43

إلى الإكراه وبقاؤه وضع للإكراه أمّا بناء على كون المختار رفع أثر الشيء المكره عليه مباشرة وان وضع الإكراه هو وضع ذاك الأثر فلا يتمّ هذا الكلام فان الأثر قد فرض أثراً للخصوصية والحرمة حرمة لها بينما الإكراه قد فرض متعلّقاً بالجامع لا بالخصوصية.

وتحقيق الحال في المقام: إنّ الإكراه وإن كان إكراهاً على الجامع لا على واحدة من الخصوصيتين لكن ليس المقصود بالجامع جزءً مشتركاً بين الفردين غير الخصوصيتين وانّما المقصود به الجامع بين الخصوصيتين المعبّر عنه بتعبير (احداهما) فهذا الجامع إمّا مكره عليه كما لو كان الوعيد على تركهما أو مضطر إليه كما لو كان الوعيد على ترك جزء مشترك لا ينفك خارجاً عنهما وهذا الجامع يحمل لا محالة الأثر المشترك أو الحرمة المشتركة فأحد الحرامين حرام لا محالة وأحد المؤثرين مؤثّر لا محالة فانّ الجامع المنتزع من شيئين موصوف بجميع الأوصاف المشتركة بينهما إذن فيرتفع بالإكراه عندئذ الأثر أو الحرمة وهذا هو توجيه كلام الشيخ الانصاري (رحمه الله)الذي مضى.

أمّا إذا اختصت الحرمة أو الأثر بواحد من الأمرين فالجامع بينهما ولو بمعنى (أحدهما) ليس متصفاً بالحرمة أو بذاك الأثر فالجامع بين الحلال والحرام ليس حراماً والجامع بين ذي الأثر وغير ذي الأثر ليس مؤثراً وهذا هو السرّ في انّه لو اكرهه على الجامع بين الحرام والحلال لم تسقط عنه الحرمة ولو اكرهه على الجامع بين حرام خفيف وحرام شديد لم تسقط عنه الشدّة لانّ الجامع بين شديد الحرمة وخفيفها ليس شديد الحرمة أمّا لو اكرهه على الجامع بين البيع وما ليس له أثر كشرب الماء أو بين البيع الصحيح والبيع الفاسد أو بين البيع وأداء الدين المستحق فاختار البيع فهنا نقول ببطلان البيع لا بصحّته وذلك لا لأجل ان الإكراه

44

رفع أثر الجامع حتى يقال ـ كما مضى عن الشيخ ـ: انّ هذا يستلزم بطلان الحق أيضاً بل لأجل انّ البيع كما يكون الإكراه مانعاً عن صحّته كذلك يكون طيب النفس شرطاً في صحّته وهنا لم يقع البيع عن طيب النفس بل وقع هرباً من وعيد المكرِه ومن إيفاء الحقّ الذي لا يريد إيفاءه ولو عصياناً أو هرباً من وعيد المكرِه ومن شرب الماء الذي لا يشتهيه نعم قد تكون سهولة المندوحة قرينة عرفية إثباتية على طيب النفس كما مضى منّا في ما سبق وهذا مطلب آخر.

بقي الكلام في ما إذا اكرهه على الجامع بين البيع وفعل الحرام وقال السيد الخوئي في ذلك: إنّ الحرمة لا ترتفع لعدم الإكراه على الحرام إذ بإمكانه اختيار الحلال وهو البيع ولكن البيع يبطل لعدم الطيب وثبوت الخوف الجامع بين الإكراه والاضطرار ـ على حدّ تعبير المحاضرات(1) ـ أو للإكراه وعدم الطيب ـ على حدّ تعبير المصباح(2) ولعل صدق الإكراه عنده على خصوص البيع في المقام (لو صحّ تعبير المصباح) يكون لأجل انّ البيع صدر عن خوف أحد العقابين الدنيوي والاخروي وبما انّ أحدهما كان بتهديد المكرِه اذن صَدَق الإكراه في رأي السيد الخوئي في حين انّ فعل الحرام لا يصدر منه سبب الخوف من أحد العقابين إذ لو اختار البيع نجى من كِلا العقابين فلا يصدق الإكراه بلحاظ الحرام.

أمّا لو أخذنا بتعبير المحاضرات فظاهره انّ الإكراه بعنوانه غير صادق حتى على البيع وانّما الصادق هو الخوف الجامع بين الإكراه والاضطرار وانّما قال ببطلان البيع هنا بعدم الطيب ولم يقل به في سائر موارد وجود المندوحة لانّ مقياس


(1) راجع 2: 256.

(2) راجع مصباح الفقاهة 3: 313 ـ 314.

45

الطيب وعدمه في رأيه هو الخوف وعدمه فإن كان العقد صدر عن الخوف لم يثبت الطيب وإلّا ثبت الطيب فبما انّ البيع هنا صدر عن خوفه لأحد العقابين الدنيوي والاخروي لم يصدق طيب النفس بالبيع وبهذا يبطل البيع بخلاف سائر موارد المندوحة فلو اكرهه على الجامع بين البيع وإيفاء الحقّ مثلا فاختار البيع صحّ البيع لثبوت طيب النفس إذ كان بإمكانه ان يختار إيفاء الحق وقد عدل عنه إلى البيع بمحض اختياره ورضاه ولكن لو اكرهه على الجامع بين البيع والحرام فاختار البيع بطل البيع لانّ عنصره الخوف هنا دخيل في اختيار البيع.

أقول: قد عرفت فيما مضى منّا أنّ الفرق بين باب الإكراه والموارد المتعارفة من الاضطرار هو ان المضطر يطيب نفساً بالنتيجة ولذا لو اُخبر ببطلان البيع لأغتمَّ بذلك في حين انّ المكره لو اُخبر ببطلان البيع لفرح بذلك وهذه آية عدم الطيب وهذه الحالة ثابتة حتى مع فرض المندوحة المحلّلة بل المندوحة الواجبة فلو أكره على الجامع بين البيع وإيفاء الحق فاختار البيع هرباً من إيفاء الحق ومن الوعيد بطل البيع لا للإكراه على الجامع حتى يقال إنّ هذا يستلزم بطلان إيفاء الحقّ أيضاً بل لعدم طيب النفس بالنتيجة إذ لو اُخبر ببطلان البيع لفرح بذلك.

وعلى أيّة حال فلو قلنا بعدم صدق الإكراه على البيع في مثال إكراهه على الجامع بين البيع وفعل الحرام لزم من ذلك ان دليل بطلان بيع المكره لو كان مختصاً بحديث رفع الإكراه لما أمكن التفصيل في المقام بين الحرام والبيع فكما انّ الحرمة لا ترتفع بالإكراه على الجامع كذلك البيع لا يبطل بذلك وهذا غريب.

