135

عنه أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلّا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام، والمحلّ الرفيع، والقول الجميل، والتقديم له على أهل بيته ومشايخه وغيرهم، وكلٌّ يقول: هو إمام الرافضة. فعظم قدره عندي; إذ لم أرَ له وليّاً ولا عدوّاً إلّا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه.

فقال له بعض أهل المجلس من الأشعريّين: يا بابكر، فما حال أخيه جعفر؟(1)، فقال: ومن جعفر فيُسأل عن خبره أو يُقرن به؟! إنّ جعفراً معلن بالفسق ماجنٌ شرّيب للخمور، أقلّ من رأيت من الرجال، وأهتكهم لستره بنفسه، فذمٌ(2) خمّار(3)، قليل في نفسه، خفيف.

والله لقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن عليّ ما تعجّبت منه وما ظننت أنّه يكون.

وذلك أنّه لمّا اعتلّ بعث إلى أبي: أنّ ابن الرضا قد اعتلّ، فركب من ساعته مبادراً إلى دار الخلافة، ثمّ رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدم أميرالمؤمنين كلّهم من ثقاته وخاصّته، فمنهم نحرير(4)، وأمرهم


(1) يعني: جعفر الكذّاب.

(2) أي: أبكم.

(3) وفي بعض النسخ: حمار.

(4) وهو كان رائضاً للسباع.

136

بلزوم دار الحسن بن عليّ وتعرّف خبره وحاله، وبعث إلى نفر منالمتطبّبين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده في صباح ومساء.

فلمّا كان بعد ذلك بيومين جاءه من أخبره أنّه قد ضعف، فركب حتّى بكّر إليه ثمّ أمر المتطبّبين بلزومه، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممّن يوثق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً.

فلم يزالوا هناك حتّى تُوفّي لأيّام مضت من شهر ربيع الأوّل من سنة ستّين ومئتين، فصارت سرّ من رأى ضجّة واحدة: مات ابن الرضا.

وبعث السلطان إلى داره من يفتّشها ويفتّش حجرها، وختم على جميع ما فيها، وطلبوا أثر ولده، وجاؤوا بنساء يعرفن الحبل، فدخلن على جواريه فنظرن إليهنّ، فذكر بعضهنّ أنّ هناك جارية بها حبل، فأمر بها فجعلت في حجرة ووكّل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم، ثمّ أخذوا بعد ذلك في تهيئته، وعطّلت الأسواق، وركب أبي وبنو هاشم والقوّاد والكتّاب وسائر الناس إلى جنازته، فكانت سرّ من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة.

فلمّا فرغوا من تهيئته بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكّل فأمره بالصلاة عليه، فلمّا وضعت الجنازة للصلاة دنا أبو عيسى منها

137

فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم: من العلويّة والعبّاسيّة، والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء والمعدِّلين، وقال: هذا الحسن بن عليّ بن محمّد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه، حضره مِن خدم أميرالمؤمنين وثقاته فلان وفلان، ومن المتطبّبين فلان وفلان، ومن القضاة فلان وفلان.

ثمّ غطّى وجهه وقام فصلّى عليه وكبّر عليه خمساً وأمر بحمله، وحُمِلَ من وسط داره ودُفن في البيت الذي دفن فيه أبوه.

فلمّا دفن وتفرّق الناس اضطرب السلطان وأصحابه في طلب ولده، وكثر التفتيش في المنازل والدور وتوقّفوا عن قسمة ميراثه، ولم يزل الذين وُكّلوا بحفظ الجارية التي توهّموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين وأكثر حتّى تبيّن لهم بطلان الحبل، فقسّم ميراثه بين اُمّه وأخيه جعفر، وادّعت اُمّه وصيّته وثبت ذلك عند القاضي، والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده.

فجاء جعفر بعد قسمة الميراث إلى أبي وقال له: اجعل لي مرتبة أبي وأخي واُوصل إليك في كلّ سنة عشرين ألف دينار. فزبره أبي وأسمعه(1) وقال له: يا أحمق، إنّ السلطان ـ أعزّه الله ـ جرّد سيفه وسوطه في الذين زعموا أنّ أباك وأخاك أئمّة ليردّهم عن ذلك، فلم


(1) أي: شتمه.

138

يقدر عليه ولم يتهيّأ له صرفهم عن هذا القول فيهما، وجهد أن يُزيلأباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيّأ له ذلك، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك إلى سلطان يرتّبك مراتبهم ولا غير سلطان، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بها.

واستقلّه عند ذلك واستضعفه وأمر أن يُحجب عنه، فلم يأذن له بالدخول عليه حتّى مات أبي وخرجنا، والأمر على تلك الحال، والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن عليّ حتّى اليوم».

