45

 

 

 

 

 

 

 

الكلام في أقسام المفهوم

 

مفهوم الشرط

يقع الكلام في مفهوم الشرط في مقامات ثلاثة:

أوّلا: فيما هو مفاد القضيّة الشرطيّة.

ثانياً: في أنّه هل المعلّق سنخ الحكم(1) أو شخصه؟

ثالثاً: في أنّه هل الشرط علّة منحصرة أو لا؟

 

مفاد القضيّة الشرطيّة

أمّا المقام الأوّل: وهو البحث في مفاد القضيّة الشرطيّة بمنطوقها، فيقع البحث فيه من ثلاث جهات:

 

مفاد أداة الشرط:

الجهة الاُولى: في مفاد أداة الشرط.



(1) بأحد المعنيين الماضيين، أعني: مطلق الوجود أو ذات الطبيعة.

46

المشهور بين الاُصوليّين: أنّ أداة الشرط تدلّ وضعاً على تعليق الجزاء على الشرط(1).

لكنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) ذكر: أنّ أداة الشرط إنّما يكون مفادها جعل الشرط مقدّراً، والترتّب إنّما يستفاد من ترتيب الجزاء على الشرط(2)، وليس للأداة دخل في ذلك(3).

ويتّضح مراده(قدس سره) بالنظر إلى ما يقال في الجملة الحمليّة: من أنّها تارةً تكون خارجيّة واُخرى حقيقيّة:

فالخارجيّة ما يكون قد حكم فيه بالمحمول على الموضوع المحقّق الوجود في زمان خاصّ أو في أحد الأزمنة الثلاثة، فمثال الأوّل: (كلّ مَن في العسكر قتل)، ومثال الثاني: (كلّ إنسان يموت).

والحقيقيّة ما يكون قد حكم فيه بالمحمول على الموضوع أعمّ من تحقّقه في أحد الأزمنة الثلاثة وعدمه، وذلك بأن لا يلحظ الموضوع بعنوان الإشارة إلى ما في الخارج، بل يقدّر الموضوع محقّقاً ويحكم عليه وإن لم يكن محقّقاً، وذلك كقولنا: (كلّ إنسان حيوان ناطق)، فإنّه ليس معناه أنّ خصوص الأفراد المتحقّقة في الخارج في أحد الأزمنة حيوان ناطق، بل معناه أنّه كلّما فرض إنسان فهو حيوان ناطق. ونحوه قولنا: (النار حارّة)، فإنّ معناه أنّه كلّما فرض النار فهي



(1) ولو بالمعنى الأوّل للتعليق، أعني: مجرّد الربط والترتّب بالمعنى المنظور إليه من طرف الشرط إلى الجزاء.

(2) يعني بالفاء أو بالهيئة التركيبيّة.

(3) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 53 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام)، التعليق رقم: 20، وص 412، التعليق رقم: 248.

47

حارّة، لا بمعنى موضوعيّة ذات الفرض والتقدير حتّى يلزم حصول الحيوان الناطق أو الحرارة بصِرف تصوّر الإنسان أو النار وفرضه، بل بمعنى فرض الموضوع وتقديره.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) أفاد أنّ أداة الشرط لا تفيد التعليق، وإنّما تفيد كون الشرط مفروضاً ومقدّراً، فيكون أعمّ من الموجود في أحد الأزمنة الثلاثة وغيره، نظير الموضوع في القضايا الحمليّة الحقيقيّة.

ثُمّ لمّا رتّب على هذا الشرط الجزاء فمن نفس هذا الترتيب يستفاد ترتّب الجزاء على الشرط، واستشهد(رحمه الله) على مدّعاه باُمور ثلاثة: أحدها: شهادة الوجدان بذلك. والثاني: كون المعروف بين علماء العربيّة ذلك(1). والثالث: أنّ أداة الشرط في اللغة الفارسيّة معناها ذلك، ومن المستبعد جدّاً الفرق في أداة الشرط بين اللغات.

ولكن ما ذكره(قدس سره) لا يمكن المساعدة عليه:

أمّا ما ذكره من شهادة الوجدان فممنوعة، بل الوجدان شاهد على خلافه.

وأمّا ما ذكره من شهادة علماء العربيّة بذلك(2) فإن ثبت فلا حجّيّة فيه.

وأمّا ما ذكره من كون مفاد أداة الشرط في الفارسيّة ذلك فهذا أيضاً ممنوع.

ولدينا برهان على المنع من دون فرق بين اللغات، وهو: أنّه لا إشكال في أنّ



(1) هذا الوجه الثاني غير موجود في كتابه وإنّما ورد فيه: أنّه نسب إلى علماء العربيّة أنّ القضيّة الشرطيّة تفيد ثبوت المحمول في التالي لموضوعه على تقدير المقدّم. راجع نهاية الدراية، ج 2 بحسب طبعة مؤسسّة آل البيت(عليهم السلام)، التعليق رقم: 20.

(2) مضى أنّه لم يذكر ذلك.

48

قولنا: (إن جاء زيد) جملة ناقصة لا يصحّ السكوت عليها، مع أنّ قولنا: (جاء زيد)جملة تامّة يصحّ السكوت عليها، فالنقص إنّما جاء من كلمة (إن)، ولا يعقل أن يجيء النقص من ناحيتها إلّا بأحد وجهين: إمّا بتبديل النسبة التامّة إلى الناقصة وجعل الكلمتين بمنزلة كلمة واحدة، وهي مجيء زيد(1)، وإمّا بأن تكون نفس كلمة (إن) بما لها من خصوصيّة المعنى محتاجة إلى التتميم بالجزاء.

والثاني هو المطلوب لنا؛ فإنّنا نقول: إنّ أداة الشرط تدلّ على تعليق الجزاء على الشرط، والتعليق طبعاً بحاجة إلى طرف يعلّق.

والأوّل باطل؛ فإنّ أداة الشرط لو كانت لمجرّد الفرض والتقدير أصبح عندئذ حالها حال أداة الاستفهام والنفي ونحوهما، فكما أنّ مفاد (جاء زيد) فيما لو دخل عليه الاستفهام أو النفي يبقى نفس مفاد الجملة التامّة ولا يتحوّل إلى معنى مفرد، غاية ما هناك يكشف الكلام بزيادة أداة الاستفهام أو النفي عن أنّه يوجد في نفس المتكلّم داعي الاستفهام عن نفس الجملة التامّة أو النفي لنفس الجملة التامّة، كذلك المفروض في المقام أن تكون الجملة باقية على النسبة التامّة وزيادة أداة الفرض والتقدير عليها موجبة لكشف الكلام عن وجود داعي الفرض والتقدير لنفس تلك الجملة التامّة في نفس المتكلّم.

فالواقع هو: أنّ أداة الشرط ربطت الجزاء بذاك الفرض وعلّقته عليه، وخصوصيّة المعنى هذه بحاجة إلى تكميل؛ لأنّ الربط والتعليق بحاجة إلى مايُربَط أو يُعلّق.

وبكلمة اُخرى: إنّ الأداة لم تكن لمجرّد تلوين الجملة بلون الفرض، وإلّا لكان حال ذلك حال تلوينها بلون الاستفهام أو النفي ولا تصبح الجملة بذلك ناقصة.