أمّا على مبنى الشيخ ميرزا جواد (حفظه الله) الذي مضى فاوّل ما يخطر بالبال هو ارتفاع الحرمة وبطلان البيع لانّ بقاءهما تحميل عليه ناتج عن الإكراه

46

فرفعهما رفع للإكراه إلّا انّه (حفظه الله) فصّل بين الحرمة والبيع بدعوى ثبوت الحرمة وبطلان البيع ولعله لأجل غرابة القول بعدم التفصيل إلّا انّه لم يعرف من كلامه وجه فنّيٌ، لهذا التفصيل عدا انّ البيع بطل بالاضطرار لانّه اختاره فراراً من أحد العقابين(1) ولكنّه لم يبيّن انّه لماذا لا يوجب الإكراه على الجامع ارتفاع الحرمة وأثر البيع معاً في حين انّه على مبناه الماضي وهو كون المقياس صدقُ التحميل المستند إلى الإكراه قد يتّجه القول بذلك لانّ ثبوت الحرمة وصحّة البيع معاً تحميل، لنتيجة الإكراه عليه فليرتفعا في عرض واحد.

وكان بإمكانه (حفظه الله) حلّ المطلب ببيان انّ البيع بعد ان بطل بدليل مستقل عن رفع الإكراه وهو رفع الاضطرار أو عدم الطيب انتفى التحميل فلم يبق عندئذ موجب لرفع الحرمة بحديث رفع الإكراه.

ولو أمكنه عدم قصد الإنشاء ومع ذلك قصد الإنشاء فلئن لم يصدق الاضطرار عندئذ لوجود المندوحة كفى عدم الطيب.

ولكن هذا البيان لا يدفع الإشكال فيما إذا كان المكرِه يطبّق الأثر الخارجي للبيع لو اختاره المكرَه رغم بطلان البيع أي انّه سيخرج المبيع من يده قهراً عليه ويسلّمه للمشتري فهنا بقاء الحرام على حرمته تحميل على المكرَه لنتيجة الإكراه فالمفروض على مبنى الشيخ ميرزا جواد (حفظه الله) الافتاء في هذا الفرض بزوال الحرمة وهو غريب على ان لازم ذلك أيضاً انّ دليل بطلان بيع المكره لو فرض انحصاره في حديث رفع الإكراه لما أمكن التفصيل في باب الإكراه على الجامع بين حرمة الحرام وصحّة البيع بارتفاع الثانية دون الاُولى.


(1) راجع إرشاد الطالب 2: 249.

47

والصحيح في المقام انّ الجامع هو المكره عليه وليس حراماً وما هو حرام ليس مكرهاً عليه فلا ترتفع الحرمة بالإكراه أمّا البيع فيبطل بالإكراه لانّه فرار من أحد عقابين ويكون واحد من العقابين عقاباً بشرياً وهذا كاف في صدق الإكراه وكذلك يصدق الاضطرار وعدم الطيب أمّا لو كان قادراً على عدم قصد الإنشاء وقد قصد الإنشاء فالوجه في بطلان البيع عندئذ منحصر في عدم الطيب دون الإكراه او الاضطرار هذا. وهناك وجوه اُخرى غير الوجوه الماضية ذكرت لمعرفة أثر الإكراه على الجامع بين ما له الأثر وما ليس له الأثر أو بين شيئين كلٌّ منهما ذو أثر من قبيل:

1 ـ ما ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله)(1) من انّ الإكراه على الجامع يسري إلى الفرد ويقع التعارض بين دليل رفع الإكراه ودليل الأثر الثابت لذاك الفرد سواء فرضنا اختصاص الأثر بذاك الفرد الذي اختاره المكرَه أو فرضنا كون كل منهما ذا أثر لكن يمكن أن يقال: إنّ دليل أثر ذي الأثر عند اختصاصه بأحدهما أظهر من دليل رفع الإكراه فيقدم عليه أمّا لدى اشتراكهما في الأثر فدليل رفع الإكراه أظهر من دليل الأثر فيقدم عليه.

ويرد عليه بعد منع صدق الإكراه على غير القدر الجامع: انّه لو سلّم ما ذكره في الأظهريّة قلنا انّ دليل رفع الإكراه حاكم على دليل الأثر والدليل الحاكم يقدم على المحكوم من دون ملاحظة الأظهر والظاهر.

2 ـ ما جاء عن المحقّق النائيني (رحمه الله) في منية الطالب(2) للشيخ موسى


(1) في تعليقته على المكاسب: 49.

(2) منية الطالب 1: 191.

48

النجفي الخونساري (قدس سره) وكذلك في كتاب المكاسب والبيع للشيخ محمّد تقي الآملي (رحمه الله)(1) من انّ الإكراه على الجامع يسري إلى الفرد عند تساوي الفردين في الأثر أمّا عند عدم التساوي كما إذا كان أحدهما ذا أثر والآخر غير ذي أثر أو كان أحدهما أخفّ حرمة والآخر أشدّ حرمة فالإكراه انّما يسري إلى غير ذي الأثر أو إلى الأخفّ حرمة.

وهذا الكلام غريب، فانّ الإكراه وسريانه أو عدم سريانه أمر تكوينيّ ووجود الأثر شرعاً وعدمه ليس له أيّ دخل في ذلك.

3 ـ ما ذكره الشيخ موسى الخونساري في تعليقه تحت الخط على ما تقدّم من كلام استاذه حيث قال: إنّ الإكراه يسري إلى الفرد المختار مِنْ قِبَل المكرَه بلا تفصيل وبه يبطل البيع الذي يختاره لو كان أحد فردي المكره عليه لكن في خصوص باب الحرمة نرى انّ الإكراه لا يرفع الحرمة مع وجود المندوحة وحلية أحد الفردين وكذلك لا يرفع حرمة الفرد الأشدّ حرمة مع وجود فرد أخفّ حرمة.

أقول: إنّ وجه هذا التفصيل غير واضح إلّا ان يتمسك في باب البيع بشرط الطيب ويقال بانّ المستظهر من دليل الإكراه بمناسبات الحكم والموضوع هو كون الهدف من رفع الإكراه إخراج المكلَّف من المأزق ومع وجود المندوحة ليس المكلف في مأزق ومع وجود الأخفّ حرمة ليس المكلف في مأزق بلحاظ الأشديّة في الحرمة الثابتة للفرد الآخر ولكن الواقع ان عدم كونه في المأزق هو معنى عدم صدق الإكراه وهو ليس في مأزق بلحاظ خصوصية كل من الفردين حتى فيما لو فرضت حرمتهما نعم هو في مأزق عندئذ من جامع الحرام.


(1) المكاسب والبيع 1: 439 ـ 440.

49

بقي الكلام فيما لو اكرهه على الجامع بين فردين طوليين كالإكراه على البيع في هذه الساعة أو البيع في الساعة الثانية أو الإكراه على فعل الحرام في هذه الساعة أو الساعة الثانية.