أقول: ما ورد في هذا النقل من صلاة أبي عيسى بن المتوكّل على الإمام العسكريّ(عليه السلام) كان هو الموقف الرسميّ الحكوميّ، وهذا لا ينافي الحديث الآخر الذي يحدّثنا عن صلاة الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه) على أبيه، فقد روى في البحار(1) عن (كمال الدين) حديثاً عن أبي الأديان: «قال: كنت أخدم الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام)وأحمل كتبه إلى الأمصار، فدخلت إليه في علّته التي توفّي فيها (صلوات الله عليه)، فكتب معي كتباً وقال: تمضي بها إلى المدائن(2)، فإنّك ستغيب خمسة عشر يوماً فتدخل إلى سرّ من رأى يوم الخامس عشر وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل.

 


(1) بحار الأنوار 50: 332 ـ 333.

(2) يعني فتأخذ جواباتها.

139

قال أبو الأديان: فقلت: يا سيّدي، فإذا كان ذلك فمن؟ قال: من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم بعدي. قال: زدني. فقال: من يصلّي عليّ فهو القائم بعدي. فقلت: زدني. فقال: من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي.

ثمّ منعتني هيبته أن أسأله ما في الهميان؟ وخرجت بالكتب إلى المدائن، وأخذت جواباتها، ودخلت سرّ من رأى يوم الخامس عشر كما قال لي(عليه السلام) فإذا أنا بالواعية في داره، وإذا أنا بجعفر بن عليّ أخيه بباب الدار والشيعة حوله يعزّونه ويهنّؤونه.

فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد حالت الإمامة; لأنّي كنت أعرفه بشرب النبيذ ويقامر في الجوسق(1)، ويلعب بالطنبور، فتقدّمت فعزّيت وهنّيت، فلم يسألني عن شيء، ثمّ خرج عقيد فقال: يا سيّدي، قد كُفّن أخوك فقم للصلاة عليه. فدخل جعفر بن عليّ والشيعة من حوله يقدمهم السمّـان والحسن بن عليّ قتيل المعتصم المعروف بسلمة، فلمّا صرنا بالدار إذا نحن بالحسن بن عليّ(عليه السلام) على نعشه مكفّناً، فتقدّم جعفر بن عليّ ليصلّي على أخيه، فلمّا همّ بالتكبير خرج صبيّ بوجهه سمرة، بشعره قطط(2)، بأسنانه


(1) أي: القصر.

(2) قطّ الشعر قططاً: كان قصيراً مجعّداً.

140

تفليج(1)، فجبذ(2) رداء جعفر بن عليّ وقال: تأخّر يا عمّ، فأنا أحقّبالصلاة على أبي، فتأخّر جعفر وقد اربدّ(3) وجهه، فتقدّم الصبيّ فصلّى عليه، ودفن إلى جانب قبر أبيه.

ثمّ قال: يا بصريّ، هات جوابات الكتب التي معك، فدفعتها إليه وقلت في نفسي: هذه اثنتان، بقي الهميان، ثمّ خرجت إلى جعفر بن عليّ وهو يزفر، فقال له حاجز الوشّاء: يا سيّدي، من الصبيّ؟ ليقيم عليه الحجّة(4)، فقال: والله ما رأيت قطّ ولا عرفته.

فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم، فسألوا عن الحسن بن عليّ فعرفوا موته، فقالوا: فمن؟ فأشار الناس إلى جعفر بن عليّ، فسلّموا عليه وعزّوه وهنّؤوه وقالوا: معنا كتب ومال فتقول ممّن الكتب؟ وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: يريدون منّا أن نعلم الغيب.

قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان وهميان فيه ألف دينار عشرة دنانير منها مطلية(5)، فدفعوا الكتب والمال وقالوا: الذي


(1) أي: انفراج.

(2) أي: جذب.

(3) أي: تغيّر إلى الغبرة. وقيل: الربدة لون بين السواد والغبرة.

(4) أي: كان هدفه من هذا السؤال أخذ الاعتراف منه بواقع الأمر وإتمام الحجّة عليه.

(5) الظاهر أنّ الصحيح (مطلّسة)، والدينار المطلّس: الذي انمحى أثر نقشه.

141

وجّه بك لأجل ذلك هو الإمام.

فدخل جعفر بن عليّ على المعتمد وكشف له ذلك، فوجّه المعتمد خدمه، فقبضوا على صَقِيل الجارية وطالبوها بالصبيّ، فأنكرته وادّعت حملاً بها لتغطّي على حال الصبيّ، فسُلّمت إلى أبي الشوارب القاضي، وبغتهم موت عبيدالله بن يحيى بن خاقان فجاءةً، وخروج صاحب الزنج بالبصرة، فشُغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم، والحمد لله ربّ العالمين لا شريك له».

