355

دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الاَْيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ﴾(1).

وقد ورد عن عبدالله بن غسيل الملائكة حنظلة تفسير هذه الآية: بأنّ من اُوتي كتابه بيمينه تكتب له سيئاته في ظهر الكتاب فلا يطّلع عليها غيره، ويثق بأنّ المكشوف للناس كلّه حسنات؛ ولهذا يقول: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيهْ﴾(2).

5 ـ قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً﴾(3).

ويظهر من قوله تعالى: ﴿حِسَاباً يَسِيراً﴾ أنّ المحاسبة على السيّئات لابدّ منها ولو كان صاحبها من المؤمنين ومن المغفورين له، إلّا أنّ الحساب سيكون عندئذ حساباً يسيراً وبلطف ومغفرة.

ويظهر من الجمع بين هذه الآية والآية السابقة أنّ الذي يؤتى كتابه وراء ظهره هو الذي يؤتى كتابه بشماله، ولا نعلم هل هذا يعني أنّ المجرم هو الذي يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره بعمد والتفات، خجلاً ممّا في الكتاب وحذراً من الفضيحة باطّلاع الناس على ما في الكتاب؟ أو يعني أنّ الله تعالى قد شدّ شماله بوراء ظهره؟ أو أنّ رأسه قد ركّب بالشكل الذي يكون وجهه إلى جهة ظهره؟ نعوذ بالله من كلّ ذلك.

ثانيها: الكتاب الجامع لكلّ اُمّة؛ فكأنّ هناك كُتباً بعدد الاُمم من الناس ومن غير الكتب الشخصية، وقيل: إن هذا يستفاد من بعض الآيات كقوله تعالى:


(1) س 69 الحاقّة، الآية: 19 ـ 29.

(2) پيام قرآن 6: 95 ـ 96.

(3) س 84 الانشقاق، الآية: 7 ـ 12.

356

﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّة جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّة تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾(1).

وكلمة الاستنساخ توحي إلى أذهاننا أحد معنيين:

إمّا أخذ النسخة من أعمالنا شبيهاً بصور التلفاز، أو الإشعاعات النوريّة التي تنفصل عن أجسامنا وتبقى تتحرّك وتنفذ حتّى بعد فرض انعدام الجسم. وإمّا جمع الآثار التي تخلّف أعمالنا في ما حوالينا شبيهاً بطبعة بصمات الأصابع، وآثار كلّ الانصدامات التي تتحقّق بين أجسامنا وما حوالينا، بل وحتّى التي تتحقّق بين الهواء ومخارج الحروف في حالة النطق، وكلّ هذا يؤخذ فيه بعين الاعتبار ضيق نظرنا وقصور تصوّراتنا عن النفوذ إلى أكثر ممّا هو محصور في عوالم الحسّ الدنيوي لنا.

وقد يضاف إلى تصوّر الكتاب لكلّ اُمّة تصوّر كتاب لمجموع الأبرار، وكتاب آخر لمجموع الفجّار استلهاماً من قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّين * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُوم﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاَْبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُون﴾(3).

ثالثها: كتاب عامّ لجميع الناس، وهذا ما قد يستظهر من مثل قوله تعالى في الآية التي بدأنا بها حديث المعاد: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَاب﴾(4)، أو آية سورة الكهف: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾(5)، أو قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْء أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين﴾(6).

 


(1) س 45 الجاثية، الآية: 28 ـ 29.

(2) س 83 المطفّفين، الآية: 7 ـ 9.

(3) س 83 المطفّفين، الآية: 18 ـ 21.

(4) س 39 الزمر، الآية: 69.

(5) س 18 الكهف، الآية: 49.

(6) س 36 يس، الآية: 12.

357

 

الشهادة

 

إنّ المقدار المشار إليه من الشهود في القرآن الكريم اُمور عديدة من قبيل:

1 ـ الله جلّ جلاله.

قال تعالى: ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُون﴾(1).

2 ـ الأنبياء(عليهم السلام).

قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّة بِشَهِيد وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً﴾(2)، وقد احتمل في هذه الآية المباركة تفسيران:

أحدهما: أنّ كلّ نبيّ هو شهيد على اُمّته، والمرجع لاسم الإشارة في قوله ﴿عَلَى هَـؤُلاء﴾ هم اُمّة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، ولعلّ وجه شهادة النبيّ على اُمّته رغم غيابه الظاهري عنهم بعد موته هو عرض أعمال الاُمّة عليه في كلّ اُسبوع أو أقلّ أو أكثر، أو لعلّ له حضوراً في الاُمّة حتّى بعد موته بمستوى لا ندركه نحن.

ثانيهما: أنّ كلّ نبيّ شهيد على اُمّته، ونبيّنا(صلى الله عليه وآله) شاهد على الأنبياء بحضور له في مستوى الرسالة والنبوّة لا ندركه نحن، فيكون المرجع لاسم الإشارة هم الأنبياء.

ويظهر من بعض الآيات أنّ محاسبة كلّ اُمّة يكون بإشراف نبيّها قال الله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّة رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ


(1) س 10 يونس، الآية: 46.

(2) س 4 النساء، الآية: 41.

358

لاَ يُظْلَمُون﴾(1)، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ﴾(2).

3 ـ الملائكة.

قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْس مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَة مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيد﴾(3).

4 ـ الأعضاء والجلود.

قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾(4)، وقال عزّ وجلّ: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُون﴾(5)، وقال سبحانه: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾(6).

