74

أبواب الدنيا وأبواب الخلافة على البلاد على طريقتنا تركوا اُطروحتهم وجاؤوا إلينا.

والنقطة الرابعة ـ التي كانت ذات دور كبير في هذه العمليّة ـ: هي محاولة عزل الإمام الرضا(عليه السلام)عن قواعده الشعبيّة، ووضعه في سياج يحكم بعزله عن الاتّصال بشيعته، وفي الواقع إنّ عمليّة العزل بين الإمام وبين القواعد الشعبيّة كانت من الخصائص العامّة للمرحلة الثالثة والتي بدأت بالإمام الرضا(عليه السلام).

والروايات عندنا تدلّ على أنّ الإمام الرضا(عليه السلام) حينما انتقل من المدينة إلى إيران كان معه حاجبه، وكان هذا الحاجب من خواصّ الإمام الرضا(عليه السلام)، وكانت تُجمَع الأموال للإمام الرضا(عليه السلام) من مختلف أرجاء العالم الإسلاميّ على يد هذا الحاجب، إلّا أنّ هذا الحاجب باع ضميره وباع دينه بدنياه، فتعامل مع المأمون واشتراه المأمون، فأصبح جاسوساً وعيناً على الإمام الرضا(عليه السلام) لحساب المأمون ولحساب الفضل بن سهل، فكان لا ينطق الإمام الرضا(عليه السلام) بكلام ولا يتحرّك أو يتّصل بأحد إلّا وتأتي الأخبار للمأمون(1).

أقول: وخلاصة الكلام هي: أنّ سياسة المأمون هي عين سياسة أبيه هارون، وهي فصل الإمام عن قواعده، إلّا أنّ هارونَ فعل ذلك


(1) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2:153.

75

بالإمام موسى(عليه السلام) عن طريق السجن ولكن المأمون أحسّ بضرر ذلكعلى مُلك أبيه وسيطرته على الوضع، فبدّل الاُسلوب من اُسلوب السجن باُسلوب جعل الإمام الرضا(عليه السلام) تحت النظر بكلّ توقير واحترام.

ومن الروايات التي تكشف النقاب عن نوايا مأمون الخبيثة ما ورد في البحار(1): من رواية مفصّلة في قصّة طلب المأمون من الإمام الرضا(عليه السلام) الاستسقاء حينما احتبس المطر واستجابة الإمام(عليه السلام) له، وبالتالي نزول البركة في البلاد بدعاء الرضا(عليه السلام)، فذكر بعض حسّاد الإمام للمأمون: يا أميرالمؤمنين، اُعيذك بالله أن تكون تأريخ الخلفاء(2) في إخراجك هذا الشرف العميم والفخر العظيم من بيت وُلْد العبّاس إلى بيت وُلْد عليّ، ولقد أعنت على نفسك وأهلك، جئت بهذا الساحر وَلَدِ السحرة وقد كان خاملاً فأظهرته، ومتّضعاً فرفعته، ومنسيّاً فذكّرت به، ومستخفّاً فنوهّت به، قد ملأ الدنيا مخرقة(3)


(1) بحار الأنوار 49، ب 14: 180 ـ 185، الحديث 16.

(2) «أن تكون تأريخ الخلفاء» قال المجلسي: كناية عن عظم تلك الواقعة وفظاعتها بزعمه، فإنّ الناس يؤرّخون الاُمور بالوقائع والدواهي.

(3) قال المجلسي: أي: شعبدة وسحراً، كما يظهر من استعمالاتهم وإن لم نجد في اللغة... . وفي بعض النسخ مخرفة بالفاء من الخرافات.

76

وتشوّقاً بهذا المطر الوارد عند دعائه، ما أخوفني أن يُخرِج هذا الرجل هذا الأمر عن وُلْد العبّاس إلى وُلْد عليّ، بل ما أخوفني أن يتوصّل بسحره إلى إزالة نعمتك والتوثّب على مملكتك، هل جنى أحد على نفسه وملكه مثل جنايتك؟!

فقال المأمون: قد كان هذا الرجل متستّراً عنّا يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله وليّ عهدنا ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به أنّه ليس ممّا ادّعى في قليل ولا كثير، وأنّ هذا الأمر لنا من دونه، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال أن ينفتق علينا منه ما لا نسدّه، ويأتي علينا منه ما لا نطيقه.

والآن فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا، وأشرفنا من الهلاك بالتنويه به على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره، ولكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتّى نصوّره عند الرعيّة بصورة من لا يستحقّ لهذا الأمر، ثم ندبّر فيه بما يحسم عنّا موادّ بلائه.

قال الرجل(1): يا أميرالمؤمنين، فولّني مجادلته، فإنّي اُفحمه وأصحابه وأضع من قدره، فلولا هيبتك في صدري لأنزلته منزلته، وبيّنت للناس قصوره عمّا رشحته له.