وأمّا الموقف الثاني ـ وهو موقفه من الحركة العلميّة والتثقيف العقائدي ـ: فإنّي أذكر من ذلك عدداً من الروايات:

1 ـ ما رواه في المناقب(1) نقلاً عن أبي القاسم الكوفي في كتاب التبديل: من قصّة إبطاله(عليه السلام)لتأليف إسحاق الكندي كتاباً في تناقض القرآن، والقصّة ما يلي:

«إنّ إسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه أخذ في تأليف تناقض القرآن، وشغل نفسه بذلك وتفرّد به في منزله، وإنّ بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكريّ(عليه السلام) فقال له أبو محمّد(عليه السلام): أما فيكم رجل رشيد يردع اُستاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فقال التلميذ: نحن من تلامذته كيف يجوز


(1) ج 3: 525 ـ 526.

142

منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال له أبو محمّد: أتؤدّي إليهما اُلقيه إليك؟ قال: نعم. قال: فصر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الاُنسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنّه يستدعي ذلك منك فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنّك ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول لك: إنّه من الجائز; لأنّه رجل يفهم إذا سمع. فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يُدريك لعلّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فتكون واضعاً لغير معانيه(1)، فصار


(1) فمثلاً قد يقال: يوجد لدينا قوله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مِنَ السَّماء إِلَى الاَْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ . سورة 32 السجدة، الآية: 5. ويوجد لدينا أيضاً قوله تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة﴾ . سورة 70 المعارج، الآية: 4. وهذا يعني بيان مقدارين متخالفين ليوم القيامة، فإن جاء صاحب هذا الكلام وأبدى معنىً آخر لكلامه، فانظر هل أنّ كلامه يتحمّل هذا المعنى الآخر أو لا، فإن كان لا يتحمّل معنىً آخر فلك الحقّ في فرض ذلك تناقضاً للقرآن، أمّا إن كان يتحمّل معنىً آخر كأن يقول: إنّ في القيامة خمسين موقفاً، وكلّ واحد منه مقدار ألف سنة، والمجموع خمسون ألف سنة، فليس لك هذا الحقّ.

143

الرجل إلى الكندي وتلطّف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة، فقال له: أعِد عليّ. فأعاد عليه، فتفكّر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك ألا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنّه شيء عرض على قلبي فأوردته عليك. فقال: كلاّ ما مثلك من اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو محمّد. فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلّا من ذاك البيت. ثمّ إنّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه».

2 ـ ما رواه البحار(1) عن المناقب(2) في مسألة خلق القرآن: «قال أبو هاشم: خطر ببالي أنّ القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ فقال


ومثال آخر: قال الله تعالى: ﴿وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الُْمجْرِمُونَ﴾ . سورة 28 القصص، الآية: 78. وقال: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ . سورة 37 الصافّات، الآية: 24. فهذا تناقض في الكلام; إذ تارة نفى السؤال، واُخرى أثبته، فإن كان لا يحتمل الكلام معنىً آخر فلك الحقّ في فرض ذلك تناقضاً آخر، وإن كان يحتمل معنىً آخر كأن يأتي صاحب الكلام ويقول: إنّي قصدت تعدّد المواقف في يوم القيامة، ففي موقف منها ليسوا مسؤولين، وفي موقف آخر مسؤولون، فليس لك هذا الحقّ.

(1) ج 50: 258.

(2) راجع المناقب 3: 535.

144

أبو محمّد(عليه السلام): يا أبا هاشم، الله خالق كلّ شيء، وما سواه مخلوق».

3 ـ ما رواه في البحار(1) عن المناقب ومختار الخرائج وكشف الغمّة في الجواب على مشكلة إرث الامرأة: «قال أبو هاشم: سأله الفهفكي: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرجل سهمين؟! قال: لأنّ المرأة ليس لها جهاد ولا نفقة ولا عليها معقلة(2)، إنّما ذلك على الرجال. فقلت في نفسي: قد كان قيل لي: إنّ ابن أبي العوجاء سأل أبا عبد الله(عليه السلام) عن هذه المسألة: فأجابه بمثل هذا الجواب. فأقبل(عليه السلام) عليّ فقال: نعم، هذه مسألة ابن أبي العوجاء والجواب منّا واحد، إذا كان معنى المسألة واحداً جرى لآخرنا ما جرى لأوّلنا، وأوّلنا وآخرنا في العلم والأمر سواء، ولرسول الله وأميرالمؤمنين فضلهما».

4 ـ قصّة منعه(عليه السلام) الراهب عن إضلال المسلمين وارتدادهم إلى النصرانيّة، فقد روى المجلسي(3) عن المناقب ومختار الخرائج(4)، عن عليّ بن الحسن بن سابور قال: «قحط الناس بسرّ من رأى في زمن


(1) ج 50: 255 ـ 256.

(2) أي: ليست عليها الدية التي تكون على العاقلة.

(3) في بحار الأنوار 50: 270 ـ 271.

(4) ووردت القصّة أيضاً في كشف الغمّة 3:225.

145

الحسن الأخير(عليه السلام)، فأمر الخليفة(1) الحاجب وأهل المملكة أن يخرجوا إلى الاستسقاء، فخرجوا ثلاثة أيّام متوالية إلى المصلّى ويدعون فما سقوا.

فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى الصحراء ومعه النصارى والرهبان، وكان فيهم راهب فلمّا مدّ يده هطلت السماء بالمطر، فشكّ أكثر الناس وتعجّبوا وصبوا(2) إلى دين النصرانيّة، فأنفذ الخليفة إلى الحسن(عليه السلام) وكان محبوساً، فاستخرجه من محبسه وقال: الحق اُمّة جدّك فقد هلكت. فقال: إنّي خارج في الغد ومزيل الشكّ إن شاء الله تعالى.

فخرج الجاثليق في اليوم الثالث والرهبان معه وخرج الحسن(عليه السلام)في نفر من أصحابه، فلمّا بصر بالراهب وقد مدّ يده أمر بعض مماليكه أن يقبض على يده اليمنى ويأخذ ما بين إصبعيه ففعل وأخذ من بين سبّابتيه عظماً أسود، فأخذه الحسن(عليه السلام)بيده ثمّ قال له: استسق الآن. فاستسقى وكان السماء متغيّماً فتقشّعت وطلعت الشمس بيضاء.

فقال الخليفة: ما هذا العظم يا أبا محمّد؟ قال(عليه السلام): هذا رجل مرّ بقبر نبيّ من الأنبياء فوقع إلى يده هذا العظم، وما كشف من عظم نبيّ إلّا وهطلت السماء بالمطر».

 


(1) يعني: المعتمد.

(2) أي: مالوا.

146

وأمّا الموقف الثالث ـ وهو إشرافه على قواعده الشعبيّة وحماية وجودها وتنمية وعيها ومدّها بكلّ أساليب الصمود والارتفاع إلى مستوى الطليعة المؤمنة ـ: فإنّي اُشير إلى روايتين تشهدان لذلك:

الرواية الاُولى: روى في البحار(1) عن المناقب ومختار الخرائج قصّة إرشاده(عليه السلام)للمساجين ـ حينما اُدخل(عليه السلام) السجن ـ بالحذر من جاسوس موكَّل بهم من قبل السلطة وهم لا يعلمون.

والقصّة ما يلي: «قال أبو هاشم الجعفري: كنت في الحبس مع جماعة فحُبس أبو محمّد وأخوه جعفر(2)، فخفّفنا له(3) وقبّلتُ وجه الحسن وأجلسته على مضربّة(4) كانت عندي، وجلس جعفر قريباً منه فقال جعفر: (وا شيطناه) بأعلى صوته، يعني: جاريةً له، فضجره أبو محمّد(عليه السلام)وقال له: اسكت. وإنّهم رأوا فيه أثر السكر، وكان المتولّي حبسه صالح بن وصيف، وكان معنا في الحبس رجل جمحيّ(5) يدّعي أنّه علويّ، فالتفت أبو محمّد(عليه السلام) وقال: لولا أنّ فيكم من ليس منكم


(1) بحار الأنوار 50: 254.

(2) يعني: جعفر الكذّاب.

(3) أي: أسرعنا إلى خدمته. وفي بعض النسخ: «فحففنا به».

(4) المُضربّة: كساء ذو طاقين بينهما قطن.

(5) يحتمل كونه منسوباً إلى الجَمح تشبيهاً له بالفرس الجَموح، وبالفارسيّة: چموش.

147

لأعلمتكم متى يفرّج الله عنكم، وأومأ إلى الجمحيّ فخرج، فقالأبو محمّد: هذا الرجل ليس منكم فاحذروه، فإنّ في ثيابه قصّة قد كتبها إلى السلطان يخبره بما تقولون فيه، فقام بعضهم وفتّش ثيابه فوجد فيها القصّة يذكرنا فيها بكلّ عظيمة، ويعلمه أنّا نريد أن ننقب الحبس ونهرب».

والرواية الثانية: ما رواه في البحار(1) عن المناقب، عن أبي هاشم الجعفري، عن داود بن الأسود قال: «دعاني سيّدي أبو محمّد(عليه السلام)، فدفع إليّ خشبة كأنّها رجل باب مدوّرة(2) طويلة ملء الكفّ، فقال: صر بهذه الخشبة إلى العمري فمضيت، فلمّا صرت في بعض الطريق عرض لي سقّاء معه بغل فزاحمني البغل على الطريق، فناداني السقّاء ضحّ على البغل(3) فرفعت الخشبة التي كانت معي فضربت بها البغل فانشقّت(4)، فنظرتُ إلى كسرها فإذا فيها كَتْبٌ، فبادرتُ سريعاً فرددت الخشبة إلى كُمّي، فجعل السقّاء يناديني ويشتمني ويشتم صاحبي(5).

 


(1) بحار الأنوار 50: 283.

(2) بالفارسي «پاشنه در».

(3) أي: أرفِق به وخلِّ له السبيل.

(4) أي: انشقّت الخشبة.