فصّل المحقّق النائيني (رحمه الله) بين باب المحرمات وباب المعاملات(1) بدعوى انّ المقياس في البطلان في باب المعاملات هو الإكراه والإكراه صادق بلحاظ جميع الأفراد ان أيّ فرد اختاره المكرَه من أفراد الجامع فقد صدر منه عن إكراه ولو كان هو الفرد الأوّل فتبطل المعاملة من دون فرق في ذلك بين الأفراد في حين انّ المقياس في رفع الحرمة في باب المحرَّمات ليس هو الإكراه الصادق حتى بلحاظ الفرد الأوّل بل هو عدم المناص وهو غير صادق إلّا بلحاظ آخر الأفراد ففي زمان الفرد الأوّل بإمكانه ان يتهرّب من فعل الحرام بتأجيله إلى آخر الزمان ثم في آخر الزمان لا يبقى له مناص عن الارتكاب فيحلّ له عندئذ الحرام ولم يعرف ما هو دليله (رحمه الله) على التفصيل في المقياس بين البابين.

أمّا السيد الخوئي فقد انكر الفرق بين البابين وذكر(2): انّ الإكراه مقياسه الخوف وانّ الخوف هو الجامع بين الإكراه والاضطرار وان هذا لا يتحقّق إلّا بلحاظ الفرد الأخير فلو ترك الفرد الأوّل لم يكن عليه خوف لانّ الظالم سوف لن يبطش به باعتبار انّ الوقت لا زال واسعاً وانّما يتحقّق الخوف عند ضيق الوقت حيث انّه عندئذ لو ترك الفرد الأخير سيحلّ عليه بطش الظالم فهنا يتمّ الخوف ويحلّ الحرام أو تبطل المعاملة نعم في التكليفيّات إذا كان الثاني أهمّ وجبت


(1) راجع منية الطالب 1: 190 ـ 191، وكتاب المكاسب والبيع 1: 440 ـ 441.

(2) راجع المحاضرات 2: 257 ـ 258، ومصباح الفقاهة 3: 315 ـ 316.

50

التضحية بالمهم بمخالفة التكليف الأوّل رغم تقدّم زمنه وذلك حفظاً للقدرة كي تصرف بشأن الأهم كما ذكر ذلك المحقّق النائيني (رحمه الله) في الاُصول.

أقول: يرد عليه انّ الإكراه يكون على الجامع والخوف من ترك الجامع يكون موجوداً من أوّل الأمر والأثر يكون للجامع حتى إذا كان للخصوصيتين على ما مضى منّا من انّ الأثر المشترك للخصوصيات يتصف به الجامع الانتزاعي لا محالة وهو عنوان أحدها إذن يبطل الأثر أو ترتفع الحرمة بالإكراه من دون فرق بين فرد وفرد ولا أثر للطولية الزمانية في المقام.

والأمر أوضح في باب البيع منه في المحرّمات على أساس انّه يكفي في بطلان البيع عدم الطيب وأي فرد اختاره بهدف دفع الضرر الذي سيحل به في آخر الوقت فهو ليس طيّب النفس به إذن فيبطل البيع بلا إشكال.

ولو شك في انّ الإكراه هل سيبقى إلى آخر الوقت أو سيرتفع ومع ذلك بادر بالإتيان بالفرد الأوّل ففي باب المعاملة يكفي في البطلان عدم الطيب وفي التكليفيات تشبه المسألة مسألة الشك في القدرة التي قالوا فيها بالاحتياط.

اختلاف فعل المكرَه عن مصبّ الإكراه:

الفرع الثاني ـ لو اختلف ما فعله المكرَه عمّا انصبّ عليه الإكراه فالاختلاف قد يكون بالزيادة واُخرى بالنقيصة وثالثة بالتباين: أمّا الاختلاف بالزيادة فمن قبيل ما لو أكرهه على بيع أحد الفرسين فباعهما معاً والذي يبدو للذهن في أوّل وهلة هو التفصيل بين ما لو أكرهه على بيع فرس معين فأضاف إليه الآخر فعندئذ يكون بيع ذاك الفرس المعيّن هو الباطل وبيع الفرس الآخر هو الصحيح وما لو اكرهه على بيع أحد الفرسين فباعهما معاً وعندئذ تارة يفترض بيعهما بالتدريج فالبيع الأوّل هو ا لباطل لانّه الذي رفع به الإكراه والبيع الثاني هو الصحيح لانّ

51

الإكراه قد انتهى بسبب البيع الأوّل واُخرى يفرض بيعهما في آن واحد وهذا هو الذي يشكل الأمر فيه فقد يقال ببطلانهما معاً لبطلان أحدهما وعدم تعيُّنه حتى في الواقع أو بصحّتهما معاً لانّ ما اكره عليه هو بيع أحدهما وما وقع هو بيعهما وهو يغاير المكره عليه أو ببطلان أحدهما وصحّة الآخر لانّ الإكراه على أحد البيعين لا يفسد إلّا أحد البيعين وعندئذ يعيّن الصحيح من الفاسد بالقرعة أو بتعيين البائع.

وقد قرّب الشيخ الانصاري (رحمه الله) في فرض بيعهما دفعة واحدة مع كون الإكراه على بيع أحدهما غير المعيّن صحّة كلا البيعين لانّ ما وقع خلاف ما اكره عليه(1) وهذا الكلام بِظاهره مشكل حيث يقال في الجواب: انّ ما وقع هو ما اُكره عليه وزيادة ولكن من المحتمل ان يكون مقصود الشيخ (رحمه الله) ان بيع كل واحد منهما يكفي لرفع الإكراه فبيع الآخر وقع عن رضا فهو صحيح كما انّ بيع الآخر كان كافياً لرفع الإكراه فبيع غيره وقع عن رضا فهو صحيح وبذلك تتضح صحّة كلا البيعين إلّا انّه يرد على ذلك انّ بالإمكان افتراض انّه لم يكن له داع إلى بيع الثاني لو لا اكراهه على بيع أحدهما فالذي دعاه إلى بيع الثاني انّما هو بيعه لأحدهما المكره عليه وعندئذ فبيع أحدهما هو الدافع للإكراه والثاني اختياري.

ومن هنا يخطر بالبال القول بصحّة أحد البيعين وبطلان الآخر وتكون صحّة أحد البيعين من سنخ بيع الكليّ في المعين ولهذا اختار السيد الخوئي انّ التعيين بيد البائع من دون حاجة إلى القرعة واستثنى من ذلك ما إذا باع أحدهما من مشتر والآخر من مشتر آخر كما إذا باع من شخصين ببيع واحد بناء على صحّة ذلك فهنا لا يمكن إعطاء التعيين بيد البائع لانّ كلا من المشتريين يريد صحّة شرائه ولا


(1) المكاسب 1: 121.

52

تعين لأحدهما فلا بدّ من القرعة(1).

