330

والآخر عن يساره، فيقول له رسول الله(صلى الله عليه وآله): أمّا ما كنت ترجو فهو ذا أمامك، وأمّا ما كنت تخاف منه فقد أمنت منه. ثُمّ يُفتح له باب إلى الجنّة فيقول: هذا منزلك من الجنّة، فإن شئت رددناك إلى الدنيا ولك فيها ذهب وفضّة. فيقول: لا حاجة لي في الدنيا. فعند ذلك يبيضّ لونه ويرشح جبينه و...، فإذا خرجت النفس من الجسد فيعرض عليها كما عرض عليها وهي في الجسد، فتختار الآخرة، فتغسّله في من يغسّله وتقلّبه في من يقلّبه، فإذا اُدرج في أكفانه ووضع على سريره خرجت روحه تمشي بين أيدي القوم قُدُماً، وتلقاه أرواح المؤمنين يسلّمون عليه ويبشّرونه بما أعدّ الله له جلّ ثناؤه من النعيم، فإذا وضع في قبره رُدّ إليه الروح إلى وَرِكَيه ثُمّ يسأل عمّا يعلم، فإذا جاء بما يعلم فتح له ذلك الباب الذي أراه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فيدخل عليه من نورها وضوئها وبردها وطيب ريحها».

قال قلت: جعلت فداك فأين ضغطة القبر؟ فقال: «هيهات ما على المؤمنين منها شيء، والله إنّ هذه الأرض لتفتخر على هذه فتقول: وطأ على ظهري مؤمن ولم يطأ على ظهرك مؤمن. وتقول له الأرض: والله لقد كنت اُحبّك وأنت تمشي على ظهري، فأمّا إذا وُلّيتك فستعلم ما أصنع بك فتفسح له مدّ بصره»(1).

 

4 ـ ارتباط أهل البرزخ بنا

 

يبدو أنّ عالم البرزخ باعتبار وسطيّته بين عالم الدنيا وعالم الآخرة ليس منقطعاً تمام الانقطاع عن عالم الدنيا، فقد يصل أهل البرزخ شيء من عالمنا وإن


(1) اُنظر الكافي 3: 129 ـ 130، باب ما يعاين المؤمن والكافر من كتاب الجنائز، الحديث 2.

331

كنّا نحن لانحسّ بوصول شيء إلينا من عالمهم:

فأوّلاً: قد تتفق لمن انتقل إلى البرزخ إمكانية زيارة أهله، كما دلّت على ذلك صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «إنّ المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحبّ ويستر عنه ما يكره، وإنّ الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ويستر عنه ما يحبّ، قال: ومنهم من يزور كلّ جمعة، ومنهم من يزور على قدر عمله»(1).

وثانياً: قد يسمعون صوتنا حينما نكون قريبين من مكان تواجدهم، كما قد يُفهم ذلك من كلام عليّ(عليه السلام) وقد رجع من صفّين فأشرف على القبور بظاهر الكوفة: «يا أهل الديار الموحشة والمحالّ المقفرة والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فَرَط سابق ونحن لكم تبع لاحق. أمّا الدور فقد سُكنت، وأمّا الأزواج فقد نُكحت، وأمّا الأموال فقد قُسّمت. هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟» ثُمّ التفت إلى أصحابه فقال(عليه السلام): «أما لو اُذن لهم في الكلام لأخبروكم: أنّ خير الزاد التقوى»(2).

وقد روى في تفسير پيام قرآن(3) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) حينما ألقوا أجساد المشركين في معركة بدر في البئر أنّه(صلى الله عليه وآله) وقف إلى جنب البئر وقال: «يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟ فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقّا»، قالوا: يا رسول الله هل يسمعون؟ قال(صلى الله عليه وآله): «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن اليوم لا يجيبون».

وفي البحار عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه وقف على قليب بدر ـ يعني بئر بدر ـ فقال


(1) الكافي 3: 230، باب أنَّ الميت يزور أهله من كتاب الجنائز، الحديث 1.

(2) نهج البلاغة، الحكمة 130.

(3) پيام قرآن 5: 457.

332

للمشركين الذين قتلوا يومئذ وقد اُلقوا في القليب: «لقد كنتم جيران سوء لرسول الله ـ (صلى الله عليه وآله) ـ، أخرجتموه من منزله وطردتموه، ثُمّ اجتمعتم عليه فحاربتموه، فقد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً»، فقال له عمر: يا رسول الله ما خطابك لهام قد صديت ـ أي ماتت ـ ؟ فقال(صلى الله عليه وآله) له: «مَهْ يا بن الخطاب، فوالله ما أنت بأسمع منهم، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع الحديد إلّا أن أعرض بوجهي هكذا عنهم»(1).