هذا. وفي مقابل هذا البرهان الذي ذكرناه يمكن البرهنة لصالح ما أفاده المحقّق



(1) من قبيل (أن) المصدريّة في قولنا: (أعجبني أن جاء زيد).

49

الإصفهانيّ(رحمه الله) من أنّ أداة الشرط إنّما تدلّ على الفرض والتقدير دون التعليق، وهو: أنّه قد يتّفق أنّ الجزاء يكون مستفهماً عنه، كما في قولنا: (إن جاءك زيد فهل تكرمه؟) أو: (فهل تقدر على إكرامه؟) أو قولنا: (إن جاءك عدوّك فكيف حالك؟) ونحو ذلك ممّا يفرض فيه كون مراد المتكلّم هو الاستفهام عن الجزاء، وتفسير ذلك على مسلك الشيخ الإصفهانيّ سهل ولكنّه قد يشكل على مسلكنا.

وتوضيح ذلك: أنّ الاستفهام تارةً: يكون عن أصل القضيّة الشرطيّة، كما لو قال: (هل إن جاءك زيد تكرمه؟) وفي هذا القسم لا يوجد إشكال؛ لأنّ المعلّق هو النسبة الخبريّة الثابتة في الجزاء، والاستفهام استفهام عن أصل التعليق، واُخرى: يكون عن نفس الجزاء، كما ذكرناه من الأمثلة بعد فرض إرادة الاستفهام فيها عن أصل الجزاء ـ كما يناسب ذلك دخول أداة الاستفهام على الجزاء من قبيل: (فهل تكرمه؟) أو كون الاستفهام مستبطناً في موضوع الجزاء من قبيل: (فكيف حالك؟) ـ لا عن أصل القضيّة، وإلّا لرجعت إلى القسم الأوّل. فهنا يوجّه سؤال على مسلكنا من دلالة الأداة على التعليق والربط، وهو: أنّه ما هو المعلّق في المقام، هل المعلّق هو الاستفهام أو المستفهم عنه؟

فإن قيل: إنّ المعلّق هو المستفهم عنه، لزم أن يكون الاستفهام استفهاماً عن أصل التعليق، وهذا هو القسم الأوّل، وكلامنا إنّما هو في القسم الثاني.

وإن قيل: إنّ المعلّق هو الاستفهام، لزم من ذلك أن لا يكون الاستفهام فعليّاً؛ لأنّه معلّق على الشرط، في حين أنّه لا إشكال في فعليّة الاستفهام وانتظار المستفهم للجواب(1).

 



(1) قد تقول: إنّ هذا لا يصلح برهاناً لكلام المحقّق الإصفهانيّ؛ لأنّه سلّم معنا دلالة

50

وهذا البرهان لم يذكره الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) وإنّما نحن نفترضه لصالحه.

ويمكن الجواب على ذلك بأنّنا وإن كنّا لا نقول بأنّ مفاد أداة الشرط مجرّد جعل جملة الشرط في حيّز الفرض والتقدير كما قاله الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله)؛ لأنّنا لو قلنا بذلك لانصدمنا بالبرهان السابق، ولكنّنا أيضاً لا نقول بأنّ أداة الشرط تدلّ على الربط والتعليق فحسب، حتّى يقال: لزم من ذلك كون الاستفهام غير فعليّ قبل فعليّة المعلّق عليه وهو الشرط، بل نقول: إنّ أداة الشرط تدلّ على ربط الجزاء بتقدير الشرط، فيكون مفاد الاستفهام هو الاستفهام الفعليّ عن حال الجزاء على تقدير الشرط، فالاستفهام فعليّ ولكنّ المستفهم عنه أمر تقديريّ، فمفاد قوله مثلا: (إن جاءك زيد فكيف حالك؟): كيف حالك عند مجيء زيد(1).

 

هل مفاد الأداة تعليق المدلول التصديقيّ أو المدلول التصوّريّ؟

الجهة الثانية: في أنّه لئن كانت أداة الشرط تفيد تعليق الجزاء على الشرط أو ربطه به وترتيبه عليه، يبقى السؤال عن أنّها هل تفيد رأساً تعليق المدلول


القضيّة الشرطيّة على تعليق الشرط على الجزاء، غاية الأمر أنّه قال: إنّ هذا التعليق ليس بأداة الشرط بل بالفاء أو بالهيئة التركيبيّة، ولكنّ الواقع أنّه لا يقول هو بالتعليق بهذا المعنى، وإنّما يرى أنّ النسبة في الجزاء إن كانت قبل الشرط بين ركنين: الموضوع والمحمول، فبعد الشرط أصبحت نسبة ذات أركان ثلاثة ثالثها: الشرط، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك في المتن.


(1) كأنّ المقصود أنّ تقسيم الاستفهام في القضيّة الشرطيّة إلى الاستفهام عن أصل القضيّة الشرطيّة والاستفهام عن نفس الجزاء، مرجعه في الحقيقة إلى تقسيم المستفهم عنه إلى كونه أصل القضيّة الشرطيّة تارةً ونفس الجزاء اُخرى.

51

التصديقيّ للجزاء على الشرط، أو أنّ مدلولها الأوّليّ هو تعليق المدلول التصوّريّعليه والدلالة التصديقيّة تنعقد بعد ذلك؟

يتّجه الوجه الأوّل بناءً على أحد فرضين:

الفرض الأوّل: أن نبني على مباني السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من أنّ الوضع عبارة عن تعهّد الواضع، وأنّ الجملة التامّة موضوعة للدلالة التصديقيّة، إذن فالجزاء موضوع للدلالة التصديقيّة على وجوب الإكرام مثلا، ولا محالة يكون هذا المعنى التصديقيّ هو الذي ربط بالشرط وعلّق عليه.

إلّا أنّنا قد برهنّا في محلّه على بطلان هذه المباني وأنّ الوضع ليس عبارة عن التعهّد، وأنّ الدلالة التصديقيّة مستفادة من ظهور الحال لا من الوضع، فلو قال مثلا: (جاء زيد) وأقام قرينة على أنّه في مقام الهزل لم يدلّ على الدلالة التصديقيّة الإخباريّة مع أنّه مستعمل في معناه الحقيقيّ.

الفرض الثاني: أن يقال: رغم أنّ الوضع لم يكن إلّا بلحاظ المدلول التصوّريّ، وأنّ المدلول التصديقيّ ينعقد بعد تمام الكلام بواسطة ظهور الحال، فكان المترقّب دلالة أداة الشرط على تعليق المدلول التصوّريّ للجزاء على الشرط، ولكن من باب ضيق الخناق رجع التقييد إلى الدلالة التصديقيّة؛ لأنّ المدلول التصوّريّ ليس إلّا معنى حرفيّاً غير قابل للتقييد والتعليق، فمفاد الهيئة الناقصة يستحيل تقييدها بالشرط أو تعليقها عليه، فلابدّ أن يكون القيد راجعاً إلى الدلالة التصديقيّة.

ولكنّنا بيّنّا في بحث الواجب المشروط خلاف ذلك وقلنا: إنّ مفاد الهيئة قابل للتقييد والتعليق.

