107

كيفيّة دلالة صيغة الأمر على الوجوب

الجهة الثانية: في كيفيّة دلالة صيغة الأمر على الوجوب بعد الفراغ عن دلالتها على الطلب.

وقد تقدّم نظير ذلك في مادّة الأمر، وعرفت أنّ هناك مسالك ثلاثة لاستفادة الوجوب من مادّة الأمر:

1 ـ مسلك العقل، وهو: أنَّ العقل ينتزع الوجوب من أمر المولى عند عدم صدور الترخيص في الخلاف.

2 ـ مسلك الإطلاق، بأن يقال: إنّ مقتضى الإطلاق ومقدّمات الحكمة هو حمل الطلب على الفرد الأخفّ مؤونة، وهو الوجوب، ببيان مضى.

3 ـ مسلك الوضع، بأن يقال: إنّ مادّة الأمر موضوعة للوجوب.

أمّا المسلك الأوّل، فلو تمّ هناك يجري هنا أيضاً حرفاً بحرف بلا فرق بين المقامين.

وأمّا المسلك الثاني، فقد يقال: إنّه لو تمّ هناك لا يتمّ هنا؛ وذلك لأنّ صيغة «افعل» مدلولها هو الإرسال والدفع والتحريك، وليس مدلولها هو الإرادة كما في مادّة الأمر، ففي مادّة الأمر كان يقال: إنّها دالّة على الإرادة وهي ذات مراتب، فتحمل على المرتبة الشديدة مثلاً، ببيان مضى، وأمّا الإرسال والدفع فهو على حدّ واحد، لا يختلف باختلاف الوجوب والاستحباب حتّى تعيّن المرتبة الشديدة منه بالإطلاق.

108

والجواب أوّلاً: أنّ صيغة الأمر في مرحلة المدلول التصديقيّ تكون دالّة على الإرادة لا محالة، فيصحّ جريان الإطلاق وإثبات الفرد الشديد بهذا اللحاظ.

وثانياً: أنّه قد مضى: أنّ صيغة الأمر تدلّ تصوّراً على النسبة الإرساليّة أوّلاً، وعلى الإرادة ثانياً وبالملازمة، فليجرِ الإطلاق بهذا اللحاظ.

وأمّا المسلك الثالث: وهو الوضع، فأيضاً قد يشكّك في ذلك في المقام، وذلك لما عرفت: من أنّ الإرسال والإلقاء ليس كالإرادة منقسماً إلى قسمين ومرتبتين بلحاظ الوجوب والاستحباب، حتّى يفترض وضع الصيغة للنسبة الإرساليّة الشديدة مثلاً.

ويمكن دفعه بأنّ الإلقاء وإن كان لايتحصّص بلحاظ نفس الإلقاء بما هوهو إلى شديد وضعيف، ولكن يتحصّص بلحاظ منشئه؛ إذ قد ينشأ من إرادة شديدة، واُخرى من إرادة خفيفة، فبالإمكان افتراض كون صيغة الأمر موضوعة لنسبة الإرسال الناشئ من الإرادة الشديدة، فإذا أصبح المدلول التصوّريّ الوضعيّ عبارة عن ذاك الفرد الناشئ من الإرادة الشديدة، كان مقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصديقيّ والتصوّريّ الكشف عن وجود إرادة شديدة في نفس المولى.

هذا، ونحن في مبحث مادّة الأمر وإن قلنا: إنّه لا يمكن الاستغناء عن دعوى الوضع في مقام استفادة الوجوب؛ لعدم تماميّة مسلك الإطلاق ولا مسلك العقل، إلّا أنّه في صيغة الأمر يمكن الاستغناء عن الوضع، وذلك بأن يقال: إنّ الإلقاء الذي هو أمر تكوينيّ خارجيّ يستبطن طبعاً سدّ كلّ أبواب العدم؛ فإنّ الإلقاء معناه: قهره وجرّه نحو الفعل جرّاً، وهذا لا يكون إلّا بسدّ تمام أبواب العدم، فإذا صدرت صيغة «افعل» واستفدنا من ظاهر حال المولى وكلامه أنّه في مقام الدفع التشريعيّ، قلنا: إنّ المدلول التصوّريّ هو الإلقاء التكوينيّ، والإلقاء التكوينيّ يستبطن سدّ تمام أبواب العدم، والمدلول التصديقيّ هو الدفع التشريعيّ، ومقتضى

109

أصالة التطابق بين المدلول التصديقيّ والمدلول التصوّريّ هو كون الدفع التشريعيّ سدّاً لتمام أبواب العدم، وسدّ تمام أبواب العدم في عالم التشريع معناه الوجوب، فهذا يكون وجهاً لاستفادة الوجوب بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، لكن بتقريب أصالة التطابق بين المدلول التصوّريّ والتصديقيّ، لا بتقريب آخر.

هذا حال الصيغة، وفي مادّة الأمر أيضاً يمكن دعوى: أنّ العرف يستفيد منها معنى الدفع والإلقاء، فيأتي نفس التقريب(1).



(1) في دلالة مادّة الأمر تصوّراً على معنى الدفع أو الإلقاء التكوينيّ تأمّل واضح، فلو تمّ ذلك في صيغة الأمر بالبيان الذي عرفته في المتن من اُستاذنا (رحمه الله)، فالتعدّي منها إلى المادّة لا وجه له، بل المتعيّن عندئذ هو التفصيل بين مادّة الأمر وصيغته، بدعوى دلالة الصيغة بالبيان الماضي عن اُستاذنا على الوجوب بالإطلاق، وعدم دلالة المادّة عليه إلّا بالوضع.

وهنا نشير إلى أمرين:

الأمر الأوّل: أنّه لو تمّت الدلالة الإطلاقيّة في الصيغة، أو فيها وفي المادّة على الوجوب، فهذا لا يعني ضرورة إنكار الدلالة على الوجوب وضعاً؛ إذ لا مانع من اجتماع الدلالة الوضعيّة مع نكتة الإطلاق في مورد واحد، بحيث يقال: لو لم تتمّ الدلالة الوضعيّة، إذن لتمّ الإطلاق، ولكن تشخيص ذلك في المقام لا يخلو من صعوبة؛ وذلك لأنّ الدليل الوحيد على الوضع والحقيقة هو التبادر، فإذا تمّت نكتة الإطلاق فكيف نجزم بالوضع مع احتمال كون التبادر مستنداً إلى الإطلاق؟

وهناك محكّان قد يمكن أن يميّز بأحدهما الوضع للوجوب وعدمه:

المحكّ الأوّل: أن نفحص عن مورد لا يكون المولى في مقام البيان، فلا يتمّ فيه الإطلاق، لنرى: هل يتمّ التبادر هناك أم لا، فلو تمّ التبادر كان آية الوضع.

إلّا أنّ تطبيق هذا المحكّ في غاية الصعوبة؛ وذلك لأنّه لو عُرف أنّ المولى لا يريد

110



إفهام الوجوب، بطلت الدلالة الوضعيّة أيضاً، ولو عرف أنّه في مقام إفهام الحكم وجوباً كان أو استحباباً، تمّت نكتة الإطلاق، فلابدّ من التفتيش عن حالة وسطيّة، وهي: ما إذا كان بصدد إفهام المعنى بقدر ما يدلّ عليه الوضع، ولم يكن في مقام البيان أكثر من ذلك.

