذا الجواز حولاً أو طولاً، فلو ضرّره من جاز له الإضرار اعتماداً على جواز الإضرار كان هذا الضرر مستنداً الى ذاك الجواز، فيكون منفيّاً بـ(لا ضرر).

والثاني: ما اختاره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من تفسير ذلك بمعنى نفي الضرر الخارجي المقيّد بنشوئه من الشريعة، أو في دائرة تطبيق الشريعة. والوجه في هذا القيد أمران:

أحدههما: أنّ نفي الضرر الخارجي على الإطلاق واضح الكذب.

وثانيهما: أنّ ظاهر حال الشارع في المقام أن يكون المقصود بنفي الضرر نفيه له بما هو شارع، لا بما هو خالق ومكوّن، وهذا لا ينسجم مع نفي الضرر الخارجي على الإطلاق، وإنّما ينسجم مع نفي الضرر المستند الى الشارع بما هو شارع، وهو الضرر الناشىء من الشريعة.

والوجه الأوّل لا يستلزم خروج الإضرار بالنفس عن إطلاق الحديث، فإنّه لو نفي الضرر الذي يتحقّق بلحاظ جواز الإضرار بالنفس لم يكن ذلك كذباً، ولكنّ الوجه الثاني يستلزم خروج ذلك عن الإطلاق؛ لأنّ الضرر الذي يُلحقه الإنسان بنفسه عمداً لكونه جائزاً شرعاً لا يستند الى الشارع بما هو شارع؛ لأنّ هذا الإنسان كان بإمكانه أن لا يضرّ نفسه رغم التزامه بالشريعة؛ لأنّ الشريعة لم توجب عليه هذا الإضرار، وإنّما حقّق هذا الضرر بمحض إرادته، ولم يكن هو مكتوف الأيدي أمام حكم الشارع لا حول له ولا طول، بل كان بإمكانه أن يتحرّز من الضرر بتركه، فإنّ جواز الضرر يعني جواز فعله وجواز تركه، وهذا بخلاف باب الإضرار بالغير، فإنّه لو جاز ذلك لم يكن للغير حول ولا طول شرعيّ أمام هذا الجواز، وكان ضرره مستنداً الى الشارع بما هو شارع.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.