قال المأمون: ما شيء أحبّ إليّ من هذا.

 


(1) وهو حميد بن مهران.

77

قال: فاجمع وجوه مملكتك والقوّاد والقضاة وخيار الفقهاء لاُبيّن نقصه بحضرتهم، فيكون أخذاً له عن محلّه الذي أحللته فيه على علم منهم بصواب فعلك.

قال: فجمع الخلق الفاضلين من رعيّته في مجلس واحد قعد فيه لهم وأقعد الرضا(عليه السلام) بين يديه في مرتبته التي جعلها له، فابتدأ هذا الحاجب(1) المتضمّن للوضع من الرضا(عليه السلام)وقال له: إنّ الناس قد أكثروا عنك الحكايات وأسرفوا في وصفك بما أرى أنّك إن وقفت عليه برئت إليهم منه، فأوّل ذلك أنّك دعوت الله في المطر المعتاد مجيئه فجاء، فجعلوه آية لك معجزة أوجبوا لك بها أن لا نظير لك في الدنيا وهذا أميرالمؤمنين ـ أدام الله ملكه وبقاءه ـ لا يوازن بأحد إلّا رجح به وقد أحلّك المحلّ الذي عرفت، فليس من حقّه عليك أن تسوّغ الكاذبين لك وعليه ما يتكذّبونه.

فقال الرضا(عليه السلام): ما أدفع عباد الله عن التحدّث بنعم الله عليّ وإن كنت لا أبغي أشراً ولا بطراً، وأمّا ذكرك صاحبك الذي أجلّني فما أحلّني إلّا المحلّ الذي أحلّه ملك مصر يوسف الصدّيق(عليه السلام)وكانت حالهما ما قد علمت.

فغضب الحاجب عند ذلك فقال: يا ابن موسى، لقد عدوت طورك


(1) يعني حميد بن مهران.

78

وتجاوزت قدرك أن بعث الله تعالى بمطر مقدّر وقته لا يتقدّم ولا يتأخّر، جعلته آيةً تستطيل بها وصولةً تصول بها، كأنّك جئت بمثل آية الخليل إبراهيم(عليه السلام) لمّا أخذ رؤوس الطير بيده ودعا أعضاءها التي كان فرّقها على الجبال فأتينه سعياً وتركّبن على الرؤوس، وخفقن وطرن بإذن الله؟ فإن كنت صادقاً فيما توهّم فأحي هذين وسلّطهما عليّ، فإنّ ذلك يكون حينئذ آية معجزة، فأمّا المطر المعتاد مجيئه فلست أحقّ بأن يكون جاء بدعائك من غيرك الذي دعا كما دعوت. وكان الحاجب قد أشار إلى أسدين مصوّرين على مسند مأمون الذي كان مستنداً إليه، وكانا متقابلين على المسند.

فغضب عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) وصاح بالصورتين: دونكما الفاجر! فافترساه ولا تبقيا له عيناً ولا أثراً، فوثبت الصورتان وقد عادتا أسدين، فتناولا الحاجب وعضّاه ورضّاه وهشماه وأكلاه ولحسا دمه والقوم ينظرون متحيّرين ممّا يبصرون، فلمّا فرغا منه أقبلا على الرضا(عليه السلام)وقالا: يا وليّ الله في أرضه، ماذا تأمرنا نفعل بهذا، أنفعل به فعلنا بهذا؟ يشيران إلى المأمون، فغشي على المأمون ممّا سمع منهما، فقال الرضا(عليه السلام) قفا فوقفا.

ثمّ قال الرضا(عليه السلام): صبّوا عليه ماء ورد وطيّبوه، ففُعل ذلك به، وعاد الأسدان يقولان: أتأذن لنا أن نُلحقه بصاحبه الذي أفنيناه؟ قال: لا، فإنّ لله فيه تدبيراً هو ممضيه. فقالا: ماذا تأمرنا؟ فقال: عودا إلى

79

مقرّكما كما كنتما. فعادا إلى المسند، وصارا صورتين كما كانتا.

فقال المأمون: الحمد لله الذي كفاني شرّ حميد بن مهران. يعني الرجل المفتَرَس. ثمّ قال للرضا(عليه السلام). يا ابن رسول الله، هذا الأمر لجدّكم رسول الله(صلى الله عليه وآله) ثمّ لكم، فلو شئت لنزلت عنه لك. فقال الرضا(عليه السلام): لو شئت لما ناظرتك، ولم أسألك، فإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ قد أعطاني من طاعة سائر خلقه مثل ما رأيت من طاعة هاتين الصورتين إلّا جهّال بني آدم، فإنّهم وإن خسروا حظوظهم فللّه ـ عزّ وجلّ ـ فيهم تدبير، وقد أمرني بترك الاعتراض عليك وإظهار ما أظهرتُه من العمل من تحت يدك كما أمر يوسف(عليه السلام) بالعمل من تحت يد فرعون مصر.