المحكّ الثاني: أن نفترض قرينة متّصلة أو ارتكازيّة كالمتّصل على عدم إرادة الوجوب، كما لو قال مثلاً: «اغتسل للجمعة» وكانت الضرورة المتشرّعيّة قرينة كالمتّصل على عدم الوجوب، ونقول عندئذ: إنّه لو كان الوضع للوجوب، إذن مقتضي تبادر الوجوب موجود في ذهننا، ولكنّه منصدم بالقرينة المانعة عن تأثيره، وهذا معنى الإحساس بمؤونة المجاز أو ثقل المجاز، أو الإحساس بعدم كون الكلام جارياً وفق الوضع الطبيعيّ، في حين أنّه لو لم يكن الوضع للوجوب، لم يكن في الذهن مقتض للتبادر، فلا يتمّ الإحساس بثقل المجاز.

الأمر الثاني: أنّ دلالة صيغة الأمر على الوجوب بالإطلاق بالتقريب الذي أفاده اُستاذنا (رحمه الله) أيضاً غير مقبولة لدينا، وعليه فتبادر الوجوب من صيغة الأمر دليل على الوضع للوجوب حتماً.

أمّا وجه الإشكال في الدلالة الإطلاقيّة التي أفادها اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) فتوضيحه مايلي:

إنّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) انطلق من حصر الفرق بين مثل «اضرب» ومثل «ضَرَب» في احتمالين:

الأوّل: الفرق بلحاظ النسبة الناقصة، وهي النسبة الصدوريّة.

والثاني: الفرق بلحاظ النسبة التامّة، وهي النسبة التطابقيّة. وبرهن على نقص الاُولى وتمام الثانية بأنّ الاُولى خارجيّة المنشأ؛ لأنّ النسبة الصدوريّة بين الفعل والفاعل ثابتة

111



خارجاً سواء تصوّرها أحد أو لا، والثانية ذهنيّة المنشأ؛ لأنّ النسبة التصادقيّة محلّها الذهن فحسب، وأمّا ما في الخارج فهو الاتّحاد لا التصادق. وقد مضى في بحث المعاني الحرفيّة البرهان على أنّ النسبة التي تكون خارجيّة المنشأ تكون ناقصة، والتي تكون ذهنيّة المنشأ تكون تامّة، ثُمّ برهن (رحمه الله) على بطلان كون الفرق بين «اضرب» و«ضرب» في النسبة التامّة بدليل إحساسنا بالفرق بينهما قبل فرض إكمالهما بملاحظة الفاعل، فانحصر الأمر في أن يكون الفرق بين الصيغتين في النسبة الناقصة، وذلك لا يكون إلّا بمعنى: أنّ النسبة الناقصة في «ضرب» هي الصدوريّة، وفي «اضرب» هي البعثيّة أو الإرساليّة، وبهذا البيان تعيّن أن تكون النسبة البعثيّة أو الإرساليّة ناقصة، في حين أنّ الذي يبدو بادئ الأمر في النظر أن تكون تلك نسبة تامّة؛ لأنّ نسبة البعث الموجودة في باب الأمر إنّما هي أمر ذهنيّ، وليست أمراً خارجيّاً، وهي من مخلوقات عالم ذهن الآمر ابتداءً، وليست محاكاة لما في الخارج، ومن هنا حاول اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)إرجاع هذه النسبة إلى أمر يحاكي ما في الخارج، فافترض: أنّ النسبة البعثيّة هنا محاكاة للنسبة البعثيّة الموجودة في الدفع والإلقاء التكوينيّين، وبما أنّ الدفع والإلقاء التكوينيّين يسدّان جميع أبواب العدم فبمقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصوّريّ والمدلول التصديقيّ يثبت أنّ النسبة البعثيّة التشريعيّة التي هي المدلول التصديقيّ للأمر أيضاً تسدّ جميع أبواب العدم، إلّا أنّ سدّ البعث التكوينيّ لجميع أبواب العدم كان تكوينيّاً، وسدّ البعث التشريعيّ لجميع أبواب العدم يكون تشريعيّاً، وليس سدّ جميع أبواب العدم تشريعاً إلّا بالوجوب، فهذا نوع بيان للإطلاق لإثبات الوجوب.

أقول: إنّ حصر الفرق بين «اضرب» و«ضرب» في الوجهين الماضيين غير حاصر، والأقرب إلى الذهن من ذلك في النظر هو: أنّ نفس النسبة البعثيّة نسبة تامّة تدلّ عليها

112



صيغة الأمر دلالة تصوّريّة بالوضع، وعلى واقع البعث والإرادة دلالة تصديقيّة بظهور الحال والسياق الذي هو منشأ الدلالات التصديقيّة، وهي ذهنيّة المنبت والمولد، ولا تحاكي نسبة تكوينيّة بين الملقى والملقى عليه في الإلقاء التكوينيّ، وهذه النسبة هي نسبة تامّة بين أركان ثلاثة: الباعث والمبعوث والمبعوث إليه، فصيغة الأمر أجنبيّة عن كلتا النسبتين اللتين فرضتا في «ضَرَبَ» من الصدوريّة والتصادقيّة، وإنّما تشتمل على نسبة واحدة تامّة، وافتراض حكايتها تصوّراً عن الدفع التكوينيّ ثُمّ بالملازمة عن الإرادة لغلبة نشوء الدفع التكوينيّ عن الإرادة، ثُمّ بالدلاله التصديقيّة على الكشف عن الإرادة ليس إلّا تعمّلاً وتمحُّلاً لا داعي إليه، بل هي تعطي راساً بالدلالة التصوّريّة نسبة البعث، وتكشف بالدلالة التصديقيّة عن وجود واقع البعث والإرادة حقيقة في ذهن الآمر، وعليه فمبرّر الإطلاق الذي أفاده اُستاذنا (رحمه الله) منتف، وبالتالي لا تكون دلالة الأمر على الوجوب إلّا وضعيّة.

113

دلالة الجملة الخبريّة

الجهة الثالثة: لا إشكال في صحّة استعمال الجملة الخبريّة في الطلب، واستفادته منها بقرينة ظهور الحال في كون المتكلّم في مقام إعمال المولويّة لا في مقام الإخبار الصِرف، وإنّما الكلام يقع في مقامين:

1 ـ في كيفيّة تخريج دلالتها على الطلب.

2 ـ في أنّ هذه الدلالة على الطلب بعد تخريجها هل تقتضي الوجوب، أو الجامع بين الوجوب والاستحباب؟

تخريج دلالة الجملة الخبريّة على الطلب:

أمّا المقام الأوّل: وهو في كيفيّة تخريج دلالة الجملة الخبريّة على الطلب، ففيه مسلكان:

المسلك الأوّل: هو المسلك المشهور بين المتأخّرين كصاحب الكفاية ومن تابعه، وهو: أنّ الجملة الخبريّة مستعملة في نفس النسبة الصدوريّة، فالمعنى المستعمل فيه في الجملة الخبريّة في مقام الطلب هو عين المعنى المستعمل فيه في الجملة الخبريّة في مقام الإخبار، وكأنّ مقتضى الطبع أن يفهم منها الإخبار، إلّا أنّها بإعمال عناية دلّت على الطلب، وحيث إنّ ذلك يكون بعناية احتجنا إلى قرينة تدلّ على إعمال تلك العناية، هذا.