وقد ورد في بعض الأحاديث: «إذا جمع الله الخلق يوم القيامة دفع إلى كلّ إنسان كتابه، فينظرون فيه فينكرون(7) أنّهم عملوا من ذلك شيئاً، فيشهد عليهم الملائكة، فيقولون: يا ربّ، ملائكتك يشهدون لك. ثُمّ يحلفون أنّهم لم يعملوا من ذلك شيئاً وهو قوله: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾(8)،


(1) س 10 يونس، الآية: 47.

(2) س 39 الزمر، الآية: 69.

(3) س 50 ق، الآية: 20 ـ 23.

(4) س 24 النور، الآية: 24.

(5) س 41 فصّلت، الآية: 20 ـ 22.

(6) س 36 يس، الآية: 65.

(7) أي: بعضهم.

(8) س 58 المجادلة، الآية: 18.

359

فإذا فعلوا ذلك ختم على ألسنتهم، وينطق جوارحهم بما كانوا يكسبون»(1).

وهنا يأتي سؤال وهو: أنّ الذي ينكر ما شهدت عليه الملائكة ويكذّبهم ينكر ما شهدت عليه الأعضاء أيضا ويكذّبها، فأيّ فرق بينهما؟

ولكن الواقع أنّنا لا نعلم بالدقّة طريقة شهادة الشهود ومنها شهادة الجوارح، فلربّ بعض الشهادات أوضح من بعض وأبعد من قابلية الإنكار، كما هو الحال في هذه الدنيا من قبيل ما نرى من أنّ شهادة الصورة التلفازية أبعد عن قبول الإنكار من شهادة البيّنة العادلة، فلعلّ الأعضاء والجلود تبرز مثلاً ضمن شهادتها الآثار التكوينية الّتي خلّفت الأعمال فيها، فيتجلّى الأمر بشكل يصبح أبعد عن الإنكار.

وورد في الحديث عن الإمام الباقر(عليه السلام):«... وليست تشهد الجوارح على مؤمن، إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب، فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه...»(2).

5 ـ الأرض.

قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾(3).

وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) سأله أبو كهمس: «يصلّي الرجل نوافله في موضع أو يفرّقها؟ قال: لا بل هاهنا و هاهنا، فإنّها تشهد له يوم القيامة»(4).

 


(1) البحار 7: 312، الباب 16 من أبواب المعاد، الحديث 3.

(2) البحار 7: 318، الباب 16 من أبواب المعاد، الحديث 14، والكافي 2: 32.

(3) س 99 الزلزال، الآية: 4 ـ 5.

(4) البحار 7: 318، الباب 16 من أبواب المعاد، الحديث 15.

360

وفي صحيحة معاوية بن وهب قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبّه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة. فقلت: كيف يستر عليه؟ قال: يُنسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب، ويوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه. ويوحي إلى بقاع الأرض: اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب. فيلقى الله حين يلقاه، وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب»(1).

وقد اُلحق في الروايات بهؤلاء الشهود الخمسة شاهدان آخران:

أحدهما: الأئمّة المعصومون(عليهم السلام)، ففي الحديث عن سماعة قال: «قال أبو عبدالله(عليه السلام)في قول الله عزّ وجلّ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّة بِشَهِيد وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً﴾(2) قال: نزلت في اُمّة محمّد(صلى الله عليه وآله) خاصّة، في كلّ قرن منهم إمام منّا شاهد عليهم، ومحمّد(صلى الله عليه وآله)شاهد علينا»(3).

وعن سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «إنّ الله تبارك وتعالى طهّرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجّته في أرضه، وجعلنا مع القرآن، وجعل القرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا»(4).

ثانيهما: الزمان. ففي الحديث عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنّ النهار إذا جاء قال: يابن آدم، اعمل في يومك هذا خيراً أشهد لك به عند ربّك يوم القيامة، فإنّي لم آتك في ما مضى ولا آتيك في ما بقي. وإذا جاء الليل قال مثل ذلك»(5).


(1) البحار 7: 317 ـ 318، الباب 16 من أبواب المعاد، الحديث 12، وانظر الكافي 2: 430 ـ 431.

(2) س 4 النساء، الآية: 41.

(3) الكافي 1: 190، الباب 9 من كتاب الحجّة، الحديث 1.

(4) المصدر السابق: 191، الحديث 5.

(5) البحار 7: 325، الباب 16 من أبواب المعاد، الحديث 22.

361

 

الميزان

 

قال سبحانه وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّة مِّنْ خَرْدَل أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين﴾(1)، وقال تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يِظْلِمُون﴾(2).

وورد في الحديث: «بينا رسول الله(صلى الله عليه وآله) ذات يوم واضع رأسه في حجر عائشة قد أغفى إذ سالت الدموع من عينها، فقال: ما أصابك؟ ما أبكاك؟ قالت: ذكرت حشر الناس، وهل يذكر أحد أحداً؟ فقال لها: يحشرون حفاة عراة. وقرأ: ﴿لِكُلِّ امْرِى مِّنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأْنٌ يُغْنِيه﴾(3) لا يذكر فيها أحداً عند الصحف، وعند وزن الحسنات والسيّئات»(4).

وروي «أنّ داود(عليه السلام) سأل ربّه أن يُريه الميزان، فأراه كلّ كفّة كما بين المشرق والمغرب، فغشي عليه ثُمّ أفاق فقال(عليه السلام): الهي، من الذي يقدر أن يملأ كفّته حسنات؟ فقال: يا داود، إنّي إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة»(5).

إنّ أصل وجود الميزان في محكمة عدل الله في يوم القيامة ممّا لا شكّ فيه؛ لأنّه صرّح به القرآن، ولكن كيفيّة الميزان ليست واضحة تمام الوضوح، فقد


(1) س 21 الأنبياء، الآية: 47.

(2) س 7 الأعراف، الآية: 8 ـ 9.