قال: فما زال المأمون ضئيلاً إلى أن قضى في عليّ بن موسى(عليه السلام) ما قضى.

هذا، والشواهد التأريخيّة لقوّة شخصيّة الإمام الرضا(عليه السلام) وشدّة تأثيره في الحياة الاجتماعيّة كثيرة.

ومن تلك الشواهد: قصّته(عليه السلام) بنيسابور التي رواها في البحار(1)عن أمالي الشيخ: لمّا وافى أبو الحسن الرضا(عليه السلام) نيسابور وأراد أن يرحل منها إلى مأمون اجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا له: يا ابن


(1) بحار الأنوار 49: 123.

80

رسول الله، ترحل عنّا ولا تحدّثنا بحديث فنستفيده منك، وقد كان قعد في العماريّة فأطلع(عليه السلام) رأسه وقال: «سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمّد يقول: سمعت أبي محمّد بن عليّ يقول: سمعت أبي عليّ بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن عليّ يقول: سمعت أبي أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) يقول: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله): يقول: سمعت جبرئيل(عليه السلام)يقول: سمعت الله ـ عزّ وجلّ ـ يقول: لا إله إلّا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي». فلمّا مرّت الراحلة نادانا: «بشروطها، وأنا من شروطها».

ومنها: ما رواه اُستاذنا في كتاب (أئمّة أهل البيت)(1): من أنّ


(1) الصفحة: 397، وقد خرّجه محقّق الكتاب عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 166. ونحن لم نجد في عيون أخبار الرضا(عليه السلام) إلّا ما ورد عن معمّر بن خلاّد قال: «قال في أبو الحسن الرضا(عليه السلام): قال لي المأمون يوماً: يا أبا الحسن، اُنظر بعضَ من تثق به نولّيه هذه البلدان التي قد فسدت علينا. فقلت له: تفي لي واُوافي لك، فإنّي إنّما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر فيه ولا أنهى، ولا أعزل، ولا اُولّي، ولا اُشير، حتّى يقدّمني الله قبلك، فوالله إنّ الخلافة لشيء ما حدّثت به نفسي، ولقد كنت بالمدينة أتردّد في طُرُقِها على دابّتي، وإنّ أهلها وغيرهم يسألوني الحوائج فأقضيها لهم، فيصيرون كالأعمام لي، وإنّ كتبي لنافذة في الأمصار، وما زدتني من نعمة هي عليّ من ربّي. فقال له: أفي لك». راجع عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 166 ـ 167.

81

المأمون التجأ إلى الإمام الرضا(عليه السلام)قائلاً له: لو كنت تكتب إلى شيعتك الذين أخذوا كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ أن يسكتوا عنّي. قال(عليه السلام): أنا لا أكتب.

ومنها: قصّة صلاة العيد، وهي: ما رواها في البحار(1) عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام)قال: «لمّا حضر العيد(2) بعث المأمون إلى الرضا(عليه السلام)يسأله أن يركب ويحضر العيد ويخطب; لتطمئنّ قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقرّ قلوبهم على هذه الدولة المباركة. فبعث إليه الرضا(عليه السلام)وقال: قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخولي في هذا الأمر. فقال المأمون: إنّما اُريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامّة والجند والشاكريّة(3) هذا الأمر، فتطمئنّ قلوبهم، ويقرّوا بما فضّلك الله تعالى به، فلم يزل يرادّه الكلام في ذلك.

فلمّا ألحّ عليه قال: يا أميرالمؤمنين، إن أعفيتني من ذلك فهو أحبّ إليّ، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله(صلى الله عليه وآله) وكما خرج أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام). قال المأمون: اخرج كما تحبّ،


(1) بحار الأنوار 49: 134 ـ 135.

(2) يعني: عيد الأضحى.

(3) الشاكريّة: جمع الشاكريّ معرّب (چاكر) بالفارسيّة، وهو الأجير والمستخدم.

82

وأمر المأمون القوّاد والناس أن يبكّروا إلى باب أبي الحسن(عليه السلام)، فقعد الناس لأبي الحسن(عليه السلام) في الطرقات والسطوح من الرجال والنساء والصبيان، واجتمع القوّاد على باب الرضا(عليه السلام).

فلمّا طلعت الشمس قام الرضا(عليه السلام) فاغتسل وتعمّم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه وتشمّر، ثمّ قال لجميع مواليه: افعلوا مثل ما فعلت، ثمّ أخذ بيده عُكّازة(1) وخرج ونحن(2) بين يديه وهو حاف قد شمّر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمّرة(3).