114

ويمكن تصوير ما أرادوه من دلالة الجملة الخبريّة على الطلب مع استعمالها في نفس ما تستعمل فيه عند الإخبار، وإبراز نكتة احتياج ذلك إلى العناية بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الجملة الخبريّة بحسب طبعها الأوّليّ لها مدلول تصوّريّ، وهي النسبة الصدوريّة، ومدلول تصديقيّ، وهي الحكاية عن وقوع تلك النسبة في الخارج، وبالإمكان الحفاظ على كلا المدلولين في موارد الطلب، فيحمل قوله مثلاً: «إذا قهقه المصلّي أعاد صلاته» على أنّه يحكي حقيقةً ويخبر عن أنّ المصلّي الذي ابتلي بالقهقهة في أثناء الصلاة يعيد صلاته، وحينئذ يتّجه هنا سؤالان:

أحدهما: أنّه كيف يحتفظ بكلا الأمرين مع أنّ الخبر الذي ينتج عن هذا كذب؛ إذ قد لا يعيد صلاته ولو مخالفةً للشرع؟

والثاني: أنّ هذا كيف أصبح دالّاً على الطلب مع أنّه بصدد الإخبار حقيقةً؟

وجوابهما عبارة عن نكتة واحدة، وهي: أنّ بالإمكان الالتزام بأنّ هذا الإخبار إخبار عن صدور الإعادة من الإنسان لا مطلقاً وكيف ما اتّفق، بل من خصوص ذلك الإنسان الذي هو في مقام الامتثال، وتطبيق عمله على الشريعة، وبهذا يتمّ الجواب على كلا السؤالين:

أمّا الأوّل، فلأنّ من فرض فيه أنّه يطبّق عمله على القواعد الشرعيّة يعيد العمل حتماً، فهذا إخبار في وعاء مخصوص لا مطلقاً.

وأمّا الثاني، فلأنّ كون المطبّق عمله على الشريعة معيداً حتماً يكون ملازماً ـ لا محالة ـ لكون الإعادة مطلوبة للشارع، فيدلّ هذا الإخبار بالملازمة على الطلب.

وبما ذكرناه ظهر وجه العناية في هذا التخريج، وهي: أنّه لابدّ من أجل تصحيح ذلك من تضييق دائرة الإخبار، فظهور الحال في كون المتكلّم في مقام من مقامات

115

المولويّة صار مقيّداً لفاعل جملة «يعيد»، وطبعاً هذه عناية تحتاج إلى مثل هذه القرينة.

الوجه الثاني: أن نحافظ على المدلول التصوّريّ، وهي النسبة الصدوريّة، والمدلول التصديقيّ، وهو قصد الحكاية، ولكن لا بمعنى: قصد الحكاية عن تلك النسبة الصدوريّة كما هو الحال في الوجه السابق، بل بمعنى: قصد الحكاية عن ملزومها(1).

وتوضيح ذلك: أنّ النسبة الصدوريّة كثيراً ما تنشأ من طلب المولى وتحريكه، وعليه فيصحّ للمتكلّم أن يخبر عن الطلب الذي هو الملزوم بلسان الإخبار عن اللازم، وهو ما يسمّى بالكناية، من قبيل قولهم «زيد كثير الرماد» في مقام الإخبار عن الكرم، حيث كانت كثرة الرماد تنشأ في الأعصر السابقة من الكرم، ووجه العناية هنا ليس تضييق الفاعل، بل هو حمل الكلام على الكناية؛ إذ مقتضى الطبع هو الإخبار عن المدلول المطابقيّ، لا جعل المدلول المطابقيّ قنطرة إلى الملزوم.

الوجه الثالث: أن يقال: إنّنا نحافظ على المدلول التصوّريّ للجملة الخبريّة، ولكن نسلخها عن المدلول التصديقيّ الخبريّ، وهو قصد الحكاية والإخبار، فلا نفترض قصد الحكاية لا عن المدلول المطابقيّ ولا عن ملزومه، بل يقال: حيث إنّ هذه النسبة الصدوريّة في كثير من الأحيان تتحقّق خارجاً في طول النسبة الإرساليّة من المولى كما يقال: «دفعته فاندفع»، إذن فتنعقد ـ بعد إقامة القرينة على الالتفات إلى هذه الطوليّة ـ دلالة تصوّريّة على النسبة الإرساليّة في طول الدلالة التصوّريّة على النسبة الصدوريّة، وعندئذ يكشف الكلام عن الطلب



(1) لا يخفى: أنّ قصد الحكاية عن نفس النسبة الصدوريّة التصوّريّة محفوظ في الأخبار الكنائيّة، لكنّه استطراق إلى مدلول نهائيّ، وهو قصد الحكاية عن الملزوم.

116

والإرادة بالنحو المتقدّم في صيغة الأمر(1)، غاية الأمر: أنّ دلالة الأمر التصوّريّة على النسبة الإرساليّة كانت مطابقيّة، ودلالة الجملة الخبريّة التصوّريّة عليها التزاميّة، ولكن بعد أن انعقدت ـ على أيّ حال ـ دلالة تصوّريّة على النسبة الإرساليّة صحّ أن يكشف الكلام عن الطلب والإرادة.

والعناية هنا عبارة عن فرض الانتقال التصوّريّ من النسبة الصدوريّة إلى النسبة الإرساليّة؛ إذ مجرّد تصوّر النسبة الصدوريّة لا يكفي لهذا الانتقال؛ لوضوح: أنّ النسبة الصدوريّة كثيراً ما تنشأ أيضاً من غير النسبة الإرساليّة، فلولا القرينة يقف ذهن السامع على النسبة الصدوريّة.

الوجه الرابع: أن نحافظ أيضاً على المدلول التصوّريّ للجملة الخبريّة، وهو النسبة الصدوريّة، ونسلخها أيضاً عن المدلول التصديقيّ، وهو قصد الحكاية، ولا نلتزم بالانتقال تصوّراً من النسبة الصدوريّة إلى النسبة الإرساليّة كما في الوجه السابق، ولكن ندّعي: أنّ النسبة الصدوريّة قابلة لتعلّق شيئين نفسيّين بها من



(1) مقصود اُستاذنا (رحمه الله): أنّ الذهن ينتقل تصوّراً بواسطة القرينة من النسبة الصدوريّة التصوّريّة إلى النسبة الإرساليّة التكوينيّة؛ لأنّ النسبة الصدوريّة من لوازم النسبة الإرساليّة، وبما أنّ النسبة الإرساليّة التكوينيّة في غالب الأحيان تكون في طول الإرادة التشريعيّة للمولى تصبح الدلالة التصديقيّة عبارة عن هذه الإرادة.

