134

قال وإن احتلم ولم يكن له عقل لم يدفع إليه شيء أبداً. ورواه أيضاً حسن بنسماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام)(1).

وكلاهما تام سنداً.

ما دلّ على كفاية الرشد:

وتوجد في مقابل هذه الروايات روايات اُخرى قد يستفاد منها كفاية الرشد في جواز التصرّف بلا حاجة إلى بلوغ سن التكليف من قبيل:

1 ـ ما مضى عن العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن اليتيمة متى يدفع إليها مالها؟ قال: إذا علمت انّها لا تفسد ولا تضيّع فسألته إن كانت قد تزوّجت فقال: إذا تزوّجت فقد انقطع ملك الوصي عنها(2). والسند تام.

2 ـ ما رواه الصدوق بإسناده عن اصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) انّه قضى أن يحجر على الغلام المفسد حتى يعقل(3).

3 ـ روايات تجويز بعض التصرّفات لبعض الصبيان بناء على حملها على كون المقصود انّ تصرّفاته تنفذ بقدر عقله ورشده من قبيل:

أ ـ رواية عبد الرحمان بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيته(4). والسند تام.

ب ـ رواية زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا اتى على الغلام عشر سنين فانّه يجوز له في ماله ما اعتق أو تصدّق أو أوصى على حدّ معروف وحق فهو


(1) الوسائل 13: 433، الباب 45 من كتاب الوصايا، الحديث 5.

(2) الوسائل 13: 432، الباب 45 من كتاب الوصايا، الحديث 1.

(3) الوسائل 13: 142، الباب 1 من أبواب الحجر، الحديث 4.

(4) الوسائل 13: 429، الباب 44 من كتاب الوصايا، الحديث 3.

135

جائز(1). والسند تام.

ج ـ رواية عبد الرحمان بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا بلغ الصبي خمسة أشبار أكلت ذبيحته وإذا بلغ عشر سنين جازت وصيته(2). وفي سند الحديث سند الشيخ الطوسي إلى علي بن الحسن بن فضال.

د ـ رواية أبي بصير وأبي أيّوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الغلام ابن عشر سنين يوصي قال: إذا أصاب موضع الوصية جازت(3). وفي السند أيضاً سند الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضال.

هـ ـ رواية منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن وصية الغلام هل تجوز؟ قال: إذا كان ابن عشر سنين جازت وصيته(4). وسند الحديث كالسابق.

و ـ ورواية جميل بن دراج عن أحدهما (عليهما السلام) قال: يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل وصدقته ووصيته وإن لم يحتلم(5)، والسند هكذا ورد في الوسائل نقلاً عن التهذيب إلّا انّه في التهذيب قد ورد جميل بن دراج عن محمّد بن مسلم عن أحدهما(6). وعلى أيّة حال فالسند صحيح.


(1) الوسائل 13: 429، الباب 44 من كتاب الوصايا، الحديث 4، و 321، الباب 15 من أبواب الوقوف، الحديث 1، و 16: 58 مع حذف الوصية، الباب 56 من أبواب العتق، الحديث 1.

(2) الوسائل 13: 429، الباب 44 من كتاب الوصايا، الحديث 5.

(3) و (4) الوسائل 13: 430، الباب 44 من كتاب الوصايا، الحديث 6 و 7.

(5) الوسائل 13: 321، الباب 15 من أبواب الوقوف، الحديث 2.

(6) التهذيب 9: 182، الحديث 733.

136

ز ـ رواية عبيد الله الحلبي ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن صدقة الغلام ما لم يحتلم قال: نعم إذا وضعها في موضع الصدقة(1). والسند تام.

ح ـ رواية محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنّ الغلام إذا حضره الموت فأوصى ولم يدرك جازت وصيته. لذوي الأرحام ولم تجز للغرباء(2). والسند تام.

ويمكن حمله جمعاً وتقييداً على من كان سنّه أقل من عشر سنين وانّ الوصية لذوي الأرحام أقرب إلى الرشد منها للغرباء.

ط ـ رواية أبي بصير المرادي عن أبي عبد الله (عليه السلام) انّه قال: إذا بلغ الغلام عشر سنين وأوصى بثلث ماله في حق جازت وصيته وإذا كان ابن سبع سنين فأوصى من ماله باليسير في حق جازت وصيته(3). والسند تام.

ي ـ رواية سماعة قال: سألته عن طلاق الغلام ولم يحتلم وصدقته فقال: إذا طلّق للسنة ووضع الصدقة في موضعها وحقها فلا بأس وهو جائز(4). والسند تام.

ك ـ رواية ابن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) رواها في الوسائل(5) عن الكافي هكذا: عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمّد بن الحسين عن عدّة من أصحابه (بنا خ ل) عن ابن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يجوز طلاق الغلام


(1) الوسائل 13: 321، الباب 15 من أبواب الوقوف والصدقات، الحديث 3.

(2) الوسائل 13: 428، الباب 44 من كتاب الوصايا، الحديث 1.

(3) الوسائل 13: 428 ـ 429، الباب 44 من كتاب الوصايا، الحديث 2.

(4) الوسائل 15: 325، الباب 32 من أبواب مقدّمات الطلاق، الحديث 7.

(5) الوسائل 15: 325، الباب 32، من أبواب مقدّمات الطلاق، الحديث 5.

137

ووصيته وصدقته إن لم يحتلم.

قال صاحب الوسائل: وفي نسخة يجوز وكذا في رواية الشيخ.

أقول: على النسخة الاُولى يكون مخصوصاً بما دون العشر سنين وعلى الثانية بها وبما فوقها.

وعن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد ومحمّد بن الحسين جميعاً عن ابن فضال عن ابن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله. انتهى ما في الوسائل.

وهذا الحديث من حيث السند تام فانّ السند الأوّل وإن كان ضعيفاً(1) ولكنّ السند الثاني تامّ ورواه صاحب الوسائل عن الكافي كما عرفت. وكذلك هو موجود


(1) منشأ الضعف إمّا أن يكون على أساس عدم معرفة العدّة الذين ينقل عنهم محمّد بن الحسين وهذا قد يمكن الجواب عليه بانّ نقل محمّد بن الحسين عن عدّة يورث الاطمئنان وإمّا أن يكون على أساس سهل بن زياد وهذا انّما يتم بناء على التعبير الوارد في الكافي وفي الوسائل من عبارة: «عن سهل بن زياد عن محمّد بن الحسين الخ» إمّا عبارة الشيخ في التهذيب والاستبصار فكما يلي: «محمّد بن يعقوب عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد وعن محمّد بن الحسين عن عدّة من أصحابنا عن ابن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام)» وهذا معناه وجود محمّد بن الحسين في عرض سهل بن زياد وهذا يعني عدم ابتلاء السند بالضعف من ناحية سهل بن زياد.

