11

الديموقراطية

13

الحاجة إلى الحكم

هناك حاجة اجتماعية ماسة جداً لهيئة عليا تقوم على إدارة شؤون المجتمع وتسيير أموره العامة.

وذلك لتحقيق التناسق الضروري بين الاحتياجات الاجتماعية المتفاوتة وأساليب إشباع هذه الاحتياجات، وتجميع القوى الفعالة وتوجيهها الوجهة التي تؤهلها لخدمة مصالح المجتمع على النحو الأكمل.

وكذلك لإشاعة العدالة والوقوف بوجه الظلم والاعتداء على الآخرين وحقوقهم.

وبالتالي يحتاج المجتمع الى الهيئة التي تحمل على عاتقها مهمة توحيد الآراء في القضايا العامة التي يتطلب الموقف فيها رأياً موحداً، يمتلك القاطعية والواقعية والقدرة على التنفيذ.

هذا بالإضافة الى أمور كثيرة أخرى، مما يجعل الحاجة ماسة

14

لهذه الهيئة العليا بشكل لا يشك فيه أحد.

إن العائلة الصغيرة ـ وهي نواة المجتمع الكبير ـ لتحتاج الى الموجه المشرف على إدارتها وتعيين مسيرتها وتنسيق أمورها، فكيف بالمجتمع الذي يضم مختلف الوحدات الاجتماعية وأنواع النزعات العاطفية والسياسية والفكرية؟

الولاية

والحقيقة الهامة التي تبرز بوضوح في مجال قيام الهيئة العليا أو الحكومة بمهامها، هي احتياج هذه الحكومة الى ما يخولها سلطة مطاعة تنفذ بها أهدافها وتبرر بها عملها على منع أفراد المجتمع أو جماعاته من كثير من أنماط السلوك التي كان لهم أن يقوموا بها لولا نهي الحكومة، وكذلك إجبار هؤلاء على اتخاذ مسير سلوكي معين لم يكونوا مجبرين عليه قبل ذلك.

فالإنسان يمتلك حرية أخلاقية في أن يسلك ما يشاء ويحقق ما يريد، مستفيداً من قدرته التكوينية على أن يريد أو لا يريد، ويفعل أو لا يفعل.

فالوجدان الإنساني لا يمنع الانسان من أي تصرف ولا يحد من حريته إلا على أحد أساسين:

الأول: أمر الله ونهيه:

15

فإن الإنسان المؤن يعتقد بالملكية الحقيقية والقيمومة الكاملة لله تعالى عليه، وأنه لا يملك بشكل تشريعي أن يتخلف عن أمره ونهيه. وحينئذ فإن وجدانه لا يمنحه حرية التصرف إلا في اطار ما سمح به الله تعالى. وبكلمة أخرى أن الوجدان يمنح للفرد حرية التصرف في قبال أفراد البشر الآخرين لا في قباله عز وجل.

الثاني: حرية الآخرين:

إذ يرى الوجدان الإنساني أن حرية الانسان متوفره له الى الحد الذي لا يعتدي فيه على حرية غيره، فإذا تجاوز الانسان ذلك أوقفه الوجدان على خطأ تصرفه، وتعدي حدوده الصحيحة.

وليس هناك وراء ذلك تحديد وجداني، بينما نجد أن من الطبيعي أن تقوم الحكومة بتوسيع نطاق تحديد الحريات وعدم الاكتفاء بالدائرة الوجدانية؛ فتقوم مثلاً بفرض حظر عام على سلوك خاص، أو تأمر باتباع سلوك غيره، كما نجده في قوانين المرور وغيرها. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى(1) فإن هذه الهيئة الحاكمة



(1) هذه الناحية لا ترتبط بالمسألة الوجدانية وإنما تقوم على أساس (الالزام بما التزم به)، فان الحاكم إما أن يكون قد التزم بإقرار الملكيات الفردية على أساس من المباني العقلائية، أو على أساس شرعي خاص، فلابد له من مبرر عقلائي أو شرعي لتحديده من الملكية. هذا، ومن الواضح عدم وجود مباني عقلية في مسألة الملكية لأنها أمر اعتباري.

16

ـ في مجتمع يؤمن بالملكية الفردية ـ لابد وأن تضطر أحياناً الى تحديد حرية الناس في التصرف بممتلكاتهم، وذلك كالأمر بتحديد الأسعار، ولزوم التصريف لسلعة معينة وأمثال ذلك، رغم اعتراف المجتمع بملكيتهم للسلع، وسلطتهم عليها.