فلمّا قام ومشينا بين يديه رفع رأسه إلى السماء وكبّر أربع تكبيرات فخيّل إلينا أنّ الهواء والحيطان تجاوبه، والقوّاد والناس على الباب قد تزيّنوا ولبسوا السلاح وتهيّأوا بأحسن هيئة، فلمّا طلعنا عليهم بهذه الصورة حفاة قد تشمّرنا وطلع الرضا وقف وقفةً على الباب وقال: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا»، ورفع بذلك صوته ورفعنا أصواتنا.

 


(1) عصا في أسفلها حديدة.

(2) كأنّهم ياسر الخادم، والريّان بن الصلت، ومحمّد بن عرفة وصالح بن سعيد الراشديّان.

(3) شمّر الثوب عن ساقيه: رفعه.

83

فتزعزعت(1) مرو من البكاء والصياح، فقالها ثلاث مرّات، فسقط القوّاد عن دوابّهم ورموا بخفافهم لمّا نظروا إلى أبي الحسن(عليه السلام)، وصارت مرو ضجّة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجّة.

فكان أبو الحسن يمشي ويقف في كلّ عشرة خطوات وقفة يكبّر الله أربع مرّات، فيُتخَيّل إلينا أنّ السماء والأرض والحيطان تجاوبه، وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أميرالمؤمنين، إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس، فالرأي أن تسأله أن يرجع، فبعث إليه المأمون فسأله الرجوع، فدعا أبوالحسن(عليه السلام) بخفّه فلبسه، ورجع».

ومنها: ما ورد في عيون أخبار الرضا(عليه السلام)(2) عن ياسر الخادم أنّه: حينما قتل فضل بن سهل ذوالرئاستين في الحمّام واُ تّهِم مأمون به واجتمع القوّاد والجند من كان من رجال ذي الرئاستين على باب المأمون، فقالوا: اغتاله وقتله فلنطلبنّ بدمه، فالتجأ المأمون إلى الرضا(عليه السلام) في نجاة نفسه، ودخل من الباب الذي كان إلى داره من دار أبي الحسن(عليه السلام) يقول: يا سيّدي يا أبا الحسن، آجرك الله في الفضل، وكان دخل الحمّام فدخل عليه قوم بالسيوف فقتلوه، واشتكى إليه(عليه السلام)


(1) التزعزع التحرّك الشديد.

(2) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 163 ـ 164.

84

من اتّهام مأمون به، واجتماع جماعة الفضل لأخذ الثار من المأمون، وطلب منه(عليه السلام)أن يخرج إليهم ويفرّقهم، قال ياسر: فركب الرضا(عليه السلام)وقال لي: اركب. فلمّا خرجنا من الباب نظر الرضا(عليه السلام)إليهم وقد اجتمعوا وجاؤوا بالنيران ليحرقوا الباب، فصاح بهم وأومأ إليهم بيده: تفرّقوا فتفرّقوا. قال ياسر: فأقبل الناس والله يقع بعضهم على بعض، وما أشار إلى أحد إلّا ركض ومرّ ولم يقف له أحد.

ومنها: ما ورد أيضاً في عيون أخبار الرضا(عليه السلام)(1) عن معمّر بن خلاّد قال: «قال لي أبو الحسن الرضا(عليه السلام): قال لي المأمون يوماً: يا أبا الحسن، اُنظر بعضَ من تثق به نولّيه هذه البلدان التي قد فسدت علينا. فقلت له: تفي لي واُوافي لك. فإنّي إنّما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر فيه ولا أنهى، ولا أعزل، ولا اُولّي، ولا اُشير حتّى يقدّمني الله قبلك، فوالله إنّ الخلافة لشيء ما حدّثت به نفسي، ولقد كنت بالمدينة أتردّد في طُرُقِها على دابَّتي، وإنّ أهلها وغيرهم يسألوني الحوائج فأقضيها لهم، فيصيرون كالأعمام لي، وإنّ كُتبي لنافذة في الأمصار، وما زدتني من نعمة هي عليّ من ربّي. فقال له: أفي لك».

أقول: فمع كلّ هذه الشواهد ونحوها على قوّة الإمام الرضا(عليه السلام)


(1) المصدر السابق: 166 ـ 167. وراجعه أيضاً في البحار 49: 144 نقلاً عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام).

85

وقدرته يطرح هذا السؤال نفسَه:

وهو: ما السبب في عدم إقامة الإمام الرضا(عليه السلام) للحكم الإسلاميّ؟!

يبدو لنا ـ والله العالم ـ أنّ تسلّمه(عليه السلام) لزمام الحكم الإسلاميّ كان يمكن افتراضه بأحد شكلين:

الشكل الأوّل: أن يثور هو على الوضع القائم.

وهنا يتمّ جواب اُستاذنا (رحمة الله عليه) الذي ذكره في ما ورد في كتاب (أئمّة أهل البيت)(1).