وممّا يشهد أيضاً لكون التعليق راجعاً إلى المدلول التصوّريّ لجملة الجزاء لا التصديقيّ: أنّه قد يتّفق انسلاخ الجزاء عن مدلوله التصديقيّ بوضوح، فلا يمكن

52

أن يكون مدلوله التصديقيّ هو المعلّق، كما لو قال: (ليس إن جاء زيد وجب إكرامه)، أو قال: (هل إن جاء زيد وجب إكرامه؟) ونحو ذلك من الأمثلة، فإنّ المدلول التصديقيّ للجزاء في ذلك إن فُرض عبارة عن قصد الحكاية عن إكرام زيد، فإنّ المعلوم انسلاخه عن ذلك. وإن فُرض هي النسبة السلبيّة أو الاستفهاميّة فالمفروض أنّ أداة السلب أو الاستفهام سلّطت على الجملة الشرطيّة بشرطها وجزائها لا على الجزاء. فهذا دليل على عدم وضع الشرط لتعليق المدلول التصديقيّ للجزاء، وإلّا لأحسسنا بالمؤونة في مثل هذه الأمثلة.

ثُمّ لا يخفى أنّنا لو بنينا على أنّ المعلّق هو المدلول التصديقيّ للجزاء كان ذلك نكتة واضحة لأمر نحسّه بالوجدان، وتوضيح الكلام في ذلك:

أنّ عدم دلالة الجملة الشرطيّة الخبريّة على المفهوم أمر وجدانيّ لنا، وإنّما الكلام في ثبوت مفهوم الشرط في الجمل الطلبيّة، فلو قال مثلا: (إن جُعل الماء على النار أصبح حارّاً) فمن الواضح أنّه لا يدلّ هذا الكلام على أنّه لو جعل تحت حرارة الشمس مثلا لم يصبح حارّاً. ولو قال: (إن طلعت الشمس فالنهار موجود) لم يدلّ على نفي النهار على الإطلاق بانتفاء طلوع الشمس، ولو كان للشرط مفهوم فإنّما هو في باب الأحكام، من قبيل قوله: (إن بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء)، أو قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه).

وعندئذ نقول: لو آمنّا بأنّ المعلّق في القضيّة الشرطيّة عبارة عن المدلول التصديقيّ للجزاء يصبح عدم دلالة الشرطيّة الخبريّة على المفهوم مبرهناً بوضوح؛ لأنّ قوله: (إن طلعت الشمس فالنهار موجود) إن دلّ على الانتفاء عند الانتفاء فإنّما دلّ على انتفاء إخباره عن وجود النهار عند انتفاء طلوع الشمس، ومن الواضح أنّ هذا لا يستلزم انتفاء وجود النهار عند انتفاء طلوع الشمس.

53

ولكن قد عرفت أنّ الصحيح هو أنّ المعلّق على الشرط ابتداءً هي الدلالة التصوّريّة للجزاء لا التصديقيّة.

نعم، هنا مجال للبحث مرّة اُخرى عن أنّه هل تقتضي الجملة الشرطيّة تعليق الدلالة التصديقيّة للجزاء على الشرط تبعاً، وليس ابتداءً وبالأصالة أو لا؟

وتحقيق الكلام في ذلك ما يلي:

إنّ الجملة الشرطيّة لو كانت من سنخ ما أشرنا إليها ممّا يكون من الواضح انسلاخ الجزاء فيها عن المدلول التصديقيّ، كما في مثل: (ليس إن جاء زيد وجب إكرامه) أو (هل إن جاء زيد وجب إكرامه؟)، فمن الواضح أنّه هنا لا مجال للبحث عن تعليق الدلالة التصديقيّة للجزاء على الشرط ولو بالتبع.

وأمّا فيما لا يكون من هذا القبيل فقد يكون المدلول التصديقيّ للجزاء معلّقاً على الشرط وقد لا يكون، والأمر بيد المتكلّم.

وتوضيح ذلك: أنّنا تارةً: نصبّ البحث على الجمل الشرطيّة الخبريّة، واُخرى: على الطلبيّة:

أمّا في الجملة الخبريّة كقولنا: (إن جاءني زيد أكرمته): فالمتكلّم قد يقصد كون مركز الدلالة التصديقيّة نفس النسبة بين الشرط والجزاء، وقد يقصد كون مركزها النسبة الموجودة في الجزاء وليس ما بين الشرط والجزاء:

أمّا في الفرض الأوّل: فالدلالة التصديقيّة للكلام فيه إنّما هي نفس تعليق الدلالة التصوّريّة للجزاء على الدلالة التصوّريّة للشرط، ولا يقصد المتكلّم الحكاية عن الجزاء والكشف عنه أبداً، وإن كان يتمّ الكشف عن الجزاء بالملازمة متى ما تحقّق الشرط، إلّا أنّ هذا الكشف لم يكن مقصوداً مباشرة للمتكلّم، وما لم يتحقّق الشرط لم يتحقّق الكشف عن الجزاء، كما قالوا: إنّ صدق القضيّة الشرطيّة لا يتوقّف على صدق طرفيها.

54

وفي هذا القسم من الواضح عدم تعليق المدلول التصديقيّ للجزاء على الشرط؛ لأنّ مصبّ الدلالة التصديقيّة لم يفرض هو الجزاء حتّى يكون معلّقاً على الشرط، وإنّما مصبّها ذات التعليق، ومن هنا يكفي في صدق القضيّة ثبوت التعليق واقعاً وإن لم يتحقّق طرفاها في الخارج إلى الأبد.

وأمّا في الفرض الثاني ـ وهو ما لو قصد المتكلّم كون مركز الدلالة التصديقيّة في كلامه هو الجزاء ـ: فهذا أيضاً ينقسم إلى قسمين:

الأوّل: أن يقصد المتكلّم الكشف عن تحقّق الجزاء في الخارج تحقّقاً حتميّاً، فكأنّه فرض من المفروغ عنه أنّ الشرط سيتحقّق فسيتحقّق الجزاء، ويقصد الكشف عنه كشفاً فعليّاً وليس كشفاً يتمّ عند تحقّق الشرط.

وهنا أيضاً من الواضح عدم كون المدلول التصديقيّ معلّقاً على الشرط، فإنّ المفروض أنّ الحكاية وإن كان مصبّها الجزاء لكنّها ثابتة على نحو التنجيز. وعلى هذا فإن تحقّق في الخارج ـ في وقت من الأوقات ـ الجزاء بتحقّق الشرط كان الكلام صادقاً، وإلّا كان الكلام كاذباً، فصدق القضيّة الشرطيّة هنا مشروط بصدق طرفيها.

ولا يخفى أنّ هذا الفرض خلاف الظاهر من جهة أنّ الجزاء وقع مصبّاً للدلالة التصوّريّة والتصديقيّة، ولكنّ الدلالتين اختلفتا من حيث التعليق والتنجيز.

ويشهد لما ذكرنا من كون هذا الفرض خلاف الظاهر: أنّ مَن تكلّم بجملة شرطيّة لا يكذّبه أحد بصِرف عدم تحقّق طرفيها في الخارج إلى الأبد.