(3) س 80 عبس، الآية: 37.

(4) البحار 7: 245، الباب 10 من أبواب المعاد.

(5) پيام قرآن 6: 172.

362

يتبادر إلى أذهاننا ـ نتيجة اُنس الذهن بالموازين المادّيّة في دار الدنيا ـ ميزان كموازيننا، وقد تناسب ذلك فكرة تجسّم الأعمال، وعليه أيضاً بعض الروايات، إلّا أنّ المعنى الأصلي للميزان أعمّ وأوسع من ذلك؛ لأنّه المقياس الذي يؤخذ به قياس الأشياء، فميزان الحرارة مثلاً في هذه الدنيا يختلف حاله عن ميزان الأمتعة، وميزان مستوى الفهم والعقل أو قوّة الذاكرة أو غير ذلك يختلف بعضها عن البعض الآخر.

وقد ورد في الأخبار لتشخيص ميزان يوم القيامة ميزانان معنويّان وكلّ واحد منهما قابل للتطابق مع الآخر:

أحدهما: أشخاص معيّنون يعتبرون مقاييس أو تعتبر أعمالهم مقاييس، فيوزن العاملون أو الأعمال بهم أو بأعمالهم.

ففي الحديث: «سئل الصادق(عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً﴾ قال: الموازين الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)»(1)، وفي حديث آخر قال (عليه السلام): «الرسل والأئمّة من آل بيت محمّد(عليهم السلام)»(2)، وعن ابن عباس: «الموازين الأنبياء والأولياء»(3)، وفي رواية اُخرى: «نحن الموازين القسط»(4)، وقد ورد في زيارة إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام): «اَلسَّلامُ عَلى ميزانِ الاَْعْمالِ، وَمُقَلِّبِ الاَْحْوالِ، وَسَيْفِ ذِي الْجَلالِ، وَساقِي السَّلْسَبيلِ الزُّلالِ»(5).

ثانيهما: العدل، فقد روي عن هشام بن الحكم: أنّ من أسئلة الزنديق من


(1) البحار 7: 251، وانظر الكافي 1: 419، وتفسير البرهان 3: 61.

(2) تفسير البرهان 3: 61.

(3) المصدر السابق.

(4) كنز الدقائق 5: 41 نقلاً عن تفسير الصافي.

(5) راجع مفاتيح الجنان، الزيارة الاُولى من الزيارة المطلقة لأمير المؤمنين(عليه السلام).

363

الصادق(عليه السلام) قوله: فما معنى الميزان؟ قال(عليه السلام): «العدل». قال: فما معناه في كتابه: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُه﴾؟ قال: «فمن رجح عمله»(1).

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «وأمّا قوله تبارك وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً﴾ فهو ميزان العدل، يؤخذ به الخلائق يوم القيامة، يدين الله تبارك وتعالى الخلق بعضهم من بعض بالموازين»(2).

ولا تنافي بين الطائفتين؛ فإنّ المعصومين(عليهم السلام) هم مظهر العدل الحقيقي الكامل، فكونهم ميزاناً للأعمال يساوق كون العدل ميزاناً للأعمال وبالعكس.

هذا وقد ورد في بعض الأخبار اختصاص الميزان بأهل الإسلام، فقد ورد في الحديث عن إمامنا زين العابدين(عليه السلام): «اعلموا عباد الله، أنّ أهل الشرك لا ينصب لهم الموازين ولا ينشر لهم الدواوين، وإنّما يحشرون إلى جهنّم زمراً، وإنّما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام»(3).

 

الاُمور التي تثقّل الميزان:

نختم حديثنا عن الميزان بالإشارة إلى اُمور ورد في الأحاديث أنّها تثقّل الميزان:

1 ـ حسن الخلق بمعنى حسن المداراة مع الناس.

فقد ورد عن إمامنا زين العابدين(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ما يوضع في


(1) البحار 7: 249 نقلاً عن الاحتجاج.

(2) البحار 7: 250.

(3) الكافي 8: 75، كتاب الروضة، موعظة لعليّ بن الحسين(عليه السلام).

364

ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق»(1).

2 ـالصلاة على محمّد(صلى الله عليه وآله) وآله.

ففي صحيح محمّد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام) قال: «ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة على محمّد وآل محمّد، وإنّ الرجل لتوضع أعماله في الميزان فتميل به، فيخرج(صلى الله عليه وآله)الصلاة عليه، فيضعها في ميزانه، فيرجح به»(2).

3 ـحبّ أهل البيت(عليهم السلام).

فقد ورد عن إمامنا الباقر(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): حبّي وحبّ أهل بيتي نافع في سبعة مواضع أهوالهنّ عظيمة: عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط»(3).

 

 

 

* * *

 


(1) البحار 7: 249.

(2) الكافي 2: 494.

(3) البحار 7: 248، الباب 10 من أبواب المعاد.

365

 

4 ـ سوق الكفّار والمؤمنين إلى مثواهم الأخير

 

المرحلة الرابعة لمراحل عالم الآخرة أو يوم القيامة هي مرحلة سوق الكفّار والمؤمنين إلى مثواهم الأخير: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ...﴾(1)، ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ...﴾(2).

وعمدة البحث في هذه المرحلة الخلود، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لاَِجَل مَّعْدُود * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ﴾(3).

ونحن إنّما بدأنا حديثنا في الخلود بهذه الآية المباركة دون باقي آيات الخلود؛ لأنّها الآية التي قد يتوهّم أنّها ضدّ الخلود، فلابدّ من بحث فيها يرفع هذا التوهّم.