وحاصله: أنّه بالرغم من كلّ هذا النموّ المتزايد في القواعد الشعبيّة للإمام(عليه السلام) كان يعلم الإمام وكان يعلم كلّ شخص عميق ـ بملاحظة الظروف الموضوعيّة ـ بأنّ الإمام(عليه السلام) ليس على مستوى تسلّم زمام الحكم; لأنّ الحكم الذي يريد أن يتسلّمه الإمام(عليه السلام) غير الحكم الذي يمكن الوصول إليه بمثل هذه القواعد الشعبيّة، أي: إنّ هذه القواعد الشعبيّة التي كانت موجودة في العالم الإسلاميّ كانت تهيّء الإمام(عليه السلام)لتسلّم زمام الحكم على مستوى ما يتسلّمه أيّ زعيم آخر، فبإمكان الإمام الرضا(عليه السلام) أن يتسلّم زمام الحكم على النحو الذي يتسلّمه المنصور، أو الذي يتسلّمه أبو السرايا، أو على النحو الذي يتسلّمه الأمين أو المأمون، فإنّ هذه القواعد الضخمة يمكن أن تمدّه بالجيوش


(1) الصفحة: 390 ـ 393.

86

الكبيرة وبأموال كثيرة، ولكن هذه القواعد لم تكن تصلح قاعدة للحكم الذي يريده الإمام(عليه السلام)، فهذه القواعد كانت مرتبطة بمدرسة الإمام عليّ(عليه السلام)ارتباطاً فكريّاً غامضاً عامّاً، وارتباطاً عاطفيّاً حراريّاً قويّاً، وهذه الحرارة كان يشعلها في كلّ لحظة الدم المراق على ساحة الجهاد من ناحية، وظلم الظالمين وجبروت الحكّام الذين كانوا قد اعتدوا على أمر هذه الاُمّة وهتكوا حرمتها وهدروا كرامتها من ناحية اُخرى.

وهذا المستوى من القواعد قد يمهّد لحكم راسخ قويّ عتيد كما مهّد لحكم العبّاسيّين، ولكن لا يمهّد لحكم الإمام عليّ(عليه السلام) الذي هو اُطروحة أولاده المعصومين.

ثمّ يستطرد اُستاذنا(رحمه الله) لاستعراض بعض الشواهد التأريخيّة على هذا الأمر، فإن شئت فراجعها في الكتاب.

الشكل الثاني: أن يقبل(عليه السلام) ما عرض عليه الخليفة العبّاسيّ من استلام الحكم مباشرةً، فيعمل على بناء المجتمع من منطلق القوّة.

وهذا جوابه ما اتّضح من بياناتنا السابقة من دلالة الشواهد التأريخيّة على أنّ المأمون كان كاذباً في كلامه، وكان خدّاعاً ولم يكن يمكّن الإمام(عليه السلام) من ذلك.

وقد ورد في التأريخ على ما رواه المجلسي(1) عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام)،


(1) بحار الأنوار، ج 49: 186 ـ 187.

87

عن هرثمة بن أعين قال:...«كان في بعض ثقات المأمون غلام يقال له: صبيحالديلميّ، وكان يتولّى سيّدي الرضا حقّ ولايته، وإذا صبيح قد خرج، فلمّا رآني قال لي: يا هرثمة، ألست تعلم أنّي ثقة المأمون على سرّه وعلانيّته؟ قلت: بلى. قال: اعلم يا هرثمة أنّ المأمون دعاني وثلاثين غلاماً من ثقاته على سرّه وعلانيّته في الثلث الأوّل من الليل، فدخلت عليه وقد صار ليله نهاراً من كثرة الشموع وبين يديه سيوف مسلولة مشحوذة مسمومة.

فدعا بنا غلاماً غلاماً وأخذ علينا العهد والميثاق بلسانه وليس بحضرتنا أحد من خلق الله غيرنا، فقال لنا: هذا العهد لازم لكم، إنّكم تفعلون ما أمرتكم به ولا تخالفوا منه شيئاً. قال: فحلفنا له. فقال: يأخذ كلّ واحد منكم سيفاً بيده وامضوا حتّى تدخلوا على عليّ بن موسى الرضا، فإن وجدتموه قائماً أو قاعداً أو نائماً فلا تكلّموه وضعوا أسيافكم عليه، واخلِطوا لحمه ودمه وشعره وعظمه ومخّه، ثمّ اقلبوا عليه بساطه، وامسحوا أسيافكم به وصيروا إليّ، وقد جعلت لكلّ واحد منكم على هذا الفعل وكتمانه عشر بدر دراهم، وعشر ضياع منتجبة، والحظوظ عندي ما حييت وبقيت.