واعتراف المجتمع هذا بنظام الملكية يدعو للمطالبة بمصدر السلطة التي خولت الهيئة الحاكمة الخروج على النظام المتفق عليه بين الحاكم والمحكوم.

وهناك أمر آخر وهو اضطرار الدولة ـ لا محالة ـ وفي كثير من الأمور الى الضغط على الأفراد، ودفعهم لاتخاذ مواقف معينة يرون ضرورة عدمها. وبالتالي تكون وظيفتهم العملية ترك تلك المواقف، ولكن الدولة ترى لزوم اتخاذها، إما لتوحيد الكلمة، أو لتحقيق هدف آخر؛ كما لو رأت الدولة لزوم تجميع القوى وضرب العدو في مواقعه قبل أن يتصدى هو لمهاجمة المجتمع، في حين رأى البعض من الأفراد أن هذه العملية لا مبرر لها وأنها تصرف الأمة عن بناء المجتمع اقتصادياً، وأمثال ذلك. فإن من غير المتوقع أن تترك الحكومة هذا البعض على العمل وفق ما توصل إليه استنتاجه، وعند ذلك يثور التساؤل عن المبرر الذي يمنح الحكومة هذه القدرة على الضغط لاتخاذ مواقف كانت ـ لولا أمر الحكومة ـ محظورة على الفرد.

17

والواقع أنه لا يمكن افتراض قيام هيئة عليا على حكم مجتمع ما وافتراض بقاء أفراد ذلك المجتمع على حرياتهم الأصلية في تصرفاتهم وممتلكاتهم وأنماط سلوكهم التي يتخذونها وفق قناعاتهم الشخصية، فلابد من افتراض سلطة تفرض، وتحدد، وتوجه.

وإذا كان هذا الواقع الذي لا ريب فيه، كان التساؤل عن سلطة الدولة هذه ومبررها أمراً في غاية الوضوح، وهذا ما سنعبر عنه في بحوثنا التالية بـ(مصدر الولاية) أو (مبدأها)، أي: المنبع الذي تستقي منه الحكومة سلطتها وولايتها على المجتمع، وأهليتها لتحديد الحريات الأولية.

إذن، فلابد من البحث عن مبدأ صحيح تستمد الحكومة منه سلطتها وولايتها الواسعة، لتخرج في الحقيقة عن كونها حكومة متحكمة ظالمة.

أساس الحكم

لا يمكننا أن نتصور لقيام الحكومة بأمور الحكم من أساس غير أمرين لابد من توفرهما معاً كي تصبح سلطتها على الناس وما تقوم به من أعمال نفوذ، مما يؤيده الوجدان الكامن في أعماق الانسان ذاتاً:

الأول: ما سبقت الإشارة إليه، وهو أن تكون واجدة لمصدر مشروع تستمد منه الولاية.

18

الثاني: أن تكون سلطتها وبرامجها وفق المصالح الاجتماعية.

الدكتاتورية ومنطق القوة

وبحثنا المنطقي هذا لا معنى له مع "الدكتاتورية" التي لا تعتمد إلا منطق القوة والعنف سبيلاً لتنفيذ سلطتها وفرض أوامرها على المجتمع.

ولا يمكننا أن نلتمس لها أي مبرر منطقي وراء ذلك، لا من مصدر تستمد منه الولاية ولا من المصلحة الاجتماعية.

وربما تدعي الحكومة الدكتاتورية أحياناً أنها تمتلك مبرراً وجدانياً لفرض سلطتها، وهو أداء ذلك الى عمل إنساني هو منع الظالم عن ظلمه، والضرب بيد من حديد على يد المعتدي، وإلغاء عملية تحكم بعض أفراد المجتمع الآخر، وأمثال ذلك.

كما يمكن أن تدعي في مجال تبرير تحديد الملكيات القائمة على أساس تصورات عقلائية، عملية: أن هذه التصورات نفسها تسمح بتحديد الملكية إذا كان في صالح المجتمع، وهذا ما أقوم به

ولكنا عرفنا ـ مما سبق ـ أن سلطة الدولة تتجاوز هذا المقدار الذي يدعي أن الوجدان الإنساني والتصورات العقلائية يحكمان بجوازه، فهي ـ أي سلطة الحكومة المطلوبة ـ تتعداه الى مساحات أوسع بكثير، خصوصاً في المجتمعات الكبيرة والمعقدة. فلابد

19

لها من مصدر خارج حدود نفسها تستمد منه (الولاية على الناس) بينما هي لا تمتلك عدا منطق القوة.

