495

على مبدأ قبح العقاب بلا بيان، فما الفرق بين ذاك وبين فرض تعبّديّة أحدهما، حيث قلتم هنا بتعيّن جانب ذي المزيّة؟

قلت: الفرق هو أنّ العلم الإجماليّ هناك لم يكن قابلاً للتنجيز حتّى بمقدار حرمة المخالفة القطعيّة لفرض استحالة المخالفة القطعيّة. وأمّا هنا فالمفروض أنّ العلم الإجماليّ نُجّز بمقدار المخالفة القطعيّة، فتساقطت الاُصول المؤمّنة في الأطراف، فصار احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على أيّ طرف من الطرفين منجّزاً لذلك الطرف، إلاّ أنّه جاء الترخيص بملاك الاضطرار، والقدر المتيقّن من هذا الترخيص هو الترخيص في جانب غير ذي المزيّة على تقدير موافقة جانب ذي المزيّة، ففي الجانب الآخر يجب الرجوع إلى منجّزيّة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه.

هذا تمام الكلام فيما إذا كان أحدهما عباديّاً والآخر توصّليّاً.

وأمّا إذا كان كلاهما عباديّاً فلا يأتي إشكالنا الأوّل على المحقّق العراقيّ(قدس سره)؛ إذ من المعقول إيجاب الفعل بقصد القربة على تقدير عدم صدور الترك القربيّ منه، وبالعكس.

نعم، يأتي إشكالنا الثاني في كلا الجانبين، فيصبح مضطرّاً إلى مخالفة كلا الجانبين، إلاّ إذا كان أحدهما ذا مزيّة، فيكون مضطرّاً إلى مخالفة الجانب الآخر معيّناً، ويرتفع الإشكال هنا أيضاً بما ذكرناه من الحلّ الفقهيّ لذلك.

 

فرض تكرّر الواقعة في التوصّليّين:

المقام الثالث: فيما إذا تعدّدت الواقعة، ولنفرض فعلاً كون كلّ من الفعل والترك توصّليّاً، ولأجل التسهيل نفرض أنّ الواقعة إنّما تتكرّر مرّة واحدة، كما لو علمنا إجمالاً بوجوب فعل معيّن في يوم الخميس والجمعة، أو حرمته فيهما، فعندئذ

496

نقول: إنّ العلم الإجماليّ بذلك في اليوم الأوّل، وكذا العلم الإجماليّ به في اليوم الثاني، لا يمكن موافقته القطعيّة، فحاله حال ما لو لم تتكرّر الواقعة ولا يقبل التنجيز، وإنّما الذي يثير البحث هنا من جديد هو أنّ هنا علمين إجماليّين آخرين: أحدهما العلم بوجوب هذا الفعل في اليوم الأوّل أو حرمته في اليوم الثاني، وهذا يمكن مخالفته القطعيّة بأن يترك في اليوم الأوّل ويفعل في اليوم الثاني، ويمكن موافقته القطعيّة بأن يعكس الأمر، والثاني العلم بحرمة هذا الفعل في اليوم الأوّل أو وجوبه في اليوم الثاني، وهذا يعاكس الأوّل، أي: أنّ الموافقة القطعيّة للأوّل مخالفة قطعيّة لهذا العلم، والمخالفة القطعيّة للأوّل موافقة قطعيّة له.

وهنا قد يقال: إنّ الموافقة القطعيّة لكلا هذين العلمين غير ممكنة، فتصل النوبة إلى موافقتها الاحتماليّة، بأن يفعل في كلا اليومين أو يترك في كليهما.