إلّا انّ الذي يبدو لي انّ نقل الكافي اضبط لانّ قوله في التهذيب والاستبصار: «وعن محمّد بن الحسين» إن كان عطفاً على قوله عن عدّة من أصحابنا، ورد عليه انّ الكليني لا ينقل مباشرة عن محمّد بن الحسين.

وإن كان عطفاً على قوله عن سهل بن زياد فالمتعارف حذف كلمة «عن» أي كان المفروض ان يقول: «عن سهل بن زياد ومحمّد بن الحسين».

138

في الكافي(1) ويأتي بعده مباشرة في الكافي حديث بشأن الطلاق فحسب وهوكما يلي: علي بن ابراهيم عن ابيه عن ابن أبي عمير عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: [لا] يجوز طلاق الصبي إذا بلغ عشر سنين.

ولكنّ الشيخ(رحمه الله) في التهذيب(2) نقل عن الكليني لرواية ابن بكير السند الأوّل فحسب، وأمّا السند الثاني فجعله(3) للحديث الثاني الذي جاء في الكافي مباشرة بعد الحديث الأوّل حاذفاً سند الحديث الثاني الوارد في الكافي. وكذلك الحال في الاستبصار(4).

ولعلّ نسخة الكافي التي كانت لدى الشيخ الطوسي (رحمه الله)كانت كلمة (مثله) بعد السند الثاني ساقطة منه وكذلك سند الحديث الثاني كان ساقطاً فأصبح السند الثاني للحديث الأوّل سنداً للحديث الثاني وتطابق نقل صاحب الوسائل لما بين أيدينا من نسخة الكافي مع بعد زيادة سطر كامل، مع أضبطية الكليني كل هذا يشهد لكون الصحيح هو هذه النسخة، لا النقل الذي ورد في التهذيب. هذا كله من حيث السند.

وأمّا من حيث المتن فهو حسب ما ورد في الوسائل هكذا: «لا يجوز [وفي نسخة يجوز] طلاق الغلام ووصيته وصدقته إن لم يحتلم» وكلمة (إن لم يحتلم) تشهد لكون الصحيح هو نسخة (لا يجوز) إذ مع كلمة (يجوز) كان المناسب أن يقول: «وإن لم يحتلم».


(1) الكافي 6: 124، باب طلاق الصبيان، الحديث 4.

(2) التهذيب 8: 76، الحديث 257.

(3) في التهذيب 8: 75 ـ 76، الحديث 254.

(4) راجع الاستبصار 3: 302 ـ 303، الحديث 1072 و 1075.

139

وأمّا حسب ما ورد في الكافي فكما يلي:

«[لا] يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل ووصيته وصدقته وإن لم يحتلم» ووجود الواو في جملة (وإن لم يحتلم) دليل على انّ الصحيح هو نسخة يجوز وأنّ (لا) زائدة، وتطابق التهذيب والاستبصار مع الكافي في وجود (الواو) يقوي احتمال صحّة وجود (الواو) وبالتالي يقوي احتمال زيادة (لا). مضافاً إلى انّ (لا) غير موجودة في التهذيب والاستبصار، وانّ الشيخ استدل بهذا الحديث على الجواز لا على عدم الجواز.

أمّا الجواب عن الاستدلال بهذه الروايات على كفاية الرشد في رفع الحجر فكما يلي:

أمّا رواية العيص بن القاسم فان قصرنا النظر على صدرها وهو قوله: متى يدفع إليها مالها؟ قال: إذا علمت انّها لا تفسد ولا تضيّع. فقد يقال: إنّه لا يدل على كفاية الرشد قبل البلوغ برفع الحجر، لانّ الرشد في البنات لا يكون عادة قبل بلوغ تسع سنين فالظاهر انّ المقصود هو الرشد الحاصل بعد البلوغ، أي انّ المقصود بيان انّ البلوغ وحده غير كاف لرفع الحجر فلا بدّ من الرشد أيضاً.

ولو فرض الإطلاق في الحديث يقيد بما دلّ على شرط البلوغ ولا أقصد بذلك التقييد بما ورد فيه قيد البلوغ فحسب حتى يدخل في البحث عن انّ نتيجة هذا التقييد هل هي اشتراط البلوغ والرشد معاً؟ أو كفاية كل واحد منهما مستقلاً سنخ ما يقال في مثل إذا خفي الاذان فقصّر وإذا خفي الجدران فقصّر؟ من انّه هل مقتضى الجمع تقييد الإطلاق الواوي أو تقييد الإطلاق الأوي مثلاً؟ بل أقصد بذلك التقييد بما دلّ على شرط البلوغ والرشد معاً كالآية الشريفة حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً... وبعض الروايات من قبيل رواية هشام بن سالم

140

عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال: انقطاع يتم اليتيم بالاحتلام وهو أشده، وإن احتلم ولم يونس منه رشده وكان سفيهاً أو ضعيفاً فليمسك عنه وليّه ماله، وغيرها من الروايات الماضية.

بل لا بأس أيضاً بالتقييد بروايات شرط البلوغ حتى غير المشتملة على شرط الرشد، لانّنا حتى إذا قلنا بشكل عام بانّ الجمع بين روايتين مشتمل كل منهما على قيد كما يمكن أن يكون بالجمع بين القيدين، كذلك يمكن أن يكون بجعل القيد هو أحدهما أو الجامع بينهما، أو فرضنا انّ الثاني أظهر ففي خصوص ما نحن فيه لا بدّ من الجمع بين القيدين بعد فرض وضوح عدم كفاية البلوغ بلا رشد لارتفاع الحجر، لبداهة ثبوت الحجر على السفيه فلا يمكن الجمع في المقام بين الطائفتين بافتراض المقياس هو الجامع بين القيد بان يكفي أحدهما لانتهاء الحجر، بل لا بدّ من الجمع بافتراض انّ المقياس هو مجموع القيدين وهما البلوغ والرشد وهذا المقصود.

هذا كلّه بناء على غضّ النظر عن ذيل رواية العيص.

