136

 

 

 

﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُون﴾(1).

 



(1) الآية: 80 ـ 82.

﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً...﴾اليأس: قطع الطمع من الأمر. والمناجاة: المسارّة. والمعنى: فلمّا استيأس إخوة يوسف من يوسف فيأن يخلّي عن سبيل أخيه ولو بأخذ أحدهم بدلا منه، خلصوا وخرجوامن بين الناس إلى فراغ يتناجون في أمرهم: أيرجعون إلى أبيهم وقد أخذ منهم موثقاً من الله أن يعيدوا أخاهم إليه، أم يقيمون هناك ولا فائدة في إقامتهم؟ ماذا يصنعون؟ قال كبيرهم مخاطباً لسائرهم: ﴿أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللّهِ﴾ألاّ ترجعوا من سفركم هذا إليه إلاّ

137


بأخيكم، ومن قبل هذه الواقعة ما فرّطتم ـ أي: تفريطكم وتقصيركم ـفي أمر يوسف، عهدتم أباكم أن تحفظوه وتردّوه إليه سالماً، فألقيتموهفي الجبّ، ثُمّ بعتموه من السيّارة، ثُمّ أخبرتم أباكم أنّه أكله الذئب ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ﴾أي: فإذا كان الشأن هذا الشأن، فلن أتنحّى، ولن اُفارق أرضمصر حتّى يأذن لي أبي برفعه اليد عن الموثق الذي واثقته به، أو يحكم الله لي، وهو خير الحاكمين، فيجعل لي طريقاً إلى النجاة من هذه المضيقة التي سدّت عليّ كلّ باب.

قيل: المراد بقوله: ﴿وَمَا شَهِدْنَا إلاَّ بِمَا عَلِمْنَا﴾أ نّا لم نشهد في شهادتنا هذه أنّ ابنك سرق إلاّ بما علمنا من سرقته.

وقوله: ﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾قيل: أي: لم نكن نعلم أنّ ابنك سيسرق فيؤخذ ويسترقّ، وإنّما كنّا نعتمد على ظاهر الحال، ولو كنّا نعلم ذلك لما بادرنا إلى أخذه معنا في السفر، ولا أقدمنا على الميثاق. ومعنى الآية: أنّ ابنك سرق، وما شهدنا في جزاء السرقة إلاّ بما علمنا، وما كنّا نعلم أنّه سرق السقاية، وأنّه سيؤخذ بها حتّى نكفّ عن تلك الشهادة، فما كنّا نظنّ به ذلك.

﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا...﴾أي: واسأل جميع من صاحبنا في هذه السفرة، أو شاهد جريان حالنا عند العزيز؛ حتّى لا يبقى لك أدنى ريب في أنّا

138

الأخ الأكبر لا يطيق مواجهة أبيه:

يبدو ـ والله العالم ـ أنّ كبيرهم هذا هو الذي حكى الله تعالى عنه ـ في أوّل ما صمّم الإخوة على قتله، أو طرحه في البيداء والذي هو أيضاً كان يعني المصير إلى الموت والفناء ـ بقولهعز وجل: ﴿قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِين﴾. و ﴿خَلَصُوا نَجِيّاً﴾يعني: تباعدوا عن الناس يتناجون بينهم في الموضوع، فلم يقبل كبيرهم أن يرجع إلى أبيهم، ولعلّه كان ذلك خجلاً منه، فكأنّه بقي هناك حتّى تثبت براءته تجاه قصّة بنيامين، والتي تكون علامتها إذن الأبِ بالرجوع، أو نزول حكم الله تعالى ببراءته، وعلّم الإخوة توضيح الأدلّة التي كانت كافية في نظره في تبرئتهم جميعاً من الخيانة في قصّة بنيامين، وهي توجيه السؤال من قبل يعقوب إلى أهل مصر وإلى القافلة التي رجعوا معها، ولكن كلّ هذا الكلام لم يقنع يعقوب بالأمر بعد أن كان قد رأى منهم الخيانة بشأن يوسف كما يشهد لذلك قوله تعالى:

 


لم نفرّط في أمره، بل إنّه سرق فاستُرقّ. فالمراد بالقرية التي كانوا فيها: بلدة مصر على الظاهر، وبالعير التي اقبلوا فيها: القافلة التي كانوا فيها.

139

 

 

 

﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم﴾(1).



(1) الآية: 83.

﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً...﴾ في المقام حذف كثير يدلّعليه قوله: ﴿ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا...﴾ والتقدير: ولمّا رجعوا إلىأبيهم، وقالوا ما وصّاهم به كبيرهم، قال أبوهم: بل سوّلت لكم أنفسكمأمراً... إلى آخره. ولم يقل(عليه السلام) هذا القول تكذيباً لهم فيما أخبروه به،وحاشاه أن يكذّب خبراً يحتفّ بقرائن الصدق، بل ليس إلاّ أنّه وجدبفراسة إلهيّة أنّ هذه الواقعة ترتبط وتتفرّع على تسويل نفسانيّ منهمإجمالاً، وكذلك كان الأمر؛ فإنّ الواقعة من أذناب واقعة يوسف،وكانت واقعته من تسويل نفسانيّ منهم. ومن هنا يظهر أنّه(عليه السلام) لم ينسبإلى تسويل أنفسهم عدم رجوع أخي يوسف فحسب، بل عدم رجوعه وعدم رجوع كبيرهم الذي توقّف بمصر ولم يرجع إليه، ويشهد لذلكقوله: ﴿عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً﴾ فجمع في ذلك بين يوسف وأخيه وكبير الإخوة.

140

يعقوب(عليه السلام) يتمسّك بالصبر:

وليس معنى ذلك: أنّه(عليه السلام) اتّهمهم بغير حقّ بأنّهم كاذبون في نسبة السرقة إلى بنيامين، وإنّما معنى ذلك على حسب ما فهمه العلاّمة الطباطبائيّ(رحمه الله): أنّه(عليه السلام)كان يعلم بحياة بنيامين، ويقول: إنّ فقدي لبنيامين ولكبير أولادي أيضاً هو نتيجة ما سوّلت لكم أنفسكم من الكيد بيوسف، فأصبر صبراً، وأرجو أن يأتيني الله بأبنائي جميعاً، ويتمّ نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه؛ إنّه هو العليم بمورد الاجتباء وإتمام النعمة، حكيم في فعله، يقدّر الاُمور على ما تقتضيه الحكمة البالغة، فلا ينبغي للإنسان أن يضطرب عند البلايا والمحن بالطيش والجزع، ولا أن ييأس من روحه ورحمته(1).

 

* * *



(1) راجع تفسيرالميزان،ج 11، ص 231 ـ 232 بحسب طبعة إسماعيليان بقم.

141

 

 

 

﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللّه تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضَاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(1).

 



(1) الآية: 84 ـ 86.

﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى...﴾الأسف: الحزن والغضب معاً. وابيضاض العين: سوادها، وهو العمى. والكظم: مخرج النفس، يقال: أخذ بكظمه، ويعبّر به عن السكوت. ومعنى الآية: ثُمّ تولّى وأعرض يعقوب(عليه السلام)عنهم، أي: عن أبنائه بعد ما خاطبهم بقوله: بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً، وقال: يا أسفي ويا حزني على يوسف، وابيضّت عيناه، وذهب بصره من الحزن على يوسف، فهو كظيم حابس غيظه، متجرّع حزنه، لا يتعرّض لبنيه بشيء.

﴿قَالُوا تَاللّه تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ...﴾الحَرَض والحارض: المشرف على الهلاك. والمعنى: نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف، وتديم ذكره منذ سنين لا تكفّ عنه، حتّى تشرف على الهلاك أو تهلك.

142

ابيضّت عينا يعقوب:

يبدو من هذه الآية المباركة أنّ يعقوب(عليه السلام) لم تبيضّ عيناه قبل فراقه لبنيامين، ولكن حينما انضمّ بنيامين إلى يوسف ـ وكان هو ليعقوب نوع تسلية عن يوسف ـ تولّى عن الأولاد التسعة، وقال: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ وهنا ﴿ابْيَضَّتْ عَيْنَاه مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم﴾ فقال له أولاده: تالله لا تفترّ عن ذكر يوسف حتّى تكون حَرَضاً، أي: مريضاً منحرف المزاج مشرفاً على الهلاك، أو تكون من الهالكين، فقال لهم: إنّني لا أشكو أمري إليكم، و ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُمِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.