ونحن نعقد الكلام هنا في أمرين:

الأوّل: في أنّ كلّ واحد من العلمين بنفسه هل هو صالح للتنجيز أو لا؟

والثاني: في أنّه بعد صلاحيّتهما للتنجيز وعدم إمكان موافقتهما القطعيّة معاً ماذا يصنع؟

أمّا الأمر الأوّل: فليس المقصود هنا التكلّم في تنجيز العلم بوجوب الفعل في اليوم الأوّل أو حرمته في اليوم الثاني مثلاً، وعدمه من ناحية كونه علماً إجماليّاً في التدريجيّات، فإنّ هذا ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في مباحث العلم الإجماليّ، وهنا نفرض تنجيز العلم الإجماليّ في التدريجيّات أصلاً موضوعيّاً، فنقول: هل يكون حال هذا العلم هنا كحال سائر العلوم المتعارفة، فيكون قابلاً للتنجيز أو لا؟

ذهب المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) إلى أنّ هذا العلم هنا ليس قابلاً للتنجيز؛ وذلك لأنّ المعلوم بالإجمال تكليفان فقط: أحدهما التكليف في اليوم الأوّل الذي فرغنا عن عدم قابليّته للتنجيز، لعدم إمكان موافقته القطعيّة ولا مخالفته القطعيّة. وثانيهما

497

التكليف في اليوم الثاني الذي فرغنا أيضاً عن عدم قابليّته للتنجيز؛ لعدم إمكان موافقته القطعيّة ولا مخالفته القطعيّة. وأمّا العلم الإجماليّ بوجوب الفعل في اليوم الأوّل، أو حرمته في اليوم الثاني فليس إلاّ علماً منتزعاً من العلمين السابقين لا يصنع شيئاً في المقام، والمخالفة القطعيّة المتصوّرة في المقام تكون في الحقيقة حصيلة مخالفة احتماليّة للتكليف الأوّل التي فرغنا عن جوازها، ومخالفة احتماليّة للتكليف الثاني التي فرغنا عن جوازها، وليس في المقام تكليف جديد حصل العلم به وراء ذينك التكليفين حتّى يتنجّز ذلك التكليف وتحرم مخالفته القطعيّة(1).

أقول: يرد عليه:

أوّلاً: أنّه كما يمكن أن يفرض هذا العلم الإجماليّ في طول العلمين الإجماليّين الأوّلين، كما لو علمنا بتعلّق النذر في اليوم الأوّل بالفعل أو الترك، وعلمنا أيضاً بتعلّقه في اليوم الثاني بالفعل أو الترك، ثمّ أخبرنا نبيّ مثلاً بمماثلة النذرين فعلاً وتركاً، فتولّد من العلمين بانضمامهما إلى إخبار النبيّ علم ثالث، كذلك يمكن أن يفرض هذا العلم الإجماليّ في عرض ذينك العلمين، كما لو علمنا ابتداءً بأنّه إمّا



(1) الظاهر من عبارة المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) يختلف عن هذا العرض كما يتّضح بمراجعة نهاية الدراية ـ ج 2، ص 236 ـ فإنّ الذي يفهم من عبارته هو أنّه غفل رأساً عن العلم الإجماليّ بوجوب أحد الفعلين في أحد اليومين، وحرمته في اليوم الآخر، وقصر النظر على العلم بالوجوب أو الحرمة في اليوم الأوّل، والعلم بالوجوب أو الحرمة في اليوم الثاني، ولا ينظر إلى علم آخر يفترض انتزاعه من العلمين الأوّلين، ولكن ينظر إلى طبيعيّ العلم، فيقول: إنّه بعد أن كان العلمان غير قابلين للتنجيز، فالمخالفة القطعيّة لطبيعيّ العلم المنتزع من العلمين، وطبيعيّ التكليف المنتزع من التكليفين لا قيمة لها.

498

أن تعلّق النذر بالفعل في كلّ من اليومين، أو بالترك في كلّ منهما، فالترك في كلّ واحد من اليومين يقع إلى صفّ الفعل في اليوم الآخر طرفاً للعلم الإجماليّ في عرض وقوع الترك في أيّ واحد من اليومين إلى صفّ الفعل في نفس اليوم طرفاً للعلم الإجماليّ، إذن فالتكليف قد تعلّق به في عرض واحد علمان إجماليّان: أحدهما لا ينجّز، والآخر ينجّز، ولا وجه لأن يحسب في المرتبة السابقة حساب العلم الذي لا ينجّز، فيقال: إنّ هذا التكليف غير منجّز، ثمّ يستبعد تنجيزه بالعلم الآخر، ويقال: إنّنا قد فرضنا عدم تنجّز هذين التكليفين، فأيّ إشكال في الجمع بين المخالفة الاحتماليّة لهذا، والمخالفة الاحتماليّة لذاك وليس هنا تكليف آخر يتنجّز؟