إذن، فالدكتاتورية لا تمتلك تأييداً من الأساس الأول، إلا أنها قد تدعي قيامها على الأساس الثاني، وأنها لا تفكر إلا في مصلحة المجتمع.

ولكن مثل هذا الادعاء لا يمتلك رصيداً في عالم الحقيقة، فمع افتراض تربع الدكتاتورية على عرش الحكم بالقوة مخالفاً بذلك صرخات الوجدان المطالب بلزوم استمداد ذلك من مبدأ صحيح، وأن مجرد كون الحكومة في مصلحة المجتمع لا يكفي مبرراً منطقياً لدى الوجدان الإنساني، وكذلك مع ملاحظة الاصالة التي تمتلكها غريزة حب الذات في أعماق الانسان، وأن المصالح الشخصية لابد متناقضة في إطار هذه الحياة المادية الدنيا… مع كل هذا لا نستطيع أن نتعقل التزامه الكامل بتقديم مصالح المجتمع على مصالحه الشخصية.

بل لا نرى من البعيد عليه أن يعتبر تقديم مصالحه الشخصية أمراً لا يمتلك أي حزازة أو قبح وجداني، بعد أن افترضنا أنه خالف الوجدان نفسه عندما مسك أزمّة الأمور بالقهر والقوة، وبلا اعتماد على مصدر مشروع للولاية.

20

مبدأ الولاية والقدرة

وما يمكن أن يتصور كمبدأ لاستمداد الولاية والقدرة وإعمال النفوذ الذي لابد منه في حكم المجتمع هو أمران لا غير، هما:

1 ـ الناس أنفسهم.

2 ـ الله تعالى.

المبدأ الأول: الناس:

فيقال ان الناس إذا منحوا بأنفسهم فرداً وهيئة حق الحكم وإدارة شؤونهم، فإن هذا الفرد أو هذه الهيئة سوف تقوم على الأساسين الماضيين ـ مصدر الولاية والمصلحة ـ تماماً؛ وهذا اللون من الحكم يدعى بـ(الديموقراطية). وقد استعملت الكلمة في أكثر من معنى ولكنا نعني بها هنا إعطاء حق تقرير المصير بيد الناس، فهم الذين يقررون النظم والقوانين ويعينون المنفذين، سواء كان هذا كله بالمباشرة أو بواسطة المنتخبين أو بالتلفيق. بينما استعملت الكلمة في لسان (جان جاك روسو) مثلاً في خصوص ما إذا كان عدد أعضاء الهيئة الحاكمة هم كل الشعب، وأكثريتهم، أو على الأقل نصفهم. وإليك نص عبارته:

"يستطيع صاحب السيادة في المقام الأول أن يعهد بأمانة الحكم

21

إلى الشعب كله أو إلى الجزء الأكبر منه، بحيث يكون هناك من المواطنين الحكام أكثر من المواطنين الأفراد، ويطلق على هذا الشكل من الحكومة اسم (ديموقراطية).

أو أنه يستطيع حصر الحكومة بين أيدي عدد قليل، بحيث يكون هناك من المواطنين الأفراد أكثر من الحكام، وهذا الشكل يحمل اسم (أرستقراطية).

وأخيراً يستطيع تركيز الحكومة بين أيدي حاكم واحد يستمد جميع الآخرين سلطتهم منه، وهذا الشكل الثالث هو أكثر صور الحكم شيوعاً، ويدعى (ملكية) أو (حكومة ملكية).

ويجب أن نلاحظ أن جميع هذه الأشكال ـ أو على الأقل الشكلين الأولين ـ بينها قابلة للزيادة والنقصان، بل تملك حرية واسعة إلى حد ما في التصرف؛ إذ تستطيع الديموقراطية ضم الشعب كله أو تضيق حتى تشمل نصفه، وتستطيع الارستقراطية بدورها أن تنكمش من ضمها لنصف الشعب إلى الاقتصار على أقل عدد ممكن دون تحديد. حتى الملكية نفسها قابلة لنوع من التقسيم. فقد كان لأسبارطة على الدوام ملكان بحكم دستورها، كما رأينا في الامبراطورية الرومانية عدداً من الأباطرة في آن واحد بلغ أحياناً ثمانية معاً دون أن تتمكن من القول بأن الامبراطورية قد انقسمت.

وهكذا ثمة نقطة يمكن القول عندها بان كل شكل من أشكال

22

الحكم يختلط بالشكل الذي يليه، بحيث نرى أن الحكومة تحت هذه التسميات الثلاث وحدها تكون قابلة في الحقيقة لقدر مختلف من الأشكال بعدد ما في الدولة من مواطنين.

