والأُمومة والبُنوّة والأُبوّة وما شابه ذلك فهي أشبه بالحكم الشرعي من الحقّ، أمّا الحقّ فمنصرف إلى المال.
ويرد عليه _ بعد منع هذا الانصراف _: أنّه لو تمّ لم يتمّ في مثل حقّ القصاص، فهو حقّ كحقّ المال، ولا يشبه الحكم.
ويتأكدّ منع الانصراف فيما مضى من حديث محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) «لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه الخير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق اللّه (عزوجل) أو رؤية الهلال فلا»، فإنّ ما فيه من فرض المقابلة بين حقوق الناس وحقوق اللّه يبعّد فرض الانصراف إلى خصوص الحقّ المالي، بل الظاهر هو النظر إلى كلّ ما هو في مقابل حقوق اللّه؛ أي حقّ الناس بمعناه العام، فمقتضى إطلاقه ثبوت الحكم في جميع حقوق الناس عدا القصاص في القتل الذي يكون لثبوته نظامه الخاص به، وقد بحثناه فيما سبق.
والصحيح: أنّ المطلقات دلالتها تامّة على إطلاق الحكم، وأنّ رواية أبي بصير تقيّدها بخصوص الدين، وأنّنا نتعدّى من الدين إلى العين الخارجيّة بقرينة رواية عبدالرحمان بن الحجّاج الواردة في قصّة درع طلحة، فيكون النظر في الدين إلى الدين بما هو مال. وبهذا تتم فتوى المشهور.
إلا أنّ السيد الخوئي اختار أنّ الحكم مطلق يشمل جميع حقوق الناس. وأجاب عن المقيَّد للإطلاق بأنّنا نحمله على أنّ قضاء رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) كان صدفةً في الدين، لا أنّ الحكم خاصّ بالدين، والقرينة على هذا الحمل حديث محمد بن مسلم الصريح في ثبوت مطلق حقوق الناس بشاهد ويمين(1).
(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ج1، ص35.
أقول: لعلّه افترض صراحته في ذلك من جهة ما فيه من المقابلة بين حقوق الناس وحقوق اللّه، ولكن الواقع أنّ دلالة حديث محمد بن مسلم رغم تلك المقابلة لا تعدو الإطلاق القابل للتقييد، فالمفروض تقديم المقيّد عليه.
وفي الختام لا بأس بالإشارة إلى بعض الفروع:
يمين المدّعي لغيره
الفرع الأول _ لو أنّ المدّعي لم يكن يدّعي لنفسه، بل كان يدّعي للمولّى عليه بحكم ولايته، فقد نسب إلى المشهور: أنّه ليس لوليّه الحلف بل يؤجّل الحكم إلى حين رشد المولّى عليه إن أمكن ذلك، فهو الذي يتولّى الحلف فيأخذ الحقّ أو لا يحلف فلا يكفيه الشاهد الواحد.
ويمكن الاستدلال على هذا الرأي بأحد وجوه:
الأول _ ما مضى في بحث سابق من دعوى أنّ غير صاحب الحقّ لا معنى لتحليفه.
وقد مضى الإيراد عليه بأنّه لو لم يكن له حقّ الدعوى فلا دعوى في المقام، وإنّما هو بذاته يصلح كشاهد واحد إن كان عدلاً، وبضمّ شاهد آخر إليه يثبت ما شهدا به، وإن قلنا: إنّ الولي له حقّ رفع الدعوى بالولاية وكان جازماً بصحّة دعواه فلا مبرّر لعدم قبول يمينه.
والثاني _ أنّ ما ورد في روايات الباب(1) من عنوان صاحب الدين أو صاحب الحقّ لا يشمل الولي؛ لأنّ صاحب الدين أو الحقّ غيره، بل وكذلك عنوان طالب الدين أو الحقّ بناءً على أنّ المفهوم منه عرفاً هو صاحب الدين أو الحقّ.
(1) راجع وسائل الشيعة، ج18، الباب 14 و15 من كيفيّة الحكم.
والجواب: أنّ هناك عناوين أُخرى واردةً أيضاً في تلك الروايات تشمل بإطلاقها كلَّ مدّعٍ _ وإن كان وليّاً للمدّعى له _ من قبيل عنوان المدّعي الوارد في رواية حمّاد بن عثمان التامّة سنداً(1)، وفي أحاديث أُخرى غير تامّة سنداً(2). وعنوان الخصم الوارد فيما مضى من حديث محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام).
على أنّنا لو خلّينا وعنوان صاحب الدَين أو صاحب الحقّ لم يبعد القول بأنّ العرف يتعدّى إلى كلّ من له حقّ رفع الدعوى، ولا يرى خصوصيّة في كون الحقّ له لا لغيره، وإنّما المقياس كونه خصماً ومدّعياً.
والثالث _ أن يقال: إنّ المدّعي الحقيقي ليس هو الولي، وإنّما هو رافع الشكوى بالنيابة عن المولّى عليه، ورفع الشكوى من قبل الولي بالنيابة عن المولّى عليه مقبول عرفاً، وإقامة البيّنة من قبله _ رغم أنّه ليس هو المدّعي حقيقة _ لا ضير فيها؛ لأنّ البيّنة حجّة على أيّ حال ولو كانت تبرّعية كما مضى بحثه فيما سبق. أمّا اليمين بالنيابة فلا معنى لها عرفاً، والسرّ في عدم قبول اليمين النيابة عرفاً أنّ اليمين لا يقصد بها التأكّد من الواقع مباشرةً، بل يقصد بها التأكّد من كون كلام المتكلّم باعتقاد الصدق، ويكون هذا أمارةً على الواقع، ومن المعلوم أنّ الولي يحلف على صدقه هو، ولا يعقل حلفه بهذا المعنى على صدق شخص آخر، وخاصّةً أنّ ذاك الشخص الآخر لم يتكلّم أصلاً بكلام حتى يفرض صادقاً أو كاذباً، فالولي لو حلف فإنّما يحلف عن نفسه _ لا عن المولّى عليه _ في حين أنّه ليس مدّعياً.
وإن شئت فافرض هذا تعميقاً للوجه الأول.
(1) نفس المصدر، ص195، الباب 14 من أبواب كيفيّة الحكم، ح11.