ولكن الوجه الذي نحن ارتأيناه فيما سبق لدلالة صيغة الأمر على الطلب لم يكن هذا، بل كان دعوى وضع الهيئة للنسبة البعثيّة التامّة تصوّراً، وتكشف تلك النسبة عن الإرادة والبعث التشريعيّ، وهنا أيضاً يمكن تطبيق نفس الفكرة، بأن يقال: إنّ النسبة الصدوريّة خارجاً تتبع النسبة البعثيّة ذات أطراف ثلاثة، فينتقل الذهن ـ بعد قيام قرينة على الالتفات إلى ذلك ـ من النسبة الصدوريّة إلى النسبة البعثيّة التامّة، وينكشف بها على مستوى الدلالة التصديقيّة الطلب والإرادة.

117

قبل المتكلّم، فكما قد يتعلّق بها التصديق والإخبار كذلك قد يتعلّق بها الطلب والإرادة، فكما قد يكون المدلول التصديقيّ هو الأوّل كذلك قد يكون المدلول التصديقيّ هو الثاني بلا حاجة إلى ضمّ دلالة تصوّريّة على النسبة الإرساليّة؛ لأنّ الطلب والإرادة يتعلّق ابتداءً بالنسبة الصدوريّة كما يتعلّق بها الإخبار والحكاية.

إلّا أنّ هذا يحتاج إلى إعمال رويّة لنعرف أنّه إذن ما هي العناية؟ إذ قد يتبادر إلى الذهن أنّه لا توجد عناية في ذلك، فإنّ النسبة الصدوريّة قد يتعلّق بها التصديق، واُخرى يتعلّق بها الطلب، وكلاهما أمر زائد على النسبة الصدوريّة.

إلّا أنّ جواب ذلك: أنّ المؤونة موجودة هنا أيضاً؛ لأنّ التصديق بالنسبة، والكشف عنها، والعلم بها دائماً هو طريق محض إلى النسبة، لا يرى بها إلّا المعلوم والمنكشف، فكأنّه لا يزيد عليه، بينما الإرادة ممّا يُرى مستقلاًّ، لا ممّا يُرى به، فكأنّها تزيد على النسبة(1) وإن كان بالدقّة كلاهما أمراً زائداً على النسبة.

فهذه وجوه أربعة لتخريج دلالة الصيغة الإخباريّة على الطلب مع إبراز العناية الكامنة في ذلك.

وأقرب هذه الوجوه مالم تكن قرينة على أحدها بالخصوص هو الوجه الأوّل؛ لأنّ ذاك الوجه يُحافظ فيه على الدلالة التصديقيّة الخبريّة، غاية ما هناك: أنّه تقيّد فيه مادّة الفاعل، بينما في سائر الوجوه يرفع اليد عن أصل ظهور الجملة الخبريّة في المدلول التصديقيّ الإخباريّ. وكلّما دار الأمر بين رفع اليد عن أصل ظهور الجملة أو تقييد المادّة، قدّم الثاني، فالوجه الأوّل هو الموافق للصناعة لولا قرينة



(1) وهذه مؤونة قويّة تجعل هذا الوجه أبعد من كلّ الوجوه السابقة.

118

خاصّة على سائر الوجوه(1).

المسلك الثاني: هو مسلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ حيث اختار: أنّ دلالة الجملة الخبريّة على الطلب ليست من باب استعمالها في معناها الموضوع له الأصليّ وإرادة الطلب بشيء من المناسبة، وإنّما استعملت في معنىً جديد ابتداءً. وقد انساق إلى ذلك على أساس مبناه في الوضع، حيث يرى أنّ الموضوع له هو المدلول التصديقيّ ابتداءً، لا المدلول التصوّريّ، والمدلول التصديقيّ في الجملة الخبريّة حينما تستعمل بداعي الإخبار مباين له فيها حينما تستعمل بداعي الطلب والإنشاء، وقد استشهد لكون الجملة الخبريّة منسلخة عن معناها رأساً حينما تستعمل بداعي الطلب بأنّه لو كان مدلولها الأصليّ محفوظاً في موارد الطلب، للزم جواز استعمال كلّ جملة خبريّة في مقام الإنشاء والطلب، مع أنّنا نرى بالوجدان أنّ الجملة الاسميّة لا تستعمل في ذلك، وكذلك الجملة الفعليّة إذا كان فعلها بصيغة الماضي، إلّا إذا وقع جزاءً في جملة شرطيّة، كأن يقال: «إذا قهقه في صلاته، أعاد الصلاة». وأمّا الفعل المضارع فيصحّ استعماله في الطلب مطلقاً، فيقال مثلاً: «يعيد» أو «يسجد سجدتي السهو» ونحو ذلك، فلو كان المصحّح للاستعمال المناسبة بين



(1) وبعده يكون أقوى الوجوه هو الوجه الثاني بناءً على ما قلناه: من أنّ قصد الحكاية عن نفس النسبة الصدوريّة محفوظ فيه، غاية الأمر أنّه استطراق إلى المعنى الكنائيّ، وهذا أولى من الوجهين الأخيرين اللذين سلخ الكلام فيهما عن قصد الحكاية نهائيّاً. والوجه الثالث بعد توجيهه بما أشرنا إليه في تعليقنا عليه أقوى من الوجه الرابع؛ لأنّ ما اشتمل عليه الوجه الرابع من كون المدلول التصوّريّ هو النسبة الصدوريّة، والمدلول التصديقيّ منسلخاً عن الكشف والإخبار عنه، ومتحوّلاً إلى الطلب برغم أنّ النسبة الصدوريّة لم تفرض استطراقاً إلى نسبة بعثيّة مناسبة للطلب خلاف الظاهر جدّاً.

119

الطلب والجملة الخبريّة، فأيّ فرق بين جملة وجملة؟(1).

أقول: إنّ أصل المبنى لهذا المسلك ـ وهو كون المدلول الوضعيّ عبارة عن الدلالة التصديقيّة ـ قد ظهر بطلانه فيما تقدّم من بحثنا في الوضع.

وأمّا الشاهد الذي استشهد به في المقام لمسلكه، فتعليقنا عليه هو: أنّه لا ينبغي



(1) راجع المحاضرات، ج 2، ص 132 ـ 138 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

والمقدار الموجود من البيان في المحاضرات يحسّ فيه بنقص، بيانه: أنّه (رحمه الله) كان بصدد الردّ على صاحب الكفاية(قدس سره) الذي يرى أنّ الجملة الخبريّة استعملت في نفس ما استعملت فيه لدى الحكاية، إلّا أنّه قصد بها الطلب. والمناسبة لإفادة الطلب بالجملة الخبريّة عبارة عن شدّة الشوق إلى المتعلّق ممّا يؤدّي إلى فرض وجوده، ومن هنا أصبحت دلالة الجملة الخبريّة على الوجوب آكد من صيغة الأمر.

وخلاصة ردّ السيّد الخوئيّ (رحمه الله) هي: أنّه لو كانت المناسبة لإفادة الطلب هذا الذي ذكر مع وحدة المستعمل فيه، فهذه المناسبة موجودة في كلّ أقسام الجملة الخبريّة، فلماذا خصّص تفهيم الطلب بالمضارع، أو الماضي إذا وقع جزاءً للشرط؟! فهذا دليل على أنّ سبب صحّة الاستعمال مناسبة اُخرى مخصوصة بالمضارع وبالماضي إذا وقع جزاءً للشرط.