أقول: إنّ بيع الكليّ في المعين انّما يكون أمر التعيين فيه بيد البائع لانّ البيع وقع على الكليّ فالمشتري لا يستحقّ على البائع إلّا بمقدار الجامع فللبائع الخيار في تسليم الجامع ضمن أي فرد شاء أمّا في ما نحن فيه فقد وقع البيع الواحد على جزئيين والمفروض انحلاله إلى فاسد في أحدهما وصحيح في الآخر ولا تعين للصحيح من الفاسد.

ومن هنا يخطر بالبال بطلان كلا البيعين لاستحالة حصول النقل والانتقال بلحاظ أحدهما غير المعين حتى في الواقع.

وذكر السيّد الإمام (رحمه الله) حلّين لهذا الإشكال(2) بعد البناء على كون هـذا النحو من التملّك أمراً عقلائياً فانّه إذا قال: «وهبتك أحد هذين» فقبِل صحّ عرفاً.

الأوّل ـ انّ التمليك والتملّك وقع على عنوان أحدهما القابل للانطباق البدلي وهو غير مردّد ولا مبهم ويرجع في التعيين إلى القرعة ونحوها.

والثاني ـ ان يقال: إنّ للعقد سببية ناقصة وتتمّ بالقرعة قال (رحمه الله): وهذا أوجه من الوجه الأوّل لانّ الوجه الأوّل لا يخلو من إشكال.

أقول: لعل نظره في الإشكال على الوجه الأوّل انّه بعد أن لم يكن البائع قد قصد تمليك عنوان أحدهما لم يكن فرض عروض الملكية على هذا العنوان عرفياً وهذا بِخلاف ما لو قال ابتداءً بعتك أحدهما أو قال وهبتك أحدهما وأقول: لو رجع الأمر بأيِّ وجه من الوجوه إلى تمليك هذا العنوان الكليّ إذن صحّ كلام السيد


(1) راجع المحاضرات 2: 265.

(2) راجع كتاب البيع 2: 77 ـ 78.

53

الخوئي الذي مضى وهو انّه لا حاجة في مقام التعيين إلى القرعة بل يكون أمر التعيين بيد البائع.

وعلى أيّة حال فالمختار في المقام للسيد الإمام (رحمه الله) لحلّ الإشكال هو الوجه الثاني قال: وبهذا الوجه يمكن أيضاً رفع الإشكال العقلي عن بعض موارد الروايات كما ورد فيما لو أسلم كتابيّ عن أكثر من أربع أو عقد مسلم على خمس أو على اختين(1).

وأمّا الإشكال في تعيين الصحيح من الفاسد بالقرعة بانّ القرعة مخصوصة بماله تعين في الواقع وفي المقام ليس الأمر كذلك فقد ردّ عليه السيد الإمام (رحمه الله)بانّ القرعة ليست مخصوصة بذلك بل موردها اعمّ من فرض التعين في الواقع وعدمه كما يظهر من بعض الأخبار وهو (رحمه الله) يشير بذلك إلى ما يكون من قبيل:

1 ـ ما ورد في مَن نذر عتق أوّل مملوك يملكه فملك أكثر من واحد فقد ورد انّه يعيّن ما يعتقه بالقرعة(2).

2 ـ وما ورد في وصية الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بعتق ثلث مماليكه بعد وفاته من انّه أقرع بينهم واعتق الثلث(3).

أقول: إنّ هذه الأحاديث انّما تحمل على قضية أخلاقية وذلك لوضوح انّه يكفي في العمل بالنذر ان يعتق أي فرد شاء ويكفي في العمل بالوصية عتق الوصي


(1) راجع الوسائل 14: 367 ـ 368، الباب 25 من أبواب ما يحرّم بالمصاهرة، والباب 4 و 6 ممّا يحرم باستيفاء العدد 403 ـ 404.

(2) راجع الوسائل 16: 59، الباب 57 من أبواب العتق.

(3) الوسائل 13: 465، الباب 75 من أبواب الوصايا.

54

ايّاً منهم شاء بقدر ثلثهم فالقرعة في هذه الموارد تحمل عرفاً على قضية أخلاقية لكي لا يتأذّى بعض المماليك نفسيّاً على أثر ترجيح غيره عليه بلا مرجّح على انّ الحديث الأخير لم يشتمل على الأمر بالقرعة حتى يتوهّم منه الوجوب.

ويؤيد الحمل على القضية الأخلاقية ما ورد في روايات من نذر عتق أوّل مملوك له فملك أكثر من واحد من رواية تدلّ على كون الناذر مخيّراً في عتق ما أراد(1) وإن كانت الرواية ضعيفة سنداً على انّنا لو حملنا هذه الروايات على وجوب القرعة في موردها لا يمكن التعدّي منها إلى المقام لإثبات نكتة إضافية وهي كون القرعة متمّمة للسبب الناقص للملكية كما فرضه (رحمه الله).

وأمّا إطلاقات القرعة للأمر المشكل فهي أيضاً لا تثبت كون القرعة متمّمة للسبب الناقص للملكية إذ لا مشكلة في افتراض بقاء السبب الناقص على نقصه وبالتالي عدم حصول المسبب وهو الملكية حتى يتمسّك بكون القرعة لكل أمر مشكل؟! هذا لو كان لدينا إطلاق من هذا القبيل أمّا لو قلنا إنّ الإطلاق انّما ورد في كون القرعة لكل أمر مجهول فهذا لا يشمل إلّا فرض وجود تعيّن للأمر في الواقع كما هو واضح.

هذا والحقّ في المقام انّه لو قلنا بانّ الارتكاز العقلائي يقبل صحّة أحد البيعين في مورد بطلان أحدهما غير المعين حتى في الواقع فهذا يعني انّ العرف يرى انّ الملكية حصلت على عنوان أحدهما الجامع رغم انّ البائع لم يقصد ذلك وانّما قصد بيع هذا وذاك على التعيين وعندئذ يتم كلام السيد الخوئي من انّه لا داعي إلى القرعة بل أمر التعيين يكون بيد البائع ولو لم نقل بذلك إذن يتعين


(1) الوسائل 16: 59، الباب 57 من أبواب العتق، الحديث 3.

55

بطلانهما معاً كما اختاره الشيخ الاصفهاني (رحمه الله) حيث ذكر: انّ أحدهما باطل ولاتعين للصحيح منهما فيبطلان معاً قال ولا يعكس الكلام علينا بان يقال: أحدهما صحيح ولا تعين للباطل منهما فيصحّان معاً فان حصول النقل والانتقال هو الذي يكون بحاجة إلى دليل أمّا الحكم بالبطلان فيكفيه انّنا لم نستطع الحكم بصحّة أحدهما لعدم تعيّنه في الواقع(1).