بل هناك أكثر من ذلك: أن هذه الحكومة نفسها إذا يكون في الوسع ـ من بعض الوجوه ـ أن تنقسم الى أجزاء أخرى، يدار أحدها بطريقة بينما يدار الجزء الآخر بطريقة أخرى، فإنه يمكن أن ينتج من هذه الأشكال المختلطة الثلاثة جملة من الأشكال المتمازجة، كل منها يكون قابلاً بدوره للانقسام إلى جميع الأشكال البسيطة.

لقد دار الجدل كثيراً وفي جميع العصور حول أفضل أشكال الحكم دون النظر إلى أن كلاًّ من تلك الأشكال يكون الأفضل في حالات معينة، والأسوأ في حالات أخرى.

فإذا كان عدد الحكام السامين في مختلف الدول يجب أن يكون متناسباً عكسياً مع عدد المواطنين(1)، فإنه يتبع ذلك أن الحكومة الديموقراطية بصفة عامة تلائم الدول الصغرى، والارستقراطية تليق بالمتوسطة، وفيما تناسب الملكية الدول الكبرى. وهي قاعدة تستمد مباشرة من المبدأ، ولكن كيف يمكن حساب الظروف العديدة التي قد تؤدي الى الاستثناء"؟.



(1) يقصد بذلك أنه كلما كثر عدد المواطنين ينبغي تركيز الحكومة في عدد أقل كي تكون أكثر قدرة على الحكم والادارة.

23

هذا ما ذكره روسو في الفصل الثالث من الكتاب الثالث(1).

ولأجل تفسيره للديموقراطية بهذا فقد ادعى عدم إمكان حصول الديموقراطية الحقيقية في أي وقت، وهذا نصه:

"وإذا أخذنا عبارة الديموقراطية بكل معناها الدقيق، نجد أن الديموقراطية الحقيقية لم توجد أبداً؛ ولن توجد أبداً، فمما يخالف النظام الطبيعي أن يحكم العدد الأكبر وأن يكون العدد الصغير هو المحكوم، ولا يمكن أن نتصور بقاء الشعب مجتمعاً على الدوام للنظر في الشؤون العامة، ونستطيع أن نرى بسهولة أنه لا يمكن إقامة لجان من أجل ذلك دون تغيير في شكل الادارة"(2).

إذ يقصد بهيئة الحكام الهيئة التي تشرف على إدارة المجتمع مباشرة، فلا تشمل كل من له الحق في التصويت، ومع هذا فلا معنى لتصور أن يكون الشعب كله أو أكثره أو حتى نصفه داخلاً في هذه الهيئة، اللهم إلا في مجتمع صغير غير منظور.

أما الديموقراطية بالمعنى الذي عنونّاه هنا فهي التي يدعى بأنها تناسب كل البلدان والدول صغيرة كانت أم كبيرة، ويدعى اليوم أنها أفضل أشكال الحكم لمطلق البلاد.

وعلى أي…، فالمصطلح غربي يقصد به إجمالاً كون الناس



(1) ص 116 و 117، وله بحث في الفصل الثامن (ص133 فصاعداً) حول بعض الأسباب الدخيلة في كون الشكل الملائم للحكم في البلد أي شكل من هذه الأشكال، وان كل شكل من أشكال الحكم لا يلائم جميع البلدان.

(2) ص 118و 119.

24

مصدر التشريع والتنفيذ في وقت واحد(1).

وما يمكن أن يؤكد عليه أنصار الديموقراطية في مجال جعل الديموقراطية في إطار الأساسين السابقين (مصدر الولاية، والمصلحة) هو توضيح أن الديموقراطية في الواقع ليست حكماً لأحد على أحد، وإنما تعني حكم الناس أنفسهم بأنفسهم، فلا تحكّم ولا إعمال سلطة أو نفوذ حتى يبقى مجال للتساؤل عن مصدر الولاية. وبتعبير آخر: يكون الجهاز الحاكم قد استمد ولايته ومبرر نفوذه من الناس أنفسهم وعلى أساس من عقد إجتماعي قام به الناس جميعاً واتفقوا فيه على قوانين معينة كما اتفقوا فيه على اختيار منفذين لتلك القوانين، ولا ريب في أن الوجدان



(1) وبهذا يبدو خطأ بعض الكتاب الاسلاميين الذين يؤكدون على الحكم الديموقراطي وينسبونه الى الاسلام غافلين عما في هذا المصطلح من الايحاء اللااسلامي، لأن الديموقراطية المصطلحة لا تعني مجرد انتخاب الهيئة التنفيذية من قبل الأمة ـ وهو ما قد يفترض قبوله اسلامياً ـ بل تعني حكم الناس أنفسهم. ومن البديهي ان الحاكم المطلق والمشرع الأساس في الاسلام هو الله سبحانه. نعم، هناك بعض (مناطق الفراغ) التي تركتها مرونة الاسلام ليملأها ولي الأمر ـ كما سيأتي ـ.

