54

الأول، أن يكون المقصود بذلك كلّ ما لذاك الثقة من كتب وروايات في علم اللّه، وعندئذٍ يتمّ هذا الوجه الذي شرحناه للتعويض؛ إذ لو لم يكن قد وصل هذا الحديث إلى الشيخ عن الطريق الذي ذكره في الفهرست بقوله: أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان عن فلان، لكان يعلم الشيخ بكذب هذا الحديث؛ إذ لو كان صادراً عنه حقّاً لكان قد وصل إليه بهذا الطريق حسب ما تدل عليه تلك العبارة، ولو كان يعلم الشيخ بكذبه لما رواه.

إلا أنّ هذا الاحتمال في ذاته واضح البطلان؛ إذ لا سبيل للشيخ عادةً إلى الإحاطة بكلّ روايات هذا الشخص بنحو يقطع بأنّه لا رواية له غير هذه الروايات التي وصلت إليه عن طريق هذا السند.

الثاني، أن يكون المقصود بذلك كلّ ما نُسبت إلى ذاك الثقة من كتب وروايات، وهذا أيضاً في البطلان كالأوّل، فلا سبيل للشيخ عادةً إلى الإحاطة بكلّ ما نسبت إلى ذاك الثقة من كتب وروايات بحيث ينفي أن يكون قد نسبت إليه رواية إلا وقد وصلت إليه بذاك الطريق.

ولو تمّ هذا الوجه ثبت المقصود؛ لأنّ الرواية التي نحن بصدد تصحيح سندها قد نسبت إليه قطعاً، فهي داخلة في هذا العموم.

الثالث، أن يكون المقصود بذلك جميع ما رواه الشيخ عنه من كتب وروايات، وهذا احتمال معقول، وبناءً على هذا الاحتمال يثبت المقصود أيضاً؛ لأنّ هذه الرواية ممّا رواها الشيخ حسب الفرض.

الرابع، أن يكون المقصود بذلك جميع ما وصل إلى الشيخ عنه من كتب وروايات، وهذا الاحتمال كسابقه في المعقولية، وفي ثبوت المقصود بناءً عليه؛ لأنّ هذه الرواية قد وصلت إلى الشيخ حسب الفرض؛ إلا أنّه يختلف عن سابقه في أنّنا لو وجدنا

55

كتاباً في مكتبة الشيخ لهذا الثقة بحيث عرفنا أنّه واصل إلى الشيخ، ولكن لم نعرف أنّه رواه عنه، أمكن تصحيح سند هذا الكتاب بهذا الوجه، بخلافه على الاحتمال الثالث. وعلى أيّ حال، فهذه الثمرة في زماننا غير متحقّقة على أيّ حال، فالاحتمالان عملاً متساويان في النتيجة.

الخامس، أن يكون المقصود بذلك جميع ما اعتقد الشيخ وجداناً أو تعبّداً أنّه صادر عن هذا الثقة من كتاب أو رواية، وبناءً على هذا الاحتمال لا يثبت المقصود في المقام؛ إذ اعتقاد الشيخ وجداناً أو تعبّداً بأنّ الرواية المبحوث عنها صادرة عنه أوّل الكلام، فيصبح التمسّك بقوله: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته...» تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

إلا أنّ هذا الاحتمال في ذاته خلاف الظاهر كما ذكره أُستاذنا الشهيد (رحمه الله)؛ لأنّ ظاهر قوله: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته...» هو أنّه يتكلّم بما هو راوٍ ومحدّث، لا بما هو مجتهد في الأحاديث يحكم بثبوت هذا الحديث عنه وجداناً أو تعبّداً، ولأنّ هدف الشيخ (رحمه الله) من هذه العبارة تزويدنا بسند إلى تلك الكتب والروايات، بينما لو كان المقصود هو أنّ هذا سند لكلّ ما يعتقد هو أنّه لفلان ففي الحقيقة لم يزوّدنا بسند إطلاقاً؛ إذ ما يدرينا أنّ الرواية الفلانيّة داخلة في ما يعتقد الشيخ بصدوره عن فلان أو لا؟!