والثاني: أن يقصد المتكلّم أيضاً الكشف عن تحقّق الجزاء في الخارج لا بمعنى الكشف الحتميّ، فقصد الكشف وإن كان فعليّاً ولكنّ الكشف ليس فعليّاً، وإنّما يتحقّق متى ما تحقّق الشرط، وما لم يتحقّق الشرط ليس له كشف عن الجزاء، فلا يكون الكلام كذباً بصِرف عدم تحقّق الشرط والجزاء في الخارج إلى الأبد، فهنا أيضاً لا يكون صدق القضيّة الشرطيّة متوقّفاً على صدق طرفيها.

55

وهنا يكون المدلول التصديقيّ للجزاء معلّقاً ـ لا محالة ـ على الشرط، وتكون الحكاية غير متحقّقة قبل تحقّق الشرط في الخارج إلّا على نحو تحقّق الجعل في ظرف صِرف تقدير الشرط بما هو فان في ذات الشرط، إن قلنا بأنّ أداة الشرط ليست موضوعة للربط فقط، بل موضوعة للربط بالتقدير بما هو فان في ذات المقدّر، وإلّا فليست الحكاية متحقّقة فعلا حتّى بهذا النحو(1).

هذا كلّه في الجمل الخبريّة.

وأمّا إذا كانت الجملة إنشائيّة: فأيضاً تارةً: يكون مصبّ القصد الأوّليّ هو الكشف عن النسبة الثابتة بين الجزاء والشرط بما هي معنى حرفيّ ـ أو قل: الكشف عن ذات تعليق الجزاء على الشرط ـ فلا محالة تنسلخ الجملة الإنشائيّة عن كونها جملة إنشائيّة وتكون جملة خبريّة، ولذا يكون ذلك خلاف الظاهر(2)، والمدلول



(1) لا يخفى أنّ الكشف الذي يمكن أن يتأخّر عن قصد الكشف إنّما هو الكشف التكوينيّ، وأمّا الكشف الحكائيّ بالكلام فلا يتخلّف عن قصد الكشف بالكلام. نعم، يتمّ مع ذلك تعليق الدلالة التصديقيّة ـ أو قل: الكشف الحكائيّ ـ على الشرط بمعنى التحصيص والتقويم، ويكشف ذلك عن تعليق المحكيّ.

(2) لا يخفى أنّ هذا البيان لو تمّ فهو لا يكون دليلا على كون الدلالة التصديقيّة في الظهور العرفيّ بإزاء الجزاء في القضايا الإنشائيّة فحسب، بل يكون دليلا على أنّ الدلالة التصديقيّة في القضايا الشرطيّة في الظهور العرفيّ تكون بإزاء الربط الشرطيّ سواء في الإنشائيّات أو الإخباريّات؛ وذلك لأنّ هذا لا يبرز نكتة تقتضي الإنشائيّة في القضايا الشرطيّة التي كان جزاؤها إنشائيّاً، وإنّما هذا بيان لنكتة أنّ الدلالة التصديقيّة فيها لو كانت في مقابل الربط الشرطيّ لا الجزاء لكانت القضايا الشرطيّة التي يكون جزاؤها إنشائيّاً إخباريّة تحتمل الصدق والكذب، بينما هذا خلاف الظاهر عرفاً.

56

التصديقيّ للجزاء في هذا الفرض غير معلّق على الشرط؛ لأنّه لم يقصد أصلا.

واُخرى: يكون مصبّ القصد ذات الطلب، وفي هذا الفرض تتمّ دلالة القضيّة الشرطيّة على تعليق(1) المدلول التصديقيّ للجزاء على الشرط بالتبع، بحكم أصالة التطابق بين الدلالة التصديقيّة والدلالة التصوّريّة.

 

هل الأداة تدلّ على تقييد المادّة أو الهيئة؟

الجهة الثالثة: في أنّه بعد ما ثبت أنّ أداة الشرط تدلّ على الربط كما عرفت في الجهة الاُولى، وما تدلّ على ربطه بالشرط مباشرةً هو المدلول التصوّريّ كما عرفت في الجهة الثانية، هل هي تدلّ على ربط المدلول التصوّريّ للمحمول في الجزاء الذيعبّر عنه المحقّق النائينيّ(قدس سره) بالمادّة المنتسبة، أو على ربط المدلول التصوّريّ للنسبة بين الموضوع والمحمول فيه كما عبّرنا بذلك في خلال البحث عن الجهة الثانية؟

 


لكن يبقى سؤال، وهو: أنّه لماذا اختلفت الشرطيّة التي جزاؤها إنشائيّ عن الشرطيّة التي جزاؤها حكائيّ في كون مصبّ الدلالة التصديقيّة الربط الشرطيّ أو الجزاء ولِم لم يتساويا في ذلك؟ حتّى لو كان لازمه أن لا يتكوّن للقضايا الشرطيّة التي جزاؤها إنشائيّ ظهور في الإنشاء.

وبكلمة اُخرى نقول: إنّ الظاهر عرفاً من القضيّة الشرطيّة هو كون مصبّ القصد عبارة عن النسبة الثابتة في الجزاء على تقدير الشرط، لا النسبة بين الشرط والجزاء، بدليل ما نراه من أنّ القضيّة الشرطيّة تتبع ـ في كونها خبريّة أو إنشائيّة ـ جزاءها، وليست دائماً خبريّة، فحينما يكون الجزاء إنشائيّاً لا تحتمل الجملة الشرطيّة الصدق والكذب.


(1) وهنا أيضاً يكون التعليق بمعنى التحصيص والتقويم.

57

الحقّ هو الثاني وهو المشهور. وذهب المحقّق النائينيّ(رحمه الله) إلى الأوّل، فلا يرى فرقاً من هذه الجهة ـ أعني: جهة رجوع القيد إلى ذات الواجب ـ بين شرائط الواجب وشرائط الوجوب في عالم الإثبات، وإن كان بينهما فرق في عالم الثبوت. فالوضوء مثلا في عالم الثبوت قيد للصلاة والوقت قيد لوجوبها، لكن في عالم الإثبات يكون كلاهما قيداً للصلاة.

نعم، الفرق بينهما في عالم الإثبات هو: أنّ قيد الواجب كالوضوء قيد له في مرحلة سابقة على الوجوب، فالوجوب طارئ على الصلاة المقيّدة بذلك القيد، فلا محالة يجب تحصيل القيد، وهذا بخلاف قيد الوجوب كقوله: (إذا زالت الشمس فصلّ) وقوله: (إن استطعت فحجّ)، فزوال الشمس أو الاستطاعة في عالم الإثبات قيد للصلاة أو الحجّ، لكنّه ليس قيداً لذلك في المرحلة السابقة على الوجوب، بأن يفرض مثلا أنّه قيّد أوّلا الحجّ بكونه عن استطاعة ثُمّ طرأ عليه الوجوب، فوجب على الناس أن يحجّوا عن استطاعة حتّى يجب تحصيل الاستطاعة، بل طرأ هذا القيد على المادّة في عرض طروّ الوجوب عليها، فأفاد تضييق دائرة الوجوب ولم يجب تحصيله.