(5) يعني: يشتم الإمام(عليه السلام).

148

فلمّا دنوت من الدار راجعاً استقبلني عيسى الخادم عند الباب الثاني فقال: يقول لك مولاي ـ أعزّه الله ـ: لِمَ ضربت البغل وكسرت رجل الباب؟! فقلت له: يا سيّدي، لم أعلم ما في رجل الباب. فقال: ولِمَ احتجت أن تعمل عملاً تحتاج أن تعتذر منه، إيّاك بعدها أن تعود إلى مثلها، وإذا سمعت لنا شاتماً فامض لسبيلك التي اُمرت بها، وإيّاك أن تُجاوب من يشتمنا(1) أو تعرّفه من أنت، فإنّا ببلد سوء ومصر سوء، وامضِ في طريقك، فإنّ أخبارك وأحوالك تردّ إلينا، فاعلم ذلك».

وأمّا الموقف الرابع ـ وهو موقفه(عليه السلام) من التمهيد للغيبة ـ: فلولا أنّه (سلام الله عليه) قد مهّد تمهيداً كبيراً لغيبة ولده وترويض الشيعة على ذلك لتفطّرت قلوب الشيعة بغيبته، ولولا تقسيم حالة الغيبة إلى الصغرى والكبرى لما كانت للشيعة قدرة تحمّل الغيبة الكبرى، وبرغم تواتر النصوص على غيبة الإمام المهدي ـ عجّل الله فرجه ـ من زمن آبائه(عليهم السلام) لم يكن ذلك كافياً لتهيّؤ الشيعة نفسيّاً لتحمّل ذلك، إلّا أنّه(عليه السلام)قد أحكم التمهيد لذلك بما يلي:

فأوّلاً: حجب الإمام المهديّ(عليه السلام) عن أعين الناس مع إظهاره لبعض خاصّته فحسب قليلاً.

 


(1) أي: إيّاك أن تشاتمه.

149

وثانياً: قد احتجب هو(عليه السلام) كثيراً عن الشيعة حتّى تعوّدوا ـ كما ما هو المعروف ـ على الاتّصال به عن طريق المكاتبات والمراسلات الكتبيّة كما هو الحال مع الإمام المهديّ (سلام الله عليه) في أيّام الغيبة الصغرى، بل ذكر الحاجّ عادل الأديب (حفظه الله)(1) نقلاً عن كتاب (إثبات الوصيّة): أنّه قد بدأ الإمام الهادي(عليه السلام) بشكل بسيط بهذا الاُسلوب عندما احتجب عن كثير من مواليه، وأخذ يراسلهم عن طريق الكتب والتوقيعات ليعوّد شيعته على هذا المسلك بشكل متدرّج بطيء.

ومن الطَريف أنّ الإمام العسكريّ(عليه السلام) كان بابه هو عثمان بن سعيد العمري(2)، أي: أوّل نائب من النوّاب الأربعة لولده المهدي ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ في أيّام الغيبة الصغرى، فهكذا تعمّد التشابه بين طريقته في التعامل مع الشيعة في زمانه وطريقة الإمام المهدي(عليه السلام) في التعامل معهم، كي لا يستوحشوا ويمشوا على نفس المنهج الذي أنسوا به.

وثالثاً: بدأ(عليه السلام) بتثقيف الشيعة بثقافة الغيبة، وأطرف ما رأيته بهذا


(1) في كتابه (الأئمّة الاثناعشر): 245.

(2) راجع بحار الأنوار 50: 238، آخر الصفحة، بل وكان أيضاً باباً لعليّ الهادي(عليه السلام). راجع البحار 51: 344.

150

الصدد ما كتبه(عليه السلام) إلى عليّ بن الحسين بن بابويه القمّيّ(رحمه الله) من قوله:

«عليك بالصبر وانتظار الفرج، فإنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال: أفضل أعمال اُمّتي انتظار الفرج، ولا تزال شيعتنا في حزن حتّى يظهر ولدي الذي بشّر به النبيّ(صلى الله عليه وآله) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن عليّ، آمرُ جميع شيعتي بالصبر، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتّقين. والسلام عليك وعلى جميع شيعتنا ورحمة الله وبركاته، وصلّى الله على محمّد وآله»(1).

 

 


(1) راجع بحار الأنوار 50: 318.