(2) راجع نفس المصدر، الباب 14،ح3 و18، والباب 15 من كيفيّة الحكم، ح2.
والجواب: أنّ من له حقّ رفع الشكوى لكونه وليّاً يعتبر مدّعياً وتشمله عرفاً أدلّة أحكام المدّعي، وقد يشهد لذلك _ زائداً على أنّ هذا هو المفهوم عرفاً من أدلة أحكام المدّعي _ ما عن محمد بن يحيى _ بسند تام _ من أنّ الصفّار كتب إلى أبي محمد (عليه السلام): هل تقبل شهادة الوصي للميت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع (عليه السلام): «إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين...»(1) بناءً على أنّ هذا الحديث فرض نفس الوصي مدّعياً مع أنّه قد ادّعى لغيره، أمّا لو فرض أنّ المقصود بالمدّعي هو الوارث فالحديث أجنبي عن المقام.
وعلى أيّ حال فالصحيح: أنّ كلّ من كان له حقّ رفع الدعوى كفاه في الحقوق الماليّة الإتيان بشاهد واحد مع اليمين.
تقديم الشهادة على اليمين
الفرع الثاني _ نسب إلى المشهور اعتبار تقديم الشهادة على اليمين، بل قد يقال بتقديم تزكية الشاهد أيضاً على اليمين، ولا مبرّر لذلك إلا الترتيب اللّفظي الذي في صحاح السند من روايات الباب حيث قدّم فيها الشاهد على اليمين، ومن الواضح أنّ هذا لا يدل على شرط الترتيب، ولو دلّ فلا يدل على شرط تقديم تزكيته على اليمين.
وقد يقال: إنّ الترتيب الذِكْري بين الشاهد واليمين وإن كان لا يدل على ضرورة تقديم الشاهد على اليمين لكنّه يضرّ بالإطلاق؛ لصلاحيّته للقرينيّة، فإن لم يتمّ الإطلاق اقتصرنا فيما خالف القاعدة الأوّلية على القدر المتيقّن، والقاعدة الأوّلية إنّما هي الاعتماد على البيّنة، فإنّما نعتمد على شاهد واحد ويمين المدّعي فيما هو القدر
(1) وسائل الشيعة، ج18، ص273، الباب 28 من الشهادات، الحديث الوحيد في الباب.
المتيقّن، وهو فرض تقديم الشاهد على اليمين أو تقديم الشاهد وتزكيته عليه.
ولكنّك ترى أنّ صلاحيّة الترتيب الذكري للقرينيّة أيضاً ممنوعة، فالإطلاق تام في المقام.
دعوى الإرث أو الوصيّة
الفرع الثالث _ إذا ادّعى جماعة مالاً لمورّثهم أو وصيّةً بالمال لهم وأقاموا شاهداً واحداً، فإن حلفوا قسّم بينهم، وإن حلف أحدهم فإن كان ديناً أخذ حصّته، وإن كان عيناً مشاعاً ذكر السيد الخوئي: أنّ ما يأخذه بالحلف يكون للكلّ. نعم، بإمكانه أن يبيع حصّته المشاعة على من لديه المال، فيأخذ لنفسه كلّ الثمن»(1). وما ذكره صحيح لا غبار عليه.
ضمّ اليمين إلى البيّنة
البحث الخامس _ متى تحتاج البيّنة إلى ضمّ اليمين إليها؟
ذلك في الدعوى على الميّت، وقد ورد في ذلك حديثان:
الأول _ ما عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه: قال: قلت للشيخ (عليه السلام) «... وإن كان المطلوب بالحقّ قد مات فأُقيمت عليه البيّنة فعلى المدّعي اليمين باللّه الذي لا إله إلا هو لقد مات فلان، وإنّ حقّه لعليه، فإن حلف، وإلا فلا حقّ له، لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها، أو غير بيّنة قبل الموت، فمن ثم صارت عليه اليمين مع البيّنة...»(2) إلا أنّ سند الحديث ضعيف بياسين الضرير.
(1) مباني تكملة المنهاج، ج1، ص36.
(2) وسائل الشيعة، ج18، ص173، الباب 4 من كيفيّة الحكم، الحديث الوحيد في الباب.
والثاني _ ما عن محمد بن الحسن الصفّار _ بسند تام _ أنّه كتب إلى أبي محمد (عليه السلام): «هل تقبل شهادة الوصي للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع: إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين. وكتب: أيجوز للوصي أن يشهد لوارث الميّت صغيراً أو كبيراً بحقّ له على الميت أو على غيره وهو القابض للوارث الصغير، وليس للكبير بقابض؟ فوقّع (عليه السلام): نعم، وينبغي للوصي أن يشهد بالحقّ ولا يكتم الشهادة. وكتب: أو تقبل شهادة الوصي على الميّت مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع: نعم، من بعد يمين»(1). بناءً على أنّ المقصود بذلك يمين المدّعي لا يمين الوصي، وقد استظهر السيد الخوئي ذلك بقرينة صدر الحديث، وكأنّ مقصوده أنّ كون اليمين في صدر الحديث على المدّعي مع عدم ذكر من عليه اليمين في ذيل الحديث يصرف الكلام إلى كون المقصود ممّا في الذيل أيضاً هو يمين المدّعي، وهذا الاستظهار قد يكون تامّاً بناءً على كون المقصود بالمدّعي في صدر الحديث غير الوصي وهو الوارث، أمّا بناءً على كون المقصود به هو نفس الوصي؛ لأنّ المدّعي له في العبارة هو الميّت لا الوارث، فهذه القرينة غير تامّة؛ لأنّ الوصي والمدّعي في الصدر واحد، فكون اليمين في الذيل عبارةً عن يمين المدّعي ليس بأولى من كونه عبارة عن يمين الوصي.
ولكن الظاهر مع ذلك حمل اليمين على يمين المدّعي؛ إذ لو فرض ثبوت اليمين على من يشهد على الميّت فأيّ فرق بين أن يكون هذا الشاهد هو الوصي أو غيره؟ فحمل الحديث على إرادة يمين الوصي مع أنّه أحد الشاهدين _ ولا يحتمل العرف فرقاً بينه وبين الشاهد الآخر _ غير عرفي.