قال: فأخذنا الأسياف بأيدينا ودخلنا عليه في حجرته، فوجدناه مضطجعاً يقلّب طرف يديه ويتكلّم بكلام لا نعرفه، قال: فبادر الغلمان إليه بالسيوف ووضعتُ سيفي(1) وأنا قائم أنظر إليه، وكأنّه قد


(1) أي: لم أرفعه إليه.

88

كان قد علم بمصيرنا إليه، فلبس على بدنه ما لا تعمل فيه السيوف،فطووا عليه بساطه وخرجوا حتّى دخلوا على المأمون.

فقال: ما صنعتم؟ قالوا: فعلنا ما أمرتنا به يا أميرالمؤمنين. قال: لا تعيدوا شيئاً ممّا كان(1).

فلمّا كان عند تبلّج الفجر خرج المأمون فجلس مجلسه مكشوف الرأس محلّل الأزرار، وأظهر وفاته وقعد للتعزية، ثمّ قام حافياً فمشى لينظر إليه وأنا(2) بين يديه، فلمّا دخل عليه حجرته سمع همهمة فارعد(3)، ثمّ قال: من عنده؟ قلت: لا علم لنا يا أميرالمؤمنين، فقال: أسرعوا وانظروا. قال صبيح: فأسرعنا إلى البيت فإذا سيّدي(عليه السلام)جالس في محرابه يصلّي ويسبّح.

فقلت: يا أميرالمؤمنين، هو ذا نرى شخصاً في محرابه يصلّي ويسبّح، فانتفض(4) المأمون وارتعد ثمّ قال: غرّرتموني لعنكم الله، ثمّ التفت إليّ من بين الجماعة فقال لي: يا صبيح، أنت تعرفه فانظر من المصلّي عنده؟ قال صبيح: فدخلت وتولّى المأمون راجعاً، فلمّا صرت عند عتبة


(1) أي: لا تخبروا أحداً بما كان.

(2) أي: صبيح.

(3) أي: أخذ يرتعد، أي: يرتجف.

(4) أي: تحرّك واهتزّ.

89

الباب قال لي: يا صبيح، قلت: لبّيك يا مولاي وقد سقطت لوجهي. فقال: قم يرحمك الله ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾(1).

قال: فرجعت إلى المأمون، فوجدت وجهه كقطع الليل المظلم، فقال لي: يا صبيح، ما وراك؟ قلت له: يا أميرالمؤمنين، هو والله جالس في حجرته، وقد ناداني وقال لي كيت وكيت. قال: فشدّ أزراره وأمر بردّ أثوابه وقال: قولوا: إنّه كان غشي عليه وإنّه قد أفاق.

قال هرثمة: فأكثرت لله ـ عزّ وجلّ ـ شكراً وحمداً، ثمّ دخلت على سيّدي الرضا(عليه السلام)، فلمّا رآني قال: يا هرثمة، لا تحدّث بما حدّثك به صبيح أحداً إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان بمحبّتنا وولايتنا. فقلت: نعم يا سيّدي. ثمّ قال لي(عليه السلام): يا هرثمة، والله لا يضرّنا كيدهم حتّى يبلغ الكتاب أجله».

وأيضاً روى في البحار(2) عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، عن أحمد بن عليّ الأنصاري قال: «سألت أبا الصلت الهرويّ فقلت: كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا(عليه السلام) مع إكرامه ومحبّته له وما جعل له: من ولاية العهد من بعده؟

 


(1) سورة 161 الصفّ، الآية: 8 .

(2) بحار الأنوار 49: 290.

90

فقال: إنّ المأمون إنّما كان يكرمه ويحبّه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده ليُري الناس أنّه راغب في الدنيا، فيسقط محلّه من نفوسهم، فلمّا لم يظهر منه في ذلك للناس إلّا ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلاًّ في نفوسهم جلب عليه المتكلّمين من البلدان طمعاً من أن يقطعه واحد منهم، فيسقط محلّه عند العلماء وبسببهم يشتهر نقصه عند العامّة.

فكان لا يكلّمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصائبين والبراهمة والملحدين والدهريّة ولا خصمٌ من فرق المسلمين المخالفين له إلّا قطعه وألزمه الحجّة، وكان الناس يقولون: والله إنّه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه فيغتاظ من ذلك ويشتدّ حسده، وكان الرضا(عليه السلام) لا يحابي(1) المأمون من حقّ، وكان يجيبه بما يكره في أكثر أحواله، فيغيظه ذلك ويحقده عليه ولا يظهره له، فلمّا أعيته الحيلة في أمره اغتاله، فقتله بالسمّ».

 

 


(1) أي: لا ينصره ولا يجامله.