وسبب التوهّم واضح، وهو الاستثناء الموجود من الخلود بلحاظ أهل النار وبلحاظ أهل الجنّة، وهو استثناء مشيئة الربّ تعالى، فقد يخطر بالبال أنّ هذا الاستثناء يعني اقتطاعاً زمنيّاً في آخر الأمر، وهذا يعني عدم الخلود.

ومن هنا قد يفترض أنّ هذه الآية لا علاقة لها بيوم القيامة؛ كي لا تنافي


(1) س 39 الزمر، الآية: 71.

(2) س 39 الزمر، الآية: 73.

(3) س 11 هود، الآية: 103 ـ 108.

366

الخلود في الجنّة والنار الاُخرويتين، فهي راجعة إلى عالم البرزخ.

إلّا أنّ هذا بعيد غاية البعد؛ لأنّ الصفات التي ذكرت في صدر الآية كلّها صفات يوم القيامة، وهي أنّه يوم مجموع له الناس، وأنّه يوم مشهود، وأنّ الله تعالى يؤخّره لأجل معدود، وأنّه يأتي في المستقبل فلا تكلّم نفس إلّا بإذنه، ومن الواضح أنّ هذه الصفات لا علاقة لها بعالم البرزخ.

أمّا قوله تعالى: ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْض﴾ فلا يشهد لرجوع الأمر إلى عالم البرزخ؛ لأنّ السماوات والأرض موجودتان في يوم القيامة أيضا ولو بعد التبديل كما قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَات﴾(1).

وأمّا الجواب الحقيقي عن أصل الإشكال فهو: أنّ الاستثناء هنا لم يكن بمعنى الاقتطاع الزمنيّ، وإنّما هو مجرّد تعليق على مشيئة الله تعالى والذي هو ثابت في كلّ شيء، والشاهد على ذلك قوله عزّوجلّ بالنسبة لأهل الجنّة بعد الاستثناء المذكور: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ﴾، فلو كان هناك فناء لأهل الجنة أو للجنّة لم يكن العطاء غير مجذوذ.

وهذه القرينة وإن جاءت بعد الاستثناء بلحاظ أهل الجنّة، ولم ترد في الآية المباركة بلحاظ أهل النار قرينة مماثلة ولكن وحدة السياق أبطلت الدلالة على عدم الخلود في الآيتين.

ثُمّ إنّ استثناء المشيئة قد ورد أيضاً في القرآن في مورد آخر بشأن أهل النار، وذلك في سورة الأنعام، قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْض وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ


(1) س 14 إبراهيم، الآية: 48.

367

حَكِيمٌ عَليم﴾(1).

والجواب هنا أيضاً نفس الجواب، فإنّ الظاهر أنّ المقصود هو استثناء المشيئة فحسب والذي هو ثابت في كلّ شيء، وليس الاستثناء الزمني.

كما يحتمل هنا أيضاً ـ ولو ضعيفاً ـ إشارة الكلام إلى المؤمنين الفسقة الذين سينجون من النار بالشفاعة.

وقد يشكّك في أصل معنى الخلود فيقال: إنّ الخلود لا يعني الدوام الأبدي؛ لأنّه قد يستعمل بمعنى المكث الطويل.

إلّا أ نّني لا أظن أنّ صراحة الخلود في معنى الدوام التامّ أقلّ من صراحة مثل كلمة الأبد، أمّا استعماله في المكث الطويل فليس إلّا بقرينة، كما هو الحال في كلّ مجاز، وكما هو الحال في كلمة الأبد أيضاً فيقال مثلاً: إنّ فلاناً سجن من قبل الحكومة سجناً مؤبّداً، والمقصود بذلك ليس إلّا السجن الطويل المدّة، كما هو مصطلح اليوم، أو مدى العمر بقرينة أنّه ليس في الدنيا شيء مؤبّد؛ لأنّ أصل الدنيا غير مؤبّدة، ولأنّ عمر الإنسان غير مؤبّد فسينتهي السجن لا محالة.

ولو وقع الإصرار على عدم ظهور كلمة الخلود في الدوام الكامل بدعوى أنّه يستعمل في كلا المعنيين: الخلود والمكث الطويل، فالتصريح بالأبد أو الدوام أو نحو ذلك وارد في القرآن بشأن أهل الجنّة وبشأن أهل النار في موارد عديدة:

أمّا بشأن أهل الجنة فمن قبيل:

1 ـ قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَة﴾(2).

2 ـ قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلا﴾(3).

 


(1) س 6 الأنعام، الآية: 128.

(2) س 4 النساء، الآية: 57.

(3) س 4 النساء، الآية: 122.

368

3 ـ قوله تعالى:﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾(1).

4 ـ قوله تعالى:﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيم﴾(2).

5 ـ قوله تعالى:﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾(3).

6 ـ قوله تعالى:﴿أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً﴾(4).

7 ـ قوله تعالى:﴿وَيُدْخِلْهُ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾(5).

8 ـ قوله تعالى:﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً﴾(6).

9 ـ قوله تعالى:﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه﴾(7).

10 ـ قوله تعالى:﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ...﴾(8).

وأما بشأن أهل النار فمن قبيل:

1 ـ قوله تعالى:﴿إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً﴾(9).

2 ـ قوله تعالى:﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾(10).


(1) س 5 المائدة، الآية: 119.

(2) س 9 التوبة، الآية: 22.

(3) س 9 التوبة، الآية: 100.

(4) س 18 الكهف، الآية: 2 ـ 3.

(5) س 64 التغابن، الآية: 9.

(6) س 65 الطلاق، الآية: 11.

(7) س 98 البينة، الآية: 8.

(8) س 13 الرعد، الآية: 35.

(9) س 4 النساء، الآية: 169.

(10) س 33 الأحزاب، الآية: 65.