وهناك حديث آخر قد تستظهر من إطلاقه كفاية البيّنة في ثبوت الدعوى على
(1) وسائل الشيعة، ج18، ص273، الباب 28 من الشهادات، الحديث الوحيد في الباب.
الميّت بلاحاجة إلى يمين المدّعي، وهو ما عن محمد بن الحسن الصفّار _ أيضاً بنفس السند _ أنّه كتب إلى أبي محمد (عليه السلام) «رجل أوصى إلى ولده وفيهم كبار قد أدركوا وفيهم صغار، أيجوز للكبار أن ينفّذوا وصيّته، ويقضوا دينه لمن صحّ على الميت بشهود عدول قبل أن يدرك الأوصياء الصغار؟ فوقّع (عليه السلام): نعم على الكبار من الولد أن يقضوا دين أبيهم ولا يحبسوه بذلك»(1)، فقد يقال: إنّ هذا الحديث لم يقيّد بفرض يمين المدّعي، وهذا يعني نفوذ البيّنة على الميّت بلا حاجة إلى يمين المدّعي.
وهنا ذكر السيد الخوئي: أنّ إطلاق رواية الصفّار هذه يقيّد بروايته الأُولى(2).
أقول: ولعلّ هذه الرواية لا إطلاق لها؛ لأنّها واردة مورد بيان شيء آخر، وهو أنّ الكبار لا ينتظرون في تنفيذ الوصيّة درك الصغار سنّ التكليف أو الرشد، أمّا أنّ شهادة البيّنة متى تنفذ فهذا خارج عن محطّ نظر الحديث سؤالاً وجواباً.
ثم إنّ ضرورة ضمّ اليمين إلى البيّنة مخصوصة بالدَّين ولا تأتي في العين، أمّا على رواية الصفّار فلما ورد في نسخة الفقيه من قوله (عليه السلام): «أو تقبل شهادة الوصي على الميّت بدين مع شاهد آخر...». كلمة «بدين» وإن لم ترد في نسخة التهذيب والكافي، ولكنّ احتمال صحّة تلك النسخة كافٍ في تخصيص الحكم بالدَّين، بل حتى نسخة التهذيب والكافي ظاهرة في النظر إلى خصوص الدين؛ لأنّ هذا هو الظاهر من قوله (عليه السلام): «أو تقبل شهادة الوصي على الميّت» فإنّ الشهادة إن كانت راجعة إلى العين لم تكن شهادة على الميّت، وإنّما كانت شهادة على الوارث في كلّ المال، أو في ما عدا الثلث على أقلّ تقدير. وأمّا على رواية عبدالرحمان بن أبي عبداللّه فلظهور
(1) نفس المصدر، ج13، ص438، الباب 50 من الوصايا، ح1.
(2) مباني تكملة المنهاج، ج1، ص18.
قوله (عليه السلام): «لعلّه قد أوفاه» في النظر إلى الدين، ولعل هذا هو الظاهر من قوله (عليه السلام): «وإنّ حقّه لعليه»، وادّعى السيد الخوئي ظهور قوله (عليه السلام): «المطلوب بالحقّ» في ذلك.
ولايخفى أنّ قوله (عليه السلام): «لعلّه قد أوفاه» لو لم يكن قرينةً أو صالحاً للقرينيّة على إرادة فرض الدين لكان استظهار إرادة الدين من قوله (عليه السلام): «وإنّ حقّه لعليه» أو قوله (عليه السلام): «المطلوب بالحقّ» غير مفيد؛ لأنّ عموم التعليل كان يجرُّنا إلى التعدّي من الدين إلى العين، وعلى كلّ حال فلو فرضنا إطلاق هذه الرواية للعين وعدم اختصاصها بالدين قلنا: إنّ هذه الرواية ساقطة على أيّ حال سنداً، فالمهمّ هو الرواية الأُولى، وقد عرفت اختصاصها بالدين.
وهناك فرق بين مفاد الروايتين لا بأس بالالتفات إليه وهو: أنّ الظاهر من رواية الصفّار هو اليمين على نفس ما شهدت به البيّنة، بينما الظاهر من رواية عبدالرحمان هو أنّ اليمين تكون على بقاء الدين لا نفس الدَّين الذي شهدت به البيّنة، ويترتّب على ذلك بعض الفوارق:
منها: أنّه لو اعترف الورثة بعدم الأداء على تقدير ثبوت الدين حدوثاً، فلو كنّا نحن ورواية عبدالرحمان لانتفت الحاجة إلى اليمين، بينما لو بنينا على رواية الصفّار فلابدّ من اليمين.
ومنها: أنّه لو ثبت الدين حدوثاً بغير البيّنة كما لو اعترف الورثة بذلك ووقع الشكّ في الأداء، فلو كنّا نحن ورواية الصفّار لا مبرّر لتحليف الدائن، فإنّ أصل الدين ثابت بغير البيّنة ورواية الصفّار إنّما دلّت على ضرورة الحلف فيما إذا كان ثبوت الدين بالبيّنة، والتعدّي إلى غير هذا الفرض لا مبرّر له، وبقاء الدين ثابت بالاستصحاب، فللدائن أن يأخذ حقّه.
نعم، لو ادّعى الوارث الأداء ولم تكن له بيّنة على ذلك وصلت النوبة إلى يمين
الدائن لكونه منكراً، وهذا مطلب آخر لا علاقة له بالمقام.
ومنها: أنّنا لو أخذنا بمفاد رواية عبدالرحمان _ الدالّة على أنّ اليمين يمين استظهار حذراً من أن يكون الميّت قد وفّى الدين، أو أنّ الدائن قد أبرأه والدائن يُخفي ذلك _ صحّ قيام الشاهد الواحد مع يمين المدّعي مقام البيّنة هنا كما هو ثابت في غير المقام، فبالشاهد الواحد مع يمين المدّعي يثبت حدوث الدين، وبيمين الاستظهار يثبت بقاؤه. أمّا لو أخذنا بمفاد رواية الصفّار فاليمين حلف على نفس مفاد البيّنة، وعند ذلك يدور الأمر فيما لو لم يكن أكثر من شاهد واحد بين فروض ثلاثة:
الأول: أن يقال: إنّ الشاهد الواحد مع اليمين قام مقام البيّنة، ولابدّ من تكرار اليمين كي تكون اليمين الثانية هي التي أمرت بها رواية الصفّار.