أمّا إذا لاحظنا الذيل أيضاً وهو قوله: «فسألته إن كانت قد تزوّجت فقال: إذا تزوّجت فقد انقطع ملك الوصي عنها» فالظاهر انّ هذه الرواية هي من روايات عدم كفاية الوصول إلى التسع سنين للبلوغ في البنات وانّه لا بدّ من انضمام الزواج إلى ذلك كي ينقطع اليتم أمّا إذا لم ينضم إليه الزواج فالبلوغ فيها يبقى ينتظر حصول الرشد وإن تأخّر عن التسع سنين.

وعليه فالرواية اجنبية عن مسألة كفاية الرشد قبل البلوغ لزوال الحجر.

وأمّا رواية الصدوق بإسناده عن اصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام)انّه قضى ان يحجر على الغلام المفسد حتى يعقل فبغضّ النظر عن ضعف سنده لم يدلّ

141

على شيء عدا كون السفه موضوعاً للحجر، وهذا لا ينافي كون الصغر أيضاً موضوعاً له ونحن لا نؤمن بمفهوم الوصف، وكون حتى للغاية لا يستلزم نهاية الحجر بالعقل حتى في الطفل لانّ الحجر الذي جعل العقل غاية له كان موضوعه الإفساد، وهذا لا ينافي فرض حجر آخر موضوعه الصغر لا ينتهي بالعقل، وانّما ينتهي بالبلوغ، كما انّ الحجر الذي موضوعه التفليس مثلاً لا ينتهي بالعقل فحتى إذا كانت الغاية دالة على انتفاء سنخ الحكم فانّما تدلّ على انتفاء السنخ المتحد، مع هذا الشخص من الحكم في الموضوع لا على انتفاء حكم متقوّم بموضوع آخر، وليس الغلام اسماً لخصوص مَن لم يبلغ حتى يقال: إنّ الرواية دلّت على انّ الغلام الذي لم يبلغ محجور عليه حتى يعقل فيدلّ على كفاية الرشد حتى في غير البالغ في انتهاء الحجر، وإلّا لكان ذكر قيد الإفساد وغاية العقل بلا فائدة.

وأمّا الروايات المرخّصة لبعض تصرّفات الصبي حينما يعقلها فالقاسم المشترك بينها انّها ترخّص في التصرّفات الخيرية من قبيل الوصية والعتق والصدقة ولم يرد في شيء منها الترخيص في التجارة والبيع والشراء، ويظهر من بعضها انّ تصرفه الخيري انّما ينفّذ إذا أصاب موضعه وإذا كان هذا القيد مأخوذاً بعين الاعتبار في هذه الروايات فياترى مَن الذي يكون مسؤولاً عن ملاحظة وجود هذا القيد؟ لا يحتمل عرفاً كون ذاك هو الطفل نفسه، فانّ الطفل هو المتهم باحتمال عدم الرشد وعدم وضع المال في غير موضعه فليس من المترقّب أن يوكّل إليه أمر تمييز ذلك، وانّما المفهوم عرفاً من ذكر هذا القيد هو ملاحظة ذلك من قبل الكبار وأن لوليّه ان يراقبه ويشرف على عمله كي يعلم انّه وضع المال في موضعه إذن فهذه الروايات أوّلاً لم ترفع الحجر عن الصبي في التجارة والبيع والشراء، وثانياً لم تطلق يد الطفل في ماله حتى في التصرّفات الخيرية من دون

142

ملاحظة الولي وإشرافه، وكلّما تدلّ عليه هذه الروايات هو انّ الصبي لو تصرّف في ماله تصرّفاً خيرياً بحدود ما وصل إليه من الرشد ولاحظ الولي انّ هذا التصرّف في محله لم يجز له منعه عن ذلك، وهذا المقدار لا نتحاشى عنه، ونقيد إطلاقات الحجر بهذا المقدار.

هذا. وكم فرق بين هذا الأدب الإسلامي المفهوم من هذه الروايات وما يذكره الفقه الوضعي من انّه: «إذا كان الصبي مميزاً كانت تصرّفاته المالية صحيحة متى كانت نافعة نفعاً محضاً وباطلة متى كانت ضارة ضرراً محضاً. أمّا التصرفات المالية الدائرة بين النفع والضرر فتكون قابلة للإبطال لمصلحة القاصر...»(1)ومقصودهم بما يكون نافعاً نفعاً محضاً ما يكون من قبيل قبول الهبة الذي يُثرى الصغير ولا يتصوّر فيه فرض الضرر، وبما يكون ضاراً ضرراً محضاً التصرّفات المجانية كالصدقة والهبة فهذا النوع من التصرّف باطل من قبل الصغير وإجازة الولي أيضاً لا تنفعه في غير موارد مستثناة. ومرادهم بالتصرّفات المالية الدائرة بين النفع والضرر ما يكون من قبيل البيع والشراء والتجارة فهذا يبقى قابلاً للإبطال من قبل الولي أو من قبل نفسه حينما يكبر، اذن فالتصرّفات الخيرية اتعس حالاً عندهم من البيع والشراء لانّها ضارة ضرراً محضاً، في حين انّ الشريعة الإسلامية ترى انّ الإشراف الكامل للولي على الصبي المميز انّما هو في مثل البيع والشراء والتجارة، وأمّا التصرّفات الخيرية أو خصوص الصدقة والعتق والوصيّة فليس للوليّ منعه عنها إذ رأى أنّه يضعها في موضعها.

مدى بطلان معاملات الصبي:

بقي كلام في مدى إبطال معاملات الصبي بالحجر عليه فما يصدر من الصبي


(1) راجع الوسيط 1: 254 ـ 255، الفقرة 153.

143

من التصرّف في الأموال يمكن ان يقسّم إلى خمس مراتب في التدرّج من عدم الاستقلالية البحت إلى الاستقلالية البحتة وهي ما يلي:

1 ـ أن يكون الصبي مجرّد وسيلة إيصال للمتاع إلى أحد الجانبين المتعاملين أو كليهما، فحاله حال حيوان ينقل عليه المال أو حال جماد يوضع عليه المال ويحوّل بالتحريك الكهربائي مثلاً من مكان إلى مكان.

2 ـ أن يكون الصبي هو وسيلة إبراز قصد المتعاملين.

3 ـ أن يكون الصبي هو الذي يتعامل ويتجر تحت إشراف الولي وإدارته وأمره ونهيه.

4 ـ أن يكون الصبي هو الذي يتعامل ويتجر تحت إذن الولي وليس تحت إشرافه.

5 ـ أن يستقل الصبي في التصرّف والبيع والشراء تمام الاستقلال فلم يكن عمله تحت إشراف الولي ولا تحت إذنه.