والوجه في رجوع قيد الوجوب إلى الواجب لا إلى معنى الهيئة وهو النسبة: أنّ معناها معنى حرفيّ لا يقبل الإطلاق والتقييد. هذا ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1).

وظاهر تقرير بحث الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله) أيضاً هو رجوع القيد إلى المادّة. ومن هنا يُعترض عليه بأنّ هذا يعني إرجاع قيود الوجوب إلى قيود الواجب فيجب تحصيل الاستطاعة مثلا للحجّ.

ونقل الشيخ النائينيّ(رحمه الله) عن الميرزا الشيرازيّ أنّ مقصود الشيخ الأنصاريّ لم



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 415 و130 ـ 132، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 479 و179 ـ 183 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

58

يكن إرجاع الشرط إلى المادّة أو إلى الواجب بمعناه البسيط الساذج المفهوم،والذي يعني عدم انقسام الشروط إلى شروط الوجوب وشروط الواجب، بل تبقى شروط الوجوب في لبّ الواقع شروطاً للوجوب وإن لم يمكن بحسب عالم الإثبات والإنشاء إرجاع القيد إلى النسبة. ونكتة الفرق بحسب ما ذكرناه عن الشيخ النائينيّ(رحمه الله) ما عرفت من أنّ القيد طرأ على المادّة في عرض طروّ الوجوب وعروضه، فلم يدخل تحت دائرة الوجوب حتّى يجب تحصيله.

أقول: إنّ هذا الكلام يشتمل في الحقيقة على مطلبين:

أحدهما: عدم إمكان رجوع القيد إلى الهيئة.

والثاني: إمكان رجوع قيود الوجوب إلى المادّة.

أمّا المطلب الأوّل: فالوجه في عدم إمكان تقييد مفاد الهيئة أمران:

أحدهما: أنّ المعنى الحرفيّ جزئيّ حقيقيّ فلا يعقل فيه الإطلاق والتقييد.

الثاني: أنّ المعنى الحرفيّ ملحوظ آليّاً لا استقلاليّاً، والإطلاق والتقييد يحتاج إلى لحاظ الشيء استقلالا.

وقد ردّ ذلك المحقّق الخراسانيّ(1) والمحقّق العراقيّ(2) والمحقّق الإصفهانيّ(3)ـ قدّست أسرارهم ـ والسيّد الاُستاذ(4) ـ مدّظلّه ـ كلٌّ ببيان.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 153 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

(2) راجع المقالات، ج 1، ص 321 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، ونهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 313 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(3) راجع نهاية الدراية، ج 2، التعليق رقم: 21، ص 60 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

(4) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 320 ـ 321 بحسب الطبعة التي نشرها دار الهادي للمطبوعات بقم.

59

والعجب من السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ حيث تصدّى إلى دفع هذه الشبهة من غير تعرّض لعدم موضوع لهذه الشبهة من رأسها، على ما هو مقتضى مبانيه مدّظلّه، حيث إنّه يقول: إنّ أداة الشرط تدلّ على تعليق المدلول التصديقيّ لا المدلول التصوّريّ، وإنّ المدلول التصديقيّ في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) عبارة عن الحكم بوجوب الإكرام، وهو أمر نفسانيّ وليس معنى حرفيّاً، وعندئذ ـ كما ترى ـ لا مجال لهذا البحث إشكالا وجواباً.

ونقول من باب الحمل على الصحّة: إنّه لعلّه لم يتعرّض لعدم الموضوع لهذه الشبهة على مبانيه؛ لوضوح ذلك(1) وإنّما أشغل نفسه بردّ الإشكال على تقدير تسليم مباني المشهور.

وعلى أيّة حال فنحن قد تعرّضنا لإشكال عدم إمكان رجوع القيد إلى مفاد الهيئة وأجبنا عليه في بحث الواجب المطلق والمشروط، وقد اخترنا أنّ معنى الهيئة وهو معنى حرفيّ قابل للإطلاق والتقييد.

وأمّا المطلب الثاني: فالتحقيق عدم إمكان إرجاع قيد الوجوب إلى المادّة. وما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره) من إرجاعه إليها ـ بالتقريب الذي عرفت ـ ليس في الغرابة بأدنى ممّا نُسب إلى الشيخ(رحمه الله) من رجوع قيد الوجوب إلى قيد الواجب بالمعنى الساذج.



(1) قد تقول: إنّ الأمر النفسانيّ الذي كشف عنه بالدلالة التصديقيّة وجود خارجيّ جزئيّ نفسيّ، فما معنى تعليقه؟

ولكنّ الواقع أنّ هذا التعليق يكون من سنخ معلّقيّة كلّ معلول خارجيّ على علّته، بناءً على أنّ نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلّة إلى المعلول، ويكون من سنخ تحصيص كلّ حكم بموضوعه، بناءً على أنّ نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة التحصيص.

60

بيان ذلك: أنّه لو أرجعنا قيد الوجوب إلى المادّة مع فرض عدم كونه قيداً لها في المرتبة السابقة على طروّ الوجوب فلا يخلو الأمر من أحد وجهين:

الأوّل: أن يكون القيد راجعاً إلى ذات المادّة من حيث هي، لا من حيث كونها معروضة للوجوب، فمجيء زيد مثلا قيد لذات الإكرام بما هو إكرام لا بما هو واجب، فطروّ القيد على المادّة يكون في عرض طروّ الوجوب عليها.

ويرد عليه: أنّه بعد أن كان المفروض أنّ المقيّد بهذا القيد ذات الإكرام من حيث هو، لا من حيث كونه معروضاً للوجوب، لا يكون الوجوب عندئذ مضيّقاً باعتبار هذا القيد، وهذا خلاف المفروض من كونه في لبّ الواقع قيداً للوجوب وكون دائرة الوجوب باعتبار الشرط ـ وهو المجيء مثلا ـ مضيّقة، وإن لم تكن مضيّقة فلا محالة يجب تحصيل القيد لتحصيل الواجب.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّنا وإن أرجعنا القيد في كلام المولى إلى الإكرام من باب ضيق الخناق، لكنّنا بقرينة الحكمة ـ أي: من باب صون كلام الحكيم عن اللغويّة ودلالة الاقتضاء ـ نفهم أنّ الوجوب مضيّق، وإلّا للغى تقييد الإكرام بهذا القيد ما لم ينته الأمر إلى شرط الواجب أو شرط الوجوب.

ولكن هذا كما ترى، فإنّ المعنى المستفاد عرفاً من مثل قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه) ـ وهو الحكم المضيّق ـ ليس متوقّفاً على توجّه العرف إلى دلالة الاقتضاء، كما يقال في مثل (اسأل القرية): إنّ دلالة الاقتضاء تدلّ على إرادة سؤال أهل القرية، بل يستفاد من طبع القضيّة مع عدم التوجّه والنظر إلى هذه الاُمور.

إذن فالتضييق ثابت حتّى في دائرة المدلول التصوّريّ، ودلالة الاقتضاء إنّما تنفع بالنسبة للمدلول التصديقيّ.