وتشهد لذلك روايات التلقين بعد الدفن أيضاً(2).

وكذلك ورد في زيارة القبور عن الصادق(عليه السلام): «إذا زرتم موتاكم قبل طلوع الشمس سمعوا وأجابوكم، وإذا زرتموهم بعد طلوع الشمس سمعوا ولم يجيبوكم»(3).

وثالثاً: وصول شيء من الثواب إليهم من هذه الدنيا على ما نطقت به العديد من رواياتنا(4)، كصحيح الحلبي عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وصدقة(5) مبتولة لا تورث، أو سنّة هدى يعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له»(6)، ورواية معاوية بن عمار قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): ما يلحق الرجل بعد موته؟ فقال: سنّة يعمل بها بعد موته فيكون له مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من اُجورهم شيء، والصدقة الجارية تجري من بعده،


(1) البحار 6: 254 ـ 255، الباب 8 من أبواب الموت وما يلحقه إلى وقت البعث.

(2) وسائل الشيعة 3: 201 ـ 203، الباب 35 من الدفن.

(3) سفينة البحار: «قبر».

(4) وسائل الشيعة 19، الباب 1 من الوقوف والصدقات.

(5) كأنها عطف تفسير.

(6) المصدر السابق: 172، الحديث 2.

333

والولد الطيّب يدعو لوالديه بعد موتهما، ويحجّ ويتصدّق ويعتق عنهما ويصلّي ويصوم عنهما، فقلت: اُشركهما في حجّتي؟ قال: نعم»(1).

فالذي يبدو من مجموعة الأخبار التي أشرنا إليها ضمن هذه الاُمور الثلاثة التي عددناها لارتباط أهل البرزخ بنا يؤدّي بنا إلى القطع نتيجة التواتر المعنوي، أو الاستفاضة المعنوية بأنّ هناك شيئاً من الاتّصال بين عالمنا وعالم البرزخ وإن كان الإحساس به من طرف واحد أي من طرفهم، أمّا من طرفنا فلا يوجد لنا إحساس بذلك، اللهمّ إلّا لأولياء الله الذين هم من أهل الكرامات.

 

 

 

* * *

 


(1) المصدر السابق: 172 ـ 173، الحديث 4.

334

 

فلسفة البرزخ

 

ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة أنّه قال: «فإنّ الغاية أمامكم، وإنّ وراءكم الساعة تحدوكم، تخفّفوا تلحقوا، فإنّما ينتظر بأوّلكم آخِركم»(1). وفي خطبة اُخرى: «فإنّ الناس أمامكم وإنّ الساعة تحدوكم من خلفكم، تخفّفوا تلحقوا، فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم»(2).

وخلاصة الكلام في المقام: أنّ الدنيا خلقت لفسح المجال للبشر إلى سلّم الكمال، وإخراجه لما فيه بالقوّة إلى الفعل، وبالتالي يستفيد من كماله هو في عالم الآخرة، وعالم الجزاء الكامل هو عالم ما بعد نفخ الصور، أمّا عالم البرزخ فالذي يتبادر إلى أذهاننا القاصرة والعاجزة عن إدراك حقائق الاُمور بشأنه هو أحد تصوّرات ثلاثة:

إمّا الاحتياج إليه للتدرّج في الانتقال من هذا العالم إلى عالم الآخرة بوصفه واجداً لبعض خصائص هذا العالم وبعض خصائص عالم الآخرة، فكأنّ الإنسان في الغالب لا يستطيع العيش في ذاك العالم الذي يختلف تماماً عن عالمه إلّا بعد المرور بعالم وسط بين العالمين.

وإمّا افتراض أنّ عالم البرزخ وإن كان لا يوجد للإنسان فيه تكامل كبير؛ لأنّ محلّ التكامل وموطن الامتحان للإنسان ـ كي يرى هل يختار سبيل التكامل أو الانحطاط ـ إنّما هي الدنيا، ولكن لا ينافي ذلك وجود شيء من


(1) نهج البلاغة، الخطبة 21.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 167.

335

التكامل للإنسان المؤمن في عالم البرزخ.