ولا أقصد بالمرتبة الاُولى أن يكون عمل الصبي خارجاً نهائياً عن عملية البيع والشراء أو المعاملة، بأن يكون العقد يجريه الشخصان الكبيران والطفل ليس إلّا وسيطاً في إيصال الأمانة إلى صاحبها. وانّما أقصد بذلك افتراض أنّ المعاملة كانت معاطاتية والبائع حقّق إيصال المال إلى المشتري، والذي به يتمّ الإيجاب مثلاً عن طريق هذا الطفل سنخ تحقيقه لذلك عن طريق حيوان، وبكلمة اُخرى انّ إ براز الإرادة الكامنة في نفس العاقد كان بفعل الصبي، وفرق هذا عن القسم الثاني هو انّه في القسم الأوّل يكون المُنشِىءُ والمبرز هو الولي وإن كان إبرازه بواسطة إيصال المال إلى القابل عن طريق الطفل كما قد يوصله إليه بواسطة حيوان، وأمّا في القسم الثاني فالطفل هو المنشىء عن الولي.

 

144

وحكم القسم الأوّل واضح بداهة انّ الطفل ليس بأخسّ حالاً من الحيوان فكما تصحّ المعاطاة بالإيصال عن طريق الحيوان تصحّ بالإيصال عن طريق الطفل.

وحكم القسم الأخير أيضاً واضح فانّه القدر المتيقن من أدلّة الحجر ومنع تصرّف الطفل انّما الكلام في الأقسام الثلاثة الوسطى هل تكون مشمولة لأدلّة الحجر والمنع أو لا؟

والتحقيق: انّ أدلّة الحجر والمنع الماضية تكون بأحد تعبيرين:

الأوّل ـ التعبير بالجواز وعدمه من قبيل ما مضى من قوله: متى يجوز أمره؟ قال حتى يبلغ أشدّه.

والثاني ـ التعبير بدفع المال إليه وعدمه من قبيل الآية الكريمة ﴿حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم﴾ ورواية هشام: انقطاع يتم اليتيم بالاحتلام وهو أشدّه وان احتلم ولم يونس منه رشده وكان سفيهاً أو ضعيفاً فليمسك عنه وليه ماله.

والقسم الثاني الذي ينشىء فيه الطفل المميز للإنشاء عن وليّه ليس مشمولاً للتعبير الأوّل فانّ جواز أمره أو وصيته أو طلاقه مثلاً ليس عنواناً يصدق إلّا مع مستوى من الاستقلالية له بحيث يجوز وينفذ أمره هو من دون حاجة إلى تنفيذ الولي له بل قد يقال: إنّ العقد في مثل هذا الفرض لا يعدّ من أمر الصبي حتى يشمله دليل عدم جواز أمره وانّما يعد من أمر الولي. وكذلك ليس مشمولاً للتعبير الثاني فانّه بعد وضوح عدم إرادة الإقباض المادّي من الدفع إليه فقد يعطي الولي مال الطفل بيده ويأمره بإيصاله إيّاه إلى المأمن الفلاني وتحت إشرافه، ومن الواضح عدم دخول ذلك في النهي عن دفع المال إليه يكون المقصود من عنوان

145

الدفع إليه جعل المال تحت إدارته وهيمنته ولا علاقة لذلك بما نحن فيه. اذن يتمسّك في المقام بإطلاقات أدلّة المعاملات الدالة على صحّة العقد بالنسبة للولي فانّ هكذا عقد يستند إلى الولي بلا إشكال.

وكذلك الحال في القسم الثالث وهو تجارة الصبي بإشراف الولي وإدارته فهذا أيضاً ليس مشمولاً للعنوان الأوّل، باعتبار انّ جواز الأمر يعني نوعاً من الاستقلالية للشخص ونفوذ أمره بلا حاجة إلى تنفيذ غيره إ يّاه، وفرض الإشراف ينهي هذه الاستقلالية، ولا مشمولاً للعنوان الثاني لما عرفت من انّ المفهوم من إعطاء المال بيده بعد وضوح عدم إرادة الإعطاء الجوارحي هو جعله تحت إدارته وسلطنته، وفرض إشراف الولي عليه ينهي هذه الحالة. فهذه الأدلّة لا تدلّ على بطلان هكذا عقد فيتمسّك بإطلاقات أدلّة المعاملات بالنسبة لهذا الصبي ووجوب التزامه به بعد بلوغه، بل ان الآية الشريفة وابتلوا اليتامى ـ إلى آخره ـ تدلّ على صحّة عقد الصبي المميّز تحت إشراف الولي فانّ ابتلاء اليتيم يكون بهذا.

ولا يقال: إنّ الأمر بابتلاء اليتيم لا يلازم الحكم بصحّة معاملته فلعلّه يبتلى بجعل المعاملة والتجارة تحت يده، ثمّ يحكم ببطلان تلك المعاملة أو التجارة.

فانّه يقال: إنّ الملازمة العقلية وإن كانت غير موجودة في المقام لكن المفهوم العرفي من الأمر بإيقاع التجارة والمعاملة على يد الطفل ولو اختباراً هو صحّة تلك المعاملة أو التجارة.

وأمّا ما أفاده السيّد الإمام (رحمه الله)(1) من أنّ الآية لا تدلّ على صحّة معاملة الصبي لانّها واردة مورد بيان حكم آخر وهو إيجاب الاختبار فلا تدلّ بإطلاقها


(1) راجع كتاب البيع 2: 11.

146

على صحّة المعاملة. ويمكن فرض إيجاب اختباره بتوريطه في المعاملة والتجارة ثم الحكم ببطلان تلك المعاملة أو التجارة.

أقول: نحن لا نتمسّك بإطلاق الآية لإثبات صحّة معاملة الصبي، وانّما نتمسّك بالدلالة الالتزامية العرفية للأمر بتوريط الصبي في المعاملة على صحّتها.

والظاهر انّ السيّد الإمام (رحمه الله) ينظر إلى رد ما نقله عن أبي حنيفة من انّ الآية تدلّ بإطلاقها على ابتلاء الطفل بأي شكل ممكن، ومن أشكال الابتلاء هو توريطه في المعاملة والتجارة، فالآية بإطلاقها دلّت على ابتلاء الطفل بتوريطه في التجارة وبالتالي تدلّ على صحّة تلك التجارة فهنا يقول السيّد الإمام: إنّ الآية واردة مورد حكم الابتلاء فلا إطلاق لها لصحّة المعاملة.

