795

الفصل الخامس

 

 

مدى نفوذ حكم القاضي

 

 

  1- فرض الخطأ في المحكوم به

  2- فرض تبدّل المقاييس

  3- فرض الخطأ في المقاييس

 

 

797

فرض الخطأ في المحكوم به

لا إشكال في نفوذ حكم القاضي بشأن من حكم عليه، وبشأن الشخص الثالث ما لم يعلم بخطأ القاضي، أو لم يكن مقياس آخر للقضاء يختلف عن مقياسه، ويكفي دليلاً على النفوذ الارتكاز العقلائي والمتشرّعي الحاكم بأنّ القضاء إنّما جعل لفصل الخصومة، وشُرِّع لأجل التنفيذ، ولا تحتمل مشروعيّة القضاء من دون نفوذه.

والإشكال في نفوذ حكم القاضي إنّما ينشأ من أحد مناشئ ثلاثة:

1_ فرض الخطأ في المحكوم به.

2_ فرض تبدّل المقاييس لنفس القاضي أو لقاضٍ آخر.

3_ فرض الخطأ في المقاييس.

فالكلام يقع في فروض ثلاثة:

فرض الخطأ في المحكوم به

الفرض الأول _ فرض الخطأ في المحكوم به: ومثاله ما لو أقام المدّعي بيّنةً على مدّعاه، فحكم القاضي وفق البيّنة بينما كان المنكر أو شخص ثالث عالماً بأنّ المدّعي كاذب في دعواه، وأنّ الحقّ مع المنكر، أو حلف المنكر يميناً فاجرة، فحكم القاضي وفق يمينه؛ لأنّ المدّعي لم يكن يمتلك البيّنة هو أو شخص ثالث يعلم كذب المنكر.

798

وهنا بالنسبة للمحكوم عليه لا ينبغي الإشكال في نفوذ الحكم عليه ولو علم بالخطأ، وذلك لوجهين:

الأول _ الارتكاز القائل بأنّ القضاء إنّما شرّع لفصل الخصومة، والمحكوم عليه يدّعي غالباً العلم بأنّه على حقّ، فلو كان علمه بذلك مانعاً عن نفوذ القضاء كان هذا خلف مشروعيّته لفصل الخصومة.

والثاني _ مقبولة عمر بن حنظلة: «إذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه»(1). وليس المقصود من قوله: «حكم بحكمنا» حقّانيّة المحكوم به كي يقال: إنّ الكلام في المصداق، وأنّه إذا أخطأ في المحكوم به إذاً لم يحكم بحكمهم، وإنّما المقصود هو الحكم بما يحكم به الإمام (عليه السلام) وهو الحكم وفق مقاييس القضاء، أما كون المقياس الذي يحكم به منتجاً لما يطابق الواقع فهو لم يكن مطلوباً من رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) فضلاً عن غيره، وقد ورد عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) أنّه قال: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحنُ بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(2).

وفي خصوص ما إذا كان الحكم وفق تحليف المدّعي للمنكر يدل أيضاً على المقصود ما مضى في محلّه ممّا ورد من «أنّ اليمين تذهب بحق المدّعي»(3).

وأمّا بالنسبة للمحكوم له فمن الواضح أنّه لو علم بخطأ الحكم كان عليه ردّ الحقّ إلى أهله، وذلك:


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص99، الباب 11 من صفات القاضي، ح1.

(2) نفس المصدر، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح1.

(3) نفس المصدر، ج18، ص179 _ 180، الباب 9 و10 من كيفيّة الحكم.

799

أوّلاً _ بمقتضى القاعدة بعد البناء على كون حكم الحاكم غير مغيّر للواقع.

وثانياً _ بمقتضى ما مضى عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) من قوله: «أَيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار».