 

* * *

 


﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي...﴾البثّ: الهمّ الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه، فيبثّه، أي: يفرّقه. والحصر الذي في قوله: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو...﴾يعني: أنّي لست أشكو بثّي وحزني إليكم، معاشر ولدي وأهلي، ولو كنت أشكوه إليكم لانقطع في أقلّ زمان، كما يجري عليه دأب الناس في بثّهم وحزنهم عند المصائب، وإنما أشكو بثّي وحزني إلى الله سبحانه الذي لا يأخذه ملل ولا سأمة فيما يسأله عنه عباده، ويبرمه أرباب الحوائج ويلحّون عليه، وأعلم من الله ما لا تعلمون، فلست أيأس من روحه، ولا أقنط من رحمته.

143

 

 

 

﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون﴾(1).

 

مكاتبة يعقوب(عليه السلام):

روى المجلسيّ في البحار(2) عن دعوات الراونديّ هذه القصّة: لمّا



(1) الآية: 87.

﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا...﴾التحسّس بالحاء: طلب الشيء بالحاسّة، والتجسّس بالجيم: نظيره. الرَوْح بالفتح فالسكون: النفس أو النفس الطيّب، ويكنّى به عن الحالة التي هي ضدّ التعب، وهي الراحة، وذلك أنّ الشدّة التي فيها انقطاع الأسباب وانسداد طرق النجاة تتصوّر اختناقاً وكظماً للإنسان، وبالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج والظفر بالعافية تنفّساً ورَوحاً؛ لقولهم يفرّج الهمّ، وينفّس الكرب، فالرَوح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدّة بإذن الله ومشيّته، وقد عُدَّ اليأس من رَوح الله في الأخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.

(2) ج 12، ص 269.

144

كان من أمر إخوة يوسف ما كان، كتب يعقوب(عليه السلام) إلى يوسف(عليه السلام) وهو لا يعلم أنّه يوسف:

«بسم الله الرحمن الرحيم

من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل اللهعز وجل إلى عزيز آل فرعون.

سلام عليك، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد، فإنّا أهل بيت مولعة بنا أسباب البلاء، كان جدّي إبراهيم اُلقي في النار في طاعة ربّه، فجعلها اللهعز وجل عليه برداً وسلاماً، وأمر الله جدّي أن يذبح أبي، ففداه بما فداه به، وكان لي ابن، وكان من أعزّ الناس عليّ ففقدته، فأذهب حزني عليه نور بصري، وكان له أخ من اُمّه، فكنت إذا ذكرت المفقود ضممت أخاه هذا إلى صدري، فاُذهب عنّي بعض وجدي، وهو المحبوس عندك في السرقة، وإنّي اُشهدك أنّي لم أسرق، ولمألد سارقاً».

فلمّا قرأ يوسف كتابه بكى، وكتب إليه:

«بسم الله الرحمن الرحيم

اصبر كما صبروا، تظفر كما ظفروا».

فلمّا انتهى الكتاب إلى يعقوب قال: والله ما هذا بكلام الملوك والفراعنة، بل هو كلام الأ نبياء وأولاد الأ نبياء، فحينئذ قال: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُف﴾.

145

أقول: وأمّا الروايات التي جمعها صاحب كنز الدقائق(1) ـ حول أنّ يعقوب سأل ملك الموت: هل مرّ بك روح يوسف في جملة ما قبضت من الأرواح؟ فقال: لا . فعند ذلك قال لبنيه: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُف وَأَخِيه﴾ ـ فهذه يمكن أن تكون صحيحة، ولكن لا تفسّر كيف حدس يعقوب أنّ يوسف وأخاه هما في مصر بالخصوص، في حين أنّ رواية دعوات الراونديّ تفسّر ذلك.

 

* * *



(1) ج 6، ص 363 ـ 364.

146

 

 

 

﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَة مُّزْجَاة فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُون﴾(1).

 


(1) الآية: 88 ـ 89.

﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ... وَجِئْنَا بِبِضَاعَة...﴾البضاعة المزجاة: المتاع القليل. وفي الكلام حذف، والتقدير: فسار بنو يعقوب إلى مصر، ولمّا دخلوا على يوسف، قالوا... . ومعنى الآية: يا أيّها العزيز، مسّنا وأهلنا الضرّ، وأحاط بنا جميعاً المضيقة وسوء الحال، وجئنا إليك ببضاعة مزجاة، ومتاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام، غير أنّه نهاية ما في وسعنا، فأوفِ لنا الكيل، وتصدّق علينا، وكأنّهم يريدون به أخاهم، أو إيّاه والطعام، إنّ الله يجزي المتصدّقين خيراً. وقد بدأوا القول بخطاب: ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ﴾ وختموه بما في معنى الدعاء، وأتوا خلاله بذكر سوء حالهم والاعتراف بقلّة بضاعتهم، وسؤاله أن يتصدّق عليهم، وهو من أمر السؤال، والموقف موقف الاسترحام

147

روح الحسد ممتدّة إلى بنيامين:

يبدو لي من هذه الآية المباركة ـ والله العالم ـ أنّهم لم يكونوا اكتفوا بما فعلوا بيوسف، بل كانوا يؤذون أخاه بنيامين أيضاً بسبب نفس روح الحسد حينما كانوا يرون أنّ أباهم يعقوب يأنس به لتخفيف وجده، ولا يأنس بهم.

 

* * *

 


ممّن لا يستحقّ ذلك؛ لسوء سابقته، وهم عصبة قد اصطفّوا أمام عزيز مصر. وعند ذلك تمّت الكلمة الإلهيّة: أنّه سيرفع يوسف وأخاه، ويضع عندهسائر بني يعقوب لظلمهم؛ ولذلك لم يلبث يوسف(عليه السلام) دون أن أجابهم بقوله: ﴿هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ وعرّفهم نفسه. وإنّما يخاطب المخطئ المجرم بمثل: هل علمت، وأتدري، وأرأيت ونحوها، وهو عالم بما فعل لتذكيره جزاء عمله ووبال ذنبه، لكنّه(عليه السلام)أعقب استفهامه بقوله: ﴿إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُون﴾وفيه تلقين عذر. فقوله ذلك مجرّد تذكير لعملهم بهما من غير توبيخ ومؤاخذة؛ ليعرّفهم مَنّ الله عليه وعلى أخيه.

148

 

 

 

﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لاََنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّاللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الُْمحْسِنِينَ *قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لاَتَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْأَجْمَعِين﴾(1).

 



(1) الآية: 90 ـ 93.

﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لاََنْتَ يُوسُفُ...﴾تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على أنّ الشواهد القطعيّة قامت على تحقّق مضمونها، وإنّما يستفهم لمجرّد الاعتراف فحسب، فأجابهم بقوله: ﴿أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي﴾ وإنّما ألحق أخاه بنفسه ولم يسألوا عنه وما كانوا يجهلونه ليخبر عن مَنّ الله عليهما، وهما معاً المحسودان؛ ولذا قال: ﴿قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا﴾ ثُمّ أخبر عن سبب المنّ الإلهيّ بحسب ظاهر الأسباب، فقال: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الُْمحْسِنِينَ﴾.

149

قرائن عرّفت يوسف(عليه السلام) لإخوته:

قولهم: ﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لاََنْتَ يُوسُفُ﴾ المتيقّن من الآية المباركة أنّه حانت منهم التفاتة إلى العزيز، فحدسوا أن يكون هو يوسف. أمّاما هي النكتة التي جلبت التفاتهم بالذات؟ فقد تكون عدّة اُمور،من قبيل:

1 ـ كيف يكون العزيز مطّلعاً على دقائق الاُمور الجارية بينهم وبين يوسف وأخيه؟!

 


﴿قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ...﴾الإيثار: هو الاختيار والتفضيل.

﴿قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُم...﴾التثريب: التوبيخ والمبالغة في اللوم.

﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَـذَا...﴾كلام يوسف(عليه السلام) يأمر فيه إخوته أن يذهبوا بقميصه إلى أبيه، فيلقوه على وجهه؛ ليشفي الله به عينيه، ويأتي بصيراً بعد ما صار من كثرة الحزن والبكاء ضريراً لا يبصر. وهذا آخر العنايات البديعة التي أظهرها الله سبحانه في حقّ يوسف(عليه السلام)؛ إذ اجتمعت الأسبابعلى خفضه وأراد الله سبحانه رفعه، فكان ما أراده الله دون الذيتوجّهت إليه الأسباب. وقوله: ﴿وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِين﴾أمر منه بانتقال بيت يعقوب ـ من يعقوب وأهله وبنيه وذراريه جميعاً ـ من البدو إلى مصر، ونزولهم بها.

150

2 ـ لماذا تهيّج رسالة يعقوب عزيز مصر أيّة تهييج عظيم؟! فإنّ هذا يحكي عن رابطة كبيرة بينهما.