91

 

لمحة عن الإمام محمّد بن عليّ الجواد(عليه السلام)

 

يمكن أن يجعل من الشواهد التأريخيّة على قوّة الإمام الجواد(عليه السلام)الاجتماعيّة ما سُجّل في التأريخ: من طريقة تعامل المأمون معه(عليه السلام)وإكرامه إيّاه أيّما إكرام، وقصّة تزويجه(عليه السلام) ببنته اُمّ الفضل، وكان الهدف من ذلك تدارك الوهن الذي دخل على مُلكه نتيجة قتله للإمام الرضا(عليه السلام)، ولولا تلك القوّة الاجتماعيّة له(عليه السلام) ـ والتي يراه اُستاذنا الشهيد الصدر حالة في تمام الأئمّة الذين وصفهم بأنّهم أئمّة الدور الثالث ـ لما كان يُظنّ بمأمون أن يتعامل بهذا الشكل مع إمامنا الجواد(عليه السلام).

روى في البحار(1) عن الاحتجاج عن الريّان بن شبيب: «قال: لمّا أراد المأمون أن يزوّج ابنته اُمّ الفضل أبا جعفر محمّد بن عليّ(عليه السلام) بلغ ذلك العبّاسيّين فغلظ عليهم، واستنكروه منه، وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا(عليه السلام)، فخاضوا في ذلك واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه، فقالوا: ننشدك الله يا أميرالمؤمنين: أن تقيم على هذا الأمر الذي عزِمت عليه: من تزويج ابن الرضا، فإنّا نخاف أن


(1) بحار الأنوار 50: 74 ـ 79.

92

يخرج به عنّا أمرٌ قد ملّكناه الله ـ عزّ وجلّ ـ وينزع منّا عزّاً قد ألبسناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنّا في وهلة(1) من عملك مع الرضا ما عملت، فكفانا الله المهمّ من ذلك، فالله الله أن تردّنا إلى غمّ قد انحسر عنّا، واصرف رأيك عن ابن الرضا، واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.

فقال لهم المأمون: أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب(2) فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم، وأمّا ما كان يفعله من قبلي فقد كان قاطعاً للرحم، وأعوذ بالله من ذلك، والله ما ندمت على ما كان منّي من استخلاف الرضا، ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.

وأمّا أبو جعفر محمّد بن عليّ فقد اخترته لتبريزه(3) على كافّة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنّه، والاُعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، فيعلمون أنّ الرأي ما رأيت فيه.

 


(1) الوهلة: الفزعة.

(2) يقصد أولاد الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام).

(3) برّز تبريزاً: فاق أصحابه فضلاً.

93

فقالوا له: إنّ هذا الفتى وإن راقك منه هديه(1) فإنّه صبيّ لا معرفة له ولا فقه، فامهله ليتأدّب ثمّ اصنع ما تراه بعد ذلك.

فقال لهم: ويحكم، إنّي أعرف بهذا الفتى منكم، وإنّ أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى وموادّه وإلهامه، لم تزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفتُ لكم من حاله.

قالوا: قد رضينا لك يا أميرالمؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فخلّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة، فإن أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره، وظهر للخاصّة والعامّة سديد رأي أميرالمؤمنين فيه، وإن عجز عن ذلك فقد كُفينا الخطب في معناه.

فقال لهم المأمون: شأنكم وذلك متى أردتم.

فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة(2) يحيى بن أكثم ـ وهو يومئذ قاضي الزمان ـ على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك، وعادوا إلى المأمون وسألوه أن


(1) الهدي: السيرة والهيئة والطريقة.

(2) أي: أن يطلبوا من يحيى بن أكثم أن يسأل الإمام الجواد(عليه السلام) مسألة لا يعرف الجواب فيها.

94

يختار لهم يوماً للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك.

فاجتمعوا في اليوم الذي اتّفقوا عليه، وحضر معهم يحيى بن أكثم، وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست(1) ويجعل له فيه مسورتان(2) ففعل ذلك، وخرج أبو جعفر وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهُر فجلس بين المسورتين، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه، وقام الناس في مراتبهم، والمأمون جالس في دست متّصل بدست أبي جعفر(عليه السلام).

فقال يحيى بن أكثم للمأمون: يأذن لي أميرالمؤمنين أن أسأل أبا جعفر عن مسألة؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك فأقبل يحيى بن أكثم فقال: أتأذن لي ـ جعلت فداك ـ في مسألة؟ فقال أبو جعفر(عليه السلام): سل إن شئت.

قال يحيى: ما تقول ـ جعلت فداك ـ في محرم قتل صيداً؟

فقال أبو جعفر(عليه السلام): قتله في حِلّ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأً؟ حرّاً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل كان أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من


(1) الدست هنا صدر البيت، وهو معرّب يقال له بالفارسيّة اليوم: «شاه نشين».

(2) المسورة بكسر الميم متّكأً من أدم، أي: من الجلود المدبوغة.