وأمّا الشخص الثالث الذي عرف خطأ الحاكم فلا يحقّ له أن يخالف الحقّ المحكوم به رغم علمه بخطئه، ولا أن يخالف الحقّ الذي يعلم به: أمّا الأول فلما مضى من الارتكاز والمقبولة الدالّين على نفوذ حكم القاضي، وأمّا الثاني فلمقتضى القاعدة بعد أن لم يكن حكمُ القاضي مغيّراً للواقع، والارتكاز والمقبولة لا يدلّان على جواز مخالفة من له الحقّ واقعاً رغم العلم به، وإنّما يدلّان على عدم جواز مخالفة حكم الحاكم، ولا تنافي بين العمل بحكم الحاكم والعمل بحقّ ذي الحقّ الحقيقي، فلو حكم الحاكم بأنّ الدار لزيد _ مثلاً _ لأنّه كان ذا اليد، وحلّفه بطلب من المدّعي فحلف، فثبت لدى الحاكم ظاهراً أنّه له، فحكم بذلك، وكان الشخص الثالث عالماً بأنّ هذه الدار لعمرو وأنّ زيداً حلف يميناً فاجرة، وأراد الشخص الثالث شراء الدار أو استيجارها، كان عليه إرضاؤهما معاً: أمّا المنكر فلأنّ له الحقّ حسب حكم الحاكم، وأمّا المدّعي فلأنّه هو ذو الحقّ واقعاً.

يبقى الكلام في فرع واحد: وهو أنّ المحكوم عليه لو علم بحرمة ما حكم به عليه، وأنّ العمل وفق حكم القاضي يوجب ارتكابه للحرام فماذا يصنع؟ ومثاله ما لو حكم القاضي بالزوجيّة وفقاً لرأي الزوج الذي أقام البيّنة على ذلك، بينما المرأة قاطعة بعدم الزوجيّة، فلو أطاعت القاضي تورّطت في الزنا، ولو خالفت كان هذا ردّاً لحكم القاضي الذي هو كالرادّ على اللّه، فما هي وظيفتها في المقام؟ سواء فرضنا الحرمة الثابتة لها حرمة واقعية، كما لو علمت وجداناً بعدم الزوجيّة، أو كانت ظاهريةً، كما لو بنت ظاهراً اجتهاداً أو تقليداً على عدم الزوجيّة لوقوع العقد باللّغة الفارسية مثلاً،

800

فعلى أيّ حال يقع التعارض بين دليل نفوذ حكم القاضي وحرمة مخالفته ودليل حرمة الفعل المحكوم به.

وهنا يقع الكلام تارةً في وجود إطلاق لدليل نفوذ حكم القاضي لمثل هذا المورد وعدمه بقطع النظر عن دعوى الانصراف، وأُخرى في أنّه لو تمّ إطلاق لدليل النفوذ في نفسه ولولا الانصراف، فهل يمكن دعوى انصراف الإطلاق عن المقام، أو لا؟ وثالثةً لو تمّ الإطلاق ولم يتمّ الانصراف فما هو علاج التعارض في المقام؟

أمّا الإطلاق فدليل مشروعيّة القضاء يدل _ بضمّه إلى الارتكاز أو المقبولة _ على نفوذ القضاء لا محالة، فالكلام يجب أن يقع في أصل دليل مشروعيّة القضاء لكي نرى هل يشمل ما نحن فيه، أو لا؟ وبالإمكان أن يناقش في إطلاق أكثر أدلّة القضاء في المقام: فالإجماع دليل لبّي لا إطلاق له، ولزوم الهرج من عدم مشروعيّة القضاء أو عدم نفوذه ليس له إطلاق للمقام؛ إذ إنّ استثناء فرض حرمة المحكوم به لا يوجب الهرج، والمقبولة وردت في الدَين والميراث، وهذا وإن كان يحمل على المثالية، ويفهم منه الإطلاق، إلا أنّ هذا الفهم يقتصر على المقدار الذي لا يحتمل عرفاً الفرق فيه بين الدَين والميراث، واحتمال الفرق في مورد حرمة المحكوم به وارد لا محالة.

وقد يقال: إنّ حديث داود بن أبي يزيد العطّار عن بعض رجاله عن أبي عبداللّه (عليه السلام) وارد في خصوص ما نحن فيه، أو يشمل إطلاقه ما نحن فيه؛ حيث ورد في رجل كانت له امرأة فجاء رجل بشهود أنّ هذه المرأة امرأة فلان، وجاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان، فاعتدل الشهود وعدّلوا، فقال: «يقرع بينهم، فمن خرج سهمه فهو المُحقّ، وهو أولى بها»(1).


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص184، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح8.

801

ولكن أصل النزاع المفترض في هذا الحديث ليس من قبيل ما نحن فيه؛ لأنّه لم يفترض النزاع بين الزوج والزوجة، وإنّما افترض النزاع بين رجلين، وأيّهما وقع الحكم عليه سوف لا يؤدّي ذلك إلى ابتلائه بالحرام. أمّا دعوى إطلاق الرواية لفرض كون المرأة نافيةً لإحدى الزوجيَّتين، لا جاهلةً بالواقع، فقد يناقش فيها بأنّ الرواية لم تكن بصدد البيان من هذه الناحية، وإنّما هي بصدد البيان من ناحية نزاع الرجلين، لا من ناحية رأي المرأة في الموضوع.