وثانياً: أنّه لا محصّل لهذا الكلام حتّى على تقدير كون العلم الإجماليّ الثالث في طول العلمين الأوّلين، فإنّ عدم قابليّة التكليف للتنجيز بذينك العلمين لا يمنع عن طروّ التنجيز عليه بعلم آخر في طول ذينك العلمين، وبكلمة اُخرى: أنّ التكليف قد برز لنا في لباسين وبعنوانين إجماليّين وهو لا يقبل طروّ التنجيز عليه بلحاظ العنوان الأوّل، لكنّه يقبل طروّ التنجيز عليه بلحاظ العنوان الثاني، فنحن لا نحتاج إلى تكليف جديد يقبل التنجيز، بل يكفي بروز نفس التكليف في لباس عنوان إجماليّ آخر يقبل التنجيز، وقولكم: إنّ المخالفة الاحتماليّة لكلّ من التكليفين كانت جائزة، مدفوع بأنّها إنّما كانت جائزة وغير ممنوع عنها عقلاً بما هي مخالفة للجامع بحدّه الجامعيّ المعلوم بالعلم الإجماليّ الأوّل أو الثاني، وقد تصبح ممنوعة بما هي مخالفة للجامع بحدّه الجامعيّ المعلوم بالعلم الإجماليّ الثالث.

وأمّا الأمر الثاني: فالموافقة القطعيّة لكلّ من العلمين تنافي ترك المخالفة القطعيّة للعلم الآخر، فهنا هل يؤخذ بالموافقة الاحتماليّة لكلّ منهما من دون ملاحظة الأهمّ والمهمّ، أو يقدّم جانب الأهمّ أو محتمل الأهمّيّة من المعلومين الإجماليّين؟

499

قد يقال بالأوّل، وأنّه لا مجال هنا لملاحظة الأهمّ والمهمّ، وذلك بأحد تقريبين:

التقريب الأوّل: مبنيّ على القول بأنّ العلم الإجماليّ يكون علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة، ولا يكون علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، وإنّما يكون تأثيره في وجوب الموافقة القطعيّة تعليقيّاً، فيقال عندئذ: إنّ كلاًّ من العلمين يتقدّم في تأثيره في حرمة المخالفة القطعيّة على تأثير الآخر في وجوب الموافقة القطعيّة؛ إذ تأثير الأوّل كان تنجيزيّاً، وتأثير الثاني كان تعليقيّاً ـ أي: معلّقاً على عدم المانع ـ فالأوّل يمنع عن الثاني، كما هو الحال في كلّ مقتضيين أحدهما تنجيزيّ والآخر معلّق على عدم تأثير الأوّل.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّه بعد تسليم المبنى نقول: إنّ معنى تعليقيّة تأثير العلم الإجماليّ في وجوب الموافقة القطعيّة ـ عند من يقول به ـ ليس هو كونه معلّقاً على عدم تأثير المقتضي العقليّ الآخر، حتّى يصبح المقتضي الآخر مانعاً عنه، وإنّما معناه كونه معلّقاً على عدم وصول ترخيص من الشارع في ترك الموافقة القطعيّة، والمعلّق عليه هنا حاصل، فالمقتضي التعليقيّ منضمّـاً إلى ثبوت المعلّق عليه مقتض تنجيزيّ، فيقع التزاحم بين مقتضيين تنجيزيّين.

وثانياً: أنّ معنى تنجيزيّة تأثير العلم الإجماليّ في حرمة المخالفة القطعيّة ليس هو حتميّة تأثير في ذلك، حتّى لو فرض عدم المولويّة في مورد العلم التفصيليّ، ولذا لو علمنا إجمالاً بحكم من قِبل شخص لم يكن مولىً على من علم إجمالاً بحكمه فلا يقال بتنجيز علمه الإجماليّ لحرمة المخالفة القطعيّة، وعليه نقول: إنّ هذا الوجه لا يدفع دعوى تقديم جانب الأهمّ على جانب المهمّ؛ إذ يدّعى أنّه مع المزاحمة بالأهمّ لا يدخل المهمّ تحت دائرة حقّ المولويّة، ويتّفق هذا كثيراً في موارد القطع التفصيليّ، فالمكلّف مع قطعه التفصيليّ بتعلّق غرض المولى بشيء يتركه لمزاحمته

500

بغرض أهمّ أو محتمل الأهمّيّة، فلِم لا يقبل هذا في مورد العلم الإجماليّ؟(1).