61

والثاني: أن يقال: إنّ القيد لا يرجع مباشرة إلى الإكرام، وإلّا لوقع تحت دائرة الوجوب ووجب تحصيله؛ لما عرفت من عدم معقوليّة العرضيّة بالشكل الذي مضى بيانه في الوجه الأوّل، ولا يرجع إلى النسبة الطلبيّة أو البعثيّة بين زيد والإكرام؛ لما افترضنا من عدم إمكان تقييدها، فيبقى أن يكون المقصود برجوع القيد إلى المادّة المنتسبة كون القيد راجعاً إلى ربط طلب بالإكرام، فالإكرام بما هو مطلوب تقيّد بمجيء زيد.

فإن كان هذا هو مقصود الشيخ النائينيّ(رحمه الله) ورد عليه:

أوّلا: أنّ القيد على هذا صار في طول الوجوب، وقد صرّح الشيخ النائينيّ(رحمه الله)بأنّهما في عرض واحد.

وثانياً: أنّ هذا رجع في الحقيقة إلى تقييد النسبة بين الإكرام والطلب؛ لأنّ المفروض أنّه إنّما قيّد الإكرام بمجيء زيد بما هو معروض للطلب، ومعنى تقييده بالمجيء بهذه الحيثيّة ـ لا بما هو ـ ليس إلّا أنّه في الحقيقة قيد لهذه الحيثيّة، وليس هذا إلّا كرّاً على ما فرّ منه، فإنّه(رحمه الله) رفع اليد عن كون القيد قيداً للنسبة بين الإكرام وزيد؛ لأنّها معنى حرفيّ غير قابل للإطلاق والتقييد، وهذا الإشكال عيناً يتأتّى في فرض جعل القيد قيداً للنسبة بين الإكرام والطلب.

وثالثاً: أنّ النسبة بين الإكرام وزيد هي نسبة طلبيّة، وليست هنا نسبة اُخرى بين الإكرام والنسبة الطلبيّة حتّى يفرض القيد قيداً لها. وبالجملة: إنّما الموجود هنا اُمور ثلاثة: الإكرام، وزيد، والنسبة الطلبيّة بينهما. والنسبة بذاتها متقوّمة ومرتبطة بالطرفين، لا أنّها تحتاج في ارتباطها بأحد طرفيها إلى نسبة اُخرى بين تلك النسبة وأحد الطرفين تتقوّم بهما حتّى ترتبط هذه النسبة بذاك الطرف.

فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ المعلّق هو النسبة لا المادّة المنتسبة.

62

 

هل المعلّق سنخ الحكم أو شخصه؟

وأمّا المقام الثاني: وهو أنّه هل المعلّق سنخ الحكم أو شخصه؟ فهذا في الحقيقة بحث عن أحد الركنين على مذاق المشهور لضابط اقتناص المفهوم، حيث إنّهم جعلوا الضابط له أن يكون المعلّق سنخ الحكم ويكون الشرط علّة منحصرة.

وهنا نعقد بحثين:

أحدهما: في إمكان كون المعلّق سنخ الحكم وعدمه.

والثاني: في أنّه هل هناك دليل على كون المعلّق سنخ الحكم أو لا؟

 

إمكان تعليق سنخ الحكم:

أمّا البحث الأوّل ـ وهو في إمكان كون المعلّق سنخ الحكم وعدمه ـ: فالتحقيق هو إمكانه.

ويمكن القول بعدم إمكانه من ناحية أنّ مفاد الهيئة معنى حرفيّ والمعنى الحرفيّ ـ وهو النسبة والربط ـ جزئيّ، فلا يقبل عموماً أو إطلاقاً كي يصبح المعلّق سنخ الحكم.

وأورد الشيخ الأعظم ـ رضوان الله عليه على ما ورد في تقرير بحثه ـ على ذلك: النقض بما إذا كان الوجوب مذكوراً بمادّته كأن يقال: (إن جاءك زيد وجب إكرامه)، ففي هذا القسم لا مجال لهذا الإشكال، فرأى أنّ الإشكال مجاله منحصر بما لو بيّن الطلب بلسان هيئة الأمر لا بلسان (يجب).

وفيه: أنّ المعلّق في هذا القسم أيضاً هو مفاد الهيئة، فهذا النقض خلط بين كون المذكور صريحاً مادّة الوجوب وبين كون المعلّق المادّة، والواقع أنّ المعلّق دائماً هو مفاد الهيئة، فتارةً يكون المعلّق مفاد هيئة (أكرم) واُخرى يكون المعلّق مفاد هيئة (يجب إكرامه) مثلا، وهذا لا يوجب فرقاً في البحث كما هو واضح.

63

وعلى أيّة حال فلنتكلّم في تحقيق أصل الإشكال صحّةً وسقماً فنقول:

لو بنينا على مباني السيّد الاُستاذ ـ مدّظله ـ من أنّ المعلّق هو المدلول التصديقيّ، وأنّ المدلول التصديقيّ لقوله: (أكرم) مثلا هو الطلب الحاصل في نفس المتكلّم فمن المعلوم أنّ الإشكال بهذا التقريب لا مجال له؛ حيث إنّ المعلّق عندئذ ليس معنىً حرفيّاً، لكن لا محيص حينئذ من القول بأنّ المعلّق إنّما هو شخص الحكم ولا يعقل تعليق السنخ، فإنّ المفروض أنّ المعلّق هو المدلول التصديقيّ وأنّه عبارة عن الطلب الحاصل في نفس المولى مثلا، ومن المعلوم أنّ هذا الطلب الحاصل في نفس المولى شخص من أشخاص الطلب لا طبيعيّ الطلب بما هو، إلّا أن يثبت أنّ المعلّق هو شخص الحكم بما هو فرد من أفراد الطبيعيّ.

ولكن مباني السيّد الاُستاذ في الوضع ودلالته على المدلول التصديقيّ غير صحيحة عندنا.

وإذا بنينا على المباني المشهورة تصل النوبة إلى البحث عن هذا الإشكال بهذا النحو من التقريب، وهو: أنّه لا يمكن تعليق سنخ الحكم، من جهة أنّ مفاد الهيئة معنى حرفيّ، وهو جزئيّ لا يقبل الإطلاق أو الحمل على السنخ.

واستراح المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من هذا الإشكال بما تفرّد به من منع كون المعنى الحرفيّ جزئيّاً، فهو يقول: إنّ الحروف والهيئات وضعها عامّ والموضوع له فيها عامّ وتستعمل في ذلك المعنى العامّ، فلا إشكال في المقام.

نعم، مثل قوله: (أكرم) إيجاد للنسبة الطلبيّة على ما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) من أنّ الإنشائيّات موجدة لمفاهيمها من النسبة المقصودة، والإيجاد ـ لا محالة ـ يساوق التشخّص، لكن هذا التشخّص ناش من الاستعمال فهو في طول الاستعمال ولا يعقل فرضه في المرتبة السابقة على الاستعمال، بأن يكون الشخص مأخوذاً في المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه.

64

فالحرف والهيئة يستعملان في معناهما الذي هو عامّ وإن كان يطرأ التشخّص في طول الاستعمال فإنّ هذا غير كون المفاد جزئيّاً ومشخّصاً.