إلا أنّه لا يبعد القول بتماميّة الإطلاق المقامي للحديث؛ لأنّ فرض عدم وجود رأي لها في الموضوع فرض نادر، وتخصيص الحديث بهذا الفرض النادر بعيد، وعلى أيّة حال فالحديث ساقط سنداً.

إلا أنّه بالإمكان التمسّك بإطلاق حديث أبي خديجة قال: «قال أبو عبداللّه جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه»(1).

وقد نقل الحديث بمتن آخر أيضاً وهو ما يلي: «بعثني أبو عبداللّه (عليه السلام) إلى أصحابنا، فقال: قل لهم: إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر»(2).


(1) نفس المصدر، ص4، الباب الأول من صفات القاضي، ح5.

(2) نفس المصدر، ص100، الباب 11 من صفات القاضي، ح6.

802

وقد يناقش في شمول إطلاق المتن الثاني لما نحن فيه، بناءً على افتراض أنّ قوله (عليه السلام): «شيء من الأخذ والعطاء» إشارة إلى القضايا الماليّة، فلا يشمل مثل المقام ما دمنا نحتمل الفرق، إلا أنّ المتن التامّ سنداً إنّما هو المتن الأول وليس هذا المتن، وهذا التعبير غير وارد فيه، فإطلاقه يشمل المقام.

وأمّا دعوى الانصراف فنكتتها هي قياس ما نحن فيه بسائر الولايات من قبيل ولاية الأب، أو الفقيه، أو المالك، فإنّ كلّ هذه الولايات تنصرف إلى غير دائرة المحرّمات، فإنّها ولايات مجعولة من قبل الشريعة الإسلامية، والولاية المجعولة من قبل شريعةٍ مّا تنصرف لا محالة إلى الولاية في نفس دائرة الشريعة لا الولاية حتى تغيير الشريعة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وولاية القاضي لا تشذّ عن هذه الولايات.

إلا أنّ الظاهر أنّ نكتة الانصراف الموجودة في سائر الموارد غير موجودة في المقام، فإنّ المفهوم عرفاً ومتشرّعيّاً هو ما قلنا من أنّ جعل الولاية في دائرة الشريعة إنّما يكون ضمن تلك الدائرة لا عليها، ولكن في خصوص باب القضاء المفروض فيما نحن فيه أنّه وقع الخلاف بين المتخاصمين في أصل الحكم في الشريعة، فأحدهما يعتقد أنّ الحكم كذا، والآخر يعتقد نقيض ذلك، والمناسب للشريعة جعل حاكم يفصل الخصومة في مثل هذه الحال، فالانصراف المدّعى في سائر موارد الولايات لا يأتي هنا.

فإذا تمّ التعارض بين دليل نفوذ القضاء ودليل حرمة المحكوم به فما هو العلاج؟

لا يبعد أن يقال: إنّ دليل نفوذ القضاء حاكم على دليل حرمة المحكوم به؛ لأنّه ناظر إلى جميع الأحكام المختلف فيها بين المتخاصمين، سواء كان الخلاف فيها لأجل الخلاف في الموضوع أو كان خلافاً في أصل الحكم.

نعم، لو أمكن للمحكوم عليه التجنّب عن الحرام من دون التورّط في مخالفة

803

حكم الحاكم، كما لو استطاعت المرأة التي حكم عليها بالزوجيّة وبصحّة ما وقع من عقد الزواج إقناع الزوج بإعادة العقد الذي اختلفا في صحّته وإجرائه بالشكل الذي تعتقد هي بصحّته وجب عليها ذلك، فإنّ حكومة دليل نفوذ القضاء إنّما هي بقدر النفوذ _ أي بقدر حرمة نقض الحكم _ ولا توجب جواز التورّط فيما تعتقد حرمته بالشكل الذي كان بالإمكان التجنّب عنه بلا نقض للحكم.