أقول: إنّ ابا حنيفة أيضاً لم يتمسّك ـ في المنقول عنه ـ بإطلاق الآية لإثبات المعاملة مباشرة حتى يورد عليه بانّ الآية ليست في مقام بيان حكم الصحّة، وانّما هي في مقام بيان الأمر بالابتلاء والاختبار، وانّما تمسّك بإطلاق الآية بلحاظ نفس الأمر بالابتلاء وقال: إنّ هذا يشمل ابتلاءه بتوريطه في التجارة وإذا صحّ الأمر بتوريطه في التجارة فهذا يدلّ على صحّة التجارة. وهذا كما ترى لا يردّ عليه إشكال السيّد الإمام (رحمه الله)، نعم يرد عليه: انّه إن أراد بهذه الدلالة دعوى الملازمة العقلية بين إيجاب توريطه في التجارة وصحّتها، فمن الواضح عدم الملازمة العقلية إذ بالإمكان كما أفاد السيّد الإمام أمره بالتجارة ثم الحكم ببطلان تجارته.

وإن أراد بذلك الملازمة العرفية فلا ملازمة عرفية بين الدلالة الإطلاقية للآية على توريطه في التجارة وصحّة التجارة. نعم لو أمرت الآية بخصوص توريطه في التجارة لا ينبغي الإشكال في دلالة ذلك عرفاً على صحّتها.

147

والتحقيق أنّ الآية قد أمرت بذلك بالخصوص لا بالإطلاق فإنّ المفهوم عرفاً من الأمر بالابتلاء في مورد اختبار الرشد التجاري والمعاملي هو النظر إلى ابتلائه بالتجارة بحيث يكون تخصيصه بنحو آخر من الابتلاء غير عرفي. إذن فتتم الدلالة الالتزامية العرفية للآية على المدعى.

أمّا ما قد يقال من انّ الآية انّما دلّت على صحّة التجارة الاختبارية وهذا هو القدر الذي ادّعى أبو حنيفة فهمه من الآية لا على صحّة تجارته بإشراف الولي بعد إحراز رشده وانتهاء الاختبار فهو أمر بعيد عن فهم العرف فليس من الأمر العرفي التفصيل بين تجارته في خصوص حالة الاختبار وتجارته بعد ذلك مثلاً بإشراف الولي بصحّة الاُولى دون الثانية.

والسر في ذلك انّ حالة الاختبار ليست مستثناة من حكم الحجر المستفاد من نفس الآية المباركة، وهذا شاهد على انّ الاختبار المأمور به انّما يكون باتجار الصبي بإشراف وليه لا باتجاره المستقل عن وليه، وأنّ السر في صحّة تجارته ومعاملته هو إشراف الولي لا كون المعاملة معاملة اختبارية.

أمّا إذا أصررنا على أنّ المعاملات الاختبارية مستثناة من حكم الحجر خصوصاً بناء على انّ الاختبار في كثير من الأوقات يلازم سحب الإشراف كي يرى انّ الطفل كيف يتصرّف من دون إشراف عليه.

فعندئذ يقال: إنّ الآية تدلّ على صحّة معاملات الصبي في الجملة بنحو يمكن ان تروج في سوق المتديّنين، أمّا صحّة خصوص المعاملات الاختبارية فلا تؤدي إلى رواج معاملات الصبي في سوق المسلمين لندرة المعاملات الاختبارية فكيف يمكن عندئذ اختبار الصبي بإ يكال المعاملة إليه من دون إشراف الولي، في حين إنّ المتديّنين لا يعلمون بانّ هذه المعاملة صدفة هي من تلك النادرة كي

148

يقدمون على التعامل معه؟!

أمّا ما هو مقدار المعاملات الصحيحة الرائجة في السوق؟ فطبعاً لا إطلاق للآية في ذلك فلابدّ من الاقتصار فيه على القدر المتيقن، والقدر المتيقّن من ذلك هو معاملات الصبي بإشراف الولي.

وأمّا القسم الرابع الذي لم يعتمد الطفل فيه في معاملته على إشراف الولي وانّما اعتمد على إذنه فحسب فالظاهر بطلانه، لانّنا لئن شككنا في شمول القسم الأوّل من قسمي دليل البطلان إيّاه وهو ما ورد بعنوان عدم الجواز والنفوذ بدعوى انّ النفوذ مع الاذن لعله لا ينافي عنوان عدم جواز أمره فلا إشكال في شمول القسم الثاني إيّاه وهو ما دلّ على عدم دفع المال إليه، فانّ النهي عن دفع المال إليه الذي كان بمعنى النهي عن تسليطه إيّاه يشمل الاذن الخالي عن الإشراف حتماً، وإلّا للغى هذا النهي عرفاً إذ بإمكان كل ولي يرغب ان يدفع مال الطفل المميز إليه ان يأذنه في التصرّف كي يجوز دفع المال إليه، فمعنى النهي عن تسليط الأطفال على أموالهم هو المنع عن اذنهم بالتصرّف في الأموال من دون الإشراف عليهم.

إذن فالنتيجة هي انّ معاملات الصبي باطلة ولو كان مميزاً ورشيداً إلّا بإشراف الوليّ ولا فائدة في مجرّد الاذن.

نعم في الاُمور الجزئية أو الدوائر الضيقة من التصرّف لا يبدو كثير فرق بين الاذن والإشراف فهما يتقاربان أو يتلازمان خارجاً، فالطفل الذي أخذ توماناً من أبيه مثلاً ليشتري خبزاً واذن له أبوه بذلك فقد أشرف على عمله في نفس الوقت وكذلك الطفل الذي أخذ مبلغاً محقراً من المال من وليه ليشتري ما يشتهيه واذن له الولي من دون الاهتمام بانّه هل سيغبن في ما يشتريه أو لا، لعلمه بحقارة المبلغ على أي حال كان هذا كافياً في صدق الإشراف المقصود، وهذا بخلاف الطفل

149

الذي أخذ من أبيه مالاً لتجارة مفصّلة فاذن له أبوه من دون إطلاع على تفاصيل الأمر فهذا هو الاذن المنفصل عن الإشراف.

ولعلّ المقصود لكثير ممّن شرط إذن الولي في صحّة تعامل الصبي هو ما سمّيناه بالإشراف.

وعلى أيّة حال فقد يقال بعدم اشتراط الاذن أو الإشراف في معاملات الصبي في المحقرات وذلك تمسّكاً بالسيرة.

أقول: إن كان المقصود بالسيرة سيرة المتشرّعة فبناء على ثبوتها مستمرة إلى زمان المعصوم فالمتيقن منها هو ما كان عن اذن أو إشراف، أمّا بدون ذلك فلم يعرف عن غير اللاّمبالين في الفقه والأحكام.