151

 

لمحة عن الإمام الحجّة بن الحسن عجّل الله فرجه

 

تحيّةُ اللهِ ورضوانُه
على الإمام الحجّةِ القائمِ
على إمام حكمُه نافذٌ
إذا أراد الحكمَ في العالمِ
خليفةُ الله على خلقهِ
والآخذُ الحقّ من الظالمِ
العادلُ العالِم أكرمْ بهِ
من عادل في حكمهِ عالِم
مطهّرُ الأرضِ ومحيي الورى
العلويُّ الطاهرُ الفاطميّ
ناصرُ دينِ اللهِ كهفُ الورى
محيي الندى(1) خيرُ بني آدمِ
الصاحبُ الأعظمُ والماجدُ
الأكرمُ المولى أبوالقاسمِ
وصاحبُ الدولةِ يُحيى بها
ممتحن في الزمنِ الغاشمِ
والنافذ الحكمِ فَرَعْياً له(2)
وجادَه الوابل(3) من حاكمِ
مَن حاتَمٌ حتّى يوازى به
عبيدُه أكرمُ من حاتمِ
 


(1) الظاهر أنّ المقصود: الأرض المبتلّة.
(2) أي: حفظاً له.
(3) الوابل: المطر الشديد. والجود: المطر الغزير، أي: أكرِم به من حاكم نسأل الله أن يوفّر عليه النعم بالمطر الغزير.
152

لو أنّني شاهدتُه مقبِلاً
في جحفل ذي عِثيَر قاتمِ(۱)
لقلتُ من فرطِ سروري بهِ
أهلاً وسهلاً بك من قادمِ(۲)

ورد في البحار(3) عن (كمال الدين وتمام النعمة) بسند له عن حكيمة بنت محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام): «قالت: بعث إليّ أبو محمّد الحسن بن عليّ(عليهما السلام) فقال: يا عمّة، اجعلي إفطارك الليلة عندنا، فإنّها ليلة النصف من شعبان، فإنّ الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجّة وهو حجّته في أرضه. قالت: فقلت له: ومن اُمّه؟ قال لي: نرجس. قلت له: والله ـ جعلني الله فداك ـ ما بها أثر. فقال: هو ما أقول لك. قالت: فجئت فلمّا سلّمت وجلست جاءت تنزع خفّي وقالت لي: يا سيّدتي، كيف أمسيت؟ فقلت: بل أنتِ سيّدتي وسيّدة أهلي. قالت: فأنكرت قولي وقالت: ما هذا يا عمّة؟ قالت: فقلت لها: يا بنيّة، إنّ الله تبارك وتعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيّداً في الدنيا والآخرة. قالت: فجلست واستحيت، فلمّا أن فرغتُ من صلاة العشاء الآخرة


(1) الجحفل: الجيش الكثير. والعِثيَر: الغبار. والقاتم يقصد به الغبار الغليظ. والأبيات للأربليّ صاحب كتاب كشف الغمّة(رحمه الله).
(2) كشف الغمّة 3: 358 ـ 359.
(3) بحار الأنوار 51: 2 ـ 4.
153

وأفطرتُ وأخذت مضجعي فرقدتُ، فلمّا أن كان في جوف الليل قمت إلى الصلاة ففرغت من صلاتي وهي نائمة ليس بها حادث، ثمّ جلستُ معقّبةً، ثمّ اضطجعتُ، ثمّ انتبهتُ فزِعةً وهي راقدة، ثمّ قامت فصلّت.

قالت حكيمة: فدخلتني الشكوك، فصاح بي أبو محمّد(عليه السلام) من المجلس فقال: لا تعجلي يا عمّة، فإنّ الأمر قد قرب. قالت: فقرأت الم السجدة و يس، فبينما أنا كذلك إذا انتهبت فزعةً، فوثبت إليها فقلت: اسم الله عليك، ثمّ قلت لها: تحسّين شيئاً؟ قالت: نعم يا عمّة. فقلت لها: اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لك.

قالت حكيمة: ثمّ أخذتني فترة وأخذتها فطرة(1)، فانتبهت بحسّ سيّدي(عليه السلام) فكشفت الثوب عنه فإذا أنا بِه(عليه السلام) ساجداً يتلقّى الأرض بمساجده، فضممته إليّ فإذا أنا بِه نظيف منظّف، فصاح بي أبو محمّد(عليه السلام)هلمّي إليّ ابني يا عمّة، فجئت به إليه، فوضع يديه تحت إليتيه وظهره ووضع قدميه على صدره، ثمّ أدلى لسانه في فيه وأمرّ يده على عينيه وسمعه ومفاصله، ثمّ قال: تكلّم يا بنيّ، فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ثمّ صلّى على


(1) المراد بالفترة سكون المفاصل وهدوؤها قبل غلبة النوم، والمراد بالفطرة انشقاق البطن بالمولود وطلوعه منه.

154

أميرالمؤمنين وعلى الأئمّة إلى أن وقف على أبيه، ثمّ أحجم.

قال أبو محمّد(عليه السلام) يا عمّة، اذهبي به إلى اُمّه ليسلّم عليها وائتيني به، فذهبت به فسلّم عليها، ورددته ووضعته في المجلس، ثمّ قال: يا عمّة، إذا كان يوم السابع فأتينا.

قالت حكيمة: فلمّا أصبحت جئت لاُسلّم على أبي محمّد(عليه السلام)فكشفت الستر لأفتقد سيّدي(عليه السلام) فلم أرَه، فقلت له: جعلت فداك ما فعل سيّدي؟ فقال: يا عمّة، استودعناه الذي استودعته اُمّ موسى(عليه السلام).