والواقع ان هذا أحد عشرات الأمثلة التي تعبر عن تأثر كتّابنا الاسلاميين بالغرب دون وعي، فتجدهم بحسن نية يبحثون عما يمكن أن يربط ـ ولو بقليل صلة ـ بين الاسلام والحضارة الحديثة، فيمنحون الاسلام الصفة الغربية التي تحمل معها كل ايحاءاتها، غافلين عن أنهم يُفقدون الاسلام بهذا اصالته من حيث لا يشعرون.

25

يدفع الفرد والمجتمع للالتزام بالعقد والوفاء به.

وقد يعترض على هذا المدعى فيقال بأن الديموقراطية لا تستطيع أن تضمن رضا الناس جميعاً والعمل بمقتضى آرائهم، فقلّما يحصل إجماع شعبي على قضية معينة، فهي إذن تأخذ برأي الأكثرية، وهو يعني بالتالي سحق الأقلية وإدخالها تحت نير حكم الأكثرية رغماً عنها. وهو يرفضه الوجدان، إلا أن أنصار الديموقراطية هنا يذكّرون بحصول إجماع تام بين الأفراد على قضية أساسية، هي (مبدأ الأخذ برأي الأكثرية) والالتزام الناتج من التعاقد على هذه القضية هو المبرر الوجداني لدخول الأقلية ـ رغم اختلاف رأيها ـ تحت حكم الأكثرية وآرائها.

وربما انبرى المعارضون فطرحوا مسألة احتمال وجود أقلية في المجتمع لا توافق على هذا المبدأ الأساسي (مبدأ الأكثرية) ولنفترض أنهم من المؤمنين بدين لا يؤمن بهذا المبدأ من أساسه، أو أنهم يرون هذا خلاف مصالحهم، أو لأي سبب آخر. فما هو الموقف تجاه هؤلاء؟ أفهل يتركون على حريتهم يفعلون ما يشاؤون لأنهم لم يكونوا طرفاً في العقد الاجتماعي القائم، فليسوا ملزمين تجاهه بشيء، وعندها فالفوضى والاضطراب هو المتوقع بالتالي، أم يجبرون على الالتزام بالقوانين التي أنتجها العقد الاجتماعي، الأمر الذي يرفضه الوجدان العملي ـ كما تقدم ـ؟

26

وهنا يرد أنصار الديموقراطية على هذا الاعتراض مؤكدين أن هذا الأمر لا يشكل عقبة في وجهها، فإن رفض هؤلاء الاشتراك في العقد الاجتماعي يجعلهم بمعزل عنه، وكالغرباء بالنسبة للوسط الاجتماعي الذي وافق بالإجماع على (مبدأ الأكثرية) فقامت في إطاره الحكومة الدميقراطية التي تعتبر أطراف العقد هم وحدهم المواطنين، فإذا ما فضل الرافضون الغرباء بكل حرية العيش في هذا الوسط الاجتماعي فذلك يعني أنهم اختاروا إمضاء العقد والالتزام بنتائجه، حيث تكون الإقامة علامة الرضا إذ تمت في جو حر.

يقول جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي:

"إذا كان قد وجد اذن حين العقد الاجتماعي معارضون فيه، فإن معارضتهم لا تبطل العقد، أنها تحول فحسب دون أن يدخلوا فيه، فهم أغراب بين المواطنين، وعندما تكون الدولة قد أسست، فإن الإقامة فيها علامة الرضا، إذ تصبح سكنى الإقليم خضوعاً للسيادة"(1).

وبهذا يؤكد أنصار الديموقراطية أنها واجدة لمصدر مشروع لاستمداد الولاية، وهو الأساس الأول الذي ينبغي أن تقوم عليه الحكومة.

أما الأساس الثاني: وهو المصلحة الاجتماعية فقد يركز على قضية أن الحكومة إذا كانت تعبيراً عن حكم الناس لأنفسهم، فمن



(1) في العقد الاجتماعي، ترجمة: ذوقان قرقوط ـ طبعة بيروت ص 173.