وإن كان المقصود سيرة العقلاء بدعوى انّ النواهي الماضية لا تصلح للردع عنها لانّ ردعها يكون بإطلاقها للمحقرات في حين انّ سيرة عريقة وعميقة من هذا النمط لا يكفي في الردع عنها مجرّد إطلاق من هذا القبيل، بل هي بحاجة إلى ردع أقوى قلنا: أوّلاً إنّ إطلاق الأدلّة للمحقرات إطلاق قويّ مفهوم وكاف للردع عن مثل هذه السيرة.

وثانياً انّ سيرة العقلاء على التعامل مع الصبي بالنسبة لغير دائرة الاذن أو الإشراف من قبل الولي ليست سيرة عميقة الجذور في المرتكزات العقلائية بل هي أيضاً سيرة عدم المبالاة بنفس المرتكزات العقلائية، فمسألة حجر الصغير حتى في المحقرات مسألة عقلائية أيضاً كما هي شرعية، ونحن نرى انّ النظم الوضعية القائمة على أساس التشريعات العقلائية معترفة أيضاً بحجر الصغير من دون تفصيل بين الأموال الجليلة والمحقرة.

وهناك وجه آخر لإثبات جواز معاملات الصبي في المحقرات من دون

150

حاجة إلى اذن الولي أو إشرافه وهو التمسّك برواية السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن كسب الإماء فانّها إن لم تجد زنت إلّا أمَة قد عرفت بصنعة يد، ونهى عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده فانّه إن لم يجد سرق(1).

ووجه الاستدلال هو انّ المتيقن ممّن اريد بهذا الخطاب هو سيّد الأمة وولي الصبي بحيث ليس من الفهم العرفي فرض اختصاص الخطاب بغير السيّد والولي، اذن فيعلم من ذلك ان كسب الصبي لم يكن باذن وليه أو إشرافه وإلّا فلا معنى للتخوّف من فرض عدم وجدانه المؤدّي إلى إقدامه على السرقة، لانّ الولي الذي يأذن له بالكسب أو يشرف على كسبه من الطبيعي انّه يضع مالاً تحت يده كي يكتسب به رغم عدم الاذن والإشراف تفهم من الحديث صحّة معاملة الصبي، لانّه علّل النهي بتخوّف السرقة وخصّه بما إذا لم يحسن الصناعة بيده كي يؤدّي ذلك إلى تخوّف السرقة، فلو كان كسبه باطلاً من أساسه لم يناسب تعليل النهي بالتخوّف من احتمال السرقة ولا التخصيص بفرض ما إذا لم يحسن الصناعة الموجب لذاك التخوّف هذا.

إضافة إلى ما قد يقال من ان هذا النهي تنزيهيّ حفظاً لوحدة السياق بينه وبين النهي عن كسب الإماء المحمول على الكراهة بلا شك.

وأمّا وجه تخصيص الاستدلال بهذا الحديث بالمحقرات فهو انّ الحديث ليس بصدد بيان صحّة معاملات الصبي كي يتم فيه الإطلاق، وانّما هو بصدد بيان النهي عن كسبه حينما لا يحسن الصناعة بيده فإذا لم يتم فيه الإطلاق فلا بد من


(1) الوسائل 12: 118، الباب 33 من أبواب ما يكتسب به.

151

الاقتصار في إثبات صحّة معاملاته على القدر المتيقن وهو فرض كون المعاملة في المحقرات.

هذا. والوجه الأخير للاستدلال بهذا الحديث وهو كون النهي محمولاً على الكراهة وإن أمكن الإيراد عليه بانّ حفظ وحدة السياق لا ينحصر بالحمل على الكراهة، بل يكون أيضاً بحمل النهيين على الجامع بين الحرمة والكراهة، وعلمنا الخارجي بانّ الحكم الواقعي في مورد النهي الأوّل هو الكراهة لا الحرمة لا يقتضي العلم بانّه في مورد النهي الثاني أيضاً كذلك فلا دلالة للحديث بوحدة السياق على نفي الحرمة عن استفادة الولي من كسب الصبي.

ولكن يكفينا للاستدلال الوجه الأوّل وهو انّه لو كانت معاملات الصبي بلا اذن أو إشراف باطلة لما كان من المناسب تعليل ذلك بالتخوّف من احتمال السرقة، وتخصيصه بما إذا لم يحسن الصناعة بيده.

ولكن الانصاف عدم تمامية الاستدلال بهذا الحديث على المقصود بغضّ النظر عن ضعف سنده بالنوفلي وذلك.

أوّلاً ـ لانّه إذا لم يتم الإطلاق في الحديث لعدم كونه بصدد بيان صحّة معاملة الصبي ولزم الاقتصار على القدر المتيقن فبالإمكان تخصيص الحكم بالصحّة بفرض الاذن والإشراف.

أمّا القول بانّه لا يحتمل في مورد الحديث فرض الاذن أو الإشراف إذ معه لا يأتي احتمال عدم كون الصبي واجداً للمال فيسرق لانّ الولي هو الذي يضع المال تحت يده.

فمدفوع بإمكان افتراض انّ الولي اذن له في إيجار نفسه لصنع عمل يستحق به الإجرة لا في مال اعطاه إياه للبيع أو الشراء كما هو المناسب لكلمة

152

«صنـاعة بيـده» الـواردة في الحـديث كمـا نشـير إلى ذلـك أيضاً في الإشكال الثاني.

وثانياً ـ لنفترض أنّ الحديث مطلق ينظر حتى إلى فرض عدم الإذن والإشراف ولكن المقصود بكسب الأمَة والصغير في هذا الحديث هو عملهما صنعة للناس لقاء اُجرة اليد وذلك بقرينة قوله: «إلّا أمَة قد عرفت بصنعة يد» وقوله: «الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده»، ومن الواضح انّ الصغير لو عمل للناس بالاُجرة ملك اُجرة اليد حتى لو كان بغير اذن الولي وإشرافه وافترضنا بطلان الإيجار، فانّ عمل المسلم محترم على أي حال. غاية الأمر انّه مع فرض بطلان الإيجار يملك اُجرة المثل لا المسمّاة، ولو تبرّع صاحب العمل له باجرة أكثر من اُجرة المثل ملكها أيضاً بلا إشكال.

وعليه فالرواية أجنبيّة عن المقام إطلاقاً.

