437

وهذا مناسب لباب التعادل والتراجيح حيث يبحث فيه عن أنّه إذا تعارض دليلان فهل يقدّم أحدهما بنسخ أو تخصيص أو غير ذلك أو لا؟ وقد ذكر هذا المبحث ـ أعني: دوران الأمر بين التخصيص والنسخ ـ فيما نحن فيه، لكنّه ذكر أيضاً في ذاك الباب ونحن نؤخّره إلى هناك(1).

هذا تمام كلامنا في بحث العامّ والخاصّ.(1)



(1) بما أنّه(رحمه الله) لم يبحث هذا البحث هناك فنحن نبحثه هنا إن شاء الله، وذلك بالشكل التالي:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

دوران الأمر بين التخصيص والنسخ

إذا كان الخاصّ منفصلاً عن العامّ ـ ولم يكن أيضاً مقارناً له زماناً وإلّا لكان تعيّن التخصيص ممّا لا غبار عليه ـ فلا يخلو الأمر من إحدى عدّة صور:

الصورة الاُولى: أن يكون الخاصّ متأخّراً عن العامّ وقبل حضور وقت العمل به، فقد يقال: إنّه لا يمكن أن يكون الخاصّ ناسخاً؛ للزوم لغويّة المنسوخ حينما نفرض الأمر المنسوخ أمراً حقيقيّاً. نعم، يعقل ذلك في الأوامر الصوريّة الامتحانيّة.

وأورد على ذلك المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بأنّ هذا إنّما يتمّ في القضايا الخارجيّة، أمّا الحقيقيّة (كما هو الحال في أحكام الشريعة المقدّسة) فلا مانع من نسخها بعد جعلها بزمن قليل وقبل تحقّق الموضوع؛ إذ المفروض أنّها جعلت على موضوع مقدّر الوجود. نعم، في الموقّتات كوجوب صوم شهر رمضان لا يصحّ نسخها قبل حضور الوقت(1).


(1) راجع أجود التقريرات ج 1، ص 507 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

438


وكأنّه(رحمه الله) ينظر في هذا الكلام إلى مبادئ الحكم فيقول: إنّ النسخ في القضايا الخارجيّة قبل تحقّق الموضوع يكشف ـ بعد استحالة البداء الحقيقيّ ـ عن عدم وجود المبادئ حقيقة حين الجعل، فيستحيل الجعل إلّا إذا كان جعلاً صوريّاً، وأمّا في القضايا الحقيقيّة فعدم تحقّق الموضوع صدفة خارجاً لا يعني عدم وجود المبادئ قبل تحقّقه، فإنّ المبادئ متقوّمة بالموضوع الفرضيّ، ومعنى تحقّق الحكم حقيقة قبل تحقّق الموضوع أنّ المولى يريد حقيقةً الفعل الفلانيّ على تقدير تحقّق الموضوع الفلانيّ، ولا ينافي ذلك عدم تحقّق ذاك الموضوع. نعم، نسخ الموقّت قبل وقته ينافي تحقّق المبادئ حين الجعل.

إلّا أنّ السيّد الخوئيّ(رحمه الله) أورد على ذلك بأنّ صدور الحكم من المولى بداعي البعث مع علمه بعدم تحقّق الموضوع قبل النسخ غير معقول. وقد صرّح المحقّق النائينيّ(رحمه الله) نفسه في عدّة موارد بأنّ امتناع فعليّة الحكم يستلزم امتناع جعله. نعم، حينما يتّفق أنّ نفس الحكم يسبّب عدم فعليّة الموضوع كما في جعل القصاص والديات والحدود ليس عدم تحقّق الموضوع المسبّب عن الحكم موجباً لعدم معقوليّة الحكم، كيف وغرض الجعل هو ذلك، أمّا في غير ذلك فلا يعقل جعل الحكم ونسخه قبل تحقّق الموضوع، فالخاصّ يحمل على التخصيص دون النسخ بلا إشكال(1).

أقول: إنّ ما يقال: من عدم معقوليّة النسخ قبل حضور العمل ـ للزوم لغويّة الجعل ـ تارة: يقصد به مجرّد لغويّة الجعل بمعناه الساذج وهو عدم ترتّب أثر وثمرة على الجعل، على حدّ ما يقال: من أنّ صدور اللغو من العاقل مستحيل أو قبيح. واُخرى: يقصد به أنّ


(1) راجع المحاضرات للشيّخ الفيّاض، ج 5، ص 317 ـ 318 بحسب طبعة مطبعة صدر بقم.

439


الحكم متقوّم بمبادئه، والنسخ قبل وقت العمل يكشف عن عدم المبادئ وعدم الحبّ والبغض، ومع عدم الحبّ والبغض لا يتعقّل حكم. وثالثة: يقصد به أنّ الحكم متقوّم بقصد البعث والتحريك، والنسخ يكشف عن عدم ذلك، ومع عدم داعويّة البعث لا يعقل الحكم:

فإن قصد الثاني: فمن الواضح صحّة كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في التفصيل بين القضايا الخارجيّة والحقيقيّة.

وإن قصد الثالث: فقد يتخيّل أنّ كلام السيّد الخوئيّ(رحمه الله) هو الصحيح؛ إذ لا معنى لداعويّة البعث مع العلم بأنّ الحكم قبل أن يؤثّر أثره في البعث سينسخ، فلا يتعقّل الحكم من دون فرق بين القضايا الخارجيّة والحقيقيّة.

إلّا أنّ الصحيح أنّه على هذا الفرض أيضاً لا يتمّ كلامه(رحمه الله)؛ وذلك لأنّ داعي التحريك في القضايا الحقيقيّة تقديريّ على حدّ تقديريّة مبادئ الحكم فيها، فلو قال: (أكرم العالم إن جاءك) فكما أنّ المصلحة في الإكرام وحبّه يكونان على تقدير مجيء العالم كذلك التحريك يكون على هذا التقدير، فالحكم واجد لمقوّمه حتّى لو لم يجئه العالم إلى الأخير، ولذا ترى صحّة الحكم الذي يسبّب انتفاء موضوعه كما في الحدود والديات والقصاص حتّى لو سبّب انتفاءه إطلاقاً، وما ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) من أنّ هذه الأحكام صدرت لهدف إفناء موضوعها صحيح، ولكن هذا لا ينفي كون قوام الحكم على أيّ حال بالباعثيّة نحو متعلّقه ولا معنى لحكم بلا باعثيّة نحو المتعلّق، فنسأل ما هي الباعثيّة في هذه الأحكام لو قدّر أنّها سبّبت انتفاء موضوعها إلى الأبد؟ أفليست هي الباعثيّة التقديريّة، وهي المناسب لكون القضيّة في ذاتها حقيقيّة وتقديريّة؟!

وإن قصد الأوّل: فقد يقال بصحّة ما ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله)؛ إذ حتّى لو كانت القضيّة

440


حقيقيّة فجعلها مع عدم تحقّق موضوعها قبل النسخ لغو صرف؛ لعدم ترتّب أيّ فائدة عليه فيسقط باللغويّة، رغم الاعتراف بكون الجعل كاشفاً حقيقة عن روح الحكم وهو الحبّ ومستبطناً لما به قوام الحكم بنحو القضيّة الحقيقيّة من الباعثيّة التقديريّة.

إلّا أنّه يمكن أيضاً افتراض مصلحة في نفس إبراز الحكم بوجوب إكرام العالم عند مجيئه مثلاً أو جَعلِه كتوضيح عظمة العالم أو غير ذلك، وهذا لا يعني خروج الحكم عن تبعيّته للمصلحة في المجعول أو خروجه عن كونه حكماً حقيقة، فإنّ روح الحكم لا زال تابعاً للمصلحة في المجعول.

كما بودّي الإلفات إلى أنّ الأوامر الامتحانيّة أيضاً بالإمكان أن تكون أوامر حقيقيّة لا صوريّة، بأن تكون المصلحة في كون المكلّف مُلزَماً لا في محض الجعل.

وعلى أيّ حال فلو كان الحديث عن محض اللغويّة ـ بمعنى عدم ترتّب الفائدة ـ لا عن عدم معقوليّة الحكم ـ لكونه متقوّماً بالحبّ أو بالباعثيّة ـ فهذا الحديث لا أثر له فيما نحن فيه إطلاقاً؛ لأنّ الكلام إنّما هو فيما إذا ورد عامّ ثمّ ورد خاصّ مخالف له قبل حضور وقت العمل، فلو فرض أنّ حمله على النسخ يعني لغويّة جعل الحكم ثبوتاً بالنسبة لمقدار موضوع الخاصّ فيتعيّن التخصيص أمكن أن يقال في التخصيص أيضاً بلغويّة إبراز عموم الحكم لمقدار موضوع الخاصّ، وبأيّ وجه يجاب عن اللغويّة هناك يجاب به هنا، فإمّا أن يقال: إنّ إبراز الحكم بنحو العموم لم يكن يستبطن مؤونة زائدة على إبرازه بنحو الخصوص حتّى يقال بعدم صدورها من العاقل لغواً، وكذلك يقال: إنّ جعل الحكم بنحو العموم لم يكن يستبطن مؤونة زائدة على جعله بنحو الخصوص، وإمّا أن تفرض مصلحة في هذا الإبراز وكذلك تفرض مصلحة في ذاك الجعل مع الاحتفاظ بأنّ روح الجعل تابعة

441


للمصلحة في المجعول وأنّ الحكم قد جعل حقيقة لا صورة؛ لما وضّحناه من ثبوت الحبّ والباعثيّة بالنحو المناسب للقضايا الحقيقيّة.

ومن هنا اتّضح: أنّ الذي يفيدنا في المقام ـ كبرهان على بطلان النسخ ـ إنّما هو إثبات أنّ النسخ يستوجب فقدان مقوّم الحكم من الحبّ أو الباعثيّة لا أنّه يستوجب محض اللغويّة، وبما أنّك عرفت أنّ النسخ في المقام لا يستوجب فقدان الحكم لمقوّمه، إذن يبقى احتمال النسخ قائماً.

بل يمكن أن يقال بتقديم النسخ على التخصيص؛ لأنّ التخصيص خلاف أصالة العموم، والنسخ إمّا هو خلاف الإطلاق الأزمانيّ فيتقدّم على التخصيص بناء على أنّ العموم متقدّم على الإطلاق، وإمّا أنّه ليس خلافاً للعموم ولا للإطلاق بناءً على كون حقيقة النسخ رفع الجعل، وأنّ الجعل لا ينظر إلى الأزمان بل يجعل ذات الحكم ويبقى إلى أن ينسخ.

والصحيح هو: أنّ نفس ورود المخصّص قبل زمان العمل بالعامّ يعطي للمخصّص ظهوراً في كونه بروح التخصيص وبروح النظر إلى الزمان السابق، لا بروح النسخ وبروح النظر إلى زمان صدوره فما بعد، فنفس استبعاد النسخ عرفاً قبل زمان العمل ـ رغم إمكانه بالدقّة العقليّة كما مضى ـ يعطي للمخصّص ظهوراً في التخصيص، فليس المخصّص مجملاً مردّداً بين التخصيص والنسخ حتّى يوجب إيقاع التعارض في داخل العامّ بين العموم الأفراديّ والإطلاق الأزمانيّ مثلاً، ويقدّم العموم أو يتعيّن النسخ باعتباره غير مخالف للعموم ولا للإطلاق فيبقى العموم بلا معارض.

الصورة الثانية: أن يكون الخاصّ متأخّراً عن العامّ ووارداً بعد حضور وقت العمل بالعامّ، وهذا يمتاز عن الصورة الاُولى بوضوح إمكانيّة النسخ وعدم المحذور العقليّ فيه

442


لو تمّ في الصورة الاُولى، كما أنّ الاستبعاد العرفيّ للنسخ الناشئ من عدم حضور وقت العمل غير موجود هنا أيضاً.

بل قد يقال هنا بتعيّن النسخ وعدم إمكانيّة الحمل على التخصيص؛ للزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

ومن هنا وقع الإشكال في التخصيصات الواردة في زمن الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)للعمومات السابقة، حيث إنّ حملها جميعاً على النسخ غير محتمل؛ إذ لا أقلّ من العلم إجمالاً بعدم كثرة النسخ فيما بعد الرسول(صلى الله عليه وآله)، وحملها على التخصيص يستوجب تأخير البيان عن وقت الحاجة.

ولعلّ هذا هو الدافع ـ ولولا شعوراً ـ للمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) إلى استظهار أنّ الغالب في العمومات في الشريعة كونها لضرب القاعدة(1) لا لبيان الحكم الواقعيّ حقيقةً، حيث إنّ


(1) المقدار الذي يحضرني فعلاً من كلام الكفاية ممّا يشير إلى مسألة ذكر العموم لضرب القاعدة موردان:

أحدهما: في المجلّد الأوّل بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق الشيخ المشكينيّ في بحث العموم والخصوص، ص 336، كتبرير لعدم كشف المخصّص المنفصل عن استعمال العامّ في الخصوص مجازاً: من أنّه بالإمكان أن يكون استعماله في العموم رغم التخصيص وذلك لضرب القاعدة.

وثانيهما: في نفس المجلّد والبحث في فصل دوران الأمر بين النسخ والتخصيص، حيث ذكر أنّ الخاصّ لو كان وارداً بعد زمان حضور وقت العمل لابدّ أن يحمل على النسخ إلّا إذا لم يكن العامّ وارداً لبيان الحكم الواقعيّ (يعني: بل كان وارداً لضرب القاعدة) كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات.

443


هذا يحلّ إشكال التخصيصات الواردة عن الأئمّة(عليهم السلام)؛ إذ تكون تلك التخصيصات تخصيصات للحكم الواقعيّ، بينما لم تكن العمومات متكفّلة للحكم الواقعيّ كي يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وأورد على ذلك السيّد الخوئيّ(رحمه الله) بأنّ تلك العمومات لو كان لها ظهور في بيان الحكم الواقعيّ إذن لرجع إشكال تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإلّا لم ينعقد لها ظهور في العموم كي يعتبر ضرباً للقاعدة(1).

أقول: ولو جمع بين بيان الحكم الواقعيّ وضرب القاعدة ورد أيضاً لزوم استعمال اللفظ في معنيين.

وعلى أيّ حال فقد أجاب السيّد الخوئيّ(رحمه الله) على إشكال كون التخصيص بعد حضور وقت العمل تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة بأنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة الناشئ من لزوم إلقاء المكلّف في المفسدة أو فوات المصلحة أو إلقائه في المشقّة إنّما يكون مع فرض عدم مصلحة في التأخير، بينما قد توجد مصلحة في التأخير، كما أنّ أصل إنزال الشريعة بالتدريج رغم ثبوت الملاكات من أوّل الأمر كان على هذا الأساس.

أقول: إنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة وإن كان ممكناً عقلاً إلّا أنّه على أيّ حال خلاف الطبع الأوّليّ وفرضيّة مستبعدة إلى حدّ يحصل الوثوق بعدم كثرته، فيبقى إشكال ورود التخصيصات الكثيرة على لسان الأئمّة(عليهم السلام) للعمومات السابقة في الكتاب أو السنّة أو الإمام السابق باقياً على حاله. وجوابه هو: أنّ هذه التخصيصات بقدر ما نستبعد


(1) راجع المحاضرات، ج 5، ص 319 ـ 320 بحسب طبعة مطبعة صدر بقم.

444


تأخيرها إلى ما بعد زمان العمل تكشف عن ورودها في الزمان السابق أيضاً، أعني: زمن الرسول أوالإمام المتقدّم.

وأمّا أصل أنّ الخاصّ الوارد بعد حضور وقت العمل بالعامّ هل يحمل على التخصيص أو النسخ أو يبقى مجملاً بينهما، فالجواب هو: أنّه إذا كان الخاصّ وارداً في لسان مَن ظاهر حاله أنّه يبيّن الحكم حتّى بلحاظ ما قبل صدور هذا الكلام ـ كما هو الحال في الأئمّة(عليهم السلام) ـ فهو ظاهر في التخصيص ويحمل عليه، وإلّا ـ كما هو الحال فيما إذا كان وارداً على لسان الرسول(صلى الله عليه وآله) ـ فمقتضى أصالة العموم في العامّ حمل هذا الخاصّ على النسخ لو لم نقل بأنّ ندرة النسخ وكثرة التخصيص تعطيه ظهوراً في التخصيص كما ليس ببعيد، خاصّة فيما إذا كان العامّ السابق حكماً تأسيسيّاً.

الصورة الثالثة: ما إذا ورد العامّ بعد الخاصّ وقبل حضور وقت العمل به، وهذه الصورة يكون امتيازها عن الصورة الآتية بنكتة واحدة وهي استبعاد النسخ قبل حضور وقت العمل، فنقتصر الآن في البحث عن هذه الصورة على أن نقول: إنّ الخاصّ يتقدّم على العامّ بالتخصيص ولا يفترض العامّ ناسخاً للخاصّ، لا لما يقال: من عدم معقوليّة النسخ قبل حضور وقت العمل، بل لما ذكرناه فيما سبق من عدم عرفيّته.

الصورة الرابعة: ما إذا ورد العامّ بعد الخاصّ وبعد حضور وقت العمل فهل نبني عملاً على الخاصّ لأنّه مخصّص للعامّ، أو على العامّ لأنّه ناسخ للخاصّ؟

تارةً: نفترض أنّ العامّ ورد على لسان مَن ظاهر حاله كونه مبلّغاً للأحكام الثابتة فيما سبق وأنّه ليس بصدد النسخ ـ حتّى على القول بإمكانيّة النسخ على لسانه ـ كما هو الحال في الأئمّة(عليهم السلام)، وهنا لا ينبغي الإشكال في الحكم بمخصّصيّة الخاصّ دون ناسخيّة العامّ.

445


نعم، لو آمنّا بأنّ بقاء الأحكام لا يثبت بالإطلاق الأزمانيّ بل باستصحاب عدم النسخ؛ لأنّ النسخ عرفاً رفعٌ لا تقييد، واحتملنا نسخ الخاصّ بناسخ آخر غير هذا العامّ فقد يشكل التمسّك باستصحاب عدم النسخ وتخصيص العامّ بالخاصّ الثابت بقاؤه بالاستصحاب؛ لأنّ الخاصّ الثابت بقاؤه بالاستصحاب قوّته قوّة الاستصحاب؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات، والاستصحاب لا يتقدّم على العامّ، بل العكس هو الصحيح.

والحلّ هو: أنّنا حتّى لو قلنا بأنّ النسخ رفع لا تقييد فهذا لا يعني إنكار الإطلاق الأزمانيّ للأحكام، فالخاصّ بإطلاقه الأزمانيّ ـ الذي هو أقوى من عموم العامّ بنكتة الغلبة ـ يدلّ على تقييد العامّ المتأخّر (على تقدير أنّه سيوجد)، واستصحاب عدم النسخ يجري بشأن هذا الخاصّ بعد ثبوت مقيّديّته في الرتبة السابقة على الاستصحاب، لا أنّ التقييد يكون في طول الاستصحاب.

وإن شئتم قلتم: إنّه يستصحب الخاصّ وتستصحب حالة التقييد والتخصيص أيضاً.

واُخرى: نفرض أنّ العامّ ورد على لسان مَن ليس له ظهور حال من هذا القبيل، كما لو ورد على لسان الرسول(صلى الله عليه وآله)، وكما لو ورد على لسان مولى عرفيّ يحتمل كونه رأياً انقدح له الآن.

وهنا يمكن ترجيح جانب النسخ بأحد وجوه:

الأوّل: دعوى تقدّم العموم الأفراديّ على الإطلاق الأزمانيّ بالأقوائيّة.

وهذا إنّما يتمّ لو لم نقل بما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من دعوى أنّ ندرة النسخ تجعل ظهور الخاصّ في البقاء أقوى.

446


الثاني: دعوى أنّ الخاصّ يستحيل دلالته على الدوام؛ لأنّ استمرار الحكم في مرتبة متأخّرة عن نفس الحكم، فلا يعقل دلالة الحكم عليه، ولا نفهم معنى لبقاء الحكم إلّا بعدم رفعه وعدم نسخه، والعامّ هنا دالّ على النسخ، فدلالة العامّ على العموم لا معارض لها، وبهذا يتعيّن النسخ.

والجواب: أنّنا نستطيع إثبات الاستمرار بإطلاق الكلام بلحاظ الانقسام السابق على الحكم، وذلك باعتبار انقسام متعلّق الحكم أو موضوعه بلحاظ عمود الزمان أيضاً كما ينقسم بلحاظ الأفراد العرضيّة.

الثالث: دعوى أنّ عموم العامّ يرفع موضوع الإطلاق الأزمانيّ في الخاصّ؛ لأنّه بيان فتنتفي بذلك إحدى مقدّمات الحكمة وهي عدم البيان.

وهذا الدليل ينسجم مع مبنى مَن يقول بأنّ قوام الإطلاق بعدم البيان ولو منفصلاً. ومن الغريب صدور هذا الدليل من السيّد الخوئيّ(رحمه الله) الذي لا يبني على هذا المبنى، وقد جاء ذكر هذا الدليل في محاضرات الفيّاض ـ ج 5، ص 325 ـ ولعلّ الخطأ من المقرّر.

ويمكن ترجيح جانب التخصيص على النسخ بعدّة وجوه:

الأوّل: ما ذكره في الكفاية من أنّ كثرة التخصيص وندرة النسخ تجعل ظهور الخاصّ في الدوام ـ ولو كان بالإطلاق ـ أقوى من ظهور العامّ ولو كان بالوضع(1).

وأورد عليه السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ـ على ما جاء في نفس المصدر السابق، ص 326 ـ بأنّ


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 371 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

447


كثرة التخصيص وندرة النسخ لا توجبان إلّا الظنّ بالتخصيص، ولا حجّيّة لهذا الظنّ.

ويمكن الجواب على ذلك بأن يقال: إنّه لو لم نؤمن أصلاً بالإطلاق الأزمانيّ للخاصّ، وقلنا بأنّ الخاصّ ـ من دون أيّ إطلاق أزمانيّ ـ يبقى نافذ المفعول ما لم يرفع بالنسخ فقد يصحّ ما ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) من أنّ مجرّد ندرة النسخ وكثرة التخصيص لا تؤثّران شيئاً عدا الظنّ بالتخصيص ولا حجّيّة لهذا الظنّ. أمّا لو آمنّا بالإطلاق الأزمانيّ للكلام ـ كما هو الصحيح وهو المختار للسيّد الخوئيّ(رحمه الله) ـ فلا ينبغي الإشكال في أنّ ندرة النسخ وكثرة التخصيص وظاهرة غلبة الثبات في الأحكام تقوّي هذا الإطلاق ويصبح أقوى من عموم العامّ كما ذكره صاحب الكفاية(رحمه الله).

وتوضيح المقصود هو أنّه:

تارة: نبني على أنّه ليس من شأن المشرّع وظاهر حاله النظر إلى المستقبل، بل هو يشرّع الحكم بلحاظ الحال الحاضر وبعد ذلك يكون سكوته عن النسخ ظاهراً عرفاً في بقاء الحكم، وعليه فالسكوت عن النسخ هنا أوّل الكلام؛ إذ من المحتمل كون نفس العامّ نسخاً للخاصّ، ومجرّد ندرة النسخ قد لا تصنع شيئاً إلّا الظنّ بعدم النسخ، وهذا الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.

واُخرى: نبني على أنّ من شأن المشرّع النظر إلى المستقبل، فيكون ظاهر حاله هو ذلك ويتمّ الإطلاق الأزمانيّ، وعندئذ لا إشكال في أنّ ظهور حاله هذا يشتدّ ويقوى حينما يكون النسخ نادراً وعلى خلاف المترقّب؛ لأنّ القيد الأزمانيّ إذا كان نادراً فهو على تقدير وجوده يسترعي الانتباه إليه بشكل أشدّ ويجعل حالة كون المتكلّم بصدد بيانه آكد وأقوى، وبذلك يقوى الإطلاق لا محالة، هذا من ناحية، ومن ناحية اُخرى كثرة

448


التخصيص تضعف ظهور العامّ في العموم، أي: أنّ مَن يعيش جوّ كثرة التخصيص يرى أنّ كثرة التخصيص حالة مكتنفة بالكلام موجبة لوهن ظهور العامّ في العموم.

الثاني: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ عموم العامّ غير تامّ في المقام؛ لتوقّف عموم العامّ على جريان مقدّمات الحكمة في متعلّق العموم ومنها عدم البيان ولو منفصلاً، والخاصّ بيان في المقام(1).

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ مبتن على مبانيه(رحمه الله) والتي لم نؤمن بها، ولكن على تقدير تسليم المباني من احتياج العموم إلى مقدّمات الحكمة وكون البيان المنفصل كالبيان المتّصل في هدم الإطلاق لم نعرف كيف جعل هذا سبباً لتقديم الخاصّ على العامّ، بينما الخاصّ أيضاً يكون في إطلاقه الأزمانيّ بحاجة إلى مقدّمات الحكمة، فكيف أصبح احتياج العامّ إلى مقدّمات الحكمة سبباً كافياً لتقديم الخاصّ عليه؟!!

الثالث: ما ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في تعليقه على أجود التقريرات من أنّ الخاصّ السابق يصلح أن يكون قرينة مانعة عن انعقاد العموم(2). ولكن يبدو من تقرير بحثه المكتوب بقلم الشيخ الفيّاض ـ حفظه الله ـ أنّه يعتقد في العامّ الوارد بعد وقت العمل بالخاصّ أنّه إذا كان وارداً على لسان مَن لا يدلّ في لسانه على ثبوته من أوّل الأمر ـ كما في الموالي العرفيّة ـ فهذا يحمل على النسخ، ويتقدّم العامّ على الخاصّ إذا كان ظهوره في العموم مستنداً إلى الوضع وظهور الخاصّ في الدوام مستنداً إلى الإطلاق ومقدّمات


(1) أجود التقريرات، ج 1، ص 510.

(2) راجع المصدر السابق، ص 509، تحت الخطّ.

449


الحكمة. نعم، إذا كان وارداً على لسان مَن يظهر منه حكايته عمّا سبق ـ كما هو الحال في الأئمّة(عليهم السلام) ـ قدّم الخاصّ على العامّ بالتخصيص(1).

أقول: أمّا ما جاء في تقرير الشيخ الفيّاض من تقديم العامّ على الخاصّ إذا كان على لسان الموالي العرفيّة ـ لكونه بالوضع وذاك بالإطلاق ـ فسواء قصد بذلك تقديم العامّ بنكتة رافعيّته لموضوع مقدّمات الحكمة ـ كما يظهر من بعض عباراته كما مضت الإشارة ـ أو قصد بذلك تقديم العامّ بنكتة الأقوائيّة فقد ظهر جوابه ممّا سبق.

وأمّا ما جاء في تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله) على أجود التقريرات والذي يظهر أنّ المقصود منه أنّ القرينة السابقة كالقرينة المتّصلة تهدم الظهور، فكأنّ القرينة المنفصلة التي لا تهدم الظهور إنّما هي القرينة التي ترد متأخّراً فلم نعرف وجهاً مقبولاً لذلك، أفهل يفترض أنّ كلّ السامعين للعامّ كانوا مطّلعين على الخاصّ، ثمّ يفترض أنّ اعتماد المتكلّم على الخاصّ الذي فرضنا اطّلاع السامعين عليه يكون عند العرف بمستوى الاعتماد على القرينة المتّصلة؟!

وعلى أيّ حال فالصحيح في تقديم الخاصّ على العامّ في هذه الصورة الرابعة هو ما مضى من الوجه الأوّل.

بقي الكلام فيما مضت الإشارة إليه من أنّ النسخ هل هو رفع أو تقييد أزمانيّ بعد وضوح استحالة الجهل أو مخالفة الحكمة على الله تعالى؟

لا يبعد أن يقال: إنّه حينما يبقى العنصران المقوّمان للحكم وهما المبادئ ـ أي: الحبّ


(1) راجع محاضرات الشيخ الفيّاض، ج 5، ص 32 فصاعداً.

450


والبغض الحقيقيّان والبعث ـ منحفظين رغم كون النسخ رفعاً فالنسخ رفع، وذلك حينما تكون المصلحة في كون العبد مُلزَماً لا في المتعلّق، ويكون البعث نحو المستقبل ذا أثر عمليّ قبل زمان النسخ، كما إذا أوجب الانبعاث عن طريق محاولة تحقيق المقدّمات. ومتى ما لم يكن الأمر كذلك فلابدّ من إرجاع النسخ إلى التقييد الأزمانيّ كي لا يلزم خلوّ الحكم عن مقوّماته.

والحمد لله وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

تعارض العامّ أو المطلق مع استصحاب موضوع المخصّص في الشبهة المفهوميّة

بقي في المقام بحث تعارض العامّ أو المطلق مع استصحاب موضوع المخصّص في الشبهة المفهوميّة بناءً على جريان الاستصحاب فيها.

وقد تعرّضنا له عن لسان اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في أوائل مبحث القطع تحت الخطّ، وإليك مفاد ما كتبناه هناك:

أفاد اُستاذنا الشهيد رضوان الله عليه: أنّه لو قلنا بجريان استصحاب موضوع المخصّص في الشبهة المفهوميّة فعندئذ: لو علمنا من الخارج أنّ صدق عنوان موضوع المخصّص لغة ملازم لانتفاء حكم العامّ، وكان المولى سنخ مولى يترقّب منه كونه بصدد بيان المعنى اللغويّ، بأن لم تكن نسبته ونسبتنا إلى المعنى اللغويّ على حدّ سواء دلّ العامّ بالملازمة على عدم صدق العنوان، فيكون حاكماً على الاستصحاب. وإن لم يكن المولى كذلك وقعت المعارضة بين العامّ والاستصحاب. وإن لم نعلم بحقيقة الأمر ـ أي: أنّ المولى هل

451


من هذا القبيل أو من ذاك القبيل ـ وإنّما كان لدينا عامّ وخاصّ متنافيان لا يمكن اجتماع حكمهما على مورد واحد، فالعامّ بعمومه يدلّ على ثبوت حكمه في مورد الشكّ المفهوميّ في عنوان الخاصّ، وصدق ذلك يستلزم خروج هذا المورد من دليل الخاصّ إمّا تخصّصاً بأن لا يكون عنوان الخاصّ صادقاً عليه في علم الله تعالى، أو تخصيصاً بأن يكون عنوان الخاصّ صادقاً عليه ومع ذلك لا يصدق عليه حكم الخاصّ، وعندئذ إن قلنا بتقدّم التخصّص على التخصيص لدى الدوران بينهما، كما لو كان الخاصّ بلسان العموم ـ بناءً على أنّ تخصّص العامّ أولى من تخصيصه ـ قدّم العامّ على الاستصحاب، وإلّا ـ كما لو كان الخاصّ بلسان الإطلاق مع عدم القول بكون التخصّص أولى من التقييد ـ وقع التعارض بين العامّ والاستصحاب.

453

مباحث الألفاظ

6

 

 

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد

 

○ الإطلاق.

○ التقييد.

 

 

 

 

 

455

 

 

 

 

 

 

 

الإطلاق

البحث الأوّل: في الإطلاق. وقد بحثوا فيه عدّة اُمور:

فأوّلاً: ذكروا تعريفاً للمطلق واشتهر في تعريفه أنّه: (ما دلّ على شائع في جنسه).

وثانياً: ذكروا تقسيم المطلق إلى الشموليّ والبدليّ والفرق بينهما.

وثالثاً: بحثوا عن أنّ الإطلاق هل هو مستفاد من الوضع أو لا؟ وبكلمة اُخرى: هل يكون اسم الجنس موضوعاً للمطلق أو للجامع بين المطلق والمقيّد؟

وعلى هذا الأساس احتاجوا إلى اعتبارات الماهيّة وتقسيماتها وبيان الجامع بين تلك الأقسام الذي هو الموضوع له اللفظ ليكتشفوا بذلك أنّ اسم الجنس هل هو موضوع للمطلق أو للجامع بين المطلق والمقيّد.

وبعد أن حقّق المتأخّرون عدم استفادة الإطلاق من الوضع احتاجوا إلى ذكر ما يستفاد منه الإطلاق وأسموه بمقدّمات الحكمة وأخذوا في تحقيقها وتعيينها بوجه فنّيّ.

456

 

الكلام في اعتبارات وتقسيمات الماهيّة لمعرفة معنى

الإطلاق وإمكان استفادته من الوضع

ولنبدأ نحن في بيان اعتبارات وتقسيمات الماهيّة ليظهر على ضوء ذلك أنّه هل الإطلاق يمكن أن يكون مستفاداً من الوضع أو لا، وما هو معنى الإطلاق الذي اختلف في استفادته من الوضع وعدمه.

فلنحذف الآن بحث تعريف المطلق مكتفين بما نقلناه عن المشهور: من أنّه (ما دلّ على شائع في جنسه) إلى أن يتعمّق فهمنا للإطلاق نتيجة لبحثنا عن اعتبارات وتقسيمات الماهيّة، كما تظهر من تحقيقنا لذلك حقيقة الأمر فيما ذكروه من انقسام المطلق إلى الشموليّ والبدليّ. هذا.

وكما نحن نبحث عن اعتبارات الماهيّة وأقسامها كذلك بحث الفلاسفة عن ذلك، لكنّنا نبحث عن ذلك بروح علم الاُصول وهم بحثوا عن ذلك بما هم فلاسفة، أي: بداعي تشخيص ما هو الكلّيّ الطبيعيّ وهل هو اللابشرط المقسميّ ـ كما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) وصاحب المنظومة ـ أو اللابشرط القسميّ ـ كما ذهب إليه صاحب شرح التجريد ـ أو الطبيعة المهملة بناءً على أنّها غير اللابشرط المقسميّ كما ذهب إليه المحقّق الإصفهانيّ، ولكنّنا نحن نبحث عن ذلك بداعي تشخيص ما هو الإطلاق الذي اختلفوا فيه هل هو مستفاد من الوضع أو لا؟

وقد نسب إلى مشهور المتقدّمين القول باستفادة الإطلاق من الوضع، ولكن ذهب سلطان العلماء ومَن بعده من المحقّقين إلى خلافه.

وأورد المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) على المتقدّمين بأنّ الإطلاق أمر ذهنيّ، فلو فرض كونه داخلاً في وضع اسم الجنس بأن تكون كلمة (رجل) مثلاً موضوعة

457

للرجل المطلق لزم عدم انطباقه حقيقة على الأفراد الخارجيّة(1).

أقول: إنّ هذا الإشكال ـ أعني: المنع ثبوتاً عن إمكانيّة الوضع للمطلق مع الاحتفاظ بانطباق اسم الجنس على أفراده ـ ناتج عن الخلط بين المعقولات الأوّليّة والثانويّة.

وتوضيح الحال في المقام: أنّ كلّ ماهيّة تتقدّر بحدودها الذاتيّة من الأجناس والفصول، فالإنسان مثلاً متقدّر بالجسميّة والحيوانيّة والناطقيّة، وهذا من المعقولات الأوّليّة، لا بمعنى ثبوت الماهيّة قبل الوجود الخارجيّ والتصوّريّ، فإنّنا لا نؤمن بأصالة الماهيّة، بل بمعنى أنّ التصوّر يضاف في نظر المتصوّر إلى الماهيّة ويرى المتصوّر بالنظر التصوّريّ أنّه عرض تصوّره على الماهيّة فيقول مثلاً: (تصوّرت الحيوان الناطق)، وهذا بخلاف المعقولات الثانويّة، فإنّها عناوين تطرأ على هذا التصوّر وتنتزع من متعقّل أوّليّ كالنوع والجنس والفصل.

وللماهيّة حدود عرضيّة تتقدّر بها أيضاً بعد تقدّرها بحدودها الذاتيّة، وبلحاظ ذلك أيضاً تجد المعقولات الأوّليّة والمعقولات الثانويّة.

ولتوضيح الحال نأخذ ماهيّة الإنسان وصفة العلم كمثال ونقول: إنّ ماهيّة الإنسان إذا تتبّعنا أنحاء وجودها في الخارج نجد أنّ هناك حصّتين ممكنتين لها من ناحية صفة العلم، وهما الإنسان الواجد للصفة خارجاً والإنسان الفاقد لها خارجاً، ولا تتصوّر لها حصّة ثالثة ينتفي فيها الوجدان والفقدان معاً؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 378 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

458

ومن هنا نعرف أنّ مفهوم الإنسان الجامع بين الواجد والفاقد ليس حصّة ثابتة في الخارج في عرض الحصّتين السابقتين، ولكن إذا تجاوزنا الخارج إلى الذهن وتتبّعنا عالم الذهن في معقولاته الأوّليّة التي ينتزعها من الخارج مباشرة نجد ثلاث حصص أو ثلاثة أنحاء من لحاظ الماهيّة كلّ واحد منها يشكّل صورة للماهيّة في الذهن تختلف عن الصورتين الاُخريين: فقد تلحظ الماهيّة بلحاظ بشرط شيء، واُخرى بلحاظ بشرط لا، وثالثة باللحاظ اللابشرطيّ، ويُرى بالنظر التصوّريّ في الفرض الثالث جميع الأفراد التي ترى باللحاظ الأوّل والثاني، وهذا هو المطلق وهو اللابشرط القسميّ، أمّا ذات الماهيّة بحدودها الذاتيّة فهي موجودة ضمن الصور الثلاث الاُولى وهي التي نعبّر عنها باللابشرط المقسميّ.

وإذا تجاوزنا وعاء المعقولات الأوّليّة للذهن إلى وعاء المعقولات الثانويّة التي ينتزعها الذهن من لحاظه وتعقّلاته الأوّليّة وجدنا أنّ الذهن ينتزع من تلك اللحاظات عناوين ذهنيّة بحت، أو قل: معقولات ثانويّة، كالصنف في قولنا: (الإنسان العالم صنف من الإنسان)، وكالكلّيّ ونحو ذلك، فإذا جعل شيء من هذه القيود قيداً للمفهوم المتصوّر استحال انطباقه على ما في الخارج.

وبعد أن اتّضح الفرق بين المعقولات الأوّليّة التي تعتبر بنظر المتصوّر مرآة للخارج والمعقولات الثانويّة التي تنتزع من المعقولات الأوّليّة كالكلّيّة والنوعيّة والصنفيّة في مثل قولنا: (الإنسان نوع) و(الإنسان العالم صنف) و(الرجل كلّيّ) نقول: هذا هو السرّ في أنّ الإنسان العالم مثلاً قابل للانطباق على ما في الخارج ومفهوم الإنسان النوع غير قابل لذلك؛ لأنّ الثاني اُخذ فيه ما هو من المعقولات الثانويّة والأوّل لم يؤخذ فيه غير ما هو من المعقولات الأوّليّة.

وكما أنّ الحدود العرضيّة من القيود الثبوتيّة والعدميّة المضيّقة للمفهوم كصفة

459

العلم أو عدم العلم تكون من المعقولات الأوّليّة، كذلك نفس التضيّق بذلك ـ أعني: واقع التضيّق لا مفهومه ـ يكون من المعقولات الأوّليّة؛ لأنّه حاصل لمفهوم الإنسان العالم بقطع النظر عن التصوّر؛ لأنّ التضييق للحصّة ذاتيّ لها والذاتيّ يثبت للحصّة بما هي حصّة.

وإذا كان الأمر كذلك فعدم هذا التضيّق وهو الملحوظ في المطلق يكون أيضاً من المعقولات الأوّليّة؛ لأنّ ما يكون ثبوته من المعقولات الأوّليّة أو الثانويّة يكون عدمه أيضاً كذلك، فإذا قدّر الإنسان بعدم هذا الضيق لم يكن ذلك من المعقولات الثانويّة، بل كان من المعقولات الأوّليّة، وهذا هو المفهوم المطلق ولنسمّه بالإطلاق الحدّيّ.

وقد ظهر بما ذكرناه بطلان ما أورده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من أنّه لو كان الإطلاق مستفاداً من الوضع لم يحصل الانطباق على ما في الخارج، فإنّ هذا الإشكال ناش من الخلط بين المعقولات الأوّليّة والثانويّة، وقد عرفت أنّ عدم التضيّق كنفس واقع التضيّق من المعقولات الأوّليّة وليس من الاُمور الذهنيّة، بل يكون مقدّماً رتبة على التصوّر الذهنيّ في نظر المتصوّر ومعروضاً له.

هذا حال ما أسميناه بالإطلاق الحدّيّ.

وأمّا نفس مفهوم الإنسان المتقدّر بخصوص الحدود الذاتيّة فهو جامع بين هذا المطلق بالإطلاق الحدّيّ والمقيّد، بمعنى أنّه موجود في ضمن كلّ من المقيّد والمطلق بالإطلاق الحدّيّ، ولنسمّه المطلق بالإطلاق الذاتيّ.

والإطلاق المتنازع في كونه مستفاداً من الوضع وعدمه هو الإطلاق الحدّيّ لا الذاتيّ؛ إذ المقصود من دعوى استفادة الإطلاق من الوضع الاستغناء عن شيء آخر غيره والذي احتاج إليه المتأخّرون وأسموه بمقدّمات الحكمة، في حين أنّ

460

كون الإطلاق الذاتيّ مستفاداً من الوضع لا يوجب الاستغناء عن مقدّمات الحكمة؛ لأنّ المطلق الذاتيّ موجود في ضمن المقيّد أيضاً فنحتاج في نفي التقييد إلى مقدّمات الحكمة.

وقد ظهر بما ذكرناه: أنّ اعتبارات الماهيّة وتقسيماتها ـ بشكل لا يمنع عن الانطباق على ما في الخارج ـ ثلاثة: فإنّ الماهيّة تارة تعتبر مقيّدة بأمر ثبوتيّ أو عدميّ فلا تنطبق على ما في الخارج إلّا في دائرة وجود القيد، واُخرى تعتبر مطلقة بالإطلاق الحدّيّ فتنطبق على كلّ الأفراد، ولو كان اسم الجنس موضوعاً لذلك لم نحتج في فهم الإطلاق إلى مقدّمات الحكمة، وثالثة تعتبر مطلقة بالإطلاق الذاتيّ، أي: ملحوظة بذاتيّاتها فحسب وبقطع النظر عن كونها مقيّدة أو مطلقة وهذه أيضاً تنطبق على كلّ الأفراد، ولو عرفنا حقّاً أنّ الحكم اُصدر عليها وبقطع النظر عن أيّ قيد من القيود سرى الحكم ـ لا محالة ـ إلى تمام الأفراد، ولكن أ نّا لنا بمعرفة ذلك في حين أنّ الماهيّة بذاتيّاتها موجودة حتّى في ضمن المقيّد، فنبقى نحتمل دخل القيد في الحكم إلّا بأن ننفي الاحتمال بمقدّمات الحكمة.

وقد تحصّل: أنّ الإطلاق الحدّيّ يعتبر بحسب عالم المفاهيم قيداً كسائر القيود، فإنّه عبارة عن تقيّد المفهوم بعدم الضيق ولكن بفرق بين القيدين، وهو: أنّ سائر القيود من الحدود العرضيّة كما توجد الضيق في المفهوم بحسب عالم المفاهيم، فالإنسان العالم مثلاً حصّة خاصّة من مفهوم الإنسان لا يوجد في ضمن حصّة مفهوميّة اُخرى، كذلك توجد الضيق فيه بحسب عالم الانطباق، فالإنسان العالم مثلاً أقلّ انطباقاً من الإنسان، وأمّا الإطلاق الحدّيّ فإنّما يوجب الضيق بحسب عالم المفاهيم، فالإنسان المقيّد بعدم الضيق حصّة خاصّة من المفهوم في مقابل الحصص المفهوميّة الاُخرى كالإنسان العالم أو الإنسان غير العالم ولا يوجد

461

الضيق بحسب عالم الانطباق، فالإنسان المطلق بالإطلاق الحدّيّ لا يكون أقلّ انطباقاً من الإنسان المطلق بالإطلاق الذاتيّ.

ويفترق الإطلاق الحدّيّ عن الإطلاق الذاتيّ في شيئين:

الأوّل: أنّ المطلق بالإطلاق الحدّيّ يستحيل طروّ التقييد عليه؛ لأنّه قسيم للمقيّد، وأمّا المطلق بالإطلاق الذاتيّ فهو المقسم بين المطلق والمقيّد ويطرأ عليه القيد.

والثاني: أنّ السعة الناشئة من الإطلاق الحدّيّ إنّما تكون من جهة واحدة وهي جهة انطباقه على المصاديق الخارجيّة، وأمّا السعة الناشئة من الإطلاق الذاتيّ فتكون من جهتين:

الاُولى: جهة انطباقه على المصاديق الخارجيّة.

والثانية: جهة وجوده في ضمن جميع الحصص المفهوميّة، فيصدق على كلّ حصّة من حصص مفاهيم الإنسان مثلاً أنّه مفهوم الإنسان المحدّد بالحدود الذاتيّة، فإنّه المقسم للمطلق القسميّ وجميع المقيّدات.

ثمّ التقابل بين الإطلاق الحدّيّ والتقييد ـ على ما ظهر ممّا مضى ـ هو تقابل التضادّ؛ إذ الإطلاق الحدّيّ عبارة عن التقييد بعدم الضيق. نعم، إنّما عبّرنا عن ذلك بتقابل التضادّ بحسب اصطلاحنا الاُصوليّ، فإنّ معنى ذلك ما يشمل مثل هذا وإن لم يكن تضادّاً بالمعنى الفلسفيّ.

وأمّا الإطلاق الذاتيّ فقد عرفت أنّ فيه جهتين من قابليّة السعة وقد ذكرناهما آنفاً، والتقابل بين الجهة الثانية منهما والتقييد ولو بالإطلاق الحدّيّ تقابل التناقض، فإنّ الإطلاق الذاتيّ يكفي في فعليّة السعة الناشئة منه عدم القيد.

والتقابل بين الجهة الاُولى منهما والتقييد أيضاً تقابل التناقض؛ لكفاية نفي القيد فيه في سعة الانطباق.