369

3 ـ قوله تعالى:﴿فَإنَّ لَهُ نار جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيْها أَبَدَاً﴾(1).

4 ـ قوله تعالى:﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيم﴾(2).

5 ـ قوله تعالى:﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُون﴾(3).

6 ـ قوله تعالى:﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار﴾(4).

هذا ولولا الخلود في الجنّة لكان عيشهم منغّصاً بهادم اللذّات وهو الموت.

وقد سبق منّا بيان: أنّ أقوى نزعة فطرية في الإنسان وأقوى شهوة لهي شهوة الخلود، فهي ألحّ على الإنسان من شهوة الجنس، والتفسير المعقول لذلك هو أ نّا خلقنا للبقاء لا للفناء.

وأمّا أنّ الخلود لأهل النار ليس من صالحهم فهذا بسوء فعالهم وليس بتقصير أو ظلم من الله سبحانه وتعالى.

وأمّا ما ورد في بعض الروايات عن أهل البيت(عليهم السلام) في تفسير الآية التي فيها استثناء مشيئة الله تعالى فهو التفصيل بين الاستثناء بلحاظ الجنّة والاستثناء بلحاظ النار، بحمل الأوّل على مجرّد التعليق على مشيئة الله والذي هو ثابت في كلّ شيء، وحمل الثاني على الفسقة الذين ليسوا خالدين في النار فهم يعذّبون في النار مدّة من الزمن ثُمّ يخرجون منها(5).

ولعلّ المقصود ليس هو التفصيل في مفهوم الاستثناء بين الموردين،


(1) س 72 الجنّ، الآية: 23.

(2) س 5 المائدة، الآية: 37.

(3) س 43 زخرف، الآية: 77.

(4) س 2 البقرة، الآية: 167.

(5) راجع كنز الدقائق 6: 247، حديث حمران، وحديث أبي بصير عن أبي جعفر(عليه السلام) نقلاً عن تفسير العيّاشي.

370

فكلاهما بمعنى التعليق على مشيئة الربّ الثابتة في كلّ شيء، وإنّما المقصود التفصيل بين المشيئتين: بأنّ الاُولى لن تتحقّق، والثانية سوف تتحقّق بشأن المؤمنين الفسقة دون الكفّار ومن يُلحق بهم.

وورد في حديث آخر أيضاً ـ لا بعنوان تفسير الآية ـ عن الحسن بن علي الناصر] ي [ عن أبيه، عن محمّد بن علي عن أبيه الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين(عليهم السلام) قال: «قيل لأمير المؤمنين(عليه السلام): صف لنا الموت فقال: على الخبير سقطتم، هو أحد اُمور ثلاثة يرد عليه: إمّا بشارة بنعيم الأبد، وإمّا بشارة بعذاب الأبد، وإمّا تخويف وتهويل وأمر مبهم لا يدرى من أيّ الفريقين هو:

فأمّا وليّنا المطيع لأمرنا فهو المبشَّر بنعيم الأبد، وأمّا عدوّنا المخالف علينا فهو المبشَّر بعذاب الأبد، وأمّا المبهم أمره الذي لا يدري ما حاله فهو المؤمن المسرف على نفسه لا يدري ما يؤول إليه حاله يأتيه الخبر مبهماً محزناً، ثُمّ لن يسوّيه الله عزّ وجلّ بأعدائنا، لكن يخرجه من النار بشفاعتنا، فاعملوا وأطيعوا ولا تنكلوا ولا تستصغروا عقوبة الله عزّ وجلّ، فإنّ من المسرفين من لا تلحقه شفاعتنا إلّا بعد ثلاث مئة ألف سنة»(1).

أيّها القارئ الكريم، حينما نجد أنفسنا في فراش الموت وقبل أن نتعرّض لحالة النزع، أيّ هول سنشعر به؛ لتركنا جميع ما نملك عدا أعمالنا؛ ولإقبالنا على عالم جديد مجهول لدينا؟ فكيف بنا لو نزلت سكرات الموت فاُرينا التخويف والتهويل والأمر المبهم حسب تعبير هذه الرواية؟

والجهل بالعاقبة قد فطّر قلوب جميع العارفين بالله، فماذا ينبغي أن يصنع بنا


(1) راجع كنز الدقائق 6: 245 حديث حمران، وحديث أبي بصير عن أبي جعفر(عليه السلام) نقلاً عن معاني الأخبار.

371

نحن الجهلة الغافلين؟ أسال الله تعالى أن يختم لنا بالسعادة، «اللهم اختم لنا بخير حتّى لاتضرّنا الذنوب»، وفي الحديث عن الصادق(عليه السلام) عن أبيه عن آبائه(عليهم السلام)عن عليّ(عليه السلام) أنّه قال: «حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة، وحقيقة الشقاوة أن يختم للمرء عمله بالشقاوة»(1).

وعلى أيّة حال فقد اتّضح بهذا العرض أنّ فكرة الخلود في الجنّة لا غموض فيها ولا شبهة.

 

شبهتان حول الخلود في النار وردّهما:

نذكر في نهاية الكلام في هذه المرحلة من مراحل المعاد شبهتين حول مسألة الخلود في النار:

الشبهة الاُولى: التمسّك بالآية الشريفة في سورة النبأ: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلْطَّاغِينَ مَآباً * لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً﴾(2)، فقد يتصوّر أنّ الآية تدلّ على انتهاء العذاب واللبث فيه بعد مضيّ أحقاب.