دعوى كون الصبي مسلوب العبارة:

وقد يقال ـ في مقابل ما اخترناه من كفاية إشراف الولي لصحّة معاملات الصبي وكذلك صحّة إنشاء الصبي وكالة عن الولي ـ: انّ الصبي مسلوب العبارة فلا تصحّ منه المعاملة والعقود بأي شكل من الأشكال، وذلك لوجود دليلين آخرين على حجره يثبتان هذا الحجر بمعناه الواسع فلئن كانت الأدلّة السابقة لا إطلاق لها لإثبات هذا المستوى من إبطال عقود الصبي فبالإمكان التمسّك بإطلاق أحد هذين الدليلين.

الدليل الأوّل ـ حديث رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم فعن ابن ظبيان قال: اُتي عمر بامرأة مجنونة قد زنت فأمر برجمها فقال علي (عليه السلام): أمَا علمتَ انّ القلم يرفع عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم

153

حتى يستيقظ؟!(1). والسند غير تام.

وفي موثقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة قال إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة فانْ احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة وجرى عليه القلم، والجارية مثل ذلك إن اتى لها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك فقد وجبت عليها الصلاة وجرى عليها القلم(2).

ولعلّ أوّل ما يخطر بالبال من الإشكال على الاستدلال بحديث رفع القلم هو أنّه لم يثبت كون المقصود رفع قلم الحكم، فلعلّ المقصود رفع قلم كتب السيئات مثلاً المستفاد من قوله تعالى: ﴿إنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون﴾(3) وقوله تعالى: ﴿وكلّ انسان الزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً﴾(4).

ولا يقال: إنّ الرفع الصادر من الشارع بما هو شارع يناسب رفع قلم الحكم لا قلم كتب السيئات.

فانّه يقال: قد يكون هذا الرفع صادراً من المولى بما هو مولى وكما انّ كتب الحكم من شؤون المولى بما هو مولى فيناسبه رفعه، كذلك كتب السيئات من شؤونه.

ثم يخطر بالبال الجواب على هذا الإشكال بانّنا نتمسك بالإطلاق لإثبات أنّ المرفوع جامع القلم فيشمل قلم كتب السيئات وقلم الحكم.


(1) الوسائل 1: 32، الباب 4 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 11.

(2) نفس المصدر، الحديث 12.

(3) الانفطار: 10 ـ 12.

(4) الإسراء: 13 ـ 14.

154

ولكنّ الواقع انّ التمسّك بالإطلاق هنا ليس في محله وتوضيح ذلك: انّعملية اقتناص الإطلاق من مثل أكرم العالم مثلاً لإثبات انّ المقصود هو الجامع بين العالم العربي والعالم الفارسي يمرّ بمرحلتين: (الاُولى) إثبات انّه قصد بالعالم الجامع بين العالم العربي والعالم الفارسي وذلك ليس بمقدّمات الحكمة، بل بأصالة الحقيقة وبأصالة تطابق المقصود الجدّي للمقصود الاستعمالي.

(والثانية) نفي تقييد لهذا الجامع المقصود بمقدمّات الحكمة.

وأمّا في مثل المقام الذي لم يقصد بالقلم المعنى الحقيقي المفهوم لنا، وإنّما كان المقصود الاستعمالي أو الجدّي معنى مجازياً واستعارياً وكنائياً فالمرحلة الاُولى وهي مرحلة إثبات إرادة الجامع لا نستطيع أن نثبتها ونجتازها إلى المرحلة الثانية، لانّ أحد الأصلين وهما: أصالة الحقيقة أو أصالة تطابق المقصود الجدّي للمقصود الاستعمالي منخرم في المقام يقيناً.

نعم قد يتفق إحراز المرحلة الاُولى بواسطة بعض القرائن أو المناسبات كما لو قال: أكرم الاُسُود وعرفنا انّ المقصود به إكرام الشجعان فالمناسبة المجازية الشائعة بين المعنى الحقيقي والمجازي للكلمة هنا تساعد وفق المركوز العرفي على كون المقصود بالاُسُود جامع الشجعان وتصل النوبة إلى احتمال تقييد هذا الجامع بقيد فينفى ذلك بالإطلاق ومقدّمات الحكمة.

وأمّا في المقام فلا ارتكاز أو قرينة أو مناسبة تدلّ على إرادة الجامع بين قلم الحكم وقلم كتب السيئات من كلمة القلم، فكما يناسب المقام إرادة الجامع منها أو إرادة خصوص قلم الحكم، كذلك يناسب المقام إرادة خصوص قلم كتب السيئات.

وممّـا يؤيّد احتمال كون المراد بالقلم قلم السيئات، المقارنة بين ما مضى

155

من موثّقة عمّار قال سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة؟ قال إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة وجرى عليه القلم، والجارية مثل ذلك إن أتى لها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك فقد وجبت عليها الصلاة وجرى عليها القلم.

ورواية طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إنّ أولاد المسلمين موسومون عند الله شافع مشفّع فإذا بلغوا اثنتى عشرة سنة كانت (كتبت خ ل) لهم الحسنات فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات(1). فترى انّ في رواية طلحة جعل مكان جملة (جرى عليه أو عليها القلم) جملة (كتبت عليهم السيئات) وليس في السند من يتوقّف لأجله عدا طلحة بن زيد، وقد روى عنه صفوان بن يحيى في سند تام، وقال عنه الشيخ: عامي المذهب إلّا انّ كتابه معتمد.

أمّا إذا غفلنا عن قلم كتب السيئات وحملنا الحديث على قلم كتب الأحكام فلا نشك في انّ القدر المتيقن من ذلك قلم الحكم التكليفي الذي هو مرفوع عن الصغير يقيناً وهل يشمل بالإطلاق قلم الحكم الوضعي أو لا؟

قد يقال بنفس التقريب الذي مضى: إنّ إطلاقاً من هذا القبيل غير ثابت في المقام، لانّ قلم الوضع وقلم التكليف كلاهما قلم مجازي وكنائي فلا يمكن إثبات إرادة الجامع بينهما بالإطلاق.

وإن لم نقبل ذلك وقلنا: إنّ المرتكز العرفي والمتشرّعي يقتضي افتراض انّ كتب الحكم التكليفي وكتب الحكم الوضعي عملان لقلم واحد وهو قلم الحكم


(1) الوسائل 1: 30، الباب 4 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 1، وقد ورد الحديث في الكافي 6: 3، كتاب 1 العقيقة، الحديث 8.