أقول: نقص هذا البيان أنّه لم يذكر لنا ما هي تلك المناسبة المختصّة بالمضارع وبالماضي لدى وقوعه جزاءً للشرط، ولعلّ مقصوده هو أنّ معنى الأمر ـ الذي هو على مبناه عبارة عن الإلقاء في العهدة ـ يناسب الإخبار المستقبليّ دون الإخبار عن الماضي، أو عن أمر ثابت؛ لأنّ المضيّ والثبوت لا ينسجمان مع الإلقاء على العهدة، فهذا هو الذي صحّح استعمال المضارع في الإلقاء على العهدة. أمّا لو قلنا: إنّ المضارع لا زال مستعملاً في المعنى الخبريّ، وقصد به الطلب باعتبار أنّ الفراغ عن الوجود يناسب شدّة الطلب، فهذه النكتة مشتركة بين جميع أقسام الخبر.

120

الاستشكال في استعمال الفعل الماضي في مقام الطلب في الجملة من دون أن يقع جزاءً للشرط، وكيف لا مع أنّ من الشائع مثل قولنا: «غفر الله لك» أو «رحمك الله وأثابك» أو «عافاك الله» ونحو ذلك، ومن المعلوم أنّه ليس المقصود الإخبار، بل الطلب والسؤال. نعم، لا إشكال في أنّ هذا غير مطّرد، فلا يقول المولى لعبده: «صلّيت» أو «صمت» في مقام الأمر بالصلاة أو الصوم، ولكن يقول له: «تصلّي» و«تصوم»، والسرّ في ذلك: أنّ الطلب يوجد فيه النظر الاستدعائيّ، وكون هذا الطلب هو السبب لتحقّق الفعل، وهذا لا يناسب بحسب الارتكاز العرفيّ مع فرض الفراغ عن تحقّقه ومضيّه الذي هو مفاد الفعل الماضي، والذي يكون أيضاً ببعض المعاني مفاد الجملة الاسميّة. نعم، حينما يقلب الماضي إلى شبه المضارع كما في جزاء القضيّة الشرطيّة، حيث أصبح تعليقيّاً صحّ استعماله في مقام الطلب، وأمّا مثل «غفر الله لك» أو «عافاك الله» الذي يستعمله العبد في مقام الطلب من المولى فكأنّه تأدّباً وتعظيماً للمولى بغضّ النظر عن كون طلبه هو السبب لنشوء الفعل من المولى، فيرتفع التهافت بين النظرتين.

دلالة الجملة الخبريّة على الوجوب أو الجامع بين الوجوب والاستحباب:

وأمّا المقام الثاني: وهو أنّه بعد تخريج دلالة الجملة الإخباريّة على الطلب بأحد الوجوه التي عرفت فهل تقتضي خصوص الوجوب، أو الجامع بين الوجوب والاستحباب؟

لابدّ في ذلك من مراجعة ما عرفته من وجوه تخريج دلالتها على الطلب، فنقول:

أمّا على الوجه الأوّل: فالجملة الإخباريّة في مقام الطلب تكون ظاهرة في الوجوب؛ وذلك لأنّ العناية في الوجه الأوّل كانت عبارة عن تقييد الفاعل، بمن

121

يطبّق عمله على وفق الشريعة، وتشتدّ هذه العناية لو فرض الطلب استحبابيّاً؛ إذ ليس كلّ من يطبّق عمله على وفق الشريعة يعمل بالمستحبّات، فلابدّ من إضافة في تقييد الفاعل، بأن يفرض أنّه يخبر عن حال من يطبّق عمله على وفق الشريعة حتّى في الأمر الاستحبابيّ، حتّى لا يكون كذباً.

وأمّا على الوجه الثاني: فأيضاً تكون الجملة الخبريّة للطلب ظاهرة في الوجوب؛ وذلك لأنّه فرض في ذلك الوجه سلوك مسلك الكناية والإخبار عن الشيء بلسان الإخبار عن لازمه، حيث إنّ النسبة الصدوريّة كثيراً ما تنشأ من طلب المولى، ومن الواضح: أنّ هذه الملازمة فيما إذا كان الطلب وجوبيّاً تكون أقوى وآكد منها حينما يكون استحبابيّاً، بل يمكن أن يقال بعدم الملازمة في الاستحباب لشيوع ترك الناس حتّى المتشرّعة للمستحبّات.

وأمّا على الوجه الثالث: فأيضاً تكون الجملة الخبريّة للطلب ظاهرة في الوجوب؛ وذلك لأنّ المفروض فيه هو انتقال الذهن بالملازمة من المدلول التصوّريّ المطابقيّ ـ وهو النسبة الصدوريّة ـ إلى مدلول تصوّريّ التزاميّ وهو النسبة الإرساليّة، فإذا دلّت الجملة تصوّراً ـ ولو بالملازمة ـ على النسبة الإرساليّة، جاء البيان الأخير الذي بيّنّاه في دلالة صيغة «افعل» على الوجوب: من أنّ الإرسال التكوينيّ يستبطن سدّ جميع أبواب العدم تكويناً، فمقتضى أصالة التطابق بين الإرسال التكوينيّ المدلول عليه بالصيغة تصوّراً والتسبيب التشريعيّ المدلول عليه بالصيغة تصديقاً هو الحمل على الوجوب؛ لأنّ سدّ جميع أبواب العدم تشريعاً عبارة عن الإيجاب(1).



(1) هذا البيان منسجم مع طريقة اُستاذنا (رحمه الله) في فهم الطلب والوجوب من صيغة

122

وأمّا على الوجه الرابع: وهو: أنّ المدلول التصوّريّ ـ وهو النسبة الصدوريّة ـ يتعلّق به ابتداءً الطلب والإرادة كما يتعلّق به الإخبار والحكاية، فيصحّ أن يكون ما وراءه من مدلول تصديقيّ عبارة عن الطلب والإرادة رأساً، كما يصحّ أن يكون عبارة عن الإخبار والحكاية، فهذا لا يفسّر دلالة الجملة الخبريّة في مقام الطلب على الوجوب، ولا يأتي شيء من الخصوصيّات التي عرفتها في الوجوه السابقة لإثبات الوجوب، فلا تدلّ الجملة الخبريّة على هذا الوجه إلّا على جامع الطلب(1).

نعم، لو بنينا على دلالة الأمر على الوجوب بالإطلاق بالتقريب الذي يقوله المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من أنّ الوجوب كلّه إرادة، والاستحباب يكون حدّه وهو ضعف الإرادة خارجاً عن الإرادة، أمكن الإتيان بذلك الوجه فيما نحن فيه أيضاً، فيقال: إنّ الجملة الخبريّة دلّت تصوّراً على النسبة التصادقيّة، وتصديقاً على الإرادة، والوجوب كلّه إرادة بخلاف الاستحباب، فقد دلّت على الوجوب.

وكأنّ هذا الوجه بطلانه هنا أوضح منه في الأمر؛ حيث إنّ الأمر كان يُفهِم



الأمر. أمّا على طريقتنا الماضية من وضع صيغة الأمر لنسبة بعثيّة وجوبيّة ذات أطراف ثلاثة، فالذي ينبغي أن يقال هنا في كيفيّة فهم الوجوب هو: أنّ الملازمة بين النسبة البعثيّة الوجوبيّة والمدلول التصوّريّ للجملة الخبريّة الذي هو النسبة الصدوريّة آكد وأوضح منها في غير الوجوبيّة، فينتقل الذهن إلى الوجوبيّة، وبالتالي تنعقد الدلالة التصديقيّة على البعث الوجوبيّ والإرادة الوجوبيّة.