هذا. وذكر المحقّق الخراساني (رحمه الله) في المقام: انّه لو اكره على بيع أحد الأمرين ولم يكن يرغب في بيع الثاني لولا بيعه مكرهاً للأوّل أي كان هناك ارتباط بين البيعين في رغبته النفسية إذن فالإكراه قد سرى إلى كلا البيعين وبطلا معاً حتى فيما إذا كان الإكراه على بيع أحدهما المعيّن وضمّ المكرَه الثاني إليه باعتبار ما في نفسه من الترابط بين البيعين وعدم رغبته في بقاء الثاني وحده لديه بل لا يبعد ذلك فيما إذا باعهما تدريجاً أيضاً ففي كل هذا قد باع البيعين عن إكراه لما هو المفروض من الترابط بينهما في رغبته النفسية(2).

إلّا انّ هذا الكلام في غير محله فان الإكراه لم يكن إلّا على أحدهما ومجرّد انجرار بيعه إلى الرغبة في بيع الآخر الذي لم يكن يرغب في بيعه في ذاته وانّما رآى نفسه مضطراً إليه بعد أن كان البيع الأوّل مفروضاً عليه لا يوجب صدق الإكراه وغاية ما في الباب فرض صدق الاضطرار وهو غير مبطل للمعاملات.

وقد يقال(3) إنّ الاضطرار أيضاً مبطل للبيع وانّما كان في الفروض المتعارفة


(1) راجع تعليقته على المكاسب 1: 125.

(2) راجع تعليقته على المكاسب: 50.

(3) كما عن السيد الإمام (رحمه الله) في خصوص ما إذا كان الإكراه على أحدهما غير المعين وباعهما دفعة واحدة وكان بيع الثاني عن اضطرار جرّه إليه بيع الآخر إكراهاً.

56

غير مبطل لانّ الإبطال كان خلاف الامتنان أمّا في المقام فهو وفق الامتنان ولذا لوعرف بطلان البيعين ورجوع العينين إليه سرّه ذلك إذن فكلا البيعين في المقام باطل أحدهما بالإكراه والآخر بالاضطرار.

ويردّ عليه: انّ امتنانية بطلان البيع الثاني في المقام نتيجة الاضطرار بل نتيجة انكشاف الخلاف حيث انّه كان يعتقد انّ أحد الفردين قد خرج من يده ولو ظلماً وإكراهاً ورآى انّ الفرد الآخر وحده لا ينفعه مثلا فاضطرَّ إلى بيعه وبعد ما انكشف له إرجاع الفرد الأوّل إليه بسبب سلطان عادل مثلا يسرّه إرجاع الفرد الثاني أيضاً وهذا نظير من اعتقد مرض ابنه فاحسّ بالاضطرار إلى بيع داره للحصول على مال يداوي به ابنه ثم انكشف بعد البيع انّ ابنه ليس مريضاً وعندئذ لو حكم له ببطلان البيع لسرّه ذلك أفهل يقال هنا ببطلان البيع بحكم رفع ما اضطرّوا إليه باعتبار انّ بطلانه امتنانيّ في المقام؟!

وفصّل السيد الخوئي في موارد بيع العينين دفعة واحدة إذا كان الإكراه على بيع أحدهما لا بعينه بين ما لو كان لانضمام كل من العينين إلى الاُخرى دخل في مالية الآخر كفردي النعال أو مصراعي الباب فيبطل البيعان معاً لاستنادهما إلى خوف الضرر أمّا ضرر الجائر مباشرة أو ضرر بقاء الفرد الآخر بلا راغب الذي هو أيضاً نتيجة عمل الجائر وما لو لم يكن لأحدهما دخل في مالية الآخر من قبيل فرسين فهنا يصحّ أحد البيعين ويبطل أحدهما(1).

أقول: يردّ عليه:

أوّلا ـ انّه في مثال الفرسين إن لم نفترض تضرره ببقاء أحدهما عند بيع الآخر


(1) المحاضرات 2: 264.

57

صحّ إذن ما قرّبه الشيخ الانصاري من صحّة كلا البيعين لانّ كل واحد منهما كان كافياً لإشباع رغبة المكرِه فالآخر صدر منه عن رضا وهذا صادق في كلا الفرسين إذن فقد صحّ كلا البيعين وإن فرضنا تضرّره بذلك لم يبق فرق بين مثال الفرسين ومصراعي الباب أو فردي النعال فالمفروض به أن يقول بالبطلان في الكل لانّ كلا البيعين نتجا عن خوف ضرر مستند إلى الجائر سواء كان هو ضرر البطش عليه من قِبَل الجائر أو ضرر بقاء أحد الفردين عنده منفصلا عن الفرد الآخر.

وثانياً ـ انّه لو كان خوف الضرر مبطلا ما دام مستنداً إلى إكراه المكرِه ولو على شيء آخر ولذا حكم ببطلان البيعين في المقام للزم من ذلك انّه لو اكرهه على دفع مال فباع بيته خوفاً من ضرر المكرِه ثم تبيّن انّه كان يمتلك ذاك المبلغ بطل البيع في حين انّه لا يفتي بذلك والواقع انّ الرضا موجود ولو بدافع الخوف والاضطرار غير مرفوع لان الامتنانية نشأت من الجهل لا من الاضطرار كما مضى.

وأمّا الاختلاف بالنقيصة فمن قبيل ما لو اكرهه على بيع الفرسين فباع أحدهما فان فعل ذلك بقصد التدرّج أي أنّه ناو لبيع الفرس الثاني بعد ذلك معتقداً انّ المكرِه لم يقصد خصوص بيعهما دفعة فالبيع باطل بلا إشكال وان فعل ذلك عن طوع ورضا بعدما لم يكترث بإكراه المكرِه ولذا لم يفعل ما أراده من بيع كلا الفرسين فالبيع صحيح بلا إشكال وان فعل ما فعل برجاء اكتفاء المكرِه بهذا المقدار ورفع يده عن الإكراه على بيع الفرس الثاني فهذا بيع صادر عن إكراه ويكون باطلا.

نعم ذكر الشيخ الانصاري (رحمه الله): انّ في سماع دعوى ذلك من قبل البائع مع عدم الامارات نظراً(1).


(1) راجع المكاسب 1: 121، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

58

ويرد عليه: انّ الإكراه على البعض ثابت ضمن الإكراه على الكل فحال بيعه للبعض هو حال ما لو باع الكل واحتملنا رضاه صدفة.

نعم لو فرض كون إكراه المكره على الأبعاض بشرط شيء فكل واحد من الأبعاض ليس مطلوباً له لولا البعض الآخر فالإكراه كان على المجموع من حيث المجموع لا على الجميع فهنا لا يكون بيع البعض صادراً عن إكراه لانّه يباين ما اُكره عليه وهذا داخل في ما سيأتي الآن إن شاءالله من القسم الثالث وهو الاختلاف بالتباين.

وأمّا الاختلاف بالتباين فمن قبيل ما لو أكرهه على بيع كتابه فباع رداءه فإن كان ذلك بطوع رغبته بلا علاقة له بإكراه المكرِه صحّ البيع بلا إشكال وإن كان ذلك برجاء قناعة المكرِه بذلك ورفع يده عن إكراهه على بيع الكتاب فالبيع باطل لا بالإكراه بل بعدم الطيب وهنا يصحّ القول بانّ دعوى البائع ذلك لا تسمع بلا قرينة تدل على ذلك.