الثاني: أن يقال: إنّ الشاهد الواحد مع اليمين قام مقام البيّنة مع اليمين التي أمرت بها رواية الصفّار، فإنّ رواية الصفّار أمرت بطبيعي اليمين وهو صادق على الفرد الأول من اليمين، ودليل قيام الشاهد الواحد مع اليمين أيضاً ينظر إلى طبيعي اليمين وهو صادق على الفرد الأول من اليمين؛ إذاً فلا تبقى حاجة إلى يمين ثانية؛ لأنّ اليمين الأُولى أصبحت مصداقاً لكلا الأمرين.
الثالث: وهو المختار أن يقال: إنّ الشاهد الواحد مع اليمين لا يقوم هنا مقام البيّنة، وهذا تخصيص لقاعدة قيام الشاهد الواحد مع اليمين مقام البيّنة، فعلى هذا ليس بإمكان الدائن أن يثبت مدّعاه في المقام ما دام لا يمتلك عدا شاهداً واحداً. والوجه في ذلك: أنّ إثبات الدائن لمدّعاه لا يكون هنا إلا بأحد فرضين، وهما الفرضان الأوّلان اللذان ذكرناهما، بينما نحن نرى أنّ كلا الفرضين خلاف ظاهر رواية الصفّار: أمّا الفرض الأول _ وهو إثبات مدّعاه عن طريق شاهد واحد ويمينين _ فهو باطل؛ لأنّ ظاهر رواية الصفّار كون المأمور به طبيعي اليمين، وقد حصل بالفرد الأول،
فلا معنى لتكرار اليمين، وأمّا الفرض الثاني _ وهو إثبات مدّعاه بشاهد واحد ويمين _ فهذا يعني أنّ الشاهد الثاني دائماً يكون لغواً في المقام، فالشاهد الثاني في دعوى الدين على الحي فائدته الاستغناء عن اليمين، أمّا في المقام فاليمين لابدّ منه حسب ما يفهم من رواية الصفّار، فإذا فرضنا كفاية شاهد واحد مع اليمين فهذا يعني لغوية الشاهد الثاني نهائياً، وهذا خلاف ظاهر رواية الصفّار؛ لأنّ السؤال كان عن نفوذ شهادة الشاهدين _ الوصي مع شخص آخر _ وكان الجواب: «نعم من بعد يمين»، وهذا يعني أنّ ثبوت الحقّ كان لمجموع الشاهدين مع اليمين، بينما لو كفى شاهد واحد مع اليمين فهذا يعني أنّ ثبوت الحقّ مستند إلى أحد الشاهدين مع اليمين.
إذاً فرواية الصفّار _ بعد استظهار هذين المطلبين منها: وهما عدم الحاجة إلى أكثر من يمين واحدة، والحاجة إلى شاهدين مع تلك اليمين _ تكون مقيّدةً لأدلّة قيام شاهد واحد مع اليمين مقام البيّنة.
وبما ذكرناه ظهر الفرق بين شاهد واحد ويمين وبين شهادة رجل وامرأتين، فشهادة رجل وامرأتين يمكن أن يضمّ في المقام إلى يمين المدّعي، ويثبت بذلك الدين على الميّت؛ لعدم المحذور الذي شرحناه، ولكن شهادة رجل واحد ويمين المدّعي لا تضع شيئاً في المقام.
هذا والسيد الخوئي في مباني التكملة(1) وإن انتهى إلى نفس النتيجة التي انتهينا إليها ولكن كلامه لا يخلو عن تشويش أو ضعف، فهو وإن برهن على عدم كفاية شاهد واحد ويمين في المقام بما ذكرناه من لزوم لغويّة الشاهد الثاني، ولكن لم يتّضح من كلامه أنّه لماذا لا يُكتفى بشاهد واحد مع تكرار اليمين كي يكون الفرد الأول
(1) ج1، ص21.
مكمِّلاً للشهادة والفرد الثاني؛ عملاً برواية الصفّار؟! عدا أنّه ذكر: أنّ اليمين تنزّل في لسان دليل كفاية الشاهد الواحد مع اليمين منزلة الشاهد الثاني، بينما نزّلت شهادة امرأتين منزلة شهادة رجل واحد، ولا أعرف ماذا يقصد بهذا الفرق، ففي كلا البابين قد ورد ما يدل على كفاية اليمين أو شهادة امرأتين عن شهادة الرجل الثاني، وماذا تؤثّر تسمية ذلك في الثاني بالتنزيل وعدم تسميته في الأول بذلك؟!
وختاماً ينبغي أن نشير إلى أنّ ما ذكرناه من أنّ مدّعي الدين على الميّت لا يمكنه أن يثبت مدّعاه إن لم يكن يمتلك عدا شاهداً واحداً إنما كنّا نقصد بذلك الإثبات في المرحلة الأُولى من القضاء؛ أعني قبل عرض اليمين على المنكرين وهم الورثه. أمّا بعد أن عجز عن الإثبات بالبيّنة، ووصلت النوبة إلى يمين الورثة، ثم لم يحلفوا ولو لجهلهم بواقع الحال، فإمّا أن يتمّ النكول ونقول بأنّ النكول يُثبِت أنّ الحقّ مع المدّعي، أو يتمّ الردّ أو النكول مع القول بردّ الحاكم اليمينَ على المدّعي لدى نكول المنكر كما اخترناه فيما سبق، فالمدّعي عندئذٍ يحلف ويأخذ حقّه إن لم يكن الميّت مستحقّاً للثلث لعدم الوصيّة، وإلا فيأخذ حقّه بمقدار ما يتعلّق بالورثة الناكلين أو الرادّين للقسم، أمّا المقدار الراجع إلى الميّت من الثلث فلا سبيل لإثباته؛ لأنّ ظاهر الروايتين كون الإثبات متوقّفاً على البيّنة واليمين، ولا توجد بالنسبة للميّت مرحلة ثانية وهي مرحلة ردّ اليمين إليه حتى يتمّ النكول أو الردّ، اللّهم إلا إذا كان الوصي غير الشاهد، وكان وصيّاً عن الميّت حتى في الدفاع عنه في مثل المقام، فَرَدَّ اليمين أو نكل.