(1) نعم، لو بنينا على مسلك الشيخ النائينيّ (رحمه الله): من أنّ الوجوب مفهوم بحكم العقل لدى كلّ طلب من المولى لم يرد معه ترخيص في الخلاف، يثبت في المقام الوجوب بلا إشكال.

123

تصوّراً الإرادة، فقد يقال: إنّ شدّة الإرادة أيضاً إرادة، فقد دخلت فيما هو المتصوَّر بخلاف ضعفها. وأمّا فيما نحن فيه فالإرادة إنّما فهمت بالدلالة التصديقيّة والكشف، وواضح جدّاً أنّ شدّة الإرادة لم تكشف كما أنّ ضعفها لم يكشف(1).



(1) الإطلاق عبارة عن أصالة عدم زيادة المراد الجدّيّ على المراد الاستعماليّ، فلو قال مثلاً: «أكرم العالم» وعرفنا بأصالة الحقيقة: أنّ المراد الاستعماليّ غير مشتمل على قيد العدالة، قلنا: إنّ المراد الجدّيّ أيضاً غير مشتمل عليه؛ لأنّه قيد زائد على المراد الاستعماليّ منفيّ بأصالة الإطلاق، وفي صيغة الأمر يفترض أنّ المدلول التصوّريّ الموضوع له اللفظ عبارة عن النسبة الإرساليّة أو الإرادة، ويفترض أنّ المراد الاستعماليّ أيضاً بحكم أصالة الحقيقة ليس إلّا الكشف عن ذلك، ويفترض في مبنى الشيخ العراقيّ (رحمه الله): أنّ الاستحباب إن كان هو المقصود جدّاً فهو مشتمل على الزيادة، وهو الحدّ العدميّ المباين للمحدود، بخلاف الوجوب الذي حدّه وجوديّ، فهو من سنخ المحدود، فأصالة الإطلاق تعيّن الوجوب.

وأمّا الجملة الخبريّة فالمفروض أنّها موضوعة للنسبة الصدوريّة، والمفروض: أنّ المراد الجدّيّ ليس عبارة عن الكشف عنها، بل عبارة عن الكشف عن الإرادة أو النسبة الإرساليّة، فإمّا أنّ المراد الاستعماليّ اختلف عن المدلول التصوّريّ الموضوع له اللفظ، فأصالة الحقيقة منخرمة في المقام، فيأتي عندئذ احتمال كون المدلول الاستعماليّ عبارة عن النسبة الوجوبيّة، أو الإرادة الوجوبيّة، أو أنّ المراد الاستعماليّ عبارة عن إرادة نفس المدلول التصوّريّ الوضعيّ، ولكن المراد الجدّيّ اختلف عن المراد الاستعماليّ، ولم يكن عبارة عن الكشف عن جدّيّة نفس المراد الاستعماليّ، فالمراد الجدّيّ هو الكشف عن الإرادة أو النسبة الإرساليّة، فهنا لا معنىً للتمسّك بأصالة الإطلاق لإثبات الوجوب بدعوى: أنّ الاستحباب أكبر من المراد الاستعماليّ؛ لاشتماله على القيد العدميّ؛ وذلك لما عرفت من تباين المراد الجدّيّ عن الاستعماليّ أساساً.

124

وعلى أيّ حال، فقد عرفت أنّ مقتضى الصناعة ـ لولا قرينة خاصّة ـ تعيّن الوجه الأوّل من الوجوه الأربعة لتفسير دلالة الجملة الخبريّة على الطلب، وهو يقتضي الدلالة على الوجوب.

وأمّا على مسلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ الذي يقول بكون الجملة الخبريّة مستعملة رأساً في معنىً جديد، فإن كان هذا المعنى الجديد عبارة عمّا يقوله من وضع الفعل في العهدة، فيدلّ ذلك على الوجوب: إمّا من باب حكم العقل بالوجوب بمجرّد طلب المولى ما لم يرد الترخيص في الخلاف، وهو ما اختاره السيّد الاُستاذ، أو من باب: أنّ العهدة ارتكز عقلائيّاً كونها في باب الضمانات وعاء



أقول: يمكن أن يدّعى استظهار الوجوب في المقام ببيان آخر، وهو: أنّ المولى قد أبرز طلبه بلسان كان في الأصل لسان الإخبار عن التحقّق لا الطلب والشوق، وهذا يناسب عرفاً شدّة الشوق إلى التحقّق؛ فإنّ من يشتدّ شوقه إلى شيء فكأنّه يفترض تحقّقه. وهذا بيان يأتي على كلّ وجوه دلالة الجملة الخبريّة على الوجوب، بل قد يقال على أساسه: إنّ دلالة الجملة الخبريّة آكد من دلالة صيغة الأمر عليه.

وقد استفاد الآخوند (رحمه الله) في الكفاية(1) من هذه النكتة ببيان: أنّ الجملة الخبريّة مستعملة في نفس معنى الخبر والحكاية، فتدلّ على الوجوب بشكل آكد. والسيّد الخوئيّ (رحمه الله) بما أنّه يعتقد: أنّه لم تستعمل الجملة الخبريّة الدالّة على الطلب في نفس معنى الخبر والحكاية أنكر آكديّة دلالتها على الوجوب، ولكن الواقع: أنّ نفس التلبّس باللباس المناسب للخبر يعطي عرفاً بالمناسبة هذه الآكديّة، سواء كان المدلول المستعمل فيه الكلام هو الخبر أو لا.


(1) ج 1، ص 105 بحسب طبعة المشكينيّ.

125

يستتبع ثبوت الشيء فيه اللزوم والوجوب، وهو ما سيأتي منّا ـ إن شاء الله ـ بعدقليل في التنبيه الثاني.

وإن كان هذا المعنى الجديد عبارة عن الطلب والإرادة، لم يبقَ مجال لفهم الوجوب إلّا التمسّك بالإطلاق بالتقريب الذي كان يقوله المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من أنّ الوجوب كلّه طلب وإرادة بخلاف الاستحباب.

تنبيهان:

بقي التنبيه على أمرين:

الأوّل: لا إشكال في أنّ فعل المضارع إذا دخل عليه لام الأمر من قبيل (ليصلِّ) قلب النسبة الصدوريّة فيه إلى النسبة الإرساليّة، وحينئذ يدلّ على الوجوب بنفس بيانات دلالة صيغة «أفعل» على الوجوب.

الثاني: أنّ الجملة التي تستعمل في مقام إبراز إرادة المولى إذا ثبت في بعضها أنّها موضوعة للدلالة على الوجوب، فلا كلام في دلالتها على الوجوب، وإلّا فيمكن أن نقسّمها إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما يكون دالّاً على الدفع والإرسال والتحريك: إمّا بنحو المعنى الحرفيّ، أي: النسبة الإرساليّة كما في صيغة «افعل» وفعل المضارع الذي دخل عليه لام الأمر، أو بنحو المعنى الاسميّ كما في «اُحرّكك» و«أدفعك» و«آمرك» ونحو ذلك.