فرض تبدّل المقاييس

الفرض الثاني _ فرض تبدّل المقاييس بأن يترافعا بعد حكم القاضي إلى قاضٍ آخر، أو إلى نفس القاضي الأول بعد تبدّل المقاييس بأن تفترض مثلاً أنّ المدّعي في المرّة الأُولى لم يكن يمتلك بيّنةً، فحكَمَ القاضي وفق يمين المنكر، وبعد ذلك امتلك المدّعي البيّنة، فهل من حقّه تجديد المرافعة؛ لأنّ مقياس القضاء قد تبدّل، فكان القضاء الأول باليمين بينما الآن سيكون القضاء بالبيّنة؟ أو أنّ المنكر كان قد امتنع عن اليمين، فحكم الحاكم لصالح المدّعي، والآن تبدّلت حالته النفسيّة، فهو مستعدّ للحلف، أو أنّ المنكر لم يكن يمتلك بيّنةً مسقطةً لبيّنة المدّعي بالتعارض، فصدر الحكم وفق بيّنة المدّعي، والآن امتلك البيّنة المعارضة، وما شابه ذلك من الأمثلة.

والصحيح أنّ هذه التبدّلات التي تطرأ بعد حكم القاضي لا عبرة بها، ولا يجوز نقض الحكم بذلك؛ للمقبولة وللارتكاز القائل بأنّ القضاء لفصل الخصومة وفي خصوص امتلاك المدّعي للبيّنة بعد تحليفه للمنكر، وقد عرفت ورود النص الخاص الدالّ على سقوط حقّ المدّعي.

ونستثني ممّا ذكرناه _ من عدم العبرة بتبدّل المقاييس _ موردين:

804

الأول _ ما لو أقرّ المحكوم له بعد الحكم بأنّ الحقّ كان مع خصمه، فهنا ينقض الحكم الأول، ويحكم للمقرّ له بلا إشكال؛ لأنّ الارتكاز المشار إليه غير موجود هنا ، والمقبولة لا تشمل المورد؛ لأنّ الإقرار كأنّه رفع لموضوع المرافعة، ويكون هذا سبباً في أن لا يعدّ عرفاً ردّ الحكم بعد إقرار الخصم عبارةً عن عدم القبول بحكم القاضي، والاستخفاف به الذي هو استخفاف بحكم اللّه وردّ على أهل البيت. فالمرجع إذاً في مسألة نقض حكم الحاكم بحكم آخر في المقام هو دليل حجيّة الإقرار.

الثاني _ موارد قاعدة «الغائب على حجّته»، فإضافةً إلى ما مضى في محلّه من النص الخاص على هذه القاعدة، نقول في المقام: إنّ هذه القاعدة ليست بحاجة إلى نص خاص، فإنّ الارتكاز الذي مضى غير موجود هنا، بل العقلاء هم يوافقون على هذه القاعدة، ودليل ذهاب يمين المنكر بحقّ المدّعي غير وارد في فرض الغياب، والمقبولة المانعة عن ردّ الحكم تنصرف عرفاً عن فرض إتيان الغائب بعد حضوره بحجّة أقوى من حجّة الخصم، ونكتة هذا الانصراف هي ارتكازيّة قاعدة «الغائب على حجّته». إذاً فالمرجع هو دليل حجّية الحجّة الأقوى التي جاء بها الغائب، مضافاً إلى أنّ نفس ارتكازيّة القاعدة مع عدم وجود ما يصلح للردع لعلّها كافية في ثبوت القاعدة.

بقي الكلام فيما إذا حكم القاضي وفق علمه بناءً على حجّية علم القاضي، فهل من حقّ المحكوم عليه أن يرفع النزاع إلى قاضٍ آخر ليس له القطع بكون الحقّ مع الخصم الآخر؟ وهل من حقّ القاضي الآخر أن يقضي لصالح من حكم عليه القاضي الأول بعلمه بحجّة أنّه هو لا علم له ذلك؟ والمقاييس الأُخرى تعطي الحقّ لهذا المحكوم عليه، أو لا يحقّ له ذلك؟ مقتضى ما أشرنا إليه من الارتكاز والمقبولة هو أنّه لا يحقّ له ذلك.

805

إلا أنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) ذكر(1): أنّه _ إن لم يثبت إجماع في المقام _ فبالإمكان دعوى الفرق بين علم القاضي وباقي مقاييس القضاء كالبيّنة، وذلك بأن يقال: إنّ البيّنة التي حكم بها القاضي الأول هي حجّة للقاضي الثاني أيضاً، فلا مبرّر لنقض القاضي الثاني ما حكم به القاضي الأول وفق البيّنة، ومع الشكّ في صحّة عمل القاضي الأول تجري أصالة الصحّة، وهذا بخلاف علم القاضي، فإنّ العلم إنّما يكون حجّةً للقاضي الذي حصل له ذاك العلم، وليس حجّةً لقاضٍ آخر، فبإمكان القاضي الآخر أن يحكم على خلاف حكم القاضي الأول؛ لأنّ المقياس له هو البيّنة، وليس علم القاضي الأول مقياساً له.

أقول: لو تمّ هذا الكلام لا يثبت بذلك كون حكم الثاني هو النافذ، فهذان حكمان تعارضا، وكلاهما يكونان وفق المقاييس الشرعيّة.

والواقع أنّ التفصيل بين الحكم وفق علم القاضي بعد فرض حجّيته له في القضاء، وسائر مقاييس القضاء بإمكان استئناف المرافعة واستحصال حكم جديد في الأول دون الثاني غير صحيح، وذلك لأنّه صحيح أنّ البيّنة التي حكم بها القاضي الأول حجّة حتى لدى القاضي الثاني، فلا مبرّر لمرافعة جديدة، أو لنقض الحكم مع جريان أصالة الصحّة في فعل القاضي الأول، لكن يبقى في المقام فرض استئناف عامل جديد بعد حكم القاضي الأول له دخل في مقاييس القضاء؛ كأن يحصل المنكر بعد الحكم على بيّنة معارضة لبيّنة المدّعي ومسقطة لها عن الحجّية، فهل يوجد مجال عندئذٍ في رفع النزاع مرّةً أُخرى إلى قاضٍ آخر أو نفس القاضي الأول؛ ليأتي الحكم وفق الوضع الجديد، وهو ابتلاء بيّنة المدّعي بالمعارض مثلاً، أو لا؟ فإن


(1) راجع كتاب القضاء للمحقّق العراقي (رحمه الله)، ص23 _ 24، طبعة المطبعة العلميّة في النجف.

806

قلنا بعدم جواز ذلك لأجل المقبولة، ولأجل ارتكاز أنّ مشروعية القضاء إنّما هي لفصل الخصومة، فنفس الوجهين يقتضيان _ في فرض حكم القاضي بعلمه _ أيضاً عدم جواز النقض،وإلا جاز النقض حتى فيما إذا كان ‏الحكم وفق‏البيّنة. والصحيح طبعاً هو الأول.

فرض الخطأ في المقاييس

الفرض الثالث _ فرض الخطأ في المقاييس، وهو على ثلاثة أقسام:

القسم الأول _ الخطأ في التطبيق كأن يحكم القاضي وفق البيّنة ثم يثبت بعد ذلك أنّها كانت فاسقةً:

لا ينبغي الإشكال في أنّ مجرد الشكّ في خطأ القاضي لا يوجب نقض حكمه؛ لجريان أصالة الصحّة، ولكن مع فرض علم المنكر بفسق بيّنة المدّعي هل يجب عليه الخضوع لحكم القاضي؟ ولو أثبت فسقها لدى قاضٍ آخر هل يجوز لذاك القاضي الآخر نقض حكم القاضي الأول؟ ولو ثبت فسقها لدى نفس القاضي الأول أفليس عليه أن يتراجع عن حكمه؟ لا ينبغي الإشكال في أنّ المقبولة لا تدل على حرمة نقض حكم هذا الحاكم؛ لأنّ موضوع حرمة النقض هو أن يحكم بحكمهم _ يعني حكم الأئمة (عليهم السلام) _ وهنا يعتقد المنكر أو القاضي الآخر أو نفس القاضي الأول بعد انكشاف الخلاف: أنّ ذاك الحكم لم يكن هو حكم الأئمة (عليهم السلام)؛ لأنّ حكمهم عبارة عن الحكم وفق البيّنة العادلة.

وأمّا الارتكاز فبالتقريب الذي مضى، وهو ارتكاز أنّ مشروعية القضاء إنّما هي لفصل الخصومة لا يأتي هنا؛ لأنّ العلم بفسق البيّنة يعني العلم بأنّ هذا القضاء لم يكن مشروعاً وإن كان القاضي معذوراً لاعتقاده بعدالتها.

807

ولكن بالإمكان في خصوص عدم خضوع المنكر لحكم القاضي بحجّة خطئه في التطبيق أن يقال: إنّ الارتكاز العقلائي يحكم بأنّ تشريع كبرى القضاء يقترن بتشريع وجوب الاستسلام من قبل المحكوم عليه حتى في المورد الذي يناقش المحكوم عليه في مشروعية صغرى من صغريات القضاء لفرضه للخطأ في التطبيق، وإلا لزم الهرج في باب القضاء؛ لأنّ المحكوم عليه سيدّعي في كثير من الأحيان خطأ القاضي في التطبيق، ولم يرد ردع عن هذا الارتكاز؛ إذاً فلا يجوز للمحكوم عليه عدم الاستسلام بأن يعارض المحكوم له، ولا يسلّم له الحقّ.

نعم، هذا لا يعني عدم جواز سعيه في إثبات خطأ القاضي، فهو يبقى مستسلماً للنتيجة قبل إثباته لخطأ القاضي، فإذا أثبت خطأه بحيث اقتنع نفس القاضي بالخطأ في التطبيق، فلا دليل على نفوذ هذا القضاء الخاطئ، ومقتضى القاعدة هو استئناف القضاء؛ لأنّ المقبولة والارتكاز بتقريبه السابق _ كما قلنا _ لا يأتيان هنا.

وإذا أثبت خطأه لدى قاضٍ آخر بإقامة دليل يقنع بطبعه القاضي الأول أيضاً لو عرض عليه، كما لو اعتمد القاضي الأول في عدالة البيّنة على حسن الظاهر بينما هذا أقام الشهود على فسقها، أو اعتمد القاضي الأول على تزكية البيّنة ببيّنة شهدت بعدالتها بينما هذا أثبت أنّ هذه البيّنة المزكِّية معارَضة ببيّنة جارحة، فالقاضي الثاني ينقض حكم القاضي الأول، فإنّ حاله حال القاضي الأول الذي لو كان لكان ينقض حكم نفسه.

أمّا إذا أثبت خطأه لدى قاضٍ آخر بإقناعٍ شخصي له بحيث قد لا يقتنع القاضي الأول بذلك، أو كان الخلاف بين القاضيين في مقاييس العدالة مثلاً، فهذا يُلحَق حُكماً بما سيأتي من القسم الثالث إن شاء اللّه.

القسم الثاني _ الخطأ الضروري في الكبرى، كما لو اعتقد القاضي خطأً أنّ البيّنة

808

على من أنكر واليمين على المدّعي فحكم على هذا الأساس، ولا إشكال في عدم نفوذ هذا القضاء، ولا مورد لما مضى من دعوى الارتكاز، ولا تُطبَّق المقبولة على المقام كما هو واضح.

القسم الثالث _ الاختلاف في الاجتهاد، كما لو كان من رأي القاضي أنّ نكول المنكر بلا إرجاعه لليمين على المدّعي يوجب الحكم ضدّ المنكر، بينما القاضي الثاني كان يرى أنّ هذا لا يوجب الحكم ضدّ المنكر، بل القاضي هو الذي يُرجع اليمين عندئذٍ على المدّعي، أو المنكر كان يرى اجتهاداً أو تقليداً ذلك، وهنا لا مجال للتمسّك بالمقبولة؛ لأنّ كون ما حكم به القاضي الأول من حكمهم (عليهم السلام) أول الكلام، ولا بالارتكاز بتقريبه السابق من ارتكاز أنّ مشروعية القضاء إنّما هي لفصل الخصومة، ولكن لا يبعد القول بأنّ الارتكاز العقلائي يقتضي في المقام النفوذ وعدم جواز النقض ما دام القاضي الأول كان واجداً لشرائط منصب القضاء في الشريعة، واجتهاده كان يعتبر اجتهاداً مقبولاً ومشروعاً في الإطار العامّ للشريعة، ولم يكن من قبيل الفرض الماضي في القسم الثاني من اعتقاد القاضي أنّ اليمين على المدّعي والبيّنة على من أنكر، ولم يردع عن هذا الارتكاز. فالنتيجة هي نفوذ القضاء في المقام، وعدم صحّة الاستئناف، وعدم جواز نقض حكم الحاكم فيه، والاستئناف ينحصر مورده بالقسم الأول والثاني.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

قد وقع الفراغ من كتابة هذا البحث في يوم الاثنين المصادف للخامس والعشرين من شهر شعبان المعظّم من السنة 1406 الهجريّة القمريّة في قم المقدّسة.

أسأل اللّه تعالى أن يجعله خالصاً مخلصاً لوجهه الكريم، ويجعله ذخراً ليوم فاقتي، ويثيبني عليه بفضله وكرمه، إنّه سميع مجيب.

809

وصلّى اللّه على سيّدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

والحمد للّه أوّلاً وآخراً.