لحوق الرضا بالعقد بعد الإكراه:

الفرع الثالث ـ لو رضي المكرَه بعد إيقاع العقد قالوا صحّ العقد ويمكن النقض عليه بسائر الشروط فمثلا لم يقل أحد انّ بيع الصغير إذا أعقبه البلوغ أصبح تاماً لانّه لم يكن يعوزه عدا شرط البلوغ وقد حصل فلماذا يقال في الرضا الذي هو شرط من الشروط انّ لحوقه المتأخر كاف في صحّة العقد فأي فرق بينه وبين باقي الشروط؟!

كما يمكن إثبات البطلان بالحلّ بانّ دليل شرطية الرضا ظاهره الشرطية المقارنة خصوصاً قوله تعالى: ﴿لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلّا أن تكون

59

تجارة عن تراض﴾(1) فانّ عن النّشوية تدل على ضرورة نشوء التجارة عنتراض ولا يكفي في صدق هذا العنوان لحوق الرضا.

وبان دليل مانعية الإكراه وحديث رفع ما اكرهوا دلّ على انّ الإكراه قد أبطل العقد وتصحيحه مرة اُخرى بالرضا المتأخّر بحاجة إلى دليل جديد ولم يرد.

وان ورد دليل في الفضولي بصحّة العقد بلحوق الرضا لم يمكن قياس عقد المكره بذلك لاحتمال الفرق بانّ عقد الفضولي نشأ استناده إلى المالك عن الرضا فصدق عنوان نشوء التجارة عن تراض في حين انّ تجارة المكره لم تنشأ عن رضا وانّما لحقه الرضا متأخّراً فصحّة عقد الفضولي بالرضا والإمضاء ثابتة بمقتضى القاعدة حتى لو لم يكن هناك نصٌّ يدل على صحّته وهذا بخلاف عقد المكرَه.

وأجاب الشيخ الانصاري (رحمه الله) عن الآية بانّ الاستثناء منقطع تام فلا يدلّ على الحصر.

وعن حديث رفع الإكراه بوجهين: (الأوّل) ان حديث الرفع امتنانيٌّ ولا امتنان في إبطال الحكم بوقوف العقد على الرضا. (والثاني) انّ الحكم بوقوف العقد على الرضا متفرّع على الإكراه فلا يرتفع بحديث رفع الإكراه.

ثم أورد إشكالا قد توهم عبارته انّه إشكال على الوجه الثاني واظن انّ المقصود هو الإشكال على كلا الوجهين وهو: انّ وقوف العقد على الرضا حكم جديد والحكم الأوّلي للعقد وهو النفوذ المستفاد من مثل ﴿اوفوا بالعقود﴾ قد ارتفع بحديث رفع الإكراه والحكم الجديد بحاجة إلى دليل جديد وهو مفقود.

ثم أصبح (رحمه الله) بصدد حلّ الإشكال بلحاظ حديث الرفع ببيان آخر وهو انّ


(1) النساء: 29.

60

دليل ﴿أوفوا بالعقود﴾ أو ﴿أحل الله البيع﴾ قد قيّده. أوّلا بالأدلّة الأربعة بالرضامن دون ثبوت قيد التقارن وبعد ذلك لم يبق مجال للتمسّك بحديث الرفع لانّ حديث الرفع هل يرفع أثر ذات البيع أو يرفع أثر مجموع البيع والرضا المتأخّر؟! فان فرض الأوّل قلنا إنّ ذات البيع لا أثر شرعي له وانّما الأثر الشرعي يترتّب على مجموع البيع والرضا حسب الفرض نعم هنا أثر عقلي منتزع من ذلك وهو كون ذات البيع جزء سبب لحصول النقل والانتقال وحديث الرفع لا يشمل الآثار العقليّة وان فرض الثاني قلنا: إنّ مجموع البيع والرضا المتأخّر يستحيل طروء الإكراه عليه(1).

أقول: وقد يعترض على الشيخ (رحمه الله) بانّه لو لم يبق مجال بعد هذا البيان للتمسّك بحديث رفع الإكراه إذن فقد بطل استدلاله في مستهلّ بحث الرضا ومبطليّة الإكراه بحديث الرفع على المقصود وكان ينبغي له الاقتصار في الاستدلال على ذلك بمثل آية التجارة عن تراض.

ولكن بالإمكان ان يقال: انّه يكفي في نظام المحاورة لصحّة الاستدلال بدليلين أن يكون أحد الدليلين صحيحاً بعد فرض التنزّل عن الدليل الآخر ولا يشترط كونهما دليلين عرضيين فلعلّ مقصود الشيخ (رحمه الله) في المقام كان ذلك أي انّه يقال: أولا انّ بيع المكرَه باطل بدليل ما ثبت به شرط الرضا ولو تنزّلنا عن ذلك وافترضنا عدم ورود دليل يدلّ على شرط الرضا صحّ لنا التمسّك بحديث رفع الإكراه فهما دليلان طوليّان على المقصود.

أمّا المحقّق الاصفهاني (رحمه الله)(2) فذكر بالقياس إلى جواب الشيخ الانصاري


(1) راجع المكاسب 1: 122.

(2) راجع تعليقته على المكاسب 1: 126 ـ 129.

61

عن الآية الشريفة بكون الاستثناء منقطعاً تامّاً: انّ الانقطاع لا يمنع عن إفادة الحصر بل يكون آكد في الحصر فهو يفترض انّ الشيء الذي كان يترقّب دخوله في المستثنى منه في الحكم ويتوهّم ذلك هو الشيء الفلاني وهو الوحيد الذي خرج حيث لم يجد ما يستثنى إلّا ما يتوهّم دخوله من قبيل ﴿سجد الملائكة كلّهم اجمعون إلّا أبليس﴾(1) ونظيره ما يفترض دخوله تأكيداً ومبالغة حيث لم يجب ما يستثنيه فاضطرّ إلى فرض الدخول ثمّ الإكراه فهذا أيضاً يكون أبلغ في الحصر من قبيل: فلان لا عيب فيه إلّا انّه عالم.

أقول: إنّ الانقطاع إن كان آكد في الحصر بلحاظ المستثنى منه فالتمسّك بالمستثنى منه في المقام تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية لان كون أكل المال بالبيع المكرَه عليه بعد الرضا أكلا بالباطل أوَّل الكلام فالمهم هو استظهار كون الاستثناء متصلا بان تفسّر الآية بمعنى لا تاكلوا أموالكم بينكم بكل سبب فانّه باطل إلّا ان تكون تجارة عن تراض.