ومنها: أنّ الحاجة إلى اليمين مضافاً إلى البيّنة هل تختصّ بالدعوى على الميّت، أو تشمل غيره أيضاً ممّن لا يمكنه الدفاع عن نفسه كالغائب أو الصبي أو المجنون؟ فقد يفرّق في ذلك بين مفاد الروايتين، فلو أخذنا برواية الصفّار فحسب فالحكم خاصّ بدعوى الميّت؛ لأنّه حكم على خلاف القاعدة نقتصر فيه على مورد النصّ،
وإن تمسّكنا برواية عبدالرحمان فقد يُتعدّى عن الميّت إلى غيره بواسطة التعليل بقوله (عليه السلام): «لأنّا لا ندري لعله قد أوفاه ببيّنة...» فقد يقال: إنّ هذه العلّة ثابتة في الغائب أيضاً والصبي والمجنون.
وأجاب السيد الخوئي عن ذلك بأنّ طرف المخاصمة في الصبي والمجنون إنّما هو وليّهما، وأمّا الغائب فهو على حجّته ويمكنه أن يدافع عن نفسه بعد حضوره(1).
أقول: إنّ طرف المخاصمة في الميّت أيضاً إنّما هو الوارث أو الوصي، فليس الفرق _ الذي فرّق به بين الميّت من ناحية والصغير والمجنون من ناحية أُخرى _ فارقاً. وعلى أيّ حال فالخطب سهل بضعف سند رواية عبدالرحمان.
اليمين في الفقه الوضعي
وفي ختام البحث عن اليمين لا بأس بإعطاء لمحة مختصرة عن رأي الفقه الوضعي في المقام:
فنقول: قد قسّموا اليمين إلى قسمين:
القسم الأول: اليمين الحاسمة، وهي التي يُحسم النزاع بالحلف بها أو بالنكول عنها، وهي توجّه من قبل المدّعي إلى المنكر بإشراف القاضي، فلو حلف انحسم النزاع لصالح المنكر. ولو نكل انحسم النزاع لصالح المدّعي. وهذا في الحقيقة تحكيم لضمير المنكر من قبل المدّعي، فحلفه يكون بمعنى أنّ ضميره حكم لصالح المنكر، ونكوله بمنزلة الإقرار للمدّعي، أمّا لو ردّ المنكر اليمين على المدّعي فهذا يعني أنّ ضميره لم يستعدّ للحكم، فحكّم المنكر هذه المرّة ضمير المدّعي في النزاع، والمدّعي ليس له
(1) مباني تكملة المنهاج، ج1، ص22.
ردّ اليمين مرّة أُخرى إلى المنكر، بل يدور أمره بين الحلف والنكول، فلو حلف انحسم النزاع لصالحه، ولو نكل انحسم النزاع لصالح المنكر.
القسم الثاني: اليمين المتمّمة، وهي اليمين التي ليست حاسمة للنزاع بشكل مطلق، وليست توجّه من قبل المدّعي إلى المنكر، بل يترك أمر تقدير الموقف في اليمين المتمّمة إلى القاضي: فأوّلاً: القاضي هنا هو الذي يحلّف وليس المدّعي؛ وثانياً: القاضي بإمكانه تحليف المدّعي، كما أنّ بإمكانه تحليف المنكر أو تحليفهما، وهو إنّما يحلِّف _ لو قدَّر ذلك _ من يرى أنّه قدّم دليلاً ناقصاً على مدّعاه، سواء كان مدّعياً أو منكراً، فيحلّفه كي يكون حلفه تكميلاً للدليل، ولا يحلّف من لا دليل له، كما لا يحلّف من قَدَّرَ القاضي أنّ دليله تام لإثبات المدّعى؛ وثالثاً: ليس القاضي ملزماً بعد الحلف بالحكم لصالح الحالف، ولا بعد النكول بالحكم لصالح الطرف الآخر، كما ليس ملزماً بأصل التحليف، بل القاضي يقدّر الحال بعد الحلف أو النكول أنّه هل أصبح دليل الخصم أو صاحبه كاملاً بهذا الحلف أو النكول فيحكم على طبق ذلك، أو لا؟ ورابعاً: لا يحقّ لمن يوجّه إليه القاضي اليمين المتمّمة أن يردّ اليمين على صاحبه.
وسُمّيت هذه اليمين بالمتمّمة لأنّ النتيجة المتوخّاة منها تتميم الدليل، كما سُمّيت اليمين الأُولى بالحاسمة لأنّ نتيجتها حسم النزاع.
وإلى جانب اليمين المتمّمة الأصليّة التي ذكرناها توجد لديهم أقسام أُخرى لليمين المتمّمة وهي: يمين الاستيثاق، ويمين الاستظهار، ويمين التقويم:
أمّا يمين الاستيثاق فتوجّه _ في القانون المصري _ في أحوال ثلاثة:
1_ نصّت الفقرة الثانية من المادّة (378) من التقنين المدني على أنّه «يجب على من يتمسّك بأنّ الحقّ قد تقادم بسنة أن يحلف اليمين على أنّه أدّى الدين فعلاً، وهذه اليمين يوجّهها القاضي من تلقاء نفسه، وتوجّه إلى ورثة المدين أو أوصيائهم
إن كانوا قُصَّراً بأنّهم لا يعلمون بوجود الدين أو يعلمون بحصول الوفاء».
ويمين الاستيثاق هذه يمين إجباريّة؛ أي: إنّ القاضي مجبور على توجيهها إلى المدين أو الورثة، بينما اليمين المتمّمة الأصليّة لم تكن كذلك، وتوجّه إلى هؤلاء لا إلى الدائن بخلاف المتمّمة الأصليّة أيضاً، وإذا حلفها من وجّهت إليه كسب الدعوى حتماً بخلاف الأصليّة أيضاً، لكنّها تبقى بعد كلّ ذلك _ كما يقوله عبد الرزّاق السنهوري _ يميناً متمّمة لا حاسمة؛ لأنّها تختلف اختلافاً جوهريّاً عن الحاسمة في أنّها ليست هي الدليل الوحيد في الدعوى، بل هي دليل تكميلي يعزّز الدليل الأصلي، وهو قرينة الوفاء المستخلصة من انقضاء سنة على وجود الدَين، وهناك من يراها يميناً حاسمة.