أقول: ولكنّنا بيّنّا في محلّه فساد المبنى الذي تفرّد به الخراسانيّ من كون الحروف والهيئات موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له العامّ وقلنا: إنّ النسبة متقوّمة ذاتاً بالطرفين بحيث يكون الطرفان داخلين في قوامها وحقيقتها، فلا محالة تكون النسبة بين كلّ موضوع ومحمول مباينة بالذات والحقيقة للنسبة بين موضوع ومحمول آخر أو بين ذلك المحمول وموضوع آخر ولو فرضت النسبة بين الموضوعين عموماً مطلق أو من وجه.

فالنسبة في قولنا: (النار حارّة) مع النسبة في قولنا: (نار الكبريت محرقة) مثلا متباينتان؛ لحصول التبدّل فيما هو داخل في قوامها وحقيقتها، ولا يمكن أخذ جامع حقيقيّ بين النسب؛ لأنّ أخذ الجامع يكون بإلغاء الخصوصيّات، والمفروض أنّ خصوصيّة الموضوع والمحمول داخلة في قوام النسبة وحقيقتها، فإلغاؤُها مساوق لإلغاء حقيقتها، وبما أنّ الحروف والهيئات ـ كما برهنّا عليه في محلّه ـ موضوعة للنسبة، فلا محالة ليست من قبيل ما يكون الوضع فيه عامّاً والموضوع له فيه عامّاً، بل من قبيل ما يكون الوضع فيه عامّاً والموضوع له فيه خاصّاً، حيث عرفت أنّ كلّ نسبة مباينة للنسبة الاُخرى بحقيقتها؛ للتقريب الذي عرفت على ما برهنّا عليه في محلّه، فالواضع إنّما تصوّر جامعاً انتزاعيّاًـ على تصوّراتهم في الوضع ـ مشيراً به إلى الأفراد المختلفة الحقيقة ووضع الحرف أو الهيئة بإزائها، وهذا هو معنى كون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً.

وإذا كان الأمر كذلك وقع الإشكال في تصوير كون المعلّق سنخ الحكم؛ لفرض كون الموضوع له جزئيّاً. وحلّه بحلّ المغالطة.

وعين هذا الإشكال وقع في الجهة الثالثة من المقام الأوّل حيث يقال:إنّ المعلّق

65

على الشرط لا يعقل أن يكون هو مفاد الهيئة من النسبة؛ لأنّه جزئيّ لا يقبل التعليق(1).

وقد تفصّى المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) عن هذا الإشكال بالنسبة للمقام الأوّل بالالتزام بأنّ النسبة كما ربما تكون متقوّمة بطرفين كذلك ربما تكون متقوّمة بثلاثة أطراف: المسند والمسند إليه والشرط، فالنسبة في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) متقوّمة بالإكرام وفاعل الإكرام والشرط، بحيث إذا اُسقط هذا الشرط وقيل: (أكرم زيداً) تغيّرت ماهيّة النسبة وحدثت نسبة اُخرى متقوّمة بطرفين.

وعلى هذا فيرتفع الإشكال، فإنّ النسبة ليست في الحقيقة معلّقة على الشرط حتّى يقال: كيف يمكن تعليقها؟ بل متقوّمة به كتقوّمها بالطرفين الآخرين، وكم فرق بين التقويم والتعليق. هذا ما أجاب به المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) هناك عن الإشكال(2).

لكنّا لم نرتض هذا الجواب وأجبنا عنه بجواب آخر، وهو: أنّه ليست جزئيّة المعنى الحرفيّ جزئيّة وجوديّة، كما هو ظاهر تقريرات الشيخ الأعظم أو صريحه وهو الذي فهمه المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) من التقريرات، بأن يكون جزئيّاً بخصوصيّة



(1) وهنا لم يتعرّض اُستاذنا(رحمه الله) لإشكال آليّة المعنى الحرفيّ كما تعرّض لإشكال جزئيّته، في حين أنّه تعرّض في الجهة الثالثة من المقام الأوّل لكلا الإشكالين، وكأنّ هذا مرتبط بالفرق الجوهريّ الموجود بين البحثين، وهو: أنّ البحث السابق كان مصبّه أصل تعليق النسبة ودعوى ضرورة رجوع القيد إلى المادّة المنتسبة، فقيل: إنّ تعليقها غير ممكن: إمّا لآليّتها وإمّا لجزئيّتها. أمّا هنا فمصّب البحث ليس أصل تعليق النسبة، وإنّما مصبّه السنخيّة، والسنخيّة تضادّ الجزئيّة فيقال: إنّ النسبة جزئيّة، فكيف يمكن أن تعطي معنى سنخ الحكم؟ وذلك بعد فرض الفراغ عن إمكان تعليقها.

(2) راجع نهاية الدراية، ج 2، التعليق رقم: 21، ص 60 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

66

الوجود الخارجيّ أو الذهنيّ أو الإنشائيّ، بل جزئيّتها تكون باعتبار طرفيها، حيث إنّ طرفيها كانا داخلين في قوامها، فلا محالة تكون كلّ نسبة مغايرة لنسبة اُخرى في حقيقتها وذاتها.

وأمّا بالنسبة للتقسيمات الطارئة عليها بعد فرض تقوّمها بالطرفين فيعقل فيها الإطلاق والتقييد، فمن الممكن أن تقيّد بالشرط وتعلّق عليه والشرط ليس مقوّماً لها، وإنّما المقوّم لها الأطراف الرئيسة أعني: المسند والمسند إليه.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّه إن بنينا في المقام الأوّل على ما أفاده المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) ففيما نحن فيه لا محيص من الالتزام بعدم إمكان تصوير كون المعلّق سنخ الحكم، فإنّ المفروض أنّ ماهيّة النسبة في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) منذ خلقت كانت متقوّمة بأطراف ثلاثة: المسند والمسند إليه والشرط، لا أنّ النسبة مع قطع النظر عن الشرط وفي الرتبة السابقة على الشرط كانت مطلقة فقيّدت بالشرط وعلّقت عليه حتّى يقال: إنّ النسبة المطلقة وسنخ الحكم قد علّق على الشرط.

وهذا بخلاف المسلك الذي سلكناه هناك، فإنّه على ذلك المسلك يكون إمكان تعليق السنخ في غاية الوضوح؛ لما ذكرناه من أنّ النسبة قوامها بالطرفين وهي في حدّ ذاتها قابلة للإطلاق والتقييد، فيمكن أن تفرض هذه النسبة التي تكون في المرحلة السابقة على الشرط مطلقة مقيّدة بالشرط ومعلّقة عليه، فقد علّق سنخ الحكم على الشرط.