وعلى أيّة حال فالمحقّق الاصفهاني (رحمه الله) يرى انّ إشكال الآية الكريمة يحل ببيان انّها وإن كانت تدلّ على كون الرضا شرطاً مقارناً للعقد لكنّ التقارن في المقام محفوظ لانّ الرضا شرط لواقع التعاقد والقرار المعاملي والذي هو مستمر إلى حين لحوق الرضا لا للألفاظ المتصرّمة التي لم تكن عدا آلة للتعاقد والقرار.

أقول: لئن سلّمنا انّ العقد أمر مستمر وليس في مثل البيع أمراً آنيّاً قلنا في المقام: إنّ التقارن لو كان مستفاداً من مجرّد دعوى ظهور دليل الاشتراط في كون الشرط شرطاً مقارناً لأمكن حل الإشكال بما ذكره من انّ الرضا وإن كان متأخّراً


(1) ص: 73 و 74.

62

لكن العقد مستمر إلى حينه فيتمّ التقارن لكنّنا لو تمسّكنا بظهور كلمة (عن) فيالآية المباركة في ضرورة نشوء العقد عن الرضا فمجرّد لحوق الرضا لا يؤمّن لنا نكتة النشوء.

وأمّا تعليق الشيخ الاصفهاني (رحمه الله) على ما ذكره الشيخ الانصاري أخيراً من انّ حديث الرفع لا مورد له في المقام إذ لو اُريد به رفع أثر ذات البيع فليس لذات البيع عدا أثرٌ عقلي وهو انتزاع كونه جزء سبب ولو اُريد به رفع أثر العقد المرضيّ فالعقد المرضيّ بوصفه مرضياً لا يطرأ عليه الإكراه فهو أن لذات البيع أثراً شرعيّاً بشرط الرضا وهو حصول النقل والانتقال أو قل انّ البيع جزء سبب أو جزء موضوع لأثر شرعي جعله الشارع وهو الملك وهذا الأثر الشرعي هو الذي يرفع بحديث الرفع.

ومن هنا ذهب (رحمه الله) إلى انّ حلّ الإشكال إذن يكمن في امتنانية حديث الرفع فيقال: إنّ دليل حلّ البيع والوفاء بالعقد لم يقيد بدليل رفع الإكراه إلّا بمقدار زمان ثبوت الإكراه لانّ هذا المقدار هو الذي كان مطابقاً للامتنان امّا بلحاظ ما بعد زوال الإكراه فالدليل الأولي للمعاملة باق على إطلاقه لعدم الامتنان في رفع الحكم بلحاظه كي يشمله حديث الرفع.

أقول: وزائداً على ذلك بالإمكان أن يقال: إنّ المستظهر من حديث رفع الإكراه بمناسبات الحكم والموضوع هو انّ رفع الإكراه ناظر إلى نكتة تضعيف الإكراه للقدرة والاختيار وهذه النكتة مفقودة في مورد اختصاص الإكراه بجزء موضوع الأثر الشرعي وبقاء الجزء الآخر تحت القدرة والاختيار الكاملين.

هذا. وأورد السيد الخوئي(1) على الكلام الأخير للشيخ الانصاري (رحمه الله) بان


(1) راجع المحاضرات 2: 272، ومصباح الفقاهة 3: 337.

63

تخصيص دليل الوفاء بالعقد بحديث الرفع يكون في عرض تخصيصه بباقي أدلّة الشرائط التي منها أدلة شرط الرضا لا في طوله فلا مبرر لتخصيصه أوّلا بتلك الأدلّة ثم قياسه إلى حديث الرفع كي يقال: لم يبق موردٌ للتمسّك بحديث الرفع لانّ ذات البيع لا أثر شرعي له والبيع المرضيّ بما هو مرضيٌّ لا يطرأ عليه الإكراه.

أقول: إنّ هذا الإشكال غريب فان حديث الرفع له الرفع حكومة على الأحكام الأوليّة بالنظر ونظره ليس إلى كل دليل على حدة وانّما ينظر إلى ذات الأحكام بجميع ما لها من قيود وشروط في ذاتها وبقطع النظر عن حديث الرفع فالحكم الذي لا يكون وفق قيوده وشروطه شاملا قبل حديث الرفع لفرض وجود الإكراه لا معنى لحكومة دليل رفع الإكراه على دليله.

هذا. وبنى السيد الخوئي(1) البحث في المقام على مسألة الرجوع إلى العام بعد انتهاء زمان المخصص وعدمه فذكر: انّ عموم ﴿اوفوا بالعقود﴾ له إطلاق أزماني خرجت منه فترة وجود الإكراه والمخصص لم يشمل ما بعد انتهاء تلك الفترة وذلك لانّ موضوع المخصّص كان هو وجود الإكراه وقد انتهى ولأنَّ إطلاقه لما بعد تلك الفترة ليس موافقاً للامتنان فإذا انتهت فترة التخصيص بأحد هذين الوجهين رجعنا إلى الإطلاق الأزماني للعام وثبت بذلك نفوذ العقد فبهذا ينتهي الإشكال الناتج عن حديث الرفع في المقام. وقد اقحم السيد الخوئي حسب ما في المحاضرات ضمن بيان الوجه الأوّل فكرة انّ واقع العقد باق إلى حين الرضا وإن كانت الألفاظ قد تصرَّمت.

أقول: بناء على كون المرجع بعد انتهاء فترة المخصص هو عموم العام


(1) راجع المحاضرات 2: 272 ـ 274، ومصباح الفقاهة 3: 334 ـ 335.

64

ينتهي بذلك الإشكال الناتج عن حديث الرفع بلا حاجة إلى فرض انّ العقد أمر باق إلى حين الرضا فحتى بناء على انّ العقد أمر آنيّ يتم هذا البيان لكن هذا لا يؤدّي إلى الإفتاء بصحّة بيع المكره بعد الرضا ما دمنا لم نحلّ الإشكال الناتج عن دليل شرط الرضا وطيب النفس وخاصّة بلحاظ (عن) النشوية الواردة في الآية المباركة وقد تعرّض السيد الخوئي لإشكال عن النشوية في المحاضرات(1) وفي المصباح(2) إلّا انّه لم يذكر جواباً عليه في المحاضرات لدى ذكر الإشكال وأمّا المصباح فقد ذكر(3) في جوابه أمرين:

(الأوّل) انّ التعاقد مستمر إلى حين لحوق الرضا وان انتهت الألفاظ وهذا غريب فانّ هذا الجواب انّما يدفع إشكال التقارن لو كان منشأه مجرّد دعوى ظهور ذكر الشرط في كونه شرطاً مقارناً ولا يدفع إشكال ظهور كلمة (عن) في النشوء فان مجرّد لحوق الرضا مع استمرار العقد لا يحقّق عنوان نشوء العقد عن الرضا.

(والثاني) انّ الآية ظاهرة في انّ سبب الأكل منحصر في أمرين: الأسباب الباطلة والتجارة عن تراض ولا ريب في انّ الأكل بعد رضا المكرَه ليس أكلا بالباطل فيكون لا محالة من جهة التجارة عن تراض.