2_ نصّت المادّة (194/201) من التقنين التجاري على «أنّ الأوراق المحرّرة لأعمال تجاريّة يسقط الحقّ في إقامة الدعوى بها بمضي خمس سنوات، وإنّما على المدّعى عليهم تأييد براءة ذمّتهم بحلف اليمين على أنّه لم يكن في ذمّتهم شيء من الدين إذا دعوا للحلف، وعلى من يقوم مقامهم أو ورثتهم أن يحلفوا يميناً على أنّهم معتقدون حقيقةً أنّه لم يبق شيء مستحقّ من الدين».
ويمين الاستيثاق هذه ليست بإجباريّة، ولكن طلبها موكول إلى الدائن لا إلى القاضي، وتوجّه إلى المدين أو ورثته لا إلى الدائن، وإذا حلفها من وُجّهت إليه كسب الدعوى حتماً، ولكنّها مع ذلك يمين متمّمة؛ لأنّها دليل تكميلي يعزّز دليلاً أصليّاً في الدعوى هو قرينة الوفاء المستخلصة من انقضاء خمس سنوات على وجود الدين.
3_ نصّت المادّة (394) من التقنين المدني على أن تعتبر الورقة العرفيّة صادرة ممّن وقّعها ما لم ينكر صراحة ما هو منسوب إليه من خطّ، أو إمضاء، أو ختم، أو بصمة. أمّا الوارث أو الخلف فلا يطلب منه الإنكار، ويكفي أن يحلف يميناً بأنّه لا يعلم أنّ الخطّ، أو الإمضاء، أو الختم، أو البصمة هي لمن تلقّى عنه الحقّ.
قال السنهوري: «وهذا النص يختلف عن سابقيه، فهو يتكلّم عن يمين تتمحّض في أنّها يمين على عدم العلم، ثم أنّها لا تعزّز دليلاً أصليّاً في الإثبات، بل هي تساعد الورثة على اتّخاذ موقف المنكر للورقة العرفيّة، فهي لا تثبت شيئاً، ولكنّها تُنشئ موقفاً، بَيْدَ أنّها على كلّ حال يمين متمّمة من نوع خاصّ؛ إذ يستكمل بها من حَلَفها الشروطَ القانونيّة اللازمة لدفع حجّية الورقة العرفيّة في الإثبات، ومن هذه الناحية وحدها يمكن اعتبارها في كثير من التجوّز يمين استيثاق».
وأمّا يمين الاستظهار فهذه اليمين لا وجود لها في التقنين المدني المصري، بخلاف التقنين المدني العراقي، ويقول السنهوري: «إنّ التقنين المدني العراقي أخذها عن الفقه الإسلامي».
وقد نصّت المادّة (484) من هذا التقنين على ما يأتي: «تحلّف المحكمة من تلقاء نفسها في الأحوال الآتية: أ _ إذا ادّعى أحد في التركة حقّاً وأثبته فتحلّفه المحكمة يمين الاستظهار على أنّه لم يستوفِ هذا الحقّ بنفسه ولا بغيره من الميّت بوجه، ولا أبرأه، ولا أحاله على غيره، ولا استوفى دينه من الغير، وليس للميّت في مقابلة هذا الحقّ رهن. ب _ إذا استحقّ أحد المال وأثبت دعواه حلّفته المحكمة على أنّه لم يبع هذا المال، ولم يهبه لأحد، ولم يخرجه من ملكه بوجه من الوجوه. ج_ إذا أراد المشتري ردّ المبيع لعيب حلّفته المحكمة على أنّه لم يرض بالعيب صراحةً أو دلالةً».
ثم نقل قانون البيّنات السوري مادّة (123) هذا النص وأضاف إليه حالةً رابعةً، هي: «إذا طالب الشفيع بشفعة حلّفته المحكمة بأنّه لم يسقط حقّ شفعته بوجه من الوجوه».
قال السنهوري ما ملخّصه: وهذه الحقوق المذكورة في النص تجتمع في أنّها تنطوي على شيء من الخفاء، فيتمّم الدليل بيمين استظهار، وهي يمين متمّمة لها خصائص
يمين الاستيثاق، فهي يمين إجباريّة يوجّهها القاضي إلى الخصم بالذات يعيّنه القانون، وإذا حلف الخصم كسب حتماً دعواه.
وأمّا يمين التقويم فتنصّ المادّة (417) من التقنين المدني المصري:
«1_ لا يجوز للقاضي أن يوجّه إلى المدّعي اليمين المتمّمة لتحديد قيمة المدّعى به إلا إذا استحال تحديد هذه القيمة بطريقة أُخرى.
2_ ويحدّد القاضي حتى في هذه الحالة حدّاً أقصى للقيمة التي يصدّق فيه المدّعي بيمينه».
وقال السنهوري في شرح النصّ:
«وموضوع يمين التقويم هو _ كما نرى من النص _ تقدير قيمة شيء واجب الردّ وتعذّر ردّه فيقضى بقيمته، مثل ذلك وديعة أو عارية هلكت بتعدٍّ فيقضى بقيمته للمودّع أو المعير، ومثل ذلك أيضاً بيع أو إيجار فسخ وتعذّر ردّ المبيع، أو العين الموجرة بتقصير من المشتري أو الموجر فيقضی بالقيمة للبايع أو الموجر، ولكن هذه القيمة استحال تقديرها بأيّ طريق ولو بطريق الخبراء على أساس تعيينها بالوصف، فلم يعُدْ مناص من الرجوع في قيمتها إلى المدّعي، فيوجّه إليه القاضي يمين التقويم. ومن هنا نرى أنّ الخصم الذي توجّه إليه هذه اليمين المتمّمة هو دائماً المدّعي الذي يطالب باسترداد الشيء دون المدّعى عليه المطلوب منه الردّ.