(1) لا يخفى أنّ هذا الإشكال إنّما يفيد كمُنبّه للوجدان على صحّة الإشكال الأوّل بأن يقال: إنّ عدم دخول المهمّ وجداناً تحت دائرة المولويّة بمستوى جرّ العبد من جانب الأهمّ إلى جانب المهمّ ولو في مرحلة الاحتياط ـ كما هو الحال في مرحلة الامتثال المعلوم تفصيلاً ـ ينبّه الوجدان إلى أنّ المقياس في الترجيح عند وجود الأهمّ والمهمّ، ليست هي قطعيّة الموافقة وقطعيّة المخالفة، والعلّيّة بالنسبة لحرمة الثانية والاقتضاء بالنسبة لوجوب الاُولى، وإنّما المقياس هي الأهمّيّة أو احتمالها. أمّا لو غضضنا النظر حقّاً عن الإشكال الأوّل، وافترضنا أنّ اقتضاء العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة معلّق على عدم انصدامه بالمخالفة القطعيّة، لأجل علّيّة العلم بلحاظ حرمة المخالفة القطعيّة دون وجوب الموافقة القطعيّة، فمن الطبيعيّ أنّ ما يكون فعليّاً في المقام إنّما هو حرمة المخالفة القطعيّة لكلا العلمين رغم أهمّيّة أحد الحكمين.

وأمّا النقض بالعلم التفصيليّ بالمهمّ الذي يُضحّى به في سبيل الأهمّ، فغير وارد، لا بلحاظ الأمر ولا بلحاظ الغرض:

أمّا بلحاظ الأمر: فلأنّ التزاحم هناك يكون بين ذات الامتثالين فيسقط إطلاق المهمّ دون إطلاق الأهمّ. أمّا هنا فالتزاحم يكون بلحاظ وجوب الموافقة القطعيّة المفروض كون تعليقيّاً وساقطاً لدى مزاحمته لأمر تنجيزيّ، وهو حرمة المخالفة القطعيّة.

وأمّا بلحاظ الغرض: فلأنّ التزاحم بين الأهمّ والمهمّ في مورد العلم التفصيليّ إنّما يوجب سقوط حقّ المولويّة بلحاظ المهمّ، لتزاحمه بحقّ أشدّ في طرف الأهمّ، لا لفقدان مقتضي الحقّ في ذاته، من قبيل ما لو لم يكن الآمر مولىً، وفي المقام أيضاً مقتضي الحقّ في ذاته في طرف المهمّ موجود ولا مزاحم له؛ لأنّ الشيء المترقّب مزاحمته له عبارة عن اقتضاء العلم الإجماليّ بالأهمّ لوجوب الموافقة القطعيّة، والمفروض أنّه تعليقيّ، وأنّه ينتفي بفرض وجود مزاحم له، وهو مقتضي حرمة المخالفة القطعيّة في الطرف الآخر.

501

التقريب الثاني: أنّ الترجيح بالأهمّيّة إنّما هو في فرض مزاحمة أغراض المولى في مقام الجعل من ناحية عدم مقدرة المكلّف على الامتثال، فعندئذ يرفع المولى يده عن إطلاق الحكم بالمهمّ. وأمّا هنا فلا مزاحمة بين الغرضين؛ لقدرة العبد على امتثال كليهما، فالحكمان ثابتان على حالهما من الإطلاق قطعاً، وإنّما التزاحم في حكم العقل بلزوم الإطاعة هنا وحكمه بلزوم الإطاعة هناك، وليس ملاك حكم العقل بلزوم الإطاعة هو المصالح والمفاسد، وإنّما ملاكه هو إلزام من له حقّ الإلزام، والعقل يحكم بلزوم إطاعة إلزامات المولى الناشئة من ملاك مهمّ، على حدّ حكمه بلزوم إطاعة إلزاماته الناشئة من ملاك أهمّ، وعلى هذا ففيما نحن فيه لا معنى لملاحظة الأهمّيّة والمهمّيّة، بل يلاحظ حكم العقل بوجوب الموافقة، فيقال: إنّ الموافقة القطعيّة لكلا الحكمين محال، فتصل النوبة إلى الموافقة الاحتماليّة لهما.