وإمّا الاحتياج إليه لأجل أنّ تحطّم هذه الدنيا وتحقّق يوم القيامة يكون دفعة واحدة، أي إنّ قيامة الجميع متقارنة وليست تدريجية فلابدّ للسابقين في الموت من انتظار اللاحقين، ويتمّ ذلك بواسطة عالم البرزخ.

وهذه الفرضيات الثلاث ليست متنافية، فيمكن صدق الكلّ.

والعبارة التي بدأنا الحديث بنقلها عن أمير المؤمنين(عليه السلام) دلّت على الاحتمال الثالث حيث قال(عليه السلام): «فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم».

وقد عرفت أنّ العبارة متكرّرة مرّتين في نهج البلاغة، مرّة في الخطبة: (21)، واُخرى في الخطبة: (167) بتغيير يسير، والتغيير إنّما هو في صدر العبارة لا في المقطع الذي كان هو محل الشاهد.

والشريف الرضي(رحمه الله) حينما نقل العبارة الاُولى قال: إنّ هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه وبعد كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله) بكلّ كلام لمال به راجحاً وبرز عليه سابقاً، فأمّا قوله(عليه السلام): «تخفّفوا تلحقوا» فما سمع كلام أقل منه مسموعاً ولا أكثر محصولاً، وما أبعد غورها من كلمة وأنقع نطفتها(1) من حكمة.

وقد وردت الإشارة في بعض الروايات إلى ما جعلناه الاحتمال الثاني، وهي رواية حفص قال: «سمعت موسى بن جعفر(عليهما السلام) يقول لرجل: أتحبّ البقاء في الدنيا؟ فقال: نعم. فقال: ولم؟ قال: لقراءة قل هو الله أحد. فسكت عنه، فقال له بعد ساعة: يا حفص، من مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن القرآن علّم في


(1) النطفة: ما صفا من الماء. اُنظر مجمع البحرين 5: 125، وكتاب العين 7: 436. وما أنقع هذا الماء أي: ما أرواه من عطش.

336

قبره ليرفع الله به من درجته؛ فإنّ درجات الجنّة على قدر آيات القرآن، يقال له: إقرأ وارق، فيقرأ ثمّ يرقى. قال حفص: فما رأيت أحداً أشدّ خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر(عليهما السلام) ولا أرجأ الناس منه، وكانت قراءته حزناً فإذا قرأ فكأنّه يخاطب إنساناً»(1).

أمّا الاحتمال الأوّل فلم أرَ نصّاً يدلّ عليه، إلّا أنّه حدسٌ يحدس.

 

 

 

* * *

 


(1) الكافي 2: 606، باب فضل حامل القرآن من كتاب فضل القرآن، الحديث 10.

337

 

ختم الكلام

 

وهنا نختم حديثنا عن البرزخ بذكر هذه الرواية عن سعيد بن المسيّب قال: كان عليّ بن الحسين (صلوات الله عليه) يعظ الناس ويزهّدهم في الدنيا ويرغّبهم في أعمال الآخرة بهذا الكلام في كلّ جمعة في مسجد الرسول(صلى الله عليه وآله)، وحفظ عنه وكتب، كان يقول: «أيّها الناس، اتّقوا الله واعلموا أنّكم إليه ترجعون، فتجد كلّ نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير محضراً وما عملت من سوء، تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذّركم الله نفسه. ويحك ابن آدم الغافل وليس بمغفول عنه! ابن آدم، إنّ أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك ويوشك أن يدركك، وكأن قد اُوفيت أجلك وقبض الملك روحك وصرت إلى منزل وحيداً فردّ إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكاك: منكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك، ألا وإنّ أوّل ما يسألانك عن ربّك الذي كنت تعبده، وعن نبيّك الذي اُرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولاّه، ثُمّ عن عمرك في ما أفنيته؟ ومالك من أين اكتسبته؟ وفي ما أتلفته؟ فخذ حذرك وانظر لنفسك، وأعدّ للجواب قبل الامتحان والمساءلة والاختبار، فإن تك مؤمناً تقيّاً عارفاً بدينك متّبعاً للصادقين موالياً لأولياء الله لقّاك الله حجّتك، وأنطق لسانك بالصواب فأحسنت الجواب، فبشّرت بالجنّة والرضوان من الله والخيرات الحسان، واستقبلتك الملائكة بالروح

338

والريحان، وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ودحضت حجّتك، وعميت عن الجواب، وبشّرت بالنار، واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم(1). فاعلم ابن آدم: إنّ من وراء هذا ما هو أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة، ذلك يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود...»(2).