 

الدليل على تعليق سنخ الحكم:

وأمّا البحث الثاني: فالظاهر من الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنّه ـ بعد تسليم إمكان كون المعلّق سنخ الحكم ـ لا إشكال بحسب الإثبات بمقتضى جريان مقدّمات الحكمة في أنّ المعلّق هو السنخ. ومن هنا تراهم إنّما يستشكلون

67

ويتباحثون في أنّه هل يمكن تعليق سنخ الحكم أو لا، ولا يتكلّمون في أنّه بعدفرض إمكانه هل هنا إشكال في الإطلاق أو لا؟

ولكن قد يقال: إنّ جريان مقدّمات الحكمة وثبوت الإطلاق فيما نحن فيه لا يخلو من شوب إشكال، بيان ذلك: أنّ جريان مقدّمات الحكمة وثبوت الإطلاق موقوف على أن يكون القيد ممّا يمكن بيانه بنحو لا يخرج الكلام بذلك عن سلك المحاورة العرفيّة، كما أنّه موقوف أيضاً على عدم القطع بعدم كون المولى في مقام بيان القيد لو كان هنا قيد، وعلى هذا فلو ادُّعِيَ أنّ تقييد الحكم مثلا بالملاك الكذائيّ ليس موافقاً للمحاورة العرفيّة لم يتمّ الإطلاق، كما أنّه لو ادّعي أنّ الشارع لم يكن في مقام بيان هذا القيد ـ بشهادة التتبّع في كلماته، مع العلم إجمالاً بثبوت هذا القيد في كثير من أحكامه، ولعلّ الوجه في عدم كونه في مقام بيانه عدم كون التقييد به داخلا في المحاورات العرفيّة ـ لم يتمّ الإطلاق أيضاً.

وعدم استشكال الأصحاب في الإطلاق بعد فرض إمكان تعليق السنخ ثبوتاً إمّا يكون ناشئاً من تماميّة الإطلاق في نظر العرف وعدم تماميّة هاتين الدعويين، أو يكون ناشئاً من عدم التفاتهم إلى ذلك.

هذا. ولكن الإنصاف عدم تماميّة شيء من هذين الإشكالين، فيمكن بيان التقييد بالملاك الخاصّ ببيان عرفيّ، كقوله تعالى في آية النبأ: ﴿أَن تُصِيبُواْ قَوْمَاً بِجَهالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِين﴾ وغير ذلك ممّا يوجد كثيراً في كلمات الشرع، وبيان ملاك الحكم في كلمات الموالي العرفيّة وكلمات الشارع أكثر من أن يحصى، وضمّ الشرط مثلا لا يوجب صيرورة بيان الملاك خارجاً عن المحاورة العرفيّة.

كما أنّ دعوى العلم بعدم كون الشارع في مقام بيان ذلك، بشهادة التتبّع مع العلم

68

إجمالاً بثبوت هذا القيد في كثير من أحكامه ممّا لا ينبغي، فإنّه لو فرضت شهادة التتبّع في كلماته بعدم وجود هذا القيد في تلك الكلمات فمن أين يحصل العلم الإجماليّ بثبوت هذا القيد كثيراً في الواقع حتّى يعلم أنّه ليس في مقام البيان من هذه الجهة؟

ثُمّ إنّه بعد تماميّة جريان الإطلاق في مفاد الجزاء وثبوت كون المعلّق سنخ الحكم، إن بنينا على أنّ مفاد مقدّمات الحكمة هو الإطلاق على نحو مطلق الوجود ـ من قبيل العموم الاستغراقيّ ـ فهذا وحده كاف في اقتناص المفهوم ويثبت أنّ القضيّة الشرطيّة ذات مفهوم.

لكنّ هذا المبنى غير صحيح عندنا، فصِرف كون مفاد الجزاء سنخ الحكم لا يكفي في كون القضيّة الشرطيّة دالّة على المفهوم، والمفروض غمض العين فعلا عن دلالة القضيّة على العلّيّة الانحصاريّة لسنخ الحكم، وسنتكلّم ـ إن شاء الله ـ عن ذلك في المقام الثالث، فنقول هنا: إنّ كون الجزاء سنخ الحكم بمقتضى الإطلاق بنفسه لا يكفي في دلالة القضيّة على المفهوم، بل يحتاج في ذلك إلى ضمّ أمرين:

الأوّل: أن تكون القضيّة الشرطيّة دالّة على اللزوم، وثبوت الطبيعة صدفة عند شيء لا ينافي ثبوتها صدفة عند شيء آخر أيضاً.

والمعروف بين المحقّقين دلالة أداة الشرط بالوضع على اللزوم، استشهاداً بما نرى وجداناً من المؤونة والكلفة في القضايا الشرطيّة الاتّفاقيّة، كقولنا: (إن جاءك زيد نهق الحمار)، مع أنّ المفروض عدم الملازمة بين مجيء زيد ونهيق الحمار.

ولكن هذا الاستشهاد منقوض بما نراه وجداناً من عدم المؤونة والكلفة في القضايا الشرطيّة الاتّفاقيّة التي جيئت بها للإخبار عن الماضي دون المستقبل، كما إذا قيل: (مهما جاءني زيد نزل المطر) إخباراً عن أنّه كان يتّفق نزول المطر مع

69

زمان مجيء زيد. فلا نشعر بأيّ مؤونة وكلفة في مثل هذا الكلام مع انتفاء الملازمة، ولو كانت أداة الشرط دالّة بالوضع على اللزوم لم يكن فرق بين القضايا الشرطيّة الماضية والقضايا الشرطيّة الاستقباليّة(1).

فالتحقيق: أنّ أداة الشرط لا تدلّ بالوضع على اللزوم، وإنّما تدلّ القضيّة الشرطيّة على اللزوم إذا كانت استقباليّة من ناحية الظهور السياقيّ للدلالة التصديقيّة، حيث إنّ الإخبار عن ترتّب الجزاء على الشرط في القضايا الاستقباليّة مع فرض الصدق لا يمكن إلّا بأحد وجهين: العلم بالملازمة، والعلم من ناحية أمر غير متعارف بأنّه مهما يجيء زيد مثلا ينهق الحمار اتّفاقاً وصدفة، وبما أنّ الثاني بعيد جدّاً يتحقّق للمدلول التصديقيّ للقضيّة ظهور سياقيّ في الفرض الأوّل وهو اللزوم(2).

الثاني: أن تدلّ القضيّة الشرطيّة على التعليق، وإلّا لما دلّت على المفهوم، حيث



(1) قد تقول: إنّ كلمة (مهما) تدلّ على الظرفيّة وهي متعلّقة بالجزاء، فيصبح الشرط مأخوذاً في موضوع الجزاء فينتفي المفهوم، وهذا هو السبب في عدم الإحساس بالمؤونة والكلفة رغم انتفاء الملازمة.

والجواب: أنّ كلمة (مهما) رغم دلالتها على الظرفيّة وتعلّقها بالجزاء ـ وهذا يوجب انتفاء المفهوم ـ تستعمل كثيراً بمعنى الشرط مع الاحتفاظ بظرفيّتها، فكأنّ معناها منحلّ إلى معنيين، وحينما تستعمل كذلك لا نحسّ أيضاً بالمؤونة، رغم أنّها وإن كانت تعطي معنى الظرف وتتعلّق بالجزاء فلا تدلّ على مفهوم، لكنّها في نفس الوقت تستبطن معنى الشرط، فكان المفروض أن نحسّ بالمؤونة ولا ينافي ذلك عدم المفهوم.

(2) والأمر أوضح في القضايا الحقيقيّة، فإنّ الصدفة والاتّفاق لا تكون على نهج القضايا الحقيقيّة.