إلّا أنّ الواقع أنّ الأحقاب بمعنى المُدد الطويلة ـ غير معلومة الأمد أو معلومة الأمد على رأي من فسّر الحُقب بثمانين أو سبعين أو أربعين سنة ـ لا تدلّ على نفي الخلود؛ إذ لم يُذكر عدد للأحقاب تنتهي بانتهائه، بل قد تكون أحقاباً غير متناهية، وبكلمة اُخرى: أنّ الأحقاب بنفسها يمكن أن تكون أحقاباً متناهية، ويمكن أن تكون أحقاباً غير متناهية، فذكر هذه الكلمة لا يكون دليلاً على التناهي.

 


(1) راجع كنز الدقائق 6: 246 حديث حمران، وحديث أبي بصير عن أبي جعفر(عليه السلام) نقلاً عن الخصال.

(2) س 78 النبأ، الآية: 21 ـ 23.

372

ولو فرض إيحاء للعبارة بعدم الدوام فليس هذا الإيحاء قابلاً للمقاومة في مقابل التصريحات الماضية.

الشبهة الثانية: أنّ دوام العقاب مخالف لعدل الله سبحانه وتعالى؛ لأنّه لم تصدر منهم إلّا المعصية المنتهية بالموت، فكيف يقابَلون بعذاب غير متناه؟

والواقع أنّ هذا الإشكال ينشأ من تخيّل أنّ العذاب في القيامة يكون شيئاً من قبيل التقاصّ لسحق العاصي حقّ المولى تعالى، فكأنّ المولى عزّوجلّ يريد أن يأخذ حقّه منه بالعذاب فيقال: إنّ حقّ العذاب من قبل المولى لن يكون بأزيد من عصيان العبد إيّاه، وقد كان العصيان مؤقّتاً محدوداً، فكيف يستعقب عذاباً أبدياً؟

إلّا أنّه لو كان الأمر كذلك لورد إشكال أعظم من ذلك على العقاب، وهو: أنّ الله تعالى غنّي عن أخذ حقّه، فلماذا يأخذ حقّه بالعذاب؟ فتفسير العذاب بذلك من أساسه باطل.

والأمر المعقول في تفسير عذاب الآخرة ليس إلّا أحد اتّجاهين:

الأوّل: أن يكون العذاب أثراً تكوينياً للعمل، فكما لا يمكن أن يعترض على ترتب مرض مستمرٍّ على أكلة خاطئة أو شرب شربة مخالف لإرشاد الطبيب بأنّ الخطأ الذي صدر من الفاعل لم يكن إلّا أكلة قليلة أو شربة واحدة، فلماذا يعذّب طول عمره بذاك المرض؟ ولا يصح أن يقال: إنّ من أخطأ بشرب السمّ لم يكن المفروض أن يجازى بأشدّ الاُمور وهو الموت والحرمان الدائم من حياته، كذلك لا يرد إشكال من هذا القبيل على عذاب الآخرة؛ فإنّ عمل الإنسان لا ينفكّ من الإنسان ﴿وَكُلَّ إِنسَان أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِه﴾(1)، وربما يكون أثر عمله


(1) س 17 الإسراء، الآية: 13.

373

العذاب الدائم من دون فرق في ذلك بين القول بتجسّم الأعمال ـ كما قد يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَه﴾(1) وغير ذلك من الآيات ـ والقول بأنّ نسبة العقاب إلى العمل نسبة المعلول إلى العلّة.

الثاني: أن يكون العذاب أمراً استحقاقياً لظلمة النفس ورَينها الناتجين من المعاصي، وكان بالإمكان علاج ذلك في الدنيا بماء التوبة وبالخضوع للغيب، فإنّ الندم عن غيب يغسل النكتة السوداء التي ظهرت في القلب، وأمّا الندم الناتج من تحوّل الغيب إلى الشهود فلا يخلق تحوّلاً في النفس: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون﴾(2).

ولعلّه يشير إلى هذا المعنى الحديث الذي ورد عن الصادق(عليه السلام) معلّلاً الخلود بقوله(عليه السلام): «إنّما خلّد أهل النار في النار؛ لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة؛ لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا لو بقوا أن يُطيعوا الله أبداً ما بقوا، فالنيّات تخلّد هؤلاء وهؤلاء». ثُمّ تلا قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه﴾(3). قال: «على نيّته»(4).

نعم الذين بقي في قلوبهم بصيص من النور: فإمّا أنّ نفس احتراقهم بالنار يصقل أنفسهم ويطهّرها، أو أنّه تدركهم الشفاعة آخر الأمر فيتحوّلون إلى الجنّة، أمّا لو لم يبق بصيص من النور في القلب فالظلمة والرَين لا ينفصلان عن الشخص، وماداما موجودين في القلب يستحق صاحبه العذاب، ولا يمكن


(1) س 99 الزلزلة، الآية: 7 ـ 8.

(2) س 6 الأنعام، الآية: 28.

(3) س 17 الإسراء، الآية: 84.

(4) البحار 8: 347، الباب 26 من أبواب المعاد، الحديث 5.

374

تحصيل بصيص النور في ذاك العالم، وإنّما هو نور ينقله الإنسان معه إلى الآخرة من هذه الدنيا: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً﴾(1)، أي إنّ النور يجب أن يلتمس ممّا قبل عالم الآخرة وهو عالم الدنيا.

والخلاصة بناءً على هذا الاتجاه: أنّ استحقاق العذاب يكون لأجل الظلمة والرَين الثابتين على القلب وفقدان النور، وما داما دائمين فالعذاب دائم، وتحصيل النور لا يمكن إلّا بالرجوع إلى الوراء أي الدنيا، والرجوع إلى الدنيا لا ينفعهم لتحصيل النور؛ لأنّهم لو رُدّوا لعادوا لما نهوا عنه، فهذا هو سرّ الخلود في النار.