 

 

 

 

 


(1) إلى هنا ورد في البحار 6: 223 ـ 224.

(2) والحديث طويل، اُنظر البحار 78: 143 ـ 146.

339

الفصل الخامس

 

 

 

المعاد

 

 

○ 1 ـ نفخة الصور الاُولى.

○ 2 ـ نفخة الصور الثانية والمعاد الجسماني.

○ 3 ـ الحساب.

○ 4 ـ سوق الكفّار والمؤمنين إلى مثواهم الأخير

○ خاتمة في الشفاعة.

○ ختامه مسك.

 

 

341

 

 

 

 

 

قال الله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الاَْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْس مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاَْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين﴾(1).

يظهر لنا من هذه الآيات المباركات تسلسل مراحل يوم القيامة إلى أربع مراحل نذكرها واحدة بعد اُخرى، وبعد ذلك نتعرّض إلى مسألة الأعراف.


(1) س 39 الزمر، الآية: 68 ـ 75.

342

 

1 ـ نفخة الصـور الاُولـى

 

المرحلة الاُولى لمراحل عالم الآخرة أو يوم القيامة هي نفخة الصور الاُولى، وقد مرّ بنا استظهار كونها مرحلة الموت الثانية للبشر، فالموت الأوّل عبارة عن موت البدن الدنيوي ومع بقاء النفس أو الروح حيّة حسّاسة تحسّ بعالم البرزخ وما فيه من ثواب أو عقاب، والموت الثاني عبارة عن موت الروح أو النفس لا بمعنى الفناء المطلق الذي يوجب فلسفياً استحالة إعادتها، بل بمعنى الوقوع في حالة السبات الكامل وانتهاء ثواب البرزخ أو عقابه أو أيّ إحساس فيه، ويستثنى من هذا السبات من شاء الله كالشهداء.

والظاهر أنّ هذا هو المقصود بالصعق في قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّه﴾(1)، كما أنّ الظاهر أنّ هذا هو المقصود بالموتة الثانية التي صرّح بها القرآن الكريم في موردين:

أحدهما: قوله تعالى عن لسان الكفّار: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوج مِّن سَبِيل﴾(2).

ثانيهما: قوله تعالى عن لسان المؤمنين بعد أن يسكنوا الجنّة ويشرفوا على جهنّم ليخاطب كلّ واحد منهم صاحبه الذي سكن النار: ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِين﴾(3)،


(1) س 39 الزمر، الآية: 68.

(2) س 40 غافر، الآية: 11.

(3) س 37 الصافّات، الآية: 55 ـ 57.

343

وهنا يقول الله تعالى عن لسان المؤمنين ضمن خطابهم هذا للكفّار والمشركين: ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاُْولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِين﴾(1).

وهذا البحث بحاجة فلسفيّاً إلى إثبات الثنائية بين النفس والبدن وإثبات تجرّد النفس، وقد مرّ كلّ هذا في ضمن الأبحاث السابقة فلا حاجة إلى إعادته.

 

 

 

* * *

 


(1) س 37 الصافّات، الآية: 58 ـ 59.

344

 

2 ـ نفخة الصـور الثانية والمعاد الجسماني

 

المرحلة الثانية لمراحل عالم الآخرة أو يوم القيامة هي نفخ الصور الثانية: ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الاَْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾(1)، وبها يتمّ أمران: أحدهما: إنهاء السبات للنفس واستعدادها للثواب والعقاب، وثانيهما: إعادة البدن أيضاً، ويسمّى هذا بالمعاد الجسماني، والبحث الفلسفي المرتبط بهذه المرحلة بحثان:

أحدهما: إثبات بقاء النفس أو الروح. وهذا ما مرّ في ضمن الأبحاث السابقة، ولا حاجة إلى الإعادة.

ثانيهما: إبطال استبعاد المعاد الجسماني والذي هو صريح القرآن.

والواقع أنّ الاستبعاد الذي قد يؤدّي إلى إنكار المعاد الجسماني في أقوى وجوهه أحد أمرين:

 

1 ـ شبهة الآكل والمأكول:

إنّ شبهة الآكل والمأكول مبنيّة على تخيّل اشتراط رجوع كلّ من الآكل والمأكول بكامل بدنه، في حين أنّ النسبة بين بدن الآكل وبدن المأكول تكون عادة عموماً من وجه.

ولكن لا مبرّر لاشتراط رجوع كلّ منهما بكامل بدنه السابق ولا دليل على ذلك، فبإمكانه سبحانه وتعالى إرجاع قسم من موادّ البدن وتنميتها أو صياغتها


(1) س 39 الزمر، الآية: 68 ـ 69.

345

إلى بدن كامل للآكل وبدن كامل للمأكول، والأدلّة اللفظية لم تدلّنا على أكثر من ذلك، بل بالإمكان تصوير ذلك حتّى لو فرضت وحدة بدنهما بأن يصبح تمام بدن الآكل هو تمام بدن المأكول، على أنّ هذا الفرض مجرّد وهم وخيال.

 

2 ـ شبهة لزوم رجوع ما بالفعل إلى القوّة:

إنّ شبهة لزوم رجوع ما بالفعل إلى القوّة من المعاد الجسماني قائمة على أساس تصوّر أنّ الموت كمال للإنسان باعتبار تحوّله بذلك من مرحلة شوب المادّة إلى مرحلة التجرّد البحت، وأنّ خلق الله سبحانه وتعالى إيجاد لما يتحرّك بالحركة الجوهرية من النقص إلى الكمال، فما معنى رجوع الكامل مرّة اُخرى إلى النقص؟! وهل يعقل رجوع ما تكامل بخروج القوّة إلى الفعل إلى القوّة مرّة اُخرى؟!

ولعلّ هذه الشبهة أقوى فلسفيّاً من الشبهة الاُولى.

إلّا أنّ هذه الشبهة أيضاً لا محلّ لها؛ فإنّ الموت لو كان عبارة عن تحوّل البدن إلى مستوى التجرّد، وكان التجرّد الكامل للإنسان بالموت بمعنى أنّ الإنسان أصبح بكلّ مراتبه مجرّداً بعد أن كان مزيجاً من مرتبة المادّة ومرتبة الروح أو النفس، لكان لهذه الشبهة مجال، ولكن هذا باطل بدليلين:

الأوّل: إحساسنا بأنّ البدن لم يتحوّل بحركة جوهرية إلى الروح أو النفس، وإنّما انفصل عن الروح أو النفس وأصبح فاسداً.

الثاني: ما مضى سابقاً من بعض البراهين على تجرّد الأنا وبها تثبت أيضاً بساطته، ولهذا نرى أنّ الأنا لا ينقسم إلى قسمين أو عدّة أقسام بمجرّد تقطيع البدن إلى قطعتين أو عدّة قطعات، فالبدن إذن ليس جزءاً من الأنا أو مرتبةً منه وإنّما هو أمانة من قبل الله تعالى بيد الأنا كي يكون في خدمته، والموت عبارة

346

عن تجريد الأنا من الأمانة التي اُعطيت إيّاه، والإحياء عبارة عن إرجاع الأمانة إليه مرّة اُخرى.

والغفلة عن هذه النكتة هي التي جعلت المجرمين لا يتوقّعون أن يُختم على أفواههم وتكلّم الله أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون(1)؛ ولهذا يعترضون في يوم القيامة على أعضائهم كما يتحدّث عنهم القرآن بقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون﴾(2). أمّا بعد الالتفات إلى هذه النكتة فيصبح إمكان شهادة الجلود والأعضاء لله على الإنسان من الواضحات؛ فإنّ البدن مخلوق مطيع لله يجعله الله تعالى في خدمة النفس حينما يريد، ويسلخه عن خدمتها حيناً آخر.

وبالالتفات إلى هذه النكتة ينعدم تماماً الإشكال الذي عرفته على المعاد الجسماني.

 

العقليّة الماديّة المستبعدة للمعاد الجسماني:

بعد ما اتضح بطلان الشبهتين المتقدّمتين في المعاد الجسماني يبقى مجرّد استبعاد المعاد الجسماني، وهذا الاستبعاد ينتج من العقليّة المادّية التي يصعب عليها تصوّر إعادة الحياة بعد الموت، وهي تكون بأحد شكلين:

الأوّل: العقلية التي قد لا تفهم الحياة إلّا بمعنى الروح النباتية التي تنعدم بالموت، ويستبعد الإنسان المادّي إيجادها مرّة اُخرى من الجسم الذي مات.

 


(1) إشارة إلى الآية 65 من سورة 36 يس.

(2) س 41 فصّلت، الآية: 21.

347

الثاني: العقلية التي قد يكون لها نوع تصوّر إجمالي عن النفس، ولكنها تستبعد على أيّة حال إرجاعها إلى الجسم الذي مات.