3 ـ كلّما يدقّقون في سيماء العزيز يتّضح لهم أكثر فأكثر شبهه بيوسف.

4 ـ روى الشيخ الطبرسيّ(رحمه الله) في مجمع البيان(1): «أنّ يوسف لمّا قال لهم: ﴿هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُون﴾ تبسّم، فلمّا أبصروا ثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم شبّهوه بيوسف، وقالوا له:﴿أَإِنَّكَ لاََنْتَ يُوسُفُ﴾».

قولهم: ﴿تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا﴾ أي: قدّمك الله واختارك علينا.

 

يوسف(عليه السلام) يعفو عن إخوته:

قولهم: ﴿وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِين﴾ أي: وإنّا كنّا لخاطئين، قوله(عليه السلام):﴿لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ﴾ يعني: لا تأنيب لكم، وهذاعفوٌ منه عنهم، ثُمّ وعدهم بمغفرة الله لهم وعفوه عنهم فيما يخصّ حقّالله تعالى، بل أكثر من هذا سماحةً وخُلُقاً ما رواه الشيخ ناصر مكارم



(1) تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 337 بحسب طبعة دار إحياء التراث العربيّ ومؤسّسة التأريخ العربيّ ببيروت.

151

حفظه الله(1) عن تفسير فخر الرازي: من أنّ إخوة يوسف أرسلوا إلى يوسف: أنّك تُجلسنا معك على مائدتك ليل نهار، فنحن نخجل منك بعد ما صدر عنّا بشأنك، فقال لهم يوسف ـ لكي لا يحسّوا بالخجل، بل يحسّوا بأنّ جلوسهم معه على مائدته خدمةٌ منهم إيّاه ـ: إنّني حتّى الآن كان ينظر أهل مصر إليّ بعنوان عبد مشترى، وكانوا يقولون: سبحان من بلّغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ!! أمّا الآن فببركة قدومكم عرفوا أنّي لم أكن عبداً، وأنّي من أهل بيت النبوّة، ومن أولاد إبراهيم الخليل، وهذا يوجب فخري واعتزازي.

 

انفراج الأزمة:

قوله: ﴿إذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِين﴾.

ومن هنا بدأ انفراج الأزمة، ورجع أولاد يعقوب العشرة فرحين مسرورين حاملين أفضل بشارة لأبيهم، عارفين أنّ أباهم سيشفى من العمى، وسيجمع الله الشمل جميعاً.

ويُروى: أنّ يوسف أمر بأن يكون البشير الذي يذهب بالقميص



(1) تفسير الأمثل، ج 7، ص 293.

152

إلى يعقوب هو الذي قدّم إلى يعقوب قميصه الملطّخ بدم كَذِب؛ كي يكون هو الذي يدخل السرور على أبيه، كما أنّه أدخل أوّل يوم الحزن على أبيه(1).

 

* * *



(1) مجمع البيان، ج 5، ص 338 بحسب الطبعة السابقة.

153

 

 

 

﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لاََجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(1).

 


(1) الآية: 94 ـ 98.

﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ...﴾ الفصل: القطع والانقطاع. والتفنيد: تفعيل من الفَنَد بفتحتين، وهو: ضعف الرأي. والمعنى: لمّا خرجت العير الحاملة لقميص يوسف من مصر وانقطعت عنها، قال أبوهم يعقوب لمن عنده من بنيه: إنّي لأجد ريح يوسف لولا أن ترموني بضعف الرأي، وأرى أنّ اللقاء قريب، لولا أن تخطّئوني.

﴿قَالُوا تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي

154

يعقوب(عليه السلام) يجد ريح يوسف:

قوله: ﴿لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُون﴾ يعني: لولا أن تسفّهون.

والذين قالوا له: إنّك لفي ضلالك القديم هم أحفاده وأشباههم من المرتبطين به.