27

الطبيعي أن تعمل على تحقيق المصالح الاجتماعية، لأن الناس لا يريدون لأنفسهم غير ذلك، وليس الحاكم مغايراً للمحكوم كي يفترض تقديمه لمصالحه على مصالح المحكوم. وهذا يؤكد كون الشكل الديموقراطي في الحكم هو أضمن الأشكال المتصورة لحفظ مصالح الأمة.

وهكذا نلاحظ إمكان أن يعمد أنصار الحكم الديموقراطي لاستمداد المبرر المنطقي من كل من الأساسين في اطار من العقد الاجتماعي.

هذا، وربما عمد بعضهم الى جعل (أساس المصلحة) دليلاً مستقلاً ومبرراً قائماً بنفسه لصحة الشكل الديموقراطي للحكم ـ على ما فهمه الدكتور عبد الحميد متولي من كلام الاستاذ (أزمن) ـ يقول الدكتور: "إذا كان الأساس الفلسفي لنظرية (أو مبدأ) سيادة الملك هو نظرية الحق الالهي (أو التفويض الالهي) للملك، فإن مبدأ (أو نظرية) سيادة الأمة إنما تستند من الناحية الفلسفية إلى أساس نظرية "العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو. على أن بعض كبار الفقهاء الفرنسيين (مثل الاستاذ أزمن) إنما يقيم ذلك المبدأ على أساس آخر، إذ يقول: انه بما أن السلطة العامة (أو الحكومة) إنما نشأت من أجل صالح الأمة جميعاً فإن الأمة يجب أن يكون لها رقابة على هذه السلطة"(1).



(1) الاسلام ومبادئ نظام الحكم، للدكتور عبد الحميد متولي ص109.

28

والملاحظ في هذا النص أنه يفترض قيام حكومة أو أمة محكومة، ثم يؤكد أن هذه الحكومة لما كانت ناشئة لتحقيق مصالح الأمة فيجب أن تكون للأمة رقابة عليها. أما نحن فنتحدث في أصل وجود مبرر من نوع ما لمشروعية قيام هذه الحكومة المفروضة؛ فلو قبلنا كون نشوء هذه السلطة لصالح المجتمع داعياً للزوم قيام رقابة اجتماعية على تصرفاتها، فإن هذا لا يصلح دليلاً على مشروعية سلطة من هذا القبيل حتى مع فرض مراقبة الأمة لها.

فلو فرضنا أن الأمة كان لها الحق في مراقبة سلطة نشأت لتحقيق مصالحها، إلا أن التساؤل الأصيل ينصب على المبرر الذي منح هذه السلطة حق الحكم والإدارة وإعمال النفوذ وتحديد الحريات والأصول والوجدانية الأولى، وهل يمكن أن يكون غير العقد الاجتماعي؟

وقد ذكرنا عند الحديث عن ادعاء الدكتاتورية كونها في مصلحة المجتمع، أن مجرد كون الحكومة في مصلحة المجتمع لا يكفي مبرراً منطقياً لدى الوجدان الانساني.

29

عقبات أمام الديموقراطية

هذا وتطرح هنا عقبات مهمة في وجه الديموقراطية تتطلب منها الجواب المناسب، من مثل:

1 ـ جهل الاكثرية وأهواؤها:

إن من الطبيعي أن تكون غالبية الناس جاهلة بما فيه صلاح المجتمع، تغلب عليها العواطف والنزعات النفسية، فإذا سلمنا أمور المجتمع إلى آرائها لم نأمن الوقوع في سبل الخطأ والأهواء، وقد قيل: "إذا كثرت الأصوات ضاع الحق".

ومن هنا فأفضل الحلول هو أن يجتمع مجلس من الخبراء وذوي الحنكة والتجربة والنظر السديد، ويتبادلوا النظر في أمور الأمة وعلاقاتها الداخلية والخارجية، ثم يتعاونوا على التشريع.

30

وقد تقول الديموقراطية تجاه هذه العقبة ان إعطاء القوانين بيد الأمة على نمطين:

الأول: التصويت المباشر، بحيث يتدخل كل فرد في تشريع القانون بمختلف جوانبه.

الثاني: التصويت غير المباشر على القانون، وذلك بانتخاب مجموعة من الخبراء الموضوعيين ليقوموا هم بدورهم بدراسة المشاريع واختيار الأفضل. وبهذا نتخلص من هذه العقبة ولا يضيع الحق في نفس الوقت الذي نضمن فيه بقاء روح الديموقراطية في البين، فالناس في الواقع هم يحكمون أنفسهم لأنهم انتخبوا ممثلين عنهم في هذا المجال.

هذا وربما أمكن تقسيم الأمور الى قسمين ـ على ضوء احتمال أن يؤدي التصويت المباشر الى ما يضر بمصلحة الأمة ـ فيطرح قسم يؤمن فيه ذلك للتصويت المباشر من قبل الشعب، في حين يترك القسم الآخر لآراء الخبراء المنتخبين ومداولاتهم وتصويتهم.

2 ـ شراء الأصوات:

وهو أمر ابتليت به كل المجتمعات التي ادعت تطبيق الشكل الديموقراطي في الحكم، حيث تقوم الأقلية التي تمتلك كل ما يتيح لها القدرة على احتكار أصوات الأكثرية لصالحها، وذلك بالتطميع المالي والوعود السياسية الخلابة والتمويه الإعلامي، بل وربما

31

باستعمال النفوذ الروحي والتخويف وأمثال ذلك.

وإذا بنا في نهاية المطاف أمام أقلية تتحكم في آراء الأكثرية وتوجهها الوجهة التي ترتئيها وتحقق مشتهياتها النفسية ومصالحها الضيقة ضاربة عرض الجدار مصلحة المجتمع ككل.

وربما عمد أنصار الديموقراطية إلى طرح مبدأ المساواة في مقدار الثروة إلى جنب مبدأ الحرية، فذكروا أنه لولا مبدأ المساواة في الثروة لأصبحت الحرية حرية شكلية فاقدة لروح الحرية بعد أن تسيطر الأقلية على الأكثرية وتسلبها القدرة على الحركة باتجاه ما يحقق مصالحها، أما إذا ضمنّا المساواة في المجتمع اما بمعناها الاشتراكي أو الشيوعي أو حتى بمعنى تقليل الفوارق في الثروات إلى حد لا يكون معه أي مواطن من الغنى بحيث يستطيع شراء مواطن آخر، ولا من الفقر بحيث يضطره إلى أن يبيع نفسه في قبال لقمة عيشه، إذا ضمنّا ذلك فإن الحرية الحقيقية سوف تكتسب الاطار الذي تبرز فيه جوهرها دون خوف من استمالة أو شراء.

وهنا يقول روسو في تفسير ما يقصده من المساواة:

"لا يجب أن نفهم من هذه العبارة أن تكون درجات القوة والثراء نفسها هي نفسها بصورة مطلقة، وإنما يعني فيما يتعلق بالقوة أن تسمو على العنف وأن لا تمارس أبداً إلا بمقتضى المركز والقوانين، وفيما يتعلق بالثراء أن لا يكون أي مواطن من الغنى بحيث يستطيع شراء

32

مواطن آخر، وأن لا يبلغ أي أحد من الفقر يضطره إلى أن يبيع نفسه، وهو يفترض اعتدالاً في الثروات والتأثير من جانب الكبار واعتدالاً في الشح والطمع من جانب الصغار"(1).

3 ـ مصالح النواب الشخصية:

فإن هؤلاء النواب الذين تنتخبهم الأمة وتمنحهم حق التشريع يجدون أمامهم كل ما يبرر لهم الانحراف عن مصالح الأمة في كثير من الأحيان.

ذلك أنهم من جهة يملكون قدرات واسعة منحت لهم ليكونوا قادرين على تنفيذ ما يشرعون، وأنهم من جهة أخرى يمتلكون مصالح شخصية تزداد بانتخاب الأمة لهم ومنحهم السلطات الكثيرة وفتح أبواب النفوذ أمامهم.

وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يؤمن أن يقوم هؤلاء بتقديم مصالحهم الشخصية الضيقة على المصالح العامة عند التعارض والتنافي بينها. خصوصاً ونحن نتكلم عن وضع يعيش إطاراً مادياً ليس فيه أي رادع حقيقي مسيطر على كل تصرفات الانسان، ولا يرى له إلا هذا الشوط الدنيوي القصير مرتعاً لتحقيق أمانيه وميوله الشخصية.

وعليه، فإن وجود هذا الخطر يجعل هذا الأسلوب من التصويت



(1) في العقد الاجتماعي ص97.

33

ـ أي الانتخاب غير المباشر ـ منفذاً للنزاعات والأهواء المتحكمة.