ومن هنا نرى القرآن الكريم قد أعدّ تنظيرين في آياته لتقريب المعاد: أحدهما أنسب بالردّ على العقلية الاُولى، والثاني أنسب بالردّ على العقلية الثانية.

أمّا ما يناسب الردّ على العقلية الاُولى فهو التنظير بالأرض والأشجار والنباتات التي تموت في الخريف والشتاء، وتحيى مرّة اُخرى في الربيع، وذلك من قبيل قوله تعالى:

1 ـ ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِير﴾(1).

2 ـ ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوج﴾(2).

3 ـ ﴿وَيُحْيِي الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُون﴾(3).

4 ـ ﴿وَتَرَى الاَْرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْج بَهِيج * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِير﴾(4).

5 ـ ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاَْرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِير﴾(5).

6 ـ ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَد مَّيِّت فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُور﴾(6).


(1) س 30 الروم، الآية: 50.

(2) س 50 ق، الآية: 11.

(3) س 30 الروم، الآية: 19.

(4) س 22 الحج، الآية: 5 و 6.

(5) س 41 فصّلت، الآية: 39.

(6) س 35 فاطر، الآية: 9.

348

7 ـ ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَد مَّيِّت فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون﴾(1).

وأمّا ما يناسب الردّ على العقلية الثانية فهو تنظير إرجاع النفس إلى الجسد بنفخها في الجسد أوّل مرّة، من قبيل قوله تعالى:

1 ـ ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاُْنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِر عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾(2).

2 ـ ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَلِيم﴾(3).

3 ـ ﴿فَلْيَنظُرِ الاِْنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِق * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِر﴾(4).

4 ـ ﴿وَيَقُولُ الاِْنسَانُ ءَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلاَ يَذْكُرُ الاِْنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾(5).

 

إثبات المعاد الجسماني:

قد يدّعي بعض ـ على العكس تماماً من شبهات المنكرين ـ أنّ العقل يدرك ضرورة المعاد الجسماني؛ لأنّ الإنسان لا يتكامل إلّا بجنبتيه: جنبة النفس وجنبة البدن، وسواءٌ فسّرناهما بمعنى شخصية واحدة مركّبة من المادّة وما فوق


(1) س 7 الأعراف، الآية: 57.

(2) س 75 القيامة، الآية: 37 ـ 40.

(3) س 36 يس، الآية: 78 ـ 79.

(4) س 86 الطارق، الآية: 5 ـ 8.

(5) س 19 مريم، الآية: 66 ـ 67.

349

المادّة، أو بمعنى شخصية واحدة ذات مرتبتين، أو بمعنى أنّ الجسم جُعل في خدمة النفس، لا إشكال في أنّ النفس تصل إلى نبذة مهمّة من اللذائذ أو الآلام عن طريق البدن، فلكي يكتمل الثواب والعقاب في يوم القيامة لابدّ من إرجاع هذا الائتلاف الذي كان محفوظاً بينهما في الدنيا في يوم القيامة(1).

إلّا أننا لا نعير أهميّة لهذا البيان إلّا بمقدار افتراضه اعتباراً عقلياً ولا يصل إلى مستوى البرهان.

والمهم عندنا في إثبات المعاد الجسماني هو تصريح القرآن الكريم به بشكل لا يقبل الشكّ أبداً، وذلك في آيات كثيرة منتشرة في القرآن، من قبيل قوله تعالى:

1 ـ ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَلِيم﴾(2).

2 ـ ﴿أَيَحْسَبُ الاِْنسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَه﴾(3).

ومن الطريف الإشارة الموجودة في هذه الآية إلى قدرة الله على إعادة ما هو من أطرف شيء في جسم الإنسان، ألا وهي خطوط البنان التي لا يشبه فيها إنسان إنساناً آخر على الإطلاق.

3 ـ ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُور﴾(4).

4 ـ ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الاَْجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُون﴾(5).

 


(1) راجع پيام قرآن 5: 334 ـ 335.

(2) س 36 يس، الآية: 78 ـ 79.

(3) س 75 القيامة، الآية: 3 ـ 4.

(4) س 22 الحج، الآية: 7.

(5) س 36 يس، الآية: 51.

350

ونحو هاتين الآيتين ممّا يشهد للخروج من القبر، فإنّ هذا إشارة إلى خروج البدن.

5 ـ ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾(1).

6 ـ ﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً﴾(2).

7 ـ ﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُون﴾(3).