وأُستاذنا الشهيد (رحمه الله) لم يتعرّض للاحتمال الثالث، وباستبعاد الاحتمال الخامس عيّن الاحتمال الرابع. وعلى أيّ حال فقد عرفت أنّه لا ثمرة عمليّة فعلاً بين الاحتمال الثالث والرابع، وما دمنا قد استبعدنا الاحتمال الخامس فالمقصود ثابت على أيّ حال.

يبقى الكلام في أنّ الشيخ كثيراً مّا ينقل في كتابيه روايةً عن كتاب مسقطاً ما

56

لديه من سند إلى صاحب ذاك الكتاب، وتعرّض في آخر الكتابين إلى ذكر السند لغالب ما حذف أسانيده إليه، وحينئذٍ قد يفترض أنّ الرجل غير ثابت التوثيق وقع ضمن ذاك السند، والرجل ثابت التوثيق _ الذي كان للشيخ في فهرسته سند تام إلى جميع كتبه ورواياته _ عبارة عن نفس صاحب الكتاب أو عن شخص آخر أقرب إلى الشيخ من صاحب الكتاب، وهنا لا إشكال في التعويض، وأُخرى يفترض أنّ الرجل الثقة _ الذي كان للشيخ سند تام إلى جميع كتبه ورواياته _ وقع قبل صاحب الكتاب _ أي كان أقرب إلى الإمام سواء كان الشخص غير ثابت التوثيق قبل صاحب الكتاب أو بعده _ فهنا هل نطبّق عليه نظرية التعويض أو لا؟ قد يقال بعدم الفرق بين الفرضين تمسّكاً بإطلاق قوله: «أخبرنا بكتبه ورواياته».

ولكن الظاهر عندي هو التفصيل بين الفرضين، فنحن إنّما نقبل بنظريّة التعويض هذه حينما يكون ذاك الثقة _ الذي كان للشيخ إلى جميع رواياته سند تام _ عبارة عن نفس صاحب الكتاب الذي روى الشيخ الحديث عن كتابه، أو من كان واقعاً في السند الذي يوصل الشيخ بذلك الكتاب. أمّا إذا كان بين الإمام وصاحب الكتاب فلا نطبّق عليه هذا القانون، وهذا الكلام ينشأ من فهمنا لكلمة «رواياته» في قوله: «أخبرنا بكتبه ورواياته»، أو قوله: «أخبرنا برواياته».

توضيح ذلك: أنّه يحتمل في كلمة «رواياته» أمران:

الأول، أن يشمل الروايات الشفهيّة، فكأنّه حينما قال: «أخبرنا بكتبه ورواياته» قصد بذلك أنّه أخبرنا بما رواه في كتبه وبما رواه من كتب الآخرين وكتاباتهم وبما رواه من روايات شفهيّة فلان عن فلان، وبناءً على هذا الاحتمال يتمّ ما مضى من بطلان الاحتمال الأول من الاحتمالات الخمسة، وهو إرادة واقع الكتب والروايات؛ لما قلنا من أنّه لا سبيل للشيخ إلى الإحاطة بكلّ رواياته بنحو يقطع أنّه لم يروِ أيّ رواية

57

أُخرى غير واصلة إلى الشخص بذاك السند، ويتمّ أيضاً التمسّك بإطلاق جملة «أخبرنا بكتبه ورواياته»، أو جملة «أخبرنا برواياته» لإثبات عدم الفرق بين ما لو وقع الثقة _ الذي للشيخ إليه سند تام _ بين الشيخ وصاحب الكتاب، أو بين الإمام وصاحب الكتاب، إلا أنّ هذا الاحتمال بعيد غاية البعد، فإنّ الشيخ (رحمه الله) قد تكرّرت منه كثيراً هذه الجملة، وبشأن كثيرين ممّن يكون الفاصل بينه وبين الشيخ متعدّداً، ورواياته الشفهية كثيرة ومتناثرة وواصلة إلى الشيخ ضمن كتب المتأخّرين عنه، وعادةً لا يمكن للشيخ الشهادة بوصول كلّ رواياته _ الواