731

طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

4

 

 

الإقرار

 

 

  1- دليل نفوذ الإقرار

  2- دائرة نفوذ الإقرار

  3- الإقرار في الفقه الوضعي

 

 

733

الطريق الرابع _ الإقرار.

لا إشكال في أنّ الإقرار من أي واحد من الطرفين يُنهي النزاع تكويناً، إنّما الكلام في حجّيته ونفوذه وذلك على مستويين:

المستوى الأول _ نفوذه ما دام مُقِرّاً؛ أي: إنّه لو أراد أن يعمل رغم إقراره على خلاف ما هو مقرٌّ به يُرغم من قبل الحاكم على العمل بالإقرار.

والمستوى الثاني _ نفوذه حتى بعد الإنكار؛ أي أنّ القاضي يقضي وفق إقراره وينهي النزاع، فلا يتجدّد نزاع آخر لو أنكر بعد حكم القاضي، وكذلك لا يؤثّر إنكاره لو أنكر قبل حكم القاضي، فعلى كلّ تقدير يكون إقراره السابق نافذ المفعول.

والصحيح الذي لا إشكال فيه فقهياً هو نفوذ الإقرار في باب القضاء ليس على المستوى الأول فحسب، بل على المستوى الثاني.

وقبل أن نبحث الدليل على ذلك نشير إلى أنّه لو تمّ دليل على ذلك فهذا الدليل لا يعارض إطلاق حديث «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(1) لا بالأخصيّة ولا بالعموم من وجه: أمّا لو كان نفوذ الإقرار بالمستوى الأول فحسب فواضح؛ إذ لا يوجد فيه قضاء ولا نزاع، فلا موضوع لمسألة حصر القضاء بين المتنازعين


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح1.

734

بالبيّنات والأيمان، وأمّا نفوذه على المستوى الثاني فقد يفترض تنافيه مع اطلاق حصر القضاء بالبيّنة واليمين.

ولكن الظاهر أنّ هذا الإطلاق منصرف عن كونه في مقابل الإقرار؛ لأنّ ارتكاز نفوذ الإقرار عقلائياً يمنع عن تكوّن إطلاق من هذا القبيل، ولا أُريد الآن أن ادّعي حجّية هذا الارتكاز لإثبات نفوذ الإقرار، وإنّما أقول: إنّ هذا الارتكاز حتى لو لم يكن حجّةً يمنع عن تكوّن الإطلاق، فإنّ المداليل اللّفظية اللّغوية للكلمات ليست هي المقياس الوحيد في اقتناص الظهور والإطلاق، بل للمناسبات والارتكازات أثر ملحوظ في ذلك.

دليل نفوذ الإقرار

أمّا الدليل على نفوذ الإقرار فقد يستدلّ على ذلك بالكتاب، وأُخرى بالسنّة، وثالثةً بالإجماع، ورابعةً بالارتكاز:

أمّا الكتاب، فبآيات من قبيل قوله تعالى:

﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّٰهُ مِيثٰاقَ النَّبِيِّينَ لَمٰا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتٰابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قٰالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي قٰالُوا أَقْرَرْنٰا قٰالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّٰاهِدِينَ﴾(1) ومن الواضح أنّ الإقرار هنا بمعنى التعهّد وإعطاء الميثاق، لا بالمعنى المقصود في المقام، ولا علاقة لمورد الآية بما نحن فيه أبداً، كما أنّ المقصود بالشهادة في ذيل الآية _ على ما يبدو _ هي الشهادة عن الأُمّة التي كان النبي (صلى الله عليه و آله) _ في إعطائه للميثاق _ ممثلاً لها لا الشهادة على أنفسهم، ولو كان المقصود هي الشهادة على أنفسهم قلنا: لم تجعل هذه الشهادة موضوعاً للحكم الشرعي بالنفوذ.


(1) آل عمران: 81.

735

وقوله تعالى:﴿وَآخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صٰالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَـى اللّٰهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(1).

وهذه الآية أيضاً _ كما ترى _ أجنبيّة عن المقام، وإنّما هي بصدد بيان أنّ الاعتراف بالذنب يوجب التخفيف.

وقوله تعالى:﴿وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِـي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قٰالُوا بَلىٰ شَهِدْنٰا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيٰامَةِ إِنّٰا كُنّٰا عَنْ هٰذٰا غٰافِلِينَ﴾(2). وهذه أيضاً أجنبيّة عن المقام، فصدرها ينظر إلى التعهُّد والميثاق لا الاعتراف، وذيلها ينظر إلى أنّ الاعتذار بالغفلة باطل؛ لأنّ الغفلة انتفت بأخذ الميثاق بمعنى جعل فكرة التوحيد أمراً معجوناً بالفطرة والطينة مثلاً، ولا علاقة لذلك بنفوذ الإقرار.

وقوله تعالى:﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰـهِ وَلَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾(3).

وهذه الآية أقرب الآيات إلى المقصود، ولكنّها أيضاً أجنبيّة عنه، فإنّها لا تدل على أكثر من تحبيذ الإقرار بالحقّ والالتزام به المؤثّر في رفع النزاع تكويناً، ولا علاقة له بنفوذ الإقرار على شيء من المستوَيَيْن.

وأمّا السنّة، فهناك عدّة روايات يمكن أنّ يستفاد منها نفوذ الإقرار من قبيل:

1_ ما جاء في البحار نقلاً عن كنز الكراجكي من النبوي المرسل عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله):


(1) التوبة: 102.

(2) الأعراف: 172.

(3) النساء: 135.

736

«قل الحقّ ولو على نفسك»(1).

وهذا _ كما ترى _ بغضّ النظر عن إرساله يلائم فرض النظر إلى وجوب الصدق والالتزام بالحقّ ولو على نفسه، ورفع النزاع تكويناً من دون نظر إلى الحجّية الشرعية.

2_ ما عن جراح المدائني عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنّه قال: «لا أقبل شهادة الفاسق إلا على نفسه»(2)، والقبول يعني الحجّية، وبقرينة ارتكاز حجّية الإقرار بكلا المستويين السابقين نفهم منه الحجّية حتى بالمستوى الثاني؛ بحيث لو لم نقل بحجّية الارتكاز ببركة دلالة عدم الردع على الإمضاء _ مثلاً _ فهذا الحديث يدل على المستوى الثاني من الحجّية بالإطلاق الذي إن لم يتمّ بمقدّمات الحكمة فإنّه يتمّ ببركة الارتكاز، إلا أنّ سند الحديث غير تام.

3_ مرسلة محمد بن الحسن العطّار عن بعض أصحابه عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمناً عليه»(3).

وهذا الحديث إضافةً إلى سقوطة سنداً غير تام دلالةً، ولا يبعد أن يكون مفاده أنّ المؤمن لو اتّهمه سبعون مؤمناً بشيء وأنكر كان مقتضى حمله على الصحّة قبول إنكاره، وهي قضيّة أخلاقيّة لا علاقة لها بباب القضاء.

4 و5_ المرسلتان المرويتان عن عوالي اللآلي عن مجموعة أبي العباس بن فهد في الأخبار عن النبي (صلى الله عليه و آله) أنّه قال: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»، وقال: «لا إنكار بعد إقرار»(4) ودلالة المرسلة الثانية على المستوى الثاني من الحجّية في غاية الوضوح، أمّا


(1) بحار الأنوار، ج77، ص171، وهو الروضة من البحار باب ما جمع من مفردات كلمات الرسول (صلى الله عليه و آله).

(2) وسائل الشيعة، ج16، ص112، الباب 6 من الإقرار، الحديث الوحيد في الباب.

(3) نفس المصدر، ص111، الباب 3 من الإقرار، ح1.

(4) مستدرك الوسائل، ج3، ص48، الباب 2 من الإقرار، ح1 و2.

737

المرسلة الأُولى فتكمّل دلالتها عليه إمّا بإطلاقها بمقدّمات الحكمة لفرض تعقيب الإقرار بالإنكار، أو بضمّ الارتكاز المكمّل للإطلاق. وعلى أيّ حال فهما ساقطتان سنداً.

6_ روايات نفوذ شهادة بعض الورثة في مال المورّث عليه بقدر حصّته(1). وفيها ما هو تام سنداً، وتتمّ دلالتها على المستوى الثاني من حجّية الإقرار _ وهو حجّيته حتى بعد الإنكار _ ولو بمعونة الارتكاز.

7_ ما عن منصور بن حازم _ بسند تام _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن رجل أوصى لبعض ورثته: أنّ له عليه ديناً؟ فقال: إن كان الميّت مرضيّاً فأعطه الذي أوصى له»(2).

وقد يحتمل كون الحديث ناظراً إلى حجّية خبر الواحد في الموضوعات لا إلى حجّية الإقرار، وذلك لتقييد نفوذ إقراره بكونه مرضيّاً، فكأنّ إقراره لولا كونه مرضيّاً لا ينفذ ولو بنكتة فرضه في مرض الموت، أو بنكتة أنّه لم ينفّذ هو ما أقرّ به إلى أن مات فأصبح بعد الموت إقراره على باقي الورثة، ولكن ينفذ إقراره إذا كان مرضيّاً من باب حجّية خبر الثقة.

ويحتمل أيضاً ألّا يكون نفوذ شهادته من باب حجّية خبر الثقة محضاً بأن يكون خبر الثقة حجّةً في كلّ الموضوعات، بل يكون نفوذ شهادته من باب كونها إقراراً على نفسه، فليس إقراره هو النافذ مطلقاً؛ لأنّه في مرض الموت، أو لأنّه إقرار على الورثة، وليس خبر الثقة هو النافذ مطلقاً لأنّه في الموضوعات، ولكن باجتماع الوثاقة مع كون شهادته إقراراً على نفسه صارت الشهادة نافذةً، وبناءً على هذا الاحتمال


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص401، الباب 26 من كتاب الوصايا.

(2) نفس المصدر، ج16، ص110، الباب الأول من الإقرار، الحديث الوحيد في الباب، وج13، ص376، الباب 16 من الوصايا، ح1.

738

الثاني تكون الرواية دالّةً على حجّية الإقرار؛ لأنّ شرط كون الميّت مرضيّاً _ بعد فرض عدم حجّية خبر المرضي في مطلق الموضوعات _ انصرف بالارتكاز إلى كونه بنكتة كون الشهادة في مرض الموت، أو إقراراً على الورثة.

فإذا استبعدنا الاحتمال الأول وهو حجّية خبر الثقة في الموضوعات بقرينة الروايات الواردة في الموارد المتفرقة التي ينتزع منها عدم حجّية خبر الثقة في الموضوعات تعيّن الأمر في هذا الحديث في الاحتمال الثاني، وبهذا تتمّ دلالته على حجّية الإقرار، إلا أنّه لا يمكن هنا تتميم إطلاقه للمستوى الثاني من حجّية الإقرار؛ أي نفوذه بعد الإنكار ولو بمعونة الارتكاز؛ إذ من الواضح من فرض الرواية أنّه مات بلا إنكار.

8_ ما عن عبداللّه بن المغيرة عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبداللّه (عليه السلام): في رجلين كان معهما درهمان، فقال أحدهما: الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك، فقال: «أمّا الذي قال هما بيني بينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له وأنه لصاحبه، ويقسّم الآخر بينهما»(1)، وقد مضى الكلام في سند هذا الحديث ضمن بحثنا عن قاعدة العدل والإنصاف. أمّا دلالته فالظاهر أنّها غير تامّة؛ لأنّها تنسجم مع افتراض قصر نظره إلى مجرّد أنّ الإقرار يعني عدم النزاع، فالنزاع إنّما هو على درهم واحد. فالذي يقسَّم بينهما إنّما هو أحد الدرهمين، وهذه النتيجة _ كما ترى _ ليست بحاجة إلى افتراض الحجّية الشرعيّة للإقرار.

9_ ما عن السكوني _ بسند ضعيف بالنوفلي _ عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليه السلام) في رجل أقرّ عند موته لفلان وفلان: لأحدهما عندي ألف درهم، ثم مات على تلك


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص169، الباب 9 من الصلح، الحديث الوحيد في الباب.

739

الحال فقال علي (عليه السلام): «أيُّهما أقام البيّنة فله المال، وإن لم يقم واحد منهما البيّنة فالمال بينهما نصفان»(1)؛ بناءً على التعدّي إلى باب المرافعة، ولكنّه لا يثبت نفوذ الإقرار بعد تعقيبه بالإنكار.

10_ روايات حجّية الإقرار الواردة في باب الحدود بناءً على التعدّي العرفي منها إلى باب القضاء في الموارد التي ليست بأشدّ من تلك الحدود. وفي هذه الروايات ما لا يدل على أكثر من المستوى الأول للحجّية، أي: حجّية الإقرار قبل الإنكار، من قبيل ما عن محمد بن قيس _ بسند تام _ عن أبي جعفر (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل أقرّ على نفسه بحدّ ولم يسمِّ أيَّ حدّ هو، قال: «أمر أن يُجلد حتى يكون هو الذي ينهى عن نفسه في الحدّ»(2)، ولكن فيها عدّة روايات ممّا يدل على المستوى الثاني من الحجّية؛ أعني حجّيته حتى بعد الإنكار، من قبيل ما عن الحلبي _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رجل أقرّ على نفسه بحدّ، ثم جحد بعد، قال: «إذا أقرّ على نفسه عند الإمام أنّه سرق، ثم جحد قطعت يده وإن رغم أنفه، وإن أقرّ على نفسه أنّه شرب خمراً أو بفرية فاجلدوه ثمانين جلدةً. قلت: فإن أقرّ على نفسه بحدّ يجب فيه الرجم أكنت راجمه؟ قال: لا، ولكن كنت ضاربه الحدّ»(3) وعنه _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا أقرّ الرجل على نفسه بحدّ أو فرية ثم جَحَد جُلِد. قلت: أرأيت إن أقرّ على نفسه بحدّ يبلغ فيه الرجم أكنت ترجمه؟ قال: لا، ولكن كنت ضاربه»(4)، وعن محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام)


(1) نفس المصدر، ج13، ص400، الباب 25 من الوصايا، الحديث الوحيد في الباب.

(2) نفس المصدر، ج18، ص318، الباب 11 من مقدّمات الحدود، الحديث الوحيد في الباب.

(3) نفس المصدر، ص319، الباب 12 من مقدّمات الحدود، ح1.

(4) نفس المصدر، ص319، ح2.

740

قال: «من أقرّ على نفسه بحدّ أقمته عليه إلا الرجم، فإنّه إذا أقرّ على نفسه ثم جحد لم يرجم»(1).

والاستدلال على نفوذ الإقرار في باب القضاء بروايات نفوذه في باب الحدود بدعوى التعدّي العرفي، فيه بعض الثغرات:

فأوّلاً: أنّ الحدّ إذا وصل إلى مستوى الرجم يسقط بالإنكار بعد الإقرار، فدليلنا على نفوذ الإقرار في القضاء لو كان هو التعدّي من باب الحدود لم يثبت بذلك جواز القتل بالقِصاص في باب المرافعة عندما يعقب إقراره بالإنكار.

نعم، لا يصلح هذا مقيِّداً لإطلاقات نفوذ الإقرار في باب القضاء لو تمّت في نفسها؛ أي: إنّه مع فرض تماميّة الإطلاق في بعض الأدلّة الماضية لنفوذ الإقرار في باب القضاء حتى بعد الإنكار _ ولو في القتل _ يكفينا ذلك في الإفتاء بنفوذ الإقرار بالقتل ولو أنكر بعد ذلك، وليس دليل سقوط الرجم بالإنكار مقيِّداً لهذا الإطلاق؛ لأنّ احتمال الفرق بين الرجم في باب الحدود والقصاص في باب القضاء وارد.

وأمّا ما ورد عن جميل بن درّاج عن بعض أصحابه عن أحدهما (عليهماالسلام) أنّه قال: «إذا أقرّ الرجل على نفسه بالقتل قتل إذا لم يكن عليه شهود، فإن رجع وقال: لم أفعل، ترك ولم يقتل»(2)، فهو ساقط بالإرسال.

وثانياً: أنّ الحدّ في بعض الموارد لا يثبت بالإقرار مرّةً واحدةً كما في الزنا؛ حيث يشترط فيه الإقرار أربع مرّات، وكما في اللواط؛ حيث يشترط فيه الإقرار أربع مرّات مطلقاً أو لدى كون حدّه هو القتل، وكما في السرقة على رأي المشهور من اشتراط


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص 319، الباب 12 من مقدّمات الحدود، ح3.

(2) نفس المصدر، ص320، ح4.

741

الإقرار مرّتين، فماذا نقول في باب القضاء؟

هل نقول بكفاية الإقرار مرّةً واحدةً، أو باشتراط التعدّد مرّتين، أو أربع مرّات، أو نقول: إنّ التعدّي إلى باب القضاء بالحكم بكفاية إقرار واحد إنّما يختصّ بما يكون أخفّ من الجلد في الزنا مثلاً، فالقصاص بالضرب بقدر حدّ الزنا أو بقطع عضو مّا _ مثلاً _ لا يثبت بالإقرار بسبب التعدّي من أدلّة الإقرار في الحدود، بل لو قلنا بعدم كفاية الإقرار الواحد في السرقة فرواياته(1) تشمل مورد الموافقة، فلو تمّ إطلاق في باب القضاء يدل على كفاية إقرار واحد، قيّد في باب السرقة بتلك الروايات؟

وقد يقال في مقام علاج الثغرة الثانية في الجملة: إنّ روايات(2) عدم كفاية الإقرار الواحد في السرقة بعضها ضعيف سنداً، وبعضها ضعيف دلالةً، ونرجع إلى ما دلّ على كفاية الإقرار الواحد في السرقة(3)، ونتعدّى منه إلى باب القضاء حتى في ما يبلغ في الشدّة إلى مستوى القطع.

نعم، هذا لا يعالج ما يبلغ مستوى القتل مثلاً.

وقد يقال في مقام علاج الثغرة الأُولى: إنّنا إذا أثبتنا نفوذ الإقرار قبل الإنكار ولم يتمّ الإطلاق لما بعد الإنكار أمكننا أن نتمسّك بعد الإنكار باستصحاب نفوذ الإقرار على كلام في بعض الموارد يأتي إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا الإجماع فلا إشكال إجمالاً في الإجماع على نفوذ الإقرار في باب القضاء، إلا أنّه قد يقال: إنّ هذا الإجماع لا عبرة به بعد وجود مدارك عديدة للقول بنفوذ الإقرار، فتكون العبرة بتلك المدارك صحّةً وسقماً، لا بالإجماع.


(1) راجع نفس المصدر، ج18، الباب 3 من حدّ السرقة.

(2) نفس المصدر.

(3) نفس المصدر.

742

إلا أنّه _ بناءً على ما هو الصحيح من كون حجّية الإجماع على أساس الحدس وحساب الاحتمالات _ قد يقال حينما يكون الإجماع في غاية الوضوح والسعة والانتشار في جميع الطبقات من العلماء في طول التاريخ: إنّنا نستبعد خطأهم جميعاً رغم فرض استنادهم إلى المدارك، فإمّا أنّ إجماعهم نشأ من أخذ الحكم يداً عن يد من زمن المعصوم (عليه السلام)، أو أنّهم اعتمدوا على بعض هذه المدارك ممّا يدل بنفسه على صحّة ذاك المدرك، وأنّ الإشكال الموجود لدينا فيه سنداً أو دلالةً كان من الواضح قديماً خلافها. هذا إذا لم نكتشف استمرار الإجماع إلى زمن أصحاب الأئمّة (عليهم السلام)، وإلا فقد ثبت ما هو أقوى من الإجماع، وهو ارتكاز المتشرّعة.

وأمّا الارتكاز _ فيمكن أن يطبّق هنا على الارتكاز العقلائي، ولا شكّ أنّ المرتكز عقلائيّاً هو نفوذ الإقرار، ولا يبعد الجزم بكون ذلك ناشئاً من طبع عقلائي قائم على أساس قوّة كشف الإقرار نوعاً من ناحية، وتطابق درجة الاهتمام بالحفاظ على الأغراض والحقوق العقلائيّة لفرض الاعتماد على هذا الكشف من ناحية أُخرى ممّا يثبت أنّ هذا الارتكاز ليس قائماً على أساس نكتة حديثة، بل النكتة في ذلك عميقة بعمق التاريخ، وبهذا يثبت رسوخ الارتكاز في زمن المعصومين (عليهم السلام)، فعدم الردع من قبلهم بشكل واضح يصلنا دليل على الإمضاء.

كما يمكن أن يقال: إنّه لو لم نجزم بكون مفاد هذا الارتكاز العقلائي واضحاً لدى العقلاء في ذاك الزمان فلا أقلّ من الجزم إمّا بأنّه كان واضحاً، أو كان مقبولاً، أو محتملاً، فعلى أيّ تقدير لا نحتمل مخالفة ذلك من قبل المتشرِّعين من دون سؤال عن المعصوم وحصول الجواب منه بنفي نفوذ الإقرار، ولو كان شيء من هذا القبيل لكان يصلنا حتماً، فنحن نثبت بهذا البيان أنّ عمل المتشرّعة وارتكازهم كان وفق نفوذ الإقرار آخذين ذلك من العقلاء مع سكوت الشارع، أو من الشريعة.

743

هذه هي الأدلّة التي يمكن الاستدلال بها على حجّية الإقرار في باب القضاء.

دائرة نفوذ الإقرار

وبعد ذلك يجب أن نرى أنّ المستنتج من مجموع هذه الأدلّة أو الصحيح منها هل هو نفوذ الإقرار في القضاء على الإطلاق؟ أو هناك بعض موارد باقية تحت الشكّ في النفوذ؟

فنقول: قد ظهر من مجموع ما مضى أنّ حديثاً مشتملاً على الإطلاق الواضح سنخَ «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» غير ثابت سنداً، وإنّما هناك بعض الروايات الواردة في موارد خاصّة دالّة على نفوذ الإقرار، من قبيل ما دلّ على نفوذ إقرار بعض الورثة في حصّته حينما يشهد بدين في مال المورِّث، ويتعدّى منه إلى سائر الموارد: إمّا باليقين بعدم الفرق، أو بانعقاد دلالة لفظيّة ببركة ارتكاز عدم الفرق، ومن هنا قد يحصل التشكيك في بعض الموارد بدعوى احتمال الفرق، وذلك كما في الموارد التي ينتهي نفوذ الإقرار فيها إلى القتل، أو قطع العضو، أو نحو ذلك ممّا قد يحتمل الفرق بينه وبين مثل قضية مالية بحتة واردة في روايات إقرار الوارث مثلاً، وأمّا الإجماع والارتكاز فهما دليلان لُبّيّان، فقد يُشكَّك في شمولهما لمورد مّا، خاصّةً مع ورود ما دلّ على عدم نفوذ الإقرار مرّةً واحدةً في السرقة ولو لم يتمّ سنداً.

والواقع أنّه لا ينبغي الإشكال في استقرار الارتكاز العقلائي على نفوذ الإقرار مطلقاً، وكذلك ارتكاز المتشرّعة في زمان المعصوم الذي هو مستند إمّا إلى الارتكاز العقلائي، أو إلى نفس الشريعة، ولا محلّ للتشكيك في ذلك إلا بقدر ما ورد في بعض الروايات من الردع عن ذلك، ولم يرد ردع عن نفوذ الإقرار إلا في موارد معدودة:

المورد الأول: بعض الحدود التي لا يكفي فيها الإقرار إلا أربع مرّات، فهذا ردع عن

744

نفوذ الإقرار فيما كان أقلّ من أربع مرّات، وهذا الردع نأخذ به بلا إشكال، وقد أخذ به الأصحاب والفقهاء _ رضوان الله عليهم _ ولا يضرّ ذلك بما هو المتبنّى عادةً من نفوذ الإقرار في باب القضاء، فإنّ هذا خارج أصلاً عن باب القضاء، واحتمال الفرق بين تلك الحدود وبين ثبوت القتل في باب النزاع وارد.

المورد الثاني: سقوط حكم القتل عند رجوعه عمّا أقرّ به في بعض الحدود، بل في مورد القِصاص أيضاً على ما عرفت من ورود رواية ضعيفة بذلك وهي مرسلة جميل.

وهذا أيضاً لا يضرّنا في المقام؛ لأنّه بعد أن كانت الرواية الواردة في القصاص ضعيفة سنداً، والروايات الواردة في الحدود احتمال الفرق بين موردها ومورد القضاء موجود، فغاية ما يفترض في المقام هو الشكّ في نفوذ الإقرار بعد الإنكار، وعلاج ذلك هو استصحاب نفوذه الثابت قبل الإنكار.

نعم، لو لم يثبت إقراره لدى القاضي إلا بعد إنكاره _ أي: إنّه بعد الإنكار ثبت لدى القاضي أنّه كان قد أقرّ قبل ذلك بالقتل _ فهنا يكون استصحاب نفوذ الإقرار من سنخ الاستصحاب التعليقي بأن يقال: إنّ هذا الإقرار لو كان قد ثبت لدى القاضي قبل إنكاره لنفذ، والآن كما كان، فيتوقف البحث في المقام على المبنى المختار في باب الاستصحاب التعليقي، أمّا إذا كان الإقرار ثابتاً لدى القاضي قبل الإنكار ثم أنكر بعد ذلك فلا إشكال في استصحاب نفوذ الإقرار.

المورد الثالث: موضوع السرقة حيث ورد فيه ما دلّ على عدم كفاية الإقرار الواحد، وأفتى المشهور بذلك إلا أنّ هذا لو قلنا به فإنّما هو في جانب قطع اليد الذي هو حدّ من الحدود، أمّا جانب الضمان فلم يرد بشأنه شيء من هذا القبيل، فيبقى داخلاً تحت الارتكاز، أمّا إذا رفضنا روايات عدم كفاية الإقرار الواحد بضعف السند، وتمسّكنا بالروايات الدالّة على كفايته في السرقة فقد ثبت الحدّ أيضاً لا بالارتكاز؛ كي

745

يقال: إنّ روايات عدم كفاية الإقرار مرّةً واحدةً توجب رغم ضعف سندها احتمال الردع، بل بالروايات الدالّة على كفاية الإقرار مرّةً واحدةً.

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه نفوذ الإقرار في باب القضاء مطلقاً.

بقي الكلام في الإقرار الذي وقع أمام غير القاضي ثم بلغ القاضي بالبيّنة مثلاً، فهل هذا نافذ، أو يشترط في نفوذ الإقرار كونه أمام القاضي؟

الظاهر أنّ الارتكاز يشمل كلّ إقرار ثبت لدى القاضي، سواء وقع بمسمع منه أو لا، وكذلك بعض إطلاقات أدلّة الإقرار من قبيل ما دلّ على نفوذ إقرار الوارث في حصّته، فإنّه لم يقيّد بخصوص الإقرار الذي كان بمحضر القاضي أو بمسمع منه.

وهذا الكلام منّا إنّما هو في باب القضاء، أمّا في باب الحدود فبالإمكان أن يقال في الحدّ الذي يكون بحاجة إلى شهود أربعة: إنّ الإقرار به لا يثبت بالبيّنة، أي بشاهدين؛ إذ لو كان نفس الزنا _ مثلاً _ لا يثبت بشاهدين فكيف يحتمل ثبوته بإقرارات أربعة لم تثبت إلا بشاهدين؟! أمّا ثبوت الإقرار بشهود أربعة فبحاجة إلى دليل خاصّ لم يرد.

فإن قلت: إنّ الدليل على نفوذ شهادة الشهود الأربعة في إثبات الإقرار هو مطلقات دليل البيّنة، فمقتضى إطلاقها الأوّلي نفوذ شهادة عدلين لإثبات الإقرار، وبما أنّه ثبت عدم نفوذ ذلك بالبيان الماضي فنحن نقيّد هذا الإطلاق بإضافة شهادة عدلين آخرين إليها، أمّا إلغاء الشهادة نهائيّاً فهذا تقييد أكثر، وهو بحاجة إلى دليل مفقود.

قلت: لو فرض هذا النوع من التقييد عرفيّاً فإنّما يتمّ لو كان لدينا دليل لفظي على حجّية البيّنة يتمتّع بالإطلاق اللفظي في ذاته، والواقع أنّ دليل حجّية البيّنة إنّما تمّ إطلاقه ببركة الارتكاز، ولا ارتكاز على نفوذ شهادة الأربعة بعد فرض عدم نفوذ شهادة الاثنين.

746

وقد يدل في باب الزنا على ما قلناه من اشتراط كون الإقرار لدى القاضي ما ورد _ بسند تام _ عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل قال لامرأته: يا زانية أنا زنيت بك، قال: «عليه حدّ واحد لقذفه إيّاها، وأمّا قوله: أنا زنيت بك فلا حدَّ فيه إلا أن يشهد على نفسه أربع شهادات بالزنا عند الإمام»(1). وتمام الكلام في باب الحدود موكول إلى محلّه.

الإقرار في الفقه الوضعي

وفي ختام البحث عن الإقرار لا بأس بالتعرّض لبعض ما يقال في الفقه الوضعي عن ذلك، فنقول:

قد قُسّم الإقرار في الفقه الوضعي إلى ثلاثة أقسام(2):

1_ الإقرار البسيط.

2_ الإقرار الموصوف.

3_ الإقرار المركّب.

والمقصود بالإقرار البسيط هو الإقرار غير المقترن بدعوى أمر لا يعترف به المدّعي؛ كما لو ادّعي المدّعي: أنّه أقرض زيداً مائة دينار، وزيد اعترف بذلك من دون أن يضيف إلى إقراره دعوى الأداء مثلاً، أو دعوى كون الدين مؤجّلاً بأجل لم يحلّ بعد، أو نحو ذلك ممّا لا يعترف به المدّعي، وهذا الإقرار نافذ عندهم بلا إشكال.

وأمّا الإقرار الموصوف فالمقصود به عندهم هو الإقرار بما يدّعيه المدّعي مع إضافة


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص447، الباب 13 من حدّ القذف، ح1.

(2) راجع الوسيط، ج2، ص504 _ 513، الفقرة260 _ 262. ورسالة الإثبات، ج2، ص40 _ 46، الفقرة 507 _ 511.

747

وصف أو تعديل للواقعة المدّعاة على خلاف الوصف الذي يدّعيه المدّعي، كما لو ادّعى المدّعي ديناً حالّاً وأقرّ الخصم بالدين، ولكن مع توصيفه بكونه مؤجَّلاً إلى ما بعد سنتين، أو ادّعى المدّعي ديناً مع الفائدة، وأقرّ الخصم بالدين بلا فائدة، أو ادّعى المدّعي بتعهُّد الخصم بأمرٍ مّا فقال الخصم: نعم، ولكنّه كان مشروطاً بالشرط الذي لم يتحقق، وما شابه ذلك.

وهنا أيضاً لا إشكال لديهم في نفوذ الإقرار في الجملة، إلا أنّ الكلام يقع في أنّ الإقرار هل يُجزَّأ هنا، أو لا؟ ومقصودهم بتجزئة الإقرار أن يأخذ المدّعي المنكر بإقراره بأصل الدين أو التعهّد، وينكر عليه الوصف أو الشرط، ويجعل على عاتق المنكر إثبات الوصف أو الشرط، ومقصودهم بعدم تجزئة الإقرار هو أنّ المدّعي ليس له ذلك، بل هو مخيّر بين أمور ثلاثة:

1_ أن يقبل بكلّ الإقرار، فيثبت الدين المؤجّل _ مثلاً _ أو التعهّد المشروط.

2_ أن يأخذ المنكر بإقراره بأصل الدين أو التعهّد، ويأخذ على عاتقه إثبات عدم الوصف أو الشرط الذي ادّعاه خصمه، ولا يكلِّف الخصم بإثبات ذلك.

3_ أن لا يُرتَّب أثر القاطعيّة على هذا الإقرار، ويبقى مطالَباً بإثبات أصل الدين، وتبقى للإقرار قيمة كونه قرينةً من القرائن على ثبوت الدين من دون أن تكون له القاطعيّة التامّة الثابتة للإقرار، وقد اختاروا في المقام عدم تجزئة الإقرار.

وأمّا الإقرار المركَّب فهو _ على ما جاء في الوسيط للسنهوري، وفي رسالة الإثبات لأحمد نشأت _ عبارة عمّا لو اعترف بالواقعة التي ادّعاها المدّعي، وأضاف ادّعاء واقعة أُخرى منفصلة عن تلك الواقعة ومتأخّرة زماناً عنها؛ لكي يبطل بذلك مفعول تلك الواقعة كأن يقول: نعم، أنا معترف بما تدّعيه من الدين، ولكنّك قد أبرأتَ ذمّتي بعد ذلك، أو يقول: ولكنّني قد أوفيتُ لك، أو يقول: إنّه حصل بعد ذلك دينٌ آخر

748

لي عليك فتساقط الدينان بالمقاصّة.

أقول: ولعلّهما أخطئا في ذكر شرط تأخّر الواقعة الثانية عن الواقعة الأُولى زماناً بتوهّم أنّ الفرق بين المركبّ والموصوف يكون بالاقتران والتأخّر، فإذا ادّعى ديناً مقترناً بالتأجيل _ مثلاً _ فهذا هو الإقرار الموصوف، وإذا ادّعى ديناً سقط بعد ذلك بالوفاء أو المقاصّة فهذا هو الإقرار المركّب.

وعلى أيّ حال فلا توجد أيّة نكتة عقلائيّة في التفرقة بين فرض كون الواقعة الثانية متأخّرةً زماناً أو مقارنةً للأُولى، وإنّما الذي ينبغي هو أن يفترض الإقرار الموصوف عبارة عن الإقرار المتضمّن لدعوى وصف مقارن للمدّعى، والإقرار المركّب عبارة عن الإقرار المتضمّن لدعوى أمر منفصل في هويّته عن المدّعى يبطل مفعول المدّعى سواء كان منفصلاً عنه زماناً بالتأخر، أو مقارناً، أو متقدّماً زماناً، فلو أقرّ بإتلافه لمال المدّعي مثلاً، وادّعى ديناً آخر له على المدّعي لكي يسقطا بالمقاصّة، فلا فرق بين أن يفترض ديناً مؤخّراً عن الإتلاف أو مقارناً له أو سابقاً عليه، إنّما المهمّ أنّ هذا الدين الآخر منفصل تماماً في هويّته عن إتلاف مال المدعي، وليس وصفاً أو شرطاً لما يدّعيه المدّعي من قبيل وصف الأجل للدين أو ربط التعهّد بشرطٍ مّا.

وعلى أيّة حال فالإقرار المركَّب أيضاً لا إشكال عندهم في نفوذه في الجملة، وإنّما الكلام يقع أيضاً في التجزئة وعدمها؛ فبناءً على التجزئة يأخذ المدّعي بإقرار المقرّ ويطالبه بإثبات الجزء الآخر، وبناءً على عدم التجزئة يكون على المدّعي أن يسلّم بكلّ ما قاله صاحبه، أو يأخذه بإقراره في الجزء الأول، ويأخذ على عاتقه مؤونة إثبات خطأ الجزء الثاني، أو لا تفترض لأصل الإقرار هنا القاطعيّة التامّة، فيبقى مطالَباً بإثبات مدَّعاه.

أمّا ما هو الصحيح عندهم في ذلك؟ فالمفهوم من كلام صاحب الوسيط: أنّ

749

الفقه الفرنسي لا يزال عنده مقياس التجزئة وعدمها في الإقرار المركَّب مورداً للخلاف، ولكن القضاء المصري حسم المسألة بالتفصيل بين ما إذا كانت الواقعة الثانية مرتبطة بالواقعة الأُولى _ أي: متفرعةً عليها ومستلزمةً لوقوع الواقعة الأُولى، كما في دعوى الوفاء أو الإبراء المستلزمة لأصل الدين _ أو كانت منفصلةً عنها تماماً، كما في دعوى دَينٍ آخر يتساقط مع الدَين الأول بالمقاصّة. ففي الأول لا تصحّ التجزئة بينما في الثاني تصحّ التجزئة.

أقول: الصحيح من وجهة نظر الإسلام أنّ ما أقرّ به الخصم تارةً يفرض أنّه قيّده بقيد أدّى إلى تباين ما أقرّ به مع ما ادّعى الخصم الآخر نهائياً؛ كما لو ادّعى المدّعي أنّ صاحبه مدين له بدينار، فقال: أنا مدين لك بالمتاع الفلاني وليس بدينار، وأخرى يفترض أنّ القيد ليس أمراً مغيِّراً لأصل الإقرار، وإنّما هو دعوى أمر إلى صفّ الأمر الذي أقرّ به على شكل التوصيف، أو على شكل التركيب كما لو قال: أنا معترف بما تدّعيه من الدَين، ولكنّني أدّعي أنّك ضربْتَ لذلك أجلاً بمقدار سنتين من بعد هذا الزمان، أو: لكنّني أدّعي أنّك أبرأتَ ذمّتي، أو ولكنّه حصل بعد ذلك دَينٌ آخر لي عليك، فانتهى الدَّين الأول بالتقاصّ:

فإن فرض الأول، أي: إنّ القيد كان بنحوٍ أخرج الإقرار عن كونه إقراراً بشيء يدّعيه الخصم، فهذا خروج عن محلّ البحث؛ إذ ليس هناك اعتراف بما ادّعاه الخصم، ولا بجزء ممّا ادّعاه كي نبحث عن كيفية نفوذه.

وإن فرض الثاني؛ أي: إنّه تمّ الاعتراف بما يقوله الخصم، أو بجزء منه، غاية الأمر أنّه يدّعي وصفاً أو شرطاً أو حادثة أُخرى غير معترف به لدى الخصم، فاعترافه بما يقول نافذ لا محالة، ويبقى الوصف الإضافي أو الشرط الإضافي أو الحادثة الجديدة قيد نزاع جديد، يكون عب‏ء إثباته على كلِّ مَن يُعتبر في هذا النزاع مدَّعياً وفق

750

مقاييس تشخيص المدعي والمنكر في هذا النزاع، وبقطع النظر عن النزاع الأول نهائياً.

وهذا هو المناسب للاعتبار العقلائي أيضاً، فإنّ النكتة في نفوذ الإقرار عقلائياً هي أحد أمرين:

الأول _ أنّ معنى الإقرار هو إنهاء النزاع بالتسليم للخصم.

والثاني _ هو قوّة الكشف الموجودة في الإقرار. والأمر الأول لا يكفي عندنا كنكتة كاملة لحجّية الإقرار بكلّ آثارها الفقهية؛ لأنّ إنهاء النزاع بالتسليم للخصم فعلاً شيء، وحجّيةُ الإقرار _ بمعنى إصدار الحكم من القاضي لصالح المُقَرِّ له، وبمعنى أنّه لا تحقّ له إثارة النزاع مرّةً أُخرى _ شيءٌ آخر لا علاقة له بذاك. وعلى أيّ حال فسواء فرضنا النكتة العقلائية لنفوذ الإقرار هي الأمر الأول، أو الثاني، أو مجموعهما، فهي تقتضي ما قلناه، ولا تقتضي ما قالوه:

أمّا كون الإقرار إنهاءً للنزاع بالتسليم للخصم فهذا ثابت في المقدار الذي اعترف به للخصم في المقام؛ أي: إنّه سلّم لما يقوله خصمه من الدين، وأحدث نزاعاً جديداً، وذلك بدعوى الوفاء _ مثلاً _، فلم لا تُنهي المحكمة النزاع حول أصل الدين وتُخضِع دعوى الوفاء لقوانين باب المرافعة في حدّ ذاتها بشكل منفصل نهائياً عن النزاع الذي انتهى؟!

وأمّا كاشفية الإقرار فهي ثابتة بقوّتها في المقدار الذي اعترف به المقرّ لخصمه، وليست ثابتة في دعواه الأُخرى التي ينكرها الخصم، فلماذا هذا الربط بين ما أقرّ به وبين مدّعاه؟! وإنّما الذي يقتضيه الاعتبار هو الأخذ بإقراره فيما أقرّ به ومحاسبة ما ادّعاه حساباً مستقلاً.

نعم، هذا لا يعني أن يكون عِب‏ءُ إثبات ما ادّعاه عليه دائماً، بل لابدّ من الرجوع إلى قوانين المرافعة فيما ادّعاه بشكل منفصل عن النزاع الأول، فلو ادّعى _ مثلاً _

751

الإبراءَ أو حصول المقاصّة فعب‏ء الإثبات يقع عليه؛ لأنّ الأصل يقتضي عدم الإبراء أو عدم المقاصّة. أمّا لو فرض أنّ خصمه كان يدَّعي أنّه قد جعل العين الفلانيّة أمانةً لديه، فالآن جاءه لاسترجاع الأمانة، فاعترف بما قاله الخصم من أنّه جعلها أمانةً لديه، ولكنّه ادّعى أنّه وهبها بعد ذلك إيّاه، فهنا عب‏ء الإثبات يكون على المدّعي الأول؛ لأنّ اليد تدل على ملكيّة من في يده العين.

وخلاصة كلامنا في المقام: أنّه لا فرق بين أن يفترض أنّ أحد الخصمين رفع الشكوى أوّلاً بعنوان الدين المعجَّل، ثم أقرّ الخصم الآخر بالدين، وأضاف دعوى التأجيل أو الإبراء أو الوفاء أو التقاصّ، أو يفترض أنّ الخصم الأول لم يرفع الشكوى ابتداءً بعنوان الدين، بل توافقا قبل المرافعة على أصل الدين، وكان مصبّ الدعوى من أول الأمر هو التأجيل، أو الإبراء، أو الوفاء، أو التقاصّ، أفهل يشكّ العقلاء في الفرض الثاني في تشخيص من عليه عب‏ء الإثبات بمقاييس المدّعي والمنكر وبقطع النظر عن فرض نزاع وإقرارٍ في أصل الدين؟! أو أيّ مبرّر يمكن أن يتصوّر للفرق بين الفرضين؟!

753

طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

5

 

 

القرعة

 

 

  1- مطلقات القرعة

  2- روايات خاصّة في القرعة

 

 

755

الطريق الخامس _ هو القرعة.

وقد مضى الكلام بشكل مفصّل عن موارد استعمال القاضي للقرعة في مقام حلّ المرافعة عندما بحثنا فروع التداعي، فلسنا بحاجة إلى تكرار البحث، وإنّما نسجّل هنا النتائج التي توصّلنا إليها هناك على شكل فتاوى مكتفين ببحثها الاستدلالي في ما مضى، وهي كما يلي:

1_ لو تداعيا على المال، ولم تكن لأي واحد منهما بيّنة، أو كانت لهما معاً البيّنة مع تساوي عدد البيّنتين، ونكلا عن الحلف، كان المرجع القرعة كطريق لتعيين من له الحقّ.

ويلحق بباب التداعي ما لو كان كلام المنكر قابلاً للجمع مع كلام المدّعي، مع احتمال المنافاة في نفس الوقت. كما لو قال المدّعي: هذه الدار لي، وقال ذو اليد: ورثتها من أبي، على ما مضى توضيحه مفصّلاً.

2_ لو تنازعا في غير المال كالولد _ نتيجةً لجهلهما بالواقع _ فالمرجع أيضاً هو القرعة كطريق لتعيين من له الحقّ، أمّا لو كان ذلك في المال فالمرجع هو قاعدة العدل والإنصاف.

3_ وفي غير هاتين الصورتين لا يستعمل القاضي القرعة كطريق لتعيين من له