وما ألطف تعبير القرآن عن هذه الحالة بخسران النفس، فقد قال عزّ من قائِل: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُون﴾(2)، ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يِظْلِمُون﴾(3)، ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُون﴾(4)، ﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُون﴾(5)، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَاب مُّقِيم﴾(6)، ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾(7).

 


(1) س 57 الحديد، الآية: 13.

(2) س 23 المؤمنون، الآية: 103.

(3) س 7 الأعراف، الآية: 9.

(4) س 7 الأعراف، الآية: 53.

(5) س 11 هود، الآية: 21 ـ 22.

(6) س 42 الشورى، الآية: 45.

(7) س 6 الأنعام، الآية: 12.

375

 

خاتمة في الشفاعة

 

قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾(1)، وممّا يوجد بصريح القرآن في محكمة عدل الله في يوم القيامة هي الشفاعة، وأقصد بها في هذا البحث ما يسمّى بشفاعة المغفرة، أي إنّ هناك من ينجو من عذاب الله بسبب شفاعة الشافعين.

وبما أنّنا عرضنا هذا البحث بشيء من التفصيل في كتابنا «تزكية النفس» لا نرى مزيد حاجة هنا لشرحه، ولكننا نشير إلى ذلك باختصار؛ لأنّ الشفاعة مفردة من مفردات تلك المحكمة، وقد صرّح بها في آيات قرآنيّة كثيرة كالتي بدأنا الحديث بها.

إلّا أنّ شرذمة ممّن سمّوا أنفسهم باسم الإسلام وهم بعيدون عن الإسلام كلّ البعد قد أنكروا الشفاعة.

وقد روى السيّد الطباطبائي(قدس سره) في تفسيره(2) عن أمالي الصدوق، عن الحسين بن خالد، عن الرضا(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي، ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي. ثُمّ قال(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي، فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل...».

قال السيّد الطباطبائي(قدس سره) في ذيل نقله لهذا الحديث: قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «...إنّما شفاعتي...» هذا المعنى رواه الفريقان بطرق متعددة عنه(صلى الله عليه وآله وسلم).


(1) س 20 طه، الآية: 109.

(2) الميزان 1: 174 ـ 175.

376

وقال أيضا السيّد الطباطبائي(قدس سره) لدى نقل حديث تفسير المقام المحمود بالشفاعة: وهذا المعنى مستفيض مرويّ بالاختصار والتفصيل بطرق متعدّدة من العامّة والخاصّة... .

والأصل في إنكار الشفاعة ما هو المألوف غالبا في المحاكم الدنيوية من أنّ الشفيع قنطرة لإبطال الحقّ وإحقاق الباطل، فلئن كان المفروض أنّ القاضي يحكم بالعدل، وأنّ الشفيع جاء كي يؤثّر على حكم القاضي ويغيّره، فهذا يعني أنّ الشفيع جاء لكي يبطل حقّاً أو يحقّ باطلاً، وبما أنّ المفروض أنّ فضاء يوم القيامة منزّه عن أيّ لون من ألوان الباطل أو الظلم، فتدخّل الشفاعة فيه أمر غير معقول.

بل ربما أسرف بعض مخالفي الشفاعة إلى حدّ القول بأنّ الإيمان بالشفاعة مساوق للشرك.

وإنّما أسمينا ذلك بالإسراف لأنّ من الواضح أنّ الشفاعة إنّما تؤدّي إلى الشرك لو فرضت تدخّلاً في الأمر رغم إرادة الله تعالى وعلى خلاف ما يُرضي الله عزّ وجلّ، أمّا إذا قُرّر أنّه ﴿لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾(1)، وأن ليس حالها إلّا حال الدعاء الذي إن أراد الله استجابه وإن لم يرد رفضه، فلا معنى لافتراض الإيمان بها شركاً بالله إلّا إذا افترض أنّ الإيمان بالدعاء أيضاً شرك بالله.

وعلى أيّ حال فليس غريباً من مخالفي نهج القرآن الواضح إنكار الشفاعة، إنّما الغريب أن يقول من يعتبر في صفوف المؤمنين بالشفاعة: إنّ الشفاعة أمر صوريّ، وإنّ الله تعالى حينما يريد أن يغفر لأحد يفترض ظاهراً أنّ مغفرته إياه كان لأجل فلان الشفيع، وذلك إبرازاً لعظمة ذاك الشفيع واحترامه.


(1) س 21 الأنبياء، الآية: 28.

377

وإليك نصّ كلام هذا الباحث: «أمّا الشفاعة التي جاء الحديث عنها في الروايات المتعدّدة عن السنّة والشيعة فإنّها ليست حالة وساطة بالمعنى الذي يفهمه الناس في علاقاتهم بالعظماء لديهم الذين قد لا يستطيع الناس مخاطبتهم بشكل مباشر للحواجز المادّية الفاصلة بينهم وبين الناس؛ ولذلك يلجأ الناس إلى الأشخاص الذين تربطهم بهم علاقة مودّة أو مصلحة أو موقع معيّن ليكونوا الواسطة في إيصال مطالبهم إليهم وقضاء حوائجهم عنده.