وقد ذكر نظير هذا الكلام في المحاضرات(4) أيضاًولكن ضمن الجواب عن


(1) المحاضرات 2: 271.

(2) مصباح الفقاهة 3: 331.

(3) المصدر السابق: 332.

(4) 2: 273.

65

إشكال حديث الرفع ولعلّه اشتباه في الكتاب فكان المقصود به هو الجواب عن إشكال الآية وعلى أية حال فهذا الكلام أيضاً غريب فان فرض عدمِ كون الأكل في المقام أكلا بالباطل مصادرة على المطلوب ولو كنّا نعلم انّه ليس باطلا لم نكن نحتاج إلى هذا البحث.

وأمّا ما أشرنا إليه في مستهل البحث من النقض بسائر الشروط وانّه لماذا لا يكون لحوق شرط آخر مفقود حيث العقد موجباً لصحّة العقد ويكون خصوص الرضا لحوقه موجباً لصحّته لدى فقدانه حين العقد فلم أرَ من الأصحاب بحدود فحصي الناقص من تعرّض له.

والصحيح: انّ عقدة البحث شيء واحد إذا انحلّت انحلّ الإشكال النقضي والحليّ معاً.

وتوضيح ذلك: انّه هل المقصود بلحوق الرضا المصحّح لعقد المكرَه مجرّد حصول الحالة النفسية المسمّاة بطيب النفس؟ أو المراد هو الإمضاء والإجازة وهو نوع إنشاء يصدر من الإنسان إذا طابت نفسه بالعقد؟ فإن كان المقصود هو الأوّل فحال الرضا حال سائر الشرائط لا يكفي مجرّد لحوقه لصحّة العقد فان ظاهر دليل الشرط بطبعه هو الشرط المقارن وخاصّة بلحاظ ما يستفاد من كلمة (عن) النشوية في المقام وبيع الفضولي أيضاً لا يصح بمجرّد لحوق الرضا بمعنى طيب النفس.

وإن كان المقصود هو الثاني فهو أمر صحيح وكل الإشكالات تنحلّ في المقام وفي الحقيقة يتمّ العقد بضمّ الإجازة من أحد الطرفين إلى إنشاء الطرف الآخر إذا كان العاقد الآخر أصيلا وغير مكرَه وبضمّها إلى إجازة الآخر إن كان العاقد الآخر أيضاً فضولياً أو مكرهاً فهذا في الحقيقة انتساب جديد للعقد إليه بما

66

هو راض ويكفي تقارن الرضا بهذا الانتساب وكذلك يكون هذا تجارة جديدة نشأت عن تراض ولم تكن مكرهاً عليها ويشترط فيها بقاء الطرف الآخر واجداً للشرائط العامّة للعقد إلى حين لحوق الإجازة وهنا أيضاً لا فرق بين الرضا وسائر الشرائط فعقد الصبي مثلا لو لحقه البلوغ صحّ العقد بإمضائه بعد البلوغ لما صدر منه قبل البلوغ نعم لو كان فقدان الشرط في حين العقد بنحو بحيث يؤدّي إلى عدم تحقّق عقد فعندئذ لا مصبّ للإجازة وذلك كما في فرض الجنون بمستوى مانع عن تحقّق العقد القلبي من أساسه.

وبهذا البيان الذي شرحناه يتّضح ان قياس باب الإكراه بباب الفضولي ليس قياساً مع الفارق.

وقد يقال: إنّ الفرق بينهما هو انّه في باب الفضولي تكون الإجازة من شخص آخر غير الذي أجرى العقد فالعقد لم يكن منتسباً إليه قبل الإجازة وانّما انتسب إليه بالإجازة وأمّا في المقام فالعقد كان منتسباً إلى المكرَه قبل رضاه ولا يتكرّر انتساب فعل إلى شخص مرتين فبعد الرضا لا يوجد انتساب جديد للعقد إليه بوصفه راضياً مثلا إذن فلا مبرّر لصحّة العقد لانّه حينما وقع لم يكن راضياً وحينما رضى لم ينتسب العقد إليه بانتساب آخر.

والجواب: انّنا لا نقصد بانتساب العقد إليه الانتساب بالمعنى الحقيقي للكلمة لذات العقد إليه فانّ هذا لا يتمّ عندنا حتى في الفضولي على ما سيأتي شرحه إن شاء الله في محله وانّما نقصد بذلك ان انتحاله وتبنّيه للعقد والذي هو انتحال جديد حصل بالإجازة المتأخرة سواء في باب الفضولي أو في باب المكره هو موضوع للسيرة العقلائية وللإطلاقات كما سيأتي ذلك أيضاً في بحث الفضولي إن شاء الله.

67

بقي الكلام في انّ الإجازة بعد انتهاء الإكراه هل هي كاشفة أو ناقلة؟ ونحن نختصر الكلام في ذلك محيلين التفصيل إلى بحث الفضولي فنقول:

لا إشكال ولا ريب في انّ الكشف سواء فرض حقيقة أو حكماً فهو خلاف أصالة عدم ترتيب الآثار فلا بُدَّ من الالتزام بالنقل ما لم يثبت خلافه بدليل.

كما لا ينبغي الإشكال في عدم استحالة الكشف الحقيقي لا لانّ الشرط يؤوّل من كونه هو الرضا إلى كونه هو التعقّب بالرضا فراراً من إشكال الشرط المتأخر مثلا بل لانّ الشرط في مفهومه الفقهي ليس عدا تضييق لدائرة الجعل وهذا ممكن حتى بلحاظ الشرط المتأخر على تفصيل وتحقيق موكول إلى محله في علم الاُصول.

وهناك وجهان لإثبات الكشف:

الأوّل ـ هو التمسّك بروايات خاصّة سنبحثها إن شاء الله في بحث الفضولي وهي لو تمّت سنداً ودلالة فانّما هي واردة في مورد الفضولي فالتعدّي منه إلى المقام يحتاج إلى القطع بعدم الفرق أو عدم احتمال العرف للفرق بحيث يؤدّي إلى ظهور للكلام في إطلاق الحكم للمقام في حين انّه قد يدّعى ان احتمال الفرق موجود باعتبار انّ القطعة الزمنية السابقة في مورد الفضولي انّما كان العيب فيها هو عدم استناد العقد إلى المالك ولكن العيب في ما نحن فيه بالنسبة لتلك القطعة الزمنية هو الكراهة وإرغام الأنف بالنسبة للمالك وهذا اشدّ عرفاً من الأوّل فهذا يشبه الردّ والأوّل يشبه مجرّد عدم الإمضاء وهذا ممّا يحتمل عرفاً كونه فارقاً.

والثاني ـ هو دعوى انّ الكشف موافق لمقتضى القاعدة وذلك لانّ الإجازة إجازة لما وقع وما وقع هو التمليك من ذاك الحين فإن كان دليل على نفوذ الإجازة فمقتضى القاعدة تحقّق الُمجاز وهو التمليك من ذاك الحين.