وفي هذا القسم يمكن استفادة الوجوب بالإطلاق الذي بيّنّاه أخيراً في بحث صيغة الأمر، حيث قلنا: إنّ مقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصديقيّ والتصوّريّ هو سدّ تمام أبواب العدم في المدلول التصديقيّ، وهو عبارة اُخرى عن الوجوب (1).



(1) مضى منّا عدم صحّة ذلك في «آمرك»، وأنّ دلالة مادّة الأمر على الوجوب

126

الثاني: ما يفرض فيه: أنّه لا يستفاد منه الإرسال والإلقاء، لا بنحو المعنى الحرفيّ ولا بنحو المعنى الاسميّ، ولكن كان مضمونه أمراً اعتباريّاً، وهو الجعل في العهدة من قبيل قوله: (لِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)، وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، وقوله: «على فلان أن يتصدّق بكذا» ونحو ذلك؛ حيث إنّ كلمة «على» تفيد هذا المعنى. وعندئذ نقول: بما أنّ العهدة وعاء في باب الضمانات وقد ارتكز عقلائيّاً أنّ كلّ ما يقع فيه يقع موضوعاً للإلزام والوجوب، ينعقد بهذه النكتة لأيّ خطاب كان مفاده الجعل في العهدة الظهور في قصد الإلزام ما لم تكن قرينة على الخلاف.

الثالث: أن لا يوجد فيه شيء من الأمرين الماضيين، غاية الأمر: أنّه تستفاد منه رغبة المولى في الفعل، كقوله: «اُحبّ أن تصنع كذا» و«أرغب في أن تصنع كذا»، ومثل هذا لا دليل على إفادته للوجوب.

هذا هو الضابط الكلّيّ في دلالة تمام الجمل التي تستعمل في الروايات في مقام الطلب.



وضعيّة لا إطلاقيّة، كما أنّه مضى منّا أنّ الإرسال بالمعنى الحرفيّ في مثل صيغة الأمر أيضاً لايدلّ على ذاك الإرسال التكوينيّ الموجب لسدّ تمام أبواب العدم، وإنّما تدلّ صيغة الأمر على الوجوب بالوضع.

127

الأصل في الواجب التعبّديّة أو التوصّليّة؟

الجهة الرابعة: في أنّ الأصل في الواجب هل هو التعبّديّة، أو التوصّليّة؟

والكلام في ذلك يقع في أربع مسائل؛ حيث إنّ التوصّليّة لها معان أربعة:

1 ـ التوصّليّ بمعنى ما يسقط بفعل الغير.

2 ـ التوصّليّ بمعنى ما يسقط بالفعل غير الاختياريّ من نفس الإنسان المكلّف.

3 ـ التوصّليّ بمعنى ما يسقط بالفرد المحرّم.

4 ـ التوصّليّ بمعنى عدم احتياجه إلى القربة وسقوطه بالإتيان به لا بداع قربيّ. وهذا هو المعنى الذي اشتهر بالتوصّليّة في علم الاُصول.

وفي مقابل كلّ واحد منها معنىً من معاني التعبّديّة، فيقع الكلام في أصالة التعبّديّة والتوصّليّة بكلّ واحد من هذه المعاني الأربعة، ولهذا يكون الكلام في أربع مسائل:

التوصّليّ بمعنى ما يسقط بفعل الغير

المسألة الاُولى: لو شكّ في سقوط الواجب بفعل الغير، فهل الأصل هو السقوط أو عدمه؟

والكلام يقع في مقامين:

الأوّل: في الأصل اللفظيّ.

والثاني: في الأصل العمليّ.

128

مقتضى الأصل اللفظيّ:

المقام الأوّل: وهو مقتضى الأصل اللفظيّ في ذلك.

فقد ذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ: أنّ مقتضى القاعدة هو عدم السقوط؛ لأنّ الشكّ ليس شكّاً في سعة دائرة الواجب وضيقه، بل في سعة دائرة الوجوب وضيقه؛ إذ لو فرض: أنّ الوجوب كان يسقط بفعل الغير، فليس معنى هذا: أنّ دائرة الواجب أعمّ من فعله وفعل غيره؛ لأنّ فعل الغير ليس داخلاً في قدرة المكلّف، وإنّما معنى ذلك: أنّ وجوب الفعل عليه مشروط بعدم فعل الغير، فإذا شكّ في ذلك كان مقتضى الإطلاق بحكم مقدّمات الحكمة عدم تقيّد الوجوب بهذا الشرط(1).

ويرد عليه: أوّلاً: أنّ فعل الغير وإن لم يكن تحت قدرته إذا لم يكن فعلاً تسبيبيّاً للمكلّف، ولكن إذا كان فعلاً تسبيبيّاً له كان داخلاً تحت قدرته بالواسطة، حيث إنّه يقدر عليه بالتسبيب إليه: إمّا بالإيجاب والإلجاء في الأفعال التي يتصوّر فيها ذلك، وإمّا بقدح الداعي في نفس الفاعل حينما يكون قادراً على ذلك، فتكون هذه الحصّة من فعل الغير ـ أعني: الفعل التسبيبيّ ـ مقدورة له، ولذا يمكن الأمر بها مباشرة بأن يأمره المولى مثلاً بصلاة ابنه، فيعقل تعلّق الأمر بالجامع بين فعله وفعل غيره التسبيبيّ له.

وثانياً: أنّنا لو فرضنا أنّ فعل الغير لم يكن مقدوراً له، فالسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ قد ذكر في المسألة الثانية: أنّه يعقل تعلّق التكليف بالجامع بين فعل الشخص الصادر منه بالاختيار وفعله غير الاختياريّ؛ لأنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور(2)، فكذلك نقول نحن هنا، فإنّ نسبة فعل الغير والفعل غير الاختياريّ



(1) راجع محاضرات الفيّاض، ج 2، ص 142 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

(2) المصدر السابق، ص 149. والوارد في المحاضرات مشتمل على الالتفات إلى إمكان فرضيّة التهافت بين ما قاله في المسألة الاُولى: من استحالة شمول إطلاق المادّة

129

إلى قدرة المكلّف على حدّ سواء، فهنا أيضاً نقول: إنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور داخل تحت القدرة ولو في ضمن فعله، إذن فتحصّل: أنّ السقوط يمكن أن يكون بسبب سعة دائرة الواجب وشمولها لفعل الغير مطلقاً، أو التسبيبيّ على الأقلّ، وعليه فلو كان مقتضى إطلاق المادّة هو الجامع بين فعله وفعل غيره، لكان مقتضى القاعدة هو السقوط بفعل الغير، وإن كان مقتضى ظهورها هي الحصّة المباشريّة فحينئذ مقتضى إطلاق الصيغة ثبوت الوجوب حتّى مع فعل الغير، فلابدّ من صرف عنان الكلام إلى أنّ المادّة هل لها إطلاق لفعل الغير، أو لا؟

فنقول: يوجد(1) عندنا أمران: أحدهما: استناد الفعل إلى المكلّف، والآخر:



لفعل الغير وما قاله في المسألة الثانية: من شمول إطلاق المادّة للحصّة الصادرة بلا اختيار. وأجاب عن هذا التهافت بأنّ الوجه في عدم الشمول في المسألة الثانية إنّما هو عدم مقدوريّة تلك الحصّة، والجواب عليه هو: أنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور، والمفروض تعلّق التكليف بالجامع لا بخصوص الحصّة غير المقدورة. وأمّا في المسألة الاُولى فأصل اعتبار الجامع بين فعل الشخص وفعل الغير في الذمّة أمر غير معقول.

أقول: ـ مضافاً إلى أنّ هذا الفرق لا نفهم له وجهاً متحصّلاً ـ إنّ هذا في الحقيقة عدول عمّا ذكره أوّلاً في وجه عدم معقوليّة تكليف الشخص بالجامع بين فعله وفعل غيره؛ فإنّ المذكور عنه هناك في نفس الكتاب موضوع عدم القدرة.

(1) يمكن صياغة المطلب بصياغة اُخرى وهي: أنّ فعل الغير لو لم يكن بتسبيب من المأمور فلا إشكال في أنّ إطلاق المادّة لا يشمله.

وأمّا لو كان بتسبيب من المأمور:

فلو كان الفعل عرضاً لمحلّ آخر غير نفس المأمور كما في «اغسل المسجد» فمقتضى إطلاق المادّة كفاية التسبيب، فلو سبّب المأمور غسل المسجد بفعل شخص آخر صدق العمل بقوله: «اغسل المسجد».

130

كون هذا المستند إليه صادراً منه بالمباشرة لا بالتسبيب.

أمّا الأوّل، فلا إشكال في كونه مستفاداً من المادّة؛ فإنّ المستفاد من قوله: «صلِّ» و«اغسل» ونحوه هو دفعه إلى الفعل بنحو يكون مستنداً إليه، فلو قال: «اغسل يا زيد»، ثُمّ غسل عمرو من غير تسبيب إلى ذلك من قبل زيد، لم يصدق على ذلك تحقّق مفاد «اغسل»؛ لأنّ النسبة الصدوريّة ملحوظة في الأمر كما هي ملحوظة في فعل الماضي، لكن مع إلباسها في الأمر ثوب النسبة الإرساليّة فوقها، إذن فلا تشمل المادّة الفعل الأجنبيّ للغير.

وأمّا الثاني، ففيه تفصيل؛ فإنّ المادّة قد تكون نسبتها إلى زيد مثلاً نسبة الفعل إلى الفاعل فقط لا العرض إلى محلّه، كما لو أمر زيداً بغسل المسجد، فإنّ الغسل عرض للمسجد لا لزيد، وقد تكون نسبتها إليه نسبة العرض إلى محلّه أيضاً كــ «اشرب الماء»، ففي القسم



نعم، لو كان الفعل عرضاً يعرض على نفس المأمور كما في مثل «صلّ» أو «اشرب الماء» فقد لا يتحقّق الفرد التسبيبيّ بالتسبّب إلى فعل شخص آخر؛ لأنّه لو سبّب أن يصلّي عمرو أو يشرب عمرو لم يصبح المأمور محلاًّ لعروض الصلاة أو الشرب.

نعم، قد يتّفق في بعض الأمثلة إمكانيّة التسبيب أيضاً كما في مثال «اشرب الماء»، فإنّه لو أجبر عمرواً مثلاً على أن يشرّب المأمور الماء فقد أصبح عروض الشرب على نفس المأمور أيضاً محفوظاً، فانحفظت كلتا النسبتين: نسبة الفعل إلى الفاعل بالتسبيب، ونسبة عروض الشرب على نفس المأمور، فهذا يدخل في إطلاق المادّة لوجدان الفعل لكلتا النسبتين.

فتحصّل: أنّ الفعل الأجنبيّ المحض غير مشمول لإطلاق المادّة ومقتضى القاعدة عدم سقوط الواجب به، والفعل التسبيبيّ يفصّل فيه بين ما لو كانت للمادّة بحسب مدلولها العرفيّ نسبة صدوريّة فحسب إلى المأمور فيتمّ إطلاقها، أو كانت لها بالقياس إلى المأمور نسبتان: نسبة صدوريّة ونسبة العروض على المحلّ فقد لا يتمّ كما في مثال «صلّ» وقد يمكن أن يتمّ كما في مثال «اشرب الماء».

131

الأوّل مقتضى الإطلاق هو الشمول للحصّة المباشريّة والتسبيبيّة(1)؛ إذ غاية ما يقتضيه قوله: «اغسل المسجد» هي النسبة الصدوريّة، وهي محفوظة في كلتا الحصّتين: المباشريّة والتسبيبيّة، فيكون ذلك صادقاً فيما لو لم يغسل المسجد بنفسه مباشرة لكنّه سبّب إلى غسله.

وأمّا في القسم الثاني كما لو قال: «صلِّ»، أو قال: «اشرب الماء»، فهو لا يصدق على الفرد التسبيبيّ، أعني: أن يتسبّب إلى أن يصلّي عمرو، أو يشرب عمرو مثلاً (لا إلى أن يُشرِبه عمرو)؛ لأنّ للصلاة أو الشرب نسبتين إلى زيد: إحداهما: نسبة الفعل إلى فاعله، وهذه محفوظة في المقام، والاُخرى: نسبة العرض إلى محلّه، وهذه غير محفوظة في المقام، فلا يصدق أنّه صلّى أو شرب الماء. نعم، لو فرض أنّ زيداً أجبر عمرواً على أن يشرّبه، فهذا مصداق للمادّة؛ لوجدانه لكلتا النسبتين.

فتحصّل: أنّ الفعل الأجنبيّ المحض غير مشمول للمادّة، ومقتضى القاعدة عدم السقوط، والفعل التسبيبيّ يفصّل فيه بين ما لو كانت للمادّة بحسب مدلولها العرفيّ نسبة صدوريّة إلى الفاعل فقط، أو كانت لها كلتا النسبتين إليه.



(1) لا يخفى: أنّ الشمول للحصّة التسبّبيّة لدى فرض توسّط إرادة فاعل مختار لا يخلو عن منع؛ لأنّ نسبة الفعل إلى الفاعل المسبِّب ـ بالكسر ـ غير صادقة هنا، وإنّما الصادق نسبة التسبيب إليه. نعم، قد نفهم بمناسبات الحكم والموضوع الشمول، كما في مثال الأمر بغسل المسجد، حيث يفهم بمناسبات الحكم والموضوع أنّ الهدف طهارة المسجد، وقد حصلت بتطهير شخص آخر، بل وكذا لو حصل بسبب آخر قهريّ، فلو نزل المطر وطهّر المسجد لكفى ذلك، إلّا أنّ هذا خارج عن محلّ البحث.

وقد تقول: إنّ نسبة الفعل إلى الفاعل بمعنى الصدور المباشر ندخله في نسبة العرض إلى محلّه، ونقصد بنسبة الفعل إلى الفاعل المقدار المحفوظ في النسبة التسبيبيّة.

ولكن لو قلت كذلك، إذن لقلنا: إنّ هيئة الأمر دائماً تدلّ على نسبة الفعل إلى الفاعل بمعنى نسبة العرض ومحلّه. فعلى كلّ حال يكون الحقّ: أنّ هيئة الأمر تدلّ على ضرورة المباشرة.