قالت حكيمة: فلمّا كان في اليوم السابع جئت وسلّمت وجلست، فقال: هلمّي إليّ ابني. فجئت بسيّدي في الخرقة ففعل به كفعلته الاُولى، ثمّ أدلى لسانه في فيه كأنّه يغذّيه لبناً وعسلاً، ثمّ قال: تكلّم يا بنيّ. فقال(عليه السلام): أشهد أن لا إله إلّا الله، وثنّى بالصلاة على محمّد وعلى أميرالمؤمنين والأئمّة (صلوات الله عليهم أجمعين) حتّى وقف على أبيه(عليه السلام)، ثمّ تلا هذه الآية: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الاَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الاَْرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ (1)».

 


(1) سورة 28 القصص، الآية: 5 ـ 6.

155

 

الغيبة الصغرى:

روى في البحار(1) عن غيبة الشيخ الطوسي وعن الخرائج، عن رشيق صاحب المادراي قال: «بعث إلينا المعتضد ونحن ثلاثة نفر، فأمرنا أن يركب كلّ واحد منّا فرساً ويجنب آخر(2) ونخرج مخفَّفين لا يكون معنا قليل ولا كثير إلّا على السرج مصلّى، وقال لنا: الحقوا بسامرّة ووصف لنا محلّةً وداراً، وقال: إذا أتيتموها تجدوا على الباب خادماً أسود، فاكبسوا الدار ومن رأيتم فيها فائتوني برأسه، فوافينا سامرّة، فوجدنا الأمر كما وصفه وفي الدهليز خادم أسود وفي يده تكّة(3) ينسجها، فسألناه عن الدار ومن فيها. فقال: صاحبها. فوالله ما التفت إلينا وقلّ اكتراثه بنا، فكبسنا الدار كما أمرنا، فوجدنا داراً سرّية(4)، ومقابل الدار سترٌ ما نظرتُ قطّ إلى أنبل منه كأنّ الأيدي رفعت عنه في ذلك الوقت(5)، ولم يكن في الدار أحد.

 


(1) بحار الأنوار 52: 51 ـ 52.

(2) لعلّ الصحيح: وبجنب آخر، أي: يكون بعضنا بجنب بعض.

(3) التكّة: رباط السروال.

(4) أي: مستورة.

(5) أي: سترٌ نبيلٌ جديد كأنّ الناسجين رفعوا يدهم عن نسجه في ذلك الوقت.

156

فرفعنا الستر فإذا بيتٌ كبير كأنّ بحراً فيه، وفي أقصى البيت حصير قد علمنا أنّه على الماء وفوقه رجل من أحسن الناس هيئةً قائمٌ يصلّي(1)، فلم يلتفت إلينا ولا إلى شيء من أسبابنا، فسبق أحمد بن عبد الله(2) ليتخطّى البيت فغرق في الماء، وما زال يضطرب حتّى مددتُ يدي إليه فخلّصته وأخرجتُه، وغشي عليه وبقي ساعة، وعاد صاحبي الثاني إلى فعل ذلك الفعل فناله مثل ذلك، وبقيتُ مبهوتاً.

فقلت لصاحب البيت: المعذرة إلى الله وإليك، فوالله ما علمتُ كيف الخبر ولا إلى من أجيء، وأنا تائب إلى الله، فما التفت إلى شيء ممّا قلنا، وما انفتل عمّا كان فيه(3)، فهالنا ذلك وانصرفنا عنه وقد كان المعتضد ينتظرنا وقد تقدّم إلى الحجّاب إذا وافيناه أن ندخل عليه في أيّ وقت كان(4).

 


(1) أقول: إنّ الرجل الذي كان يصلّي على الحصير المفروش على الماء: إن كان هو الحجّة (عجّل الله فرجه) فإمّا أن تفسّر كلمة «الرجل» بمعنى الذكر في مقابل الاُنثى، أو يحمل على أنّه(عليه السلام) تراءى بالإعجاز بهيئة الرجل كما أنّ أصل فرش الحصير على ما يُرى بحراً كان إعجازاً.

(2) وهو أحد الثلاثة، أو قل أحد رفيقي رشيق صاحب المادراي.

(3) أي: لم يترك(عليه السلام) صلاته.

(4) أي: كان قد أمر الحجّاب أن لا يمنعونا من الدخول عليه في أيّ وقت وصلْنا إليه.

157

فوافيناه في بعض الليل، فاُدخِلنا عليه فسألنا عن الخبر، فحكينا له ما رأينا، فقال: ويحكم، لقيكم أحدٌ قبلي، وجرى منكم إلى أحد سبب أو قول؟ قلنا: لا.

فقال: أنا نفيٌ من جدّي(1) وحَلَفَ بأشدّ أيمان له أنّه إن بلغ هذا الخبر رجلاً ليضربنّ أعناقنا، فما جسرنا أن نحدّث به إلّا بعد موته».