هذا هو ما يتحصّل من الدراسات(1)، وأظنّ أنّ السيّد الاُستاذ كان يضمّ إلى هذا الوجه الوجه الأوّل، فبعد أن يبيّن أنّه لا معنى هنا لملاحظة الأهمّيّة؛ إذ لا مزاحمة بين الغرضين المولويّين بحسب عالم القدرة، كان يقول: إنّنا نرجع عندئذ إلى حكم العقل بوجوب الموافقة وحرمة المخالفة، فنرى أنّ تأثير العلم الإجماليّ في حرمة المخالفة القطعيّة تنجيزيّ، وفي وجوب الموافقة القطعيّة تعليقيّ، فيتقدّم الأوّل على الثاني، وعليه يصبح هذا الكلام كلاماً فنّيّاً. وأمّا ما في الدراسات فهو كلام مشوّش وليس فنّيّاً(2).

 


(1) راجع الدراسات، ج 3، ص 213 ـ 217، والمصباح، ج 2، ص 339 ـ 342.

(2) السيّد الخوئيّ(رحمه الله) يثبت أوّلاً وجوب الموافقة الاحتماليّة لكلّ من العلمين بقطع النظر عن احتمال الأهمّيّة ببيان غريب، ثمّ يذكر: أنّ احتمال الأهمّيّة لا أثر له؛ لأنّهما ليسا

502

وعلى أيّ حال نقول: إنّ هذا التقريب(1) يرد عليه منع عدم تأثير الأهمّيّة في


متزاحمين في عالم الامتثال، لكونه قادراً على امتثالهما معاً، فلا يسقط إطلاق دليل محتمل الأهمّيّة لو كان الدليلان لفظيّين لهما إطلاق، ولايحصل القطع بجواز تفويت ملاك غيره بسبب المزاحمة. أمّا ذاك البيان الغريب فهو دعوى أنّ تنجّز الموافقة القطعيّة ساقط في المقام؛ لأنّ الموافقة القطعيّة لهما معاً غير ممكن، فيسقط العلم عن التنجيز بالنسبة لوجوب الموافقة القطعيّة، ولكن بما أنّ المخالفة القطعيّة لكليهما ممكن فالعلمان يؤثّران في تحريم المخالفة القطعيّة، فالنتيجة هي لزوم الموافقة الاحتماليّة في كلّ من الجانبين.

وهذا الكلام بظاهره غريب، فإنّ وجوب الموافقة القطعيّة لكلّ منهما كما يزاحم وجوب الموافقة القطعيّة للآخر كذلك يزاحم حرمة المخالفة القطعيّة للآخر، فلماذا نفترض سقوط الموافقتين القطعيّتين أوّلاً، ثمّ بقاء المخالفتين القطعيّتين على الحرمة بلا مزاحم؟

وبكلمة اُخرى: إنّ وجوب الموافقة القطعيّة لكلّ منهما يزاحم وجوب الموافقة على مستوى الاحتماليّة للآخر، فيتخيّر بين الموافقة القطعيّة لأحدهما والموافقة الاحتماليّة لكليهما، ولعلّ لبّ المقصود هو ما مضى من دعوى أنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة، ومقتض لوجوب الموافقة القطعيّة، فيصبح وجوب الموافقة القطعيّة معلّقاً على عدم الانصدام بالمخالفة القطعيّة.