95

غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم في النهار؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً؟

فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتّى عرف جماعة أهل المجلس أمره.

فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثمّ نظر إلى أهل بيته فقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثمّ أقبل على أبي جعفر(عليه السلام) فقال له أتخطب يا أبا جعفر؟ فقال: نعم يا أميرالمؤمنين، فقال له المأمون: اخطب لنفسك ـ جعلت فداك ـ قد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجك اُمّ الفضل ابنتي وإن رغم قوم لذلك.

فقال أبوجعفر(عليه السلام): الحمد لله إقراراً بنعمته، ولا إله إلّا الله إخلاصاً لوحدانيّته، وصلّى الله على محمّد سيّد بريّته والأصفياء من عترته: أمّا بعد فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام وقال سبحانه: ﴿وَأَنكِحُوا الاَْيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(1).

ثمّ إنّ محمّد بن عليّ بن موسى يخطب اُمّ الفضل بنت عبدالله المأمون، وقد بذل لها من الصداق مهر جدّته فاطمة بنت محمّد(صلى الله عليه وآله)، وهو


(1) سورة 24 النور، الآية: 32.

96

خمس مئة درهم جياداً، فهل زوّجته يا أميرالمؤمنين بها على هذا الصداق المذكور؟ فقال المأمون: نعم، قد زوّجتك يا أبا جعفر اُمَّ الفضل ابنتي على الصداق المذكور، فهل قبلت النكاح؟ قال أبو جعفر(عليه السلام): قد قبلت ذلك ورضيت به.

فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم في الخاصّة والعامّة.

قال الريّان: ولم نلبث أن سمعنا أصواتاً تشبه أصوات الملاّحين في محاوراتهم، فإذا الخدم يجرّون سفينة مصنوعة من فضّة مشدودة بالحبال من الأبريسم على عجلة مملوّة من الغالية، ثمّ أمر المأمون أن تخضب لحاء الخاصّة من تلك الغالية، ثمّ مدّت إلى دار العامّة فتطيّبوا منها، ووضعت الموائد فأكل الناس، وخرجت الجوائز إلى كلّ قوم على قدرهم.

فلمّا تفرّق الناس وبقي من الخاصّة من بقي قال المأمون لأبي جعفر(عليه السلام): إن رأيت ـ جعلت فداك ـ أن تذكر الفقه الذي فصّلته من وجوه من قتل المحرم; لنعلمه ونستفيده.

فقال أبو جعفر(عليه السلام): نعم، إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحِلّ وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، وإذا قتل فرخاً في الحلّ فعليه حمل(1) قد


(1) فُسّر الحَمَل بالصغير من أولاد الضأن.

97

فطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، فإذا كانمن الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، وإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة.

وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحجّ نحره بمنى، وإن كان إحرامه بالعمرة نحره بمكّة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد عليه المأثم، وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفاّرة على الحرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده، والصغير لا كفّارة عليه، وهي على الكبير واجبة، والنادم يُسقط ندمه عنه عقاب الآخرة، والمصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة.

فقال المأمون: أحسنت يا أبا جعفر، أحسن الله إليك. فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك. فقال أبو جعفر(عليه السلام) ليحيى: أسألك؟ قال: ذلك إليك ـ جعلت فداك ـ فإن عرفت جواب ما تسألني عنه، وإلّا استفدته منك.

فقال له أبو جعفر(عليه السلام): أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النهار حلّت له، فلمّا زالت الشمس حرمت عليه، فلمّا كان وقت العصر حلّت له، فلمّا غربت الشمس حرمت عليه، فلمّا دخل وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلمّا كان وقت انتصاف الليل حرمت عليه، فلمّا طلع الفجر حلّت

98

له، ما حال هذه المرأة؟ وبماذا حلّت له وحرمت عليه؟

فقال له يحيى بن أكثم: لا والله لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال، ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تفيدناه.

فقال أبو جعفر(عليه السلام): هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبيّ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلمّا كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له، فلمّا كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهار فحلّت له، فلمّا كان نصف الليل طلّقها واحدة فحرمت عليه، فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له.

قال: فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم من يجيب هذه المسألة بمثل هذا الجواب أو يعرف القول فيما تقدّم من السؤال؟ قالوا: لا والله، إنّ أميرالمؤمنين أعلم وما رأى.

فقال: ويحكم إنّ أهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من الفضل، وإنّ صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال.

أما علمتم أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) افتتح دعوته بدعاء أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الإسلام وحكم له به، ولم يدع أحداً في سنّه غيره، وبايع الحسن والحسين(عليهما السلام)وهما ابنا دون الستّ سنين، ولم يبايع صبيّاً غيرهما، أو لا تعلمون ما اختصّ الله به