ثمّ روى صاحب البحار(2) تكملة القصّة عن كتاب الخرائج، وهي ما يلي:

ثمّ بعثوا عسكراً أكثر، فلمّا دخلوا الدار سمعوا من السرداب قراءة القرآن، فاجتمعوا على بابه وحفظوه حتّى لا يصعد ولا يخرج، وأميرهم قائم حتّى يصل العسكر كلّهم، فخرج من السكّة التي على باب السرداب ومرّ عليهم، فلمّا غاب قال الأمير: انزلوا عليه، فقالوا: أليس هو مرّ عليك؟ فقال: ما رأيت، قال: ولِمَ تركتموه؟! قالوا: إنّا حسبنا أنّك تراه.

وقال الحاجّ عادل الأديب (حفظ الله)(3) معلّقاً على هذا المقطع من


(1) أي: لستُ منتسباً إلى جدّي العباس إن لم أقتلكم لو أخبرتم أحداً بهذه القصّة.

(2) بحار الأنوار 52: 52 ـ 53.

(3) في كتابه (الأئمّة الاثنا عشر): 256.

158

الحديث: «ومن طريف حال هؤلاء الجلاوزة أنّهم لم يبادروا للقبضعليه، بل وقفوا على باب السرداب يحافظون عليه، فهم يخافون مواجهته(عليه السلام) ويحتاجون إلى مدد أكثر، وعدد أكثر فهم منتظرون لوصول المدد من بغداد إلى سامراء، وفي هذه الأثناء من الترقّب استغلّ الإمام(عليه السلام)لحظة من لحظات ذلك الحصار لحظة اقترنت بالدقّة والتوقيت والضبط في التدبير والعناية الإلهيّة، إنّها لحظة غفلة قائد الحملة عن الترصّد والانتباه لحظة لم يأت فيه المدد ولم تصدر الأوامر بعدُ لاقتحام المكان، ولو كان الإمام(عليه السلام) قد تأخّر لحظات اُخرى لقبضوا عليه لا محالة».

 

النوّاب الأربعة:

النائب الأوّل: من نُصب من قبل عليّ الهادي(عليه السلام) باباً له، ثمّ نصبه الحسن بن عليّ(عليه السلام) باباً له، وهو أبو عمرو عثمان بن سعيد العمريّ رضوان الله عليه، وكان أسديّاً ينسب إلى جدّه فقيل: «العمريّ»، ويقال له: «العسكريّ» أيضاً; لأنّه كان من عسكر سرّ من رأى، «السمّـان»; لأنّه كان يتّجر في السمن تغطيةً على الأمر، وكان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمّد(عليه السلام) ما يجب عليهم حمله من الأموال أوصلوها إلى أبي عمرو عثمان بن سعيد، فكان يجعله في جراب السمن وزقاقه ويحمله إلى أبي محمّد(عليه السلام) تقيّةً وخوفاً(1).

 


(1) راجع بحار الأنوار 51: 344.

159

وكانت توقيعات صاحب الأمر(عليه السلام) تخرج على يدي عثمان بن سعيد وابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان إلى شيعته وخواصّ أبيه أبي محمّد(عليه السلام)بالأمر والنهي والأجوبة عمّا تسأل الشيعة عنه إذا احتاجت إلى السؤال فيه، بالخطّ الذي كان يخرج في حياة الحسن(عليه السلام)(1)، فلم تزل الشيعة مقيمةً على عدالتهما إلى أن توفّي عثمان بن سعيد(رحمه الله)(2).

وأيضاً روي عن جمع من الشيعة قالوا: «اجتمعنا إلى أبي محمّد الحسن بن عليّ(عليه السلام)نسأله عن الحجّة من بعده وفي مجلسه أربعون رجلاً، فقام إليه عثمان بن سعيد بن عمرو العمريّ فقال له: يا ابن رسول الله، اُريد أن أسألك عن أمر أنت أعلم به منّي(3)، فقال له: اجلس يا عثمان. فقام مغضباً ليخرج(4)، فقال: لا يخرجنّ أحد. فلم يخرج منّا أحد إلى أن كان بعد ساعة فصاح(عليه السلام) بعثمان فقام على قدميه


(1) وهذا أيضاً من ألطاف الله سبحانه الذي جعل خطّ الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه) في توقيعاته المباركة عين خطّ أبيه(عليه السلام)، كي لا تحسّ الشيعة باختلاف الوضع من بعد الغيبة إلى أن يألفوا الوضع بهدوء وسكون القلب وعدم الانفطار.

(2) المصدر السابق: 346.

(3) أي: أنت أعلم بما في نفوسنا من سؤال.

(4) كأنّه(رحمه الله) فهم من قول الإمام «اجلس يا عثمان» الردّ على ما طلبه، فيئس وأراد الخروج، فقال الإمام(عليه السلام): لا يخرجنّ أحد.