ثم إنّ موضوع اليمين هو دائماً المبلغ الذي يقدّر به المدّعي قيمة الشيء المطلوب ردّه على أن لا يجاوز هذا المبلغ حدّاً أقصى يعيّنه القاضي بحسب تقديره وفقاً لما يستخلصه من ظروف الدعوى، وفي هاتين الخصيصتين تختلف أحكام يمين التقويم عن أحكام اليمين المتمّمة الأصليّة. ولكن أحكام هذه اليمين تتّفق مع أحكام اليمين المتمّمة الأصليّة في أنّها لا يجوز ردّها على الخصم الآخر، وفي أنّ القاضي لا يتقيّد
بموجبها، فللقاضي أن يحكم بأقلّ من المبلغ الذي حلف عليه الخصم، أو بأكثر لاسيّما إذا قدّم أحد الخصمين بعد الحلف عناصر جديدة يستطيع القاضي أن يستهدي بها في تقدير قيمة الشيء، كذلك للمحكمة الاستئنافيّة أن تنقص أو تزيد في المبلغ الذي قضت به المحكمة الابتدائيّة»(1).
أقول: أمّا اليمين الحاسمة فقد بحثنا رأي الإسلام في ذلك بتفصيل، وأمّا اليمين المتمّمة الأصليّة فهي فرع وجود قرائن ناقصة عندهم بحاجة إلى تكميل باليمين، أمّا الإسلام فالقرائن لديه إمّا هي تامّة كالبيّنة في محلّها والإقرار وحكم القاضي في مورد نفوذه، أو لا اعتبار بها نهائيّاً، ولا تكمّل باليمين.
وأمّا يمين الاستيثاق في موارد تقادم الحقّ فالإسلام غير معترف بقوانين تقادم الحقّ أصلاً، فلا يبقى موضوع لهذه اليمين، وأمّا في موارد الورقة العرفيّة فالإسلام لا يعترف بالورقة إلا في مورد تفيد العلم في الحدود التي نقول بحجّية علم القاضي فيها، ويمين الوارث على عدم العلم بالدين أو بصحّة الخطّ أو الإمضاء لا موضوع له أيضاً إلا إذا وقع النزاع على علمه بذلك، وعندئذٍ تكون اليمين حاسمة.
وأمّا يمين الاستظهار فقد رأينا نموذجاً لها في الإسلام في دعوى الدين على الميّت، أمّا الموارد التي ذكروها فلا.
وأمّا يمين التقويم فأيضاً لا أساس لها في الإسلام. نعم من يدّعي زيادة القيمة وتردّ عليه اليمين من قبل المنكر أو القاضي يحلف، ولكن هذه يمين حاسمة لا علاقة لها باليمين المتمّمة.
(1) راجع بصدد بحث اليمين من زاوية الفقه الوضعي الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزّاق السنهوري، ج2، ص514 - 596.
طرق الإثبات في الفقه الإسلامي
4
الطريق الرابع _ الإقرار.
لا إشكال في أنّ الإقرار من أي واحد من الطرفين يُنهي النزاع تكويناً، إنّما الكلام في حجّيته ونفوذه وذلك على مستويين:
المستوى الأول _ نفوذه ما دام مُقِرّاً؛ أي: إنّه لو أراد أن يعمل رغم إقراره على خلاف ما هو مقرٌّ به يُرغم من قبل الحاكم على العمل بالإقرار.
والمستوى الثاني _ نفوذه حتى بعد الإنكار؛ أي أنّ القاضي يقضي وفق إقراره وينهي النزاع، فلا يتجدّد نزاع آخر لو أنكر بعد حكم القاضي، وكذلك لا يؤثّر إنكاره لو أنكر قبل حكم القاضي، فعلى كلّ تقدير يكون إقراره السابق نافذ المفعول.
والصحيح الذي لا إشكال فيه فقهياً هو نفوذ الإقرار في باب القضاء ليس على المستوى الأول فحسب، بل على المستوى الثاني.
وقبل أن نبحث الدليل على ذلك نشير إلى أنّه لو تمّ دليل على ذلك فهذا الدليل لا يعارض إطلاق حديث «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(1) لا بالأخصيّة ولا بالعموم من وجه: أمّا لو كان نفوذ الإقرار بالمستوى الأول فحسب فواضح؛ إذ لا يوجد فيه قضاء ولا نزاع، فلا موضوع لمسألة حصر القضاء بين المتنازعين
(1) وسائل الشيعة، ج18، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح1.
بالبيّنات والأيمان، وأمّا نفوذه على المستوى الثاني فقد يفترض تنافيه مع اطلاق حصر القضاء بالبيّنة واليمين.
ولكن الظاهر أنّ هذا الإطلاق منصرف عن كونه في مقابل الإقرار؛ لأنّ ارتكاز نفوذ الإقرار عقلائياً يمنع عن تكوّن إطلاق من هذا القبيل، ولا أُريد الآن أن ادّعي حجّية هذا الارتكاز لإثبات نفوذ الإقرار، وإنّما أقول: إنّ هذا الارتكاز حتى لو لم يكن حجّةً يمنع عن تكوّن الإطلاق، فإنّ المداليل اللّفظية اللّغوية للكلمات ليست هي المقياس الوحيد في اقتناص الظهور والإطلاق، بل للمناسبات والارتكازات أثر ملحوظ في ذلك.
دليل نفوذ الإقرار
أمّا الدليل على نفوذ الإقرار فقد يستدلّ على ذلك بالكتاب، وأُخرى بالسنّة، وثالثةً بالإجماع، ورابعةً بالارتكاز:
أمّا الكتاب، فبآيات من قبيل قوله تعالى:
﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّٰهُ مِيثٰاقَ النَّبِيِّينَ لَمٰا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتٰابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قٰالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي قٰالُوا أَقْرَرْنٰا قٰالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّٰاهِدِينَ﴾(1) ومن الواضح أنّ الإقرار هنا بمعنى التعهّد وإعطاء الميثاق، لا بالمعنى المقصود في المقام، ولا علاقة لمورد الآية بما نحن فيه أبداً، كما أنّ المقصود بالشهادة في ذيل الآية _ على ما يبدو _ هي الشهادة عن الأُمّة التي كان النبي (صلى الله عليه و آله) _ في إعطائه للميثاق _ ممثلاً لها لا الشهادة على أنفسهم، ولو كان المقصود هي الشهادة على أنفسهم قلنا: لم تجعل هذه الشهادة موضوعاً للحكم الشرعي بالنفوذ.
(1) آل عمران: 81.
وقوله تعالى:﴿وَآخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صٰالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَـى اللّٰهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(1).