إنّ الشفاعة هي كرامة من الله لبعض عباده في ما يريد أن يظهره من فضلهم في الآخرة، فيشفّعهم في من يريد المغفرة له ورفع درجته عنده؛ لتكون المسألة ـ في الشكل ـ واسطة في النتائج التي يتمثّل فيها العفو الإلهي والنعيم الرباني، تماماً كما لو كان النبيّ هو السبب أو كان الوليّ هو الواسطة، ولكنها ـ في العمق ـ إرادة الله لذلك ممّا لا يمكن لنبيّ مرسل أو ملك مقرّب أو وليّ امتحن الله قلبه للإيمان أمر تغييرها في الاتجاه الذي تتحرّك فيه، وبذلك فهم يدرسون مواقع رضا الله في عباده ليقوموا بالشفاعة، أو ليأذن الله لهم بالشفاعة، وفي ضوء ذلك لا معنى للتقرّب للأنبياء والأولياء ليحصل الناس على شفاعتهم؛ لأنّهم لا يملكون من أمرها شيئاً بالمعنى الذاتي المستقل، بل الله هو المالك لذلك كلّه على جميع المستويات، فهو الذي يأذن لهم بذلك في مواقع محدّدة ليس لهم أن يتجاوزوها، الأمر الذي يفرض التقرب إلى الله في أن يجعلنا ممن يأذن لهم بالشفاعة له، وهذا هو الذي نفهمه من آيات الشفاعة في القرآن التي تؤكّد على أنّها قضية تتّصل بالله، فليس لأحد أن يمارسها إلّا بإذنه في من ارتضاهم الله لينالوا عفوه قال الله تعالى: ﴿لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً «19/87» ﴾، ﴿يَوْمَئِذ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن «20/109» ﴾،﴿وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَه «34/23» ﴾،

378

﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾(1).

وليس معنى إذن الله للشفعاء أنّه أعطاهم الحرّيّة في ذلك، أو أنّه يتقبّل منهم ذلك على أساس خصوصيات علاقاتهم ليتقرّب الناس منهم بالوسائل الخاصّة التي تثير مشاعرهم وتؤكّد علاقاتهم بهم بشكل شخصي كما هي الأشياء الشخصية، بل إنّ معنى ذلك أنّ الله جعل لهم هذه الكرامة ليستعملوها في ما يوافق رضاه؛ لأنّ المفروض أنّ رضاهم لا ينفصل عن خط رضاه، كما أنّ رضاه يتحرّك في آفاق حكمته لا في آفاق رغبات القريبين إليه بالمعنى الذاتي للمسألة.

وفي ضوء ذلك فإنّ الاستشفاع بالأنبياء والأولياء لا يمثّل خروجاً عن توحيد الاستعانة بالله؛ لأنّه يرجع في الحقيقة إلى طلب المغفرة من الله، والنجاة من النار من خلال ما اقتضته إرادة الله وحكمته في ارتباط عفوه بشفاعة هذا النبيّ أو الوليّ على أساس ما أراده الله من حكمته في ذلك»(2).

وحاصل هذا الكلام: أنّ الشفاعة لا تعني استجابة الله تعالى لرغبة الشفيع في المغفرة رغم عدم المغفرة لولا الشفاعة، وإنّما تعني أنّ الله تعالى حينما قرّر المغفرة لفلان أراد من الشفيع أن يشفع له حتّى تتم مغفرته إيّاه باسم طلب هذا الشفيع، وذلك نوع تكريم وتعظيم للشفيع.

أقول: إنّ الشفاعة الشكلية ـ حسب تعبيره ـ ينبغي أن يطيّب بها خاطر الأطفال ويكرّموا بها، لا خاطر الأنبياء والأوصياء والأولياء، ولا معنى لافتراضها مقاماً محموداً ولا لادّخارها لأهل الكبائر، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل.

 


(1) س 21 الأنبياء، الآية: 28.

(2) من وحي القرآن 25: 66 ـ 69.

379

ولئن فرض العجز عن حلّ إشكالات الشفاعة بمعناها الحقيقي فليس الطريق المعقول سلوكه هو القول بالشفاعة الشكلية، وإنّما الطريق الذي يكون سلوكه أكثر منطقية عندئذ هو إنكار الشفاعة لا سمح الله.

ولحل مشكلة الشفاعة أحد طريقين لا ثالث لهما:

الأوّل: ما ذهب إليه المرحوم الشهيد الشيخ المطهّري(قدس سره) من أنّ الشفاعة وإن كانت أمراً حقيقياً وليست أمراً صورياً وشكلياً ولكنّها طريق تكوينيّ لنزول الرحمة والمغفرة والتطهير من قبل الله تعالى إلى العبيد، فهي تبدأ من الله وتنتهي إلى العاصي عن طريق الأنبياء والأوصياء والأولياء والمؤمنين، بخلاف ما هو المتعارف في الدنيا من الشفاعة بين الناس ممّا يبدأ بالعاصي بطلبه من الشفيع، وينتهي بالحاكم أو السلطان ممّن له العقاب، فيعفو عن الذنب ويرفع عنه العقاب.

الثاني: ما يعني الالتزام بأنّ الشفاعة حتّى في ما لو بدئ بها عن طريق طلب المذنب وإلحاحه على الشفيع أو زيارته إياه أو نحو ذلك، لكنها في الحقيقة إثابة للمولى سبحانه على حسنات الشفيع، فيستجيب لشفاعته شكراً لما له من مقامات عالية إلهيّة، وليس ذلك بمعنى أن يتقبّل الله منه شفاعته لسحق حقّ مظلوم كما يتفق في الدنيا، بل إنّ الحق الذي يغفر للمذنب بطلب الشفيع إمّا أن يكون حقّاً إلهياً يتنازل الله تعالى عنه إثابةً للشفيع، أو يكون حقّاً من حقوق الناس يُرضي الله صاحبه بتعويضه إيّاه بما لا عينٌ رأت ولا اُذن سمعت، فصاحب الحق يتنازل عن حقّه طلباً لذلك التعويض.

وقد ورد في الحديث على ما رواه السيّد الطباطبائي(قدس سره) في تفسيره عن تفسير الفرات عن بشر بن شريح البصري قال: «قلت لمحمّد بن عليّ(عليه السلام): أيّة آية في كتاب الله أرجى؟ قال: فما يقول فيها قومك؟ قلت: يقولون:﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