(1) لو ركّب بين هذا التقريب والتقريب الأوّل، كما نقله اُستاذنا الشهيد عن اُستاذه نقلاً ظنّيّاً، بأن يوضّح أوّلاً عدم تأثير الأهمّيّة في المقام، لعدم التزاحم بين الامتثالين، ثمّ يتمسّك بكون تأثير العلم الإجماليّ لحرمة المخالفة القطعيّة علّيّاً، وتأثيره لوجوب الموافقة القطعيّة اقتضائيّاً معلّقاً على عدم الانصدام بالمخالفة القطعيّة، رجع هذا ـ في روحه ـ إلى التقريب الأوّل، ولم يكن تقريباً مستقلاًّ وقد مضى أنّ هذا الإشكال عندئذ لا

503


يرد عليه إلاّ كمنبّه على الإشكال الأوّل الذي مضى على ذاك التقريب.

وقد ذكر أيضاً السيّد الخوئيّ تقريبه ببيان نقضيّ، وهو أنّه لو طبّقنا في فرض احتمال الأهمّيّة قانون التزاحم على المقام، فقلنا بتقديم جانب محتمل الأهمّيّة، وجب أن نطبّق في فرض عدم احتمال الأهمّيّة أيضاً قانون التزاحم، ونقول بالتخيير لا بوجوب الموافقة الاحتماليّة لكلّ واحد من العلمين، فمن يقول بوجوب الموافقة الاحتماليّة لكلّ واحد من العلمين عند عدم احتمال الأهمّيّة، ثمّ يقول بوجوب الموافقة القطعيّة لمحتمل الأهمّيّة، وإن لزمت المخالفة القطعيّة للآخر، فهذا النقض وارد عليه، وهذا التفكيك في غير محلّه.

أقول: إنّ هذا الكلام متين ويمكن صياغته كالتالي: أنّنا إن فرضنا أنّ الاقتضاء لوجوب الموافقة القطعيّة معلّق على عدم الانصدام بالمخالفة القطعيّة، بمكان علّيّة العلم لحرمة المخالفة القطعيّة دون وجوب الموافقة القطعيّة، فلا مبرّر لتقديم الأهمّ في المقام، وإن أنكرنا ذلك فلا مبرّر لضرورة ترك المخالفة القطعيّة لدى التساوي.

بقي في المقام شيء، وهو: أنّ السيّد الخوئيّ بعد أن اختار في الدراسات ضرورة تقديم الموافقة الاحتماليّة لكلا العلمين على الموافقة القطعيّة لأحدهما والمخالفة القطعيّة للآخر، وأنّ احتمال موافقة الأهمّ لا أثر له في المقام ذكر أنّ القطع بالأهمّيّة له أثر في المقام، فلو حلف على ذبح شاة له في ليلة معيّنة واشتبهت الشاة بالنفس المحترمة لُظلمة ونحوها، فإنّه لا ريب في عدم ثبوت التخيير للمكلّف في مثل ذلك، بل يجب عليه بحكم العقل تقديم معلوم الأهمّيّة وإن استلزم ذلك القطع بمخالفة التكليف الآخر، والسرّ فيه أنّ العلم بأهمّيّة تكليف يستتبع القطع بعدم رضا الشارع بتفويت ملاكه على كلّ حال، ويترتّب على هذا العلم القطع بجعل إيجاب الاحتياط في ظرف الشكّ، فعند التحقيق تقع

504

المقام، فإنّه وإن كانت المزاحمة بين حكمين عقليّين لا بين غرضين بحسب عالم القدرة، لكنّ حكم العقل بالطاعة يكون بملاك أغراض المولى، ويكون روحه عبارة عن حكم العقل على العبد بأنّه يجب أن يكون في مقام تحصيل أغراض المولى بمنزلة آلة تكوينيّة بيد المولى يحرّكها حيث يشاء، ولو كان أحد الغرضين أهمّ ـ فلا محالة ـ يحكم العقل بالانبعاث نحو ذلك الأهمّ، ولا يكون الغرض المهمّ على تقدير موافقة الأهمّ داخلاً تحت دائرة حقّ المولويّة.

وتحقيق الكلام في المقام: أنّه إن فرض الغرضان متساويين وجب الرجوع إلى


المزاحمة بين إيجاب الاحتياط والتكليف الآخر غير الأهمّ، فيقدّم إيجاب الاحتياط لأهمّيّة ملاكه.