اما لو رجعنا وأعدنا أسلوب التصويت العام المباشر من قبل الأفراد جميعاً في المجتمع فإنا سنبتلى بالعقبة الكؤود الأولى.

ولعل هذه العقبة هي التي دعت الديموقراطيين إلى التركيز على مبدأ فصل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية، أي يعطى حق التشريع لبعض النواب في حين يُختار للتنفيذ أشخاص آخرون، وبذلك يعمل المجتمع على عدم جعل السلطة والقوة بيد النواب المشرعين ليستغلوها لمصالحهم التي اتسعت باتساع سلطاتهم ويشرعوا وفق مآربهم.

ولنفس هذه العقبة أمكن تبرير فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية أيضاً.

وعلى أي حال، فإنه سيظل احتمال التواطؤ بين السلطات الثلاث قائماً، وكذلك احتمال أن تعمل السلطة التشريعية أو القضائية على تركيز مصالحها معتمدة على لزوم تنفيذ السلطة التنفيذية لأوامرها. وهذا يعني أن قوة التنفيذ أيضاً هي بيد السلطة التشريعية أو القضائية.

هذا، وربما يؤكد مبدأ الفصل بين السلطات ـ وهو أسلوب الديموقراطي في مقابل الأسلوب الديموقراطي القائل بالتوحيد ـ بمبررات أخرى كلها تعمل على تفادي هذه المشلكة، فيقال مثلاً:

34

إن القوة والسلطة ـ وإن كان بطبيعتها تخلق الكبرياء والطغيان في النفوس وتزين للمرء أن ينفذ مآربه، وتدفعه لتنمية مصالحه وضمان مشتهياته، ومن ثم الاستبداد الى الحد الممكن ـ إلا أن نفس توزيع القوى على محاور عديدة يقلل من سلطة كل محور، ويؤثر في تقليل المطامح الشخصية، مما يمنع من المصير إلى ما يشبه النظام الدكتاتوري الذي فرغنا عن فساده.

أو يقال: إننا بتوزيع السلطات وتفتيت القوى نخلق روح المراقبة الداخلية بين هذه القوى ومتابعة كل منها تصرفات البعض الآخر ومحاسبتها أمام الأمة، مما يسد باب الاستبداد والدكتاتورية.

وقد تطرح هنا ـ لعلاج مشكلة المصالح الشخصية وطغيان بعض القوى ـ فكرة تقليل مدة الانتخاب، بعد تحقيق توازن بين مقدار القوى والقوة المفروضة لاعمالها إعمالاً يوفر قدرة على التنفيذ ومواجهة المشاكل الاجتماعية الكبرى، وبين خطر الاستغلال والاستبداد.

وفكرة التقليل تعني من ناحية تقليل السلطة ومجالها التي تعبث بالرؤوس، وتخلق الزهو والكبرياء في النفوس، ومن ناحية أخرى أن يفكر المنتخب في مصالح الأمة قبل أن يقدم على إشباع مصالحه وطموحه على حساب المجتمع، مما يعرضه لعدم الانتخاب للمرة التالية.

35

علاقة أطروحة الديموقراطية بالدين

من الواضح أنه لا موقع للدين ـ بمعناه الحي النابض الموجه الرابط لشؤون المسيرة الإنسانية بالله تشريعاً وتنفيذاً ـ في هذه الأطروحة التي تمنح حقوق التشريع والتنفيذ للناس، ولا يبقى أي مجال لتدخل السماء في تسيير دفة الحياة الاجتماعية.

وهنا نود أن نعرض تصورات (روسو) عن الدين ودوره في المجتمع المدني، ليتجلى لنا نمط من التفكير الغربي وتصوراته عن الدين:

يقول روسو: "قد ينقسم الدين ـ على ضوء علاقاته بالمجتمع التي تكون إما عامة أو خاصة ـ إلى نوعين: وهما: دين الانسان، ودين المواطن.

الأول ـ وهو بلا معابد ولا هياكل ولا طقوس ـ مقتصر على العبادة الداخلية المحضة لله الأعلى، وعلى الواجبات الأخلاقية الأبدية، وهو ما يمكن ان نسميه القانون الإلهي الطبيعي.

الثاني: وهو مدون في بلد وحيد يمنحه آلهته وشفعاءه الخاصين وحماته، وله عقائده وطقوسه وعبادته الخارجية المفروضة بالقوانين، وفيما عدا الأمة التي تعتنقة يكون كل إنسان بالنسبة له كافراً أجنبياً وبربرياً، وهو لا يمد واجبات الانسان وحقوقه خارج حدود هياكله.