ونحو هذه الآيات الثلاث ممّا يشهد للخروج من التراب، فإنّ هذا إشارة إلى خروج البدن.

8 ـ الآيات التي تجعل النشور في يوم القيامة من قبيل إحياء النباتات والأراضي في الربيع من بعد موتها في الخريف، وقد مضى بعضها، ومن الواضح أنّ هذا إحياء للمادّة.

9 ـ ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾(4).

10 ـ ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾(5).

11 ـ ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْء﴾(6).

فإنّ هذه الآيات صريحة في الثنائية بين أنفسهم وأبدانهم في يوم القيامة، وشهادة أعضائهم على أنفسهم آنذاك، وهذا لا يكون إلّا بمعاد الجسم.


(1) س 20 طه، الآية: 55.

(2) س 71 نوح، الآية: 17 ـ 18.

(3) س 7 الأعراف، الآية: 25.

(4) س 36 يس، الآية: 65.

(5) س 24 النور، الآية: 24.

(6) س 41 فصّلت، الآية: 20 ـ 21.

351

 

3 ـ الحساب

 

المرحلة الثالثة لمراحل عالم الآخرة أو يوم القيامة هي مرحلة الحساب وهي تتمثّل في الكتاب والشهادة والميزان:

 

الكتاب

 

إنّ الآية التي بدأنا بها الحديث عن المعاد أشارت بعد ذكر النفختين إلى وضع الكتاب، وقد تكرّرت الإشارة إلى الكتاب في آيات اُخرى أيضاً كقوله تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾(1).

وقيل: إنّ الكتُب في يوم القيامة ثلاثة أو أكثر(2):

أوّلها وأشهرها على الألسن عندنا: الكتاب المخصوص بكلّ أحد، وقد نصّ عليه القرآن في بعض الآيات ولعلّه الظاهر من مثل:

1 ـ قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنسَان أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾(3).

قيل: إنّ العرب كانوا يتفاءلون ويتطايرون ببعض أقسام الطير، فلعلّ الآية الكريمة أشارت إلى خرافية هذه العقيدة بالنسبة للطيور، وأنّ الطير اليُمن أو الشؤم إنّما هو عملك، وهو ملتزم بعنقك ولا ينفكّ منك حتّى يخرجه الله تعالى


(1) س 18 الكهف، الآية: 49.

(2) راجع پيام قرآن 6: 110 ـ 111.

(3) س 17 الإسراء، الآية: 13 ـ 14.

352

في يوم القيامة كتاباً منشوراً، ويكون الكتاب واضحاً جليّاً غير قابل للإنكار أو النقاش، وغير محتاج إلى القراءة والتفسير من قبل شخص آخر، بل أنت تقرأه وتحاسب نفسك به، وكفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، ونظيره ما جعله الله في الدنيا بين جنبيك ـ وإن لم يكن بذلك المستوى من الوضوح ـ من قوّة الذاكرة من ناحية، والضمير أو الوجدان من ناحية اُخرى، فهما بمجموعهما يُقرئانك كثيراً من جزئيّات أعمالك، ويحاسبانك عليها ولا ترى لنفسك سبيلاً إلى الإنكار.

وفي الحديث عن خالد بن نجيح عن الصادق(عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة دُفع إلى الإنسان كتابه ثُمّ قيل له: اقرأ. قلت: فيعرف ما فيه؟ فقال: إنّ الله يذكّره، فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم ولا شيء فعله إلّا ذكره كأنّه فعله تلك الساعة، ولذلك قالوا: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ »(1).

والكلمة التي تشدّد في الآية المباركة التشويش والحزن والأسى على الذهن هي كلمة ﴿يَلْقَاهُ مَنشُوراً﴾؛ إذ يوجد فيها احتمال كون المقصود منشوراً بالنشر العلني، فيوجب الفضيحة على الملأ بسيئات أعمالنا إلّا من رحم الله، حيث ينهتك السر المرخى علينا في هذه الدنيا، وقد قال الله تعالى:﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّة وَلاَ نَاصِر﴾(2).

2 ـ قوله تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْل إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد﴾(3).

قيل: إنّ الرقيب يقصد به ملك اليمين، والعتيد يقصد به ملك الشمال، ولكن الأقوى القول الآخر وهو أنّهما وصفان لكلّ واحد منهما، فكلّ واحد منهما


(1) البحار 7: 315، الباب 16 من أبواب المعاد وما يتبعه ويتعلّق به، الحديث 10.

(2) س 86 الطارق، الآية: 9 ـ 10.