 


ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ﴾القديم: مقابل الجديد، والمراد به: المتقدّم وجوداً، وهذا ما واجهه به بعض بنيه الحاضرين عنده، وهو من سيّئ حظّهم في هذه القصّة، تفوّهوا بمثله في بدء القصّة؛ إذ قالوا: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَل مُّبِين﴾وفي ختمها، وهو قولهم هذا: ﴿تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ﴾والظاهر أنّ مرادهم بالضلال هاهنا هو مرادهم بالضلال هناك، وهو المبالغةفي حبّ يوسف؛ وذلك أنّهم كانوا يرون أنّهم أحقّ بالحبّ من يوسفوهم عصبة، إليهم تدبير بيته والدفاع عنه، لكنّ أباهم قد ضلّ عنمستوى طريق الحكمة، وقدّم عليهم في الحبّ طفلين صغيرين لا يغنيانعنه شيئاً، ثُمّ لمّا فقد يوسف جزع له، ولم يزل يجزع ويبكي حتّى ذهبتعيناه، وتقوّس ظهره.

﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ...﴾البشير: حامل البشارة، وكان حامل القميص.

﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ...﴾القائلون بنو يعقوب، ويريدون بالذنوب ما فعلوه به في أمر يوسف وأخيه، وأمّا يوسف فقد كان استغفر لهم قبل.

﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ...﴾ أخّر يعقوب(عليه السلام) الاستغفار لهم ليتمّ له النعمة بلقاء يوسف وتطيب نفسه به كلّ الطيب بنسيان جميع آثار الفراق، ثُمّ يستغفر لهم، وفي بعض الأخبار أنّه أخّره إلى وقت يستجاب فيه الدعاء.

155

وشمّه لرائحة يوسف بمجرّد حركة القافلة: إمّا هو إعجازٌ محض من دون أيّ تفسير مادّيّ لذلك، وإمّا يضاف إلى ذلك ما رواه الشيخ الكلينيّ في اُصول الكافي(1): من أنّ القميص لم يكن قميصاً اعتياديّاً؛ بل كان قميصاً من الجنّة مورثاً من إبراهيم الخليل.

قوله: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾.

روي في كنز الدقائق(2):

1 ـ عن علل الشرائع بإسناده إلى إسماعيل بن الفضل الهاشميّ، قال:«قلت لجعفر بن محمّد(عليه السلام): أخبرني عن يعقوب(عليه السلام) لمّا قال له بنوه: ﴿يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾فأخّر الاستغفار لهم، ويوسف(عليه السلام) لمّا قالوا له: ﴿تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِين﴾ قَال:﴿لاَ تَثْريبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ قال: لأنّ قلب الشابّ أرقّ من قلب الشيخ، وكانت جناية ولد يعقوب على يوسف، وجنايتهم على يعقوب إنّما كان بجنايتهم على يوسف، فبادر يوسف إلى العفو عن حقّه، وأخّر يعقوب العفو؛ لأنّ عفوه إنّما كان عن حقّ غيره، فأخّرهم إلى السحر ليلة الجمعة».



(1) اُصول الكافي، ج 1، ص 232 بحسب طبعة الآخوندي.

(2) ج 6، ص 378.

156

2 ـ وعن اُصول الكافي بسند له عن أبي عبدالله(عليه السلام): «قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): خير وقت دعوتم الله عزّ وجلّ فيه الأسحار، وتلا هذه الآية في قول يعقوب: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ وقال: أخّرهم إلى السحر»(1).

* * *



(1) اُصول الكافي، ج 2، ص 477.

157

 

 

 

﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾(1).

 


(1) الآية: 99 ـ 101.

﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى...﴾في الكلام حذف، والتقدير: فخرج يعقوب وآله من أرضهم، وساروا إلى مصر، ولمّا دخلوا... إلى آخره.

وقوله: ﴿آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾فسّروه بضمّهما إليه. وقوله: ﴿وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ...﴾ظاهر في أنّ يوسف خرج من مصر لاستقبالهما وضمّهما إليه هناك، ثُمّ عرض لهما دخول مصر إكراماً وتأدّباً. وقد ذكر سبحانه أبويه، والمفسّرون

158


مختلفون في أنّهما كانا والديه، أباه واُمّه حقيقة، أو أنّهما يعقوب وزوجهخالة يوسف بالبناء على أنّ اُمّه ماتت وهو صغير، ولا يوجد في كلامه تعالى ما يؤيّد أحد المحتملين، غير أنّ الظاهر من الأبوين هما الحقيقيّان.ومعنى الآية: ولمّا دخلوا، أي: أبواه وإخوته وأهلهم على يوسف ـ وذلكفي خارج مصر ـ آوى وضمّ إليه أبويه، وقال لهم مؤمّناً لهم: ادخلوا مصرإن شاء الله آمنين.

﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا...﴾العرش: هو السرير العالي، ويكثر استعماله فيما يجلس عليه الملك ويختصّ به. والخرور: السقوط على الأرض. والبدو: البادية؛ فإنّ يعقوب كان يسكن البادية. وقوله: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾أي: رفع يوسف أبويه على عرش الملك الذي كان يجلس عليه، ومقتضى الاعتبار وظاهر السياق أنّهما رفعا على العرش بأمر من يوسف تصدّى خدمه لا هو بنفسه، كما يشعر به قوله: ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً﴾فإنّ الظاهر أنّ السجدة إنّما وقعت لأوّل ما طلع عليهم يوسف، فكأنّهم دخلوا البيت واطمأنّ بهم المجلس، ثُمّ دخل عليهم يوسف، فغشيهم النور الإلهيّ المتلألئ من جماله البديع، فلم يملكوا أنفسهم دون أن خرّوا له سجّداً. وهذه السجدة ليست سجدة عبادة، والدليل على أنّها لم تكن منهم سجدة عبادة

159


ليوسف أنّ بين هؤلاء الساجدين يعقوب(عليه السلام)وهو ممّن نصّ القرآن الكريم على كونه مخلَصاً (بالفتح) لله لا يشرك به شيئاً، ويوسف(عليه السلام) وهو المسجود له منهم بنصّ القرآن، وهو القائل لصاحبيه في السجن: ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، ولم يردعهم، فليس إلاّ أنّهم إنّما أخذوا يوسف آية لله، فاتّخذوه قبلة في سجدتهم، وعبدوا الله بها لا غير، كالكعبة التي تؤخذ قبلة فيصلّى إليها، فيعبد بها الله دون الكعبة.

﴿قَالَ يَا أَبَتِ...﴾لمّا شاهد(عليه السلام) سجدة أبويه وإخوته الأحد عشر، ذكر الرؤيا التي رأى فيها أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين، وأخبر بها أباه وهو صغير، فأوّلها له، فأشار إلى سجودهم له، وقال: ﴿يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً﴾ ثُمّ أثنى على ربّه شاكراً له، فقال: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾فذكر إحسان ربّه به في إخراجه من السجن، وهو ضرّاء وبلاء دفعه الله عنه بتبديله سرّاء ونعمة من حيث لا يحتسب؛ إذ جعله وسيلة لنيله العزّة والمُلك. ولم يذكر إخراجه من الجبّ قبل ذلك لحضور إخوته عنده، وكان لا يريد أن يذكر ما يسوؤهم ذكره كرماً وفتوّة، بل أشار إلى ذلك بأحسن لفظ يمكن أن يشار به إليه، فقال: ﴿وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ والنزغ: هو

160


الدخول في أمر لإفساده. والمراد: وقد أحسن بي من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي، فكان من الأمر ما كان، فأدّى ذلك إلى فراق بيني وبينكم، فساقني ربّي إلى مصر، فأقرّني في أرغد عيش وأرفع عزّة وملك، ثُمّ قرّب بيننا بنقلكم من البادية إلىّ في دار المدنيّة والحضارة ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ﴾تعليل لإخراجه من السجن ومجيئهم من البدو، ويشير به إلى ما خصّه الله به من العناية والمنّة.

﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي...﴾لمّا أثنى(عليه السلام) على ربّه، وعدّ ما دفع عنه من الشدائد والنوائب، أراد أن يذكر ما خصّه به من النعم المثبتة وقد هاجت به المحبّة الإلهيّة، وانقطع بها عن غيره تعالى، فترك خطاب أبيه، وانصرف عنه وعن غيره ملتفتاً إلى ربّه، وخاطب ربّه عزّ اسمه. وقوله: ﴿فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ﴾إضراب وترقٍّ في الثناء، ورجوع منه(عليه السلام) إلى ذكر أصل الولاية الإلهيّة بعد ما ذكر بعض مظاهرها الجليلة، كإخراجه من السجن والمجيء بأهله من البدو، وإيتائه من الملك، وتعليمه من تأويل الأحاديث؛ فإنّ الله سبحانه ربّ فيما دقّ وجلّ معاً، ولىّ في الدنيا والآخرة جميعاً. وقوله: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾لمّا استغرق(عليه السلام)في مقام الذلّة قبال ربّ العزّة، وشهد بولايته له في الدنيا والآخرة، سأله