أقول: بقطع النظر عن أنّه ليست الأهمّيّة المعلومة دائماً بمستوىً يوجب القطع بإيجاب الاحتياط، إنّنا إن آمنّا بأصل فكرة كون تأثير العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة معلّقاً على عدم انصدامه بالمخالفة القطعيّة، لكون تأثيره لحرمة المخالفة القطعيّة علّيّاً ولوجوب الموافقة القطعيّة اقتضائيّاً، إذن لا يبقى مجال لإيجاب الاحتياط الشرعيّ أيضاً بشكل يؤدّي إلى مخالفة قطعيّة للعلم الإجماليّ، وإن لم نؤمن بذلك وجب الترجيح حتّى باحتمال الأهمّيّة على ما اتّضح من ثنايا البحث، من أنّ نفي هذا الترجيح يتوقّف على الإيمان بتلك الفكرة؛ لأنّ التقريب الثاني لو فصل عن التقريب الأوّل ورد عليه ما بيّنه اُستاذنا الشهيد في المتن.

وعلى أيّة حال، فالإنصاف أنّ الحكم في المثال الذي ذكره السيّد الخوئيّ بالمنع عن القتل ـ لو أدّى إلى المخالفة القطعيّة لوجوب ذبح الشاة ـ واضح كلّ الوضوح، وهو من فضائح القول بكون وجوب الموافقة القطعيّة معلّقاً على عدم الانصدام بالمخالفة القطعيّة لعلّيّة العلم لحرمة الثاني واقتضاء الأوّل.

505

حكم العقل في تقديم الموافقة القطعيّة لأحد العلمين المساوقة للمخالفة القطعيّة للآخر على الموافقة الاحتماليّة لكليهما، المساوقة للمخالفة الاحتماليّة لكليهما، أو بالعكس، أو التخيير، فإن رجّح العقل الأوّل قُدّم على الثاني، أو الثاني فبالعكس، وإلاّ تخيّر العبد.

وإن فرض أحد الغرضين أهمّ، فتارةً تكون أهمّيّته بدرجة بحيث تكون قطعيّة موافقته أهمّ من احتمال موافقة كلا الغرضين، واُخرى لا تكون أهمّيّة مطلقة بهذا النحو، وعندئذ يدور أمر العبد بين الموافقة القطعيّة للأهمّ المساوقة للمخالفة القطعيّة للمهمّ وبين الموافقة الاحتماليّة لكليهما، المساوقة للمخالفة الاحتماليّة لكليهما.

وأمّا الموافقة القطعيّة للمهمّ المساوقة للمخالفة القطعيّة للأهمّ فلا تجوز، وعندئذ فلابدّ من مراجعة حكم العقل ليرى أنّه هل يرجّح الأوّل فيقدّم على الثاني، أو بالعكس، أو لا يرجّح شيئاً منهما فيثبت التخيير؟

وللكلام تتمّـات وتفصيلات تأتي ـ إن شاء الله ـ في مبحث العلم الإجماليّ في اشتباه الواجب بالحرام(1).

 

فرض تكرّر الواقعة في صورة التعبّديّة:

هذا كلّه إذا فرض الحكمان توصّليّين. وأمّا إذا فرض أحدهما أو كلاهما تعبّديّاً فحاله في حدود ما تكلّمنا عنه هنا يظهر ممّا ذكرناه من الأمر الثاني في فرض كونهما توصّليّين وإن كان يختلف في بعض المطالب المحذوفة هنا، ونؤجّل



(1) لا يوجد فيما يأتي بحث بهذا العنوان، ولكنّه يوجد بحث بعنوان دوران الأمر بين الجزئيّة والمانعيّة، وذلك في آخر بحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

506

تفصيل الكلام ـ كما أشرنا ـ إلى مبحث العلم الإجماليّ في بحث اشتباه الواجب بالحرام(1).

وبهذا انتهى البحث في أصالة البراءة والتخيير، وسيأتي الكلام في أصالة الاحتياط إن شاء الله تعالى.

والحمد لله أوّلاً وآخراً وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

 



(1) لا يوجد فيما يأتي بحث بهذا العنوان، ولكنّه يوجد بحث بعنوان دوران الأمر بين الجزئيّة والمانعيّة، وذلك في آخر بحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.