(3) س 50 ق، الآية: 17 ـ 18.

353

يراقب الإنسان وأعماله، وكلّ واحد منهما جاهز للتسجيل والتثبيت.

وروي عن جابر عن الباقر(عليه السلام) قال: «سألته عن موضع الملكين من الإنسان قال: ها هنا واحد وها هنا واحد. يعني عند شدقيه»(1).

وعن إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام): «اعلموا عباد الله أنّ عليكم رصداً من أنفسكم وعيوناً من جوارحكم وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج، ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج»(2).

وورد في الحديث: «إنّ صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال، فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها، وإذا عمل سيّئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين: أمسك. فيمسك عنه سبع ساعات، فإن استغفر الله منها لم يكتب عليه شيء، وإن لم يستغفر الله كتبت له سيّئة واحدة»(3).

وفي دعاء كميل: «فَأَسْأَلُكَ بِالْقُدْرَةِ الَّتي قَدَّرْتَها، وَبِالْقَضِيَّةِ الَّتي حَتَمْتَها وَحَكَمْتَها وَغَلَبْتَ مَنْ عَلَيْهِ أَجْرَيْتَها: أَنْ تَهَبَ لي فِي هذِهِ اللَيْلَةِ وَفي هَذِهِ السّاعَةِ كُلَّ جُرْم أَجْرَمْتُهُ، وَكُلَّ ذَنْب أَذْنَبْتُهُ، وَكُلَّ قَبِيْح أَسْرَرْتُهُ، وَكُلَّ جَهْل عَمِلْتُهُ، كَتَمْتُهُ أَوْ أَعْلَنْتُهُ، أَخْفَيْتُهُ أَوْ أَظْهَرْتُهُ، وَكُلَّ سَيِّئَة أَمَرْتَ بِإِثْباتِهَا الْكِرامَ الْكاتِبينَ الَّذينَ وَكَّلْتَهُمْ بِحِفْظِ ما يَكُونُ مِنّي وَجَعَلْتَهُمْ شُهُوداً عَلَيَّ مَعَ جَوارِحي، وَكُنْتَ أَنْتَ الرَّقيب عَلَيَّ مِن وَرآئِهِمْ، وَالشّاهِدَ لِما خَفِيَ عَنْهُمْ، وَبِرَحْمَتِكَ أَخْفَيْتَهُ وَبِفَضْلِكَ سَتَرْتَه».

 


(1) البحار 5: 322، الباب 17 من أبواب العدل، الحديث 4. والشدق: زاوية الفم من باطن الخدّين.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 157.

(3) البحار 5: 321، الباب 17 من أبواب العدل.

354

3 ـ قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون﴾(1).

يحتمل أن يكون المقصود بالحفظ حفظ الأعمال، ويحتمل أن يكون المقصود الحفظ من الآفات كما يفهم من قوله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّه﴾(2)، وعلى الاحتمال الثاني فنفس الملائكة الحفظة للإنسان من الآفات والعثرات هم الكاتبون أيضا للأعمال.

وفي الحديث عن إسحاق بن عمّار قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): أخبرني بأفضل المواقيت في صلاة الفجر. فقال: مع طلوع الفجر، إنّ الله تعالى يقول: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾(3) يعني صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، فإذا صلّى العبد الصبح مع طلوع الفجر اُثبتت له مرّتين، أثبتها ملائكة الليل وملائكة النهار»(4)، وهذا يعني أنّ ملائكة الليل وملائكة النهار تتعاقبان في وقت الفجر، وكلّ منهما تثبّت ما ترى، وبالتالي تثبّت صلاة الصبح التي تؤدّى في أوّل وقتها مرّتين. وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّ ملائكة الليل تصعد وملائكة النهار تنزل عند طلوع الفجر، فأنا اُحبّ أن تشهد ملائكة الليل وملائكة النهار صلاتي»(5).

4 ـ قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَق حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَة رَّاضِيَة * فِي جَنَّة عَالِيَة * قُطُوفُهَا


(1) س 82 الانفطار، الآية: 10 ـ 12.

(2) س 13 الرعد، الآية: 11.

(3) س 17 الإسراء، الآية: 78.

(4) البحار 5: 321، الباب 17 من أبواب العدل، الحديث 2، وانظر الوسائل 4: 212، الباب 28 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

(5) اُنظر وسائل الشيعة 4: 213 ـ 214، الباب 28 من أبواب المواقيت، الحديث 3.