156

وليسا قلمين فظاهر الكلام بمناسبة ما عرفت هو إرادة الجامع فقد اجتزنا بذلك المرحلة الاُولى التي نحتاجها في باب الإطلاق، أو أنكرنا أصلاً فرض كون هذه الأقلام أقلاماً مجازية واستعارية وافترضنا انّ القلم موضوع لمطلق ما يثبّت وانّ قلم الأحكام وضعاً وتكليفاً وقلم كتب السيئات كلها مصاديق حقيقية لمعنى الكلمة.

قلنا: إنّ المرحلة الثانية وهي نفي القيد بمقدمات الحكمة لا تتم في المقام وذلك لأمرين:

الأمر الأوّل ـ إنّ كلمة رفع القلم عن الصبي أو جريه عليه تدلّ على رفع ثقل عنه أو جريه عليه على ما هو مفهوم من كلمة عن أو من كلمة على والثقل انّما يكون للحكم التكليفي أو لكتب السيئات، أمّا الحكم الوضعي فحينما يوجب الثقل كما في النجاسة مثلاً فانّما يوجبه بواسطة الحكم التكليفي، وما يثقل الظهر مباشرة إنّما هو الحكم التكليفي أو السيئات، وهذه المناسبة تصرف الكلام إلى نفي الحكم التكليفي أو السيئات أو ـ على الأقل ـ تمنع عن تمامية الإطلاق.

ولا يقاس رفع القلم برفع ما اُكرهوا عليه مثلا الذي نسب الرفع فيه في بادىء النظر إلى ذات الفعل المكره عليه، فقيل: إنّه يشمل بإطلاقه رفعه بلحاظ حكمه الوضعي أيضاً فيبطل البيع المكره عليه، فانّ الرفع في المقام قد نسب إلى قلم الحكم، والقلم الثقيل مباشرة انّما هو قلم التكليف لا قلم الوضع فينصرف ذلك إلى قلم التكليف أو على الأقل لا يتم الإطلاق بالنسبة لقلم الوضع، وهذا بخلاف ما إذا نسب الرفع في بادىء النظر إلى ذات الفعل الذي لا يقصد على أي حال رفع ثقله المباشر فلا يبقى على أي حال بهذا اللحاظ فرق بين رفع الحكم التكليفي ورفع الحكم الوضعي.

157

الأمر الثاني ـ انّ المفهوم بالبداهة عدم ارتفاع أكثر الأحكام الوضعية عن الطفل كالنجاسة والضمان والجنابة وغيرها فيدور الأمر عندئذ بين تخصيص هذه الاُمور بعد فرض شمول الحديث لرفع قلم الحكم الوضعي وتفسير القلم بغير قلم الحكم الوضعي، والثاني أولى وأنسب في فهم العرف.

ولا يقاس حديث رفع القلم بحديث رفع الإكراه أو رفع ما اضطروا إليه الذي يقال فيه: إنّه لا يشمل مثل الإكراه على ما يوجب النجاسة أو الجنابة أو الاضطرار إليه، لانّ الرفع هناك منسوب في بادىء النظر إلى فعل المكلّف المنتسب إلى المكلّف ويفهم منه عرفاً انّ رفع ما اكرهوا عليه أو اضطروا إليه يكون بلحاظ ضعف انتساب الفعل إلى المكلّف وقدرته لدى الإكراه والاضطرار فلا يشمل الآثار التي لا علاقة لها بجانب الانتساب والقدرة، كالنجاسة المترتبة على ذات ملاقاة النجس لليد ولو لم تكن الملاقاة من فعل المكلّف بأي وجه من الوجوه، وكذلك الجنابة المترتبة على أسبابها ولو لم تكن من فعل المكلّف وباختياره أصلاً كما لو خرج منه المني دون شعور واختيار، فانّ الرفع في ما نحن فيه انّما هو رفع للقلم وليس رفعاً للفعل كي يصرف إلى النظر إلى ضعف انتسابه إلى الشخص.

اذن فلا بد إمّا من إخراج أكثر الأحكام الوضعية عن إطلاقه بالتخصيص، أو تفسير القلم بغير قلم الحكم الوضعي والثاني أولى عرفاً.

ثم لو تمّ إطلاق لحديث رفع القلم أو لما يأتي من حديث عمد الصبي وخطأه واحد ـ ولكن تم ما مضى منّا من تقريب الاستدلال على صحّة معاملات الصبي بإشراف الولي بآية ﴿ابتلوا اليتامى﴾ ـ كانت الآية مقيدة لهذين الإطلاقين.

158

الدليل الثاني ـ ما ورد بسند تام عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال: عمد الصبي وخطأه واحد(1)، ولا يقيد ذلك بموثّقة اسحاق بن عمّار عن جعفر (عليه السلام) عن ابيه ان عليّاً (عليه السلام) كان يقول: عمد الصبي خطأ يحمل على العاقلة(2). باعتبار اختصاص الموثّقة بباب الديات بقرينة قوله: يحمل على العاقلة، وذلك لانّهما مثبتان ولا تنافي بينهما كي يقيد أحدهما بالآخر.

فإذا عملنا بإطلاق حديث محمّد بن مسلم كانت النتيجة انّ الصبي مسلوب العبارة وانّ العقد الذي يصدر منه عن عمد كأنه صدر منه خطأً فهو باطل بتمام الأحوال.

وقد يجاب على هذا الإطلاق بعدة أجوبة:

الأوّل ـ ما ذكره المحقّق الاصفهاني (رحمه الله)(3) من أنّه لا يتصوّر في باب العقود عمد وخطأ، وانّما يتصوّر فيه القصد وعدم القصد، وهذا غير العمد والخطأ فالعمد والخطأ يتصوّران في سبب قد يترتب عليه المسبّب قهراً على خلاف ما قصدناه، وقد يتحقّق نفس ما قصدناه أي انّ الإنسان يعمد لتوجيه ذلك السبب بنحو يهدف به الوصول إلى مسبّب معيّن فقد يصيب الهدف وقد يخطأه من قبيل من يرمي لإصابة زيد وقتله فيصيب الهدف، وهذا هو القتل العمدي أو يرمي لإصابة طير في الهواء فيخطىء الهدف ويصيب زيد ويُقتَل بذلك، وهذا هو القتل الخطأ.

وأمّا العقد فلا يترتّب عليه أثر قهري وبلا اختيار وحينما يترتب عليه أثر فانّما يترتب عليه الأثر المقصود لا غيره فلا يتصوّر فيه العمد وإصابة الهدف تارة


(1) و (2) الوسائل 19: 307، الباب 11 من أبواب العاقلة، الحديث 2 و 3.

(3) راجع تعليقته على المكاسب 1: 115.