وهذه الآية أيضاً _ كما ترى _ أجنبيّة عن المقام، وإنّما هي بصدد بيان أنّ الاعتراف بالذنب يوجب التخفيف.
وقوله تعالى:﴿وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِـي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قٰالُوا بَلىٰ شَهِدْنٰا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيٰامَةِ إِنّٰا كُنّٰا عَنْ هٰذٰا غٰافِلِينَ﴾(2). وهذه أيضاً أجنبيّة عن المقام، فصدرها ينظر إلى التعهُّد والميثاق لا الاعتراف، وذيلها ينظر إلى أنّ الاعتذار بالغفلة باطل؛ لأنّ الغفلة انتفت بأخذ الميثاق بمعنى جعل فكرة التوحيد أمراً معجوناً بالفطرة والطينة مثلاً، ولا علاقة لذلك بنفوذ الإقرار.
وقوله تعالى:﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰـهِ وَلَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾(3).
وهذه الآية أقرب الآيات إلى المقصود، ولكنّها أيضاً أجنبيّة عنه، فإنّها لا تدل على أكثر من تحبيذ الإقرار بالحقّ والالتزام به المؤثّر في رفع النزاع تكويناً، ولا علاقة له بنفوذ الإقرار على شيء من المستوَيَيْن.
وأمّا السنّة، فهناك عدّة روايات يمكن أنّ يستفاد منها نفوذ الإقرار من قبيل:
1_ ما جاء في البحار نقلاً عن كنز الكراجكي من النبوي المرسل عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله):
(1) التوبة: 102.
(2) الأعراف: 172.
(3) النساء: 135.
«قل الحقّ ولو على نفسك»(1).
وهذا _ كما ترى _ بغضّ النظر عن إرساله يلائم فرض النظر إلى وجوب الصدق والالتزام بالحقّ ولو على نفسه، ورفع النزاع تكويناً من دون نظر إلى الحجّية الشرعية.
2_ ما عن جراح المدائني عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنّه قال: «لا أقبل شهادة الفاسق إلا على نفسه»(2)، والقبول يعني الحجّية، وبقرينة ارتكاز حجّية الإقرار بكلا المستويين السابقين نفهم منه الحجّية حتى بالمستوى الثاني؛ بحيث لو لم نقل بحجّية الارتكاز ببركة دلالة عدم الردع على الإمضاء _ مثلاً _ فهذا الحديث يدل على المستوى الثاني من الحجّية بالإطلاق الذي إن لم يتمّ بمقدّمات الحكمة فإنّه يتمّ ببركة الارتكاز، إلا أنّ سند الحديث غير تام.
3_ مرسلة محمد بن الحسن العطّار عن بعض أصحابه عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمناً عليه»(3).
وهذا الحديث إضافةً إلى سقوطة سنداً غير تام دلالةً، ولا يبعد أن يكون مفاده أنّ المؤمن لو اتّهمه سبعون مؤمناً بشيء وأنكر كان مقتضى حمله على الصحّة قبول إنكاره، وهي قضيّة أخلاقيّة لا علاقة لها بباب القضاء.
4 و5_ المرسلتان المرويتان عن عوالي اللآلي عن مجموعة أبي العباس بن فهد في الأخبار عن النبي (صلى الله عليه و آله) أنّه قال: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»، وقال: «لا إنكار بعد إقرار»(4) ودلالة المرسلة الثانية على المستوى الثاني من الحجّية في غاية الوضوح، أمّا
(1) بحار الأنوار، ج77، ص171، وهو الروضة من البحار باب ما جمع من مفردات كلمات الرسول (صلى الله عليه و آله).
(2) وسائل الشيعة، ج16، ص112، الباب 6 من الإقرار، الحديث الوحيد في الباب.
(3) نفس المصدر، ص111، الباب 3 من الإقرار، ح1.
(4) مستدرك الوسائل، ج3، ص48، الباب 2 من الإقرار، ح1 و2.
المرسلة الأُولى فتكمّل دلالتها عليه إمّا بإطلاقها بمقدّمات الحكمة لفرض تعقيب الإقرار بالإنكار، أو بضمّ الارتكاز المكمّل للإطلاق. وعلى أيّ حال فهما ساقطتان سنداً.
6_ روايات نفوذ شهادة بعض الورثة في مال المورّث عليه بقدر حصّته(1). وفيها ما هو تام سنداً، وتتمّ دلالتها على المستوى الثاني من حجّية الإقرار _ وهو حجّيته حتى بعد الإنكار _ ولو بمعونة الارتكاز.
7_ ما عن منصور بن حازم _ بسند تام _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن رجل أوصى لبعض ورثته: أنّ له عليه ديناً؟ فقال: إن كان الميّت مرضيّاً فأعطه الذي أوصى له»(2).
وقد يحتمل كون الحديث ناظراً إلى حجّية خبر الواحد في الموضوعات لا إلى حجّية الإقرار، وذلك لتقييد نفوذ إقراره بكونه مرضيّاً، فكأنّ إقراره لولا كونه مرضيّاً لا ينفذ ولو بنكتة فرضه في مرض الموت، أو بنكتة أنّه لم ينفّذ هو ما أقرّ به إلى أن مات فأصبح بعد الموت إقراره على باقي الورثة، ولكن ينفذ إقراره إذا كان مرضيّاً من باب حجّية خبر الثقة.
ويحتمل أيضاً ألّا يكون نفوذ شهادته من باب حجّية خبر الثقة محضاً بأن يكون خبر الثقة حجّةً في كلّ الموضوعات، بل يكون نفوذ شهادته من باب كونها إقراراً على نفسه، فليس إقراره هو النافذ مطلقاً؛ لأنّه في مرض الموت، أو لأنّه إقرار على الورثة، وليس خبر الثقة هو النافذ مطلقاً لأنّه في الموضوعات، ولكن باجتماع الوثاقة مع كون شهادته إقراراً على نفسه صارت الشهادة نافذةً، وبناءً على هذا الاحتمال
(1) وسائل الشيعة، ج13، ص401، الباب 26 من كتاب الوصايا.
(2) نفس المصدر، ج16، ص110، الباب الأول من الإقرار، الحديث الوحيد في الباب، وج13، ص376، الباب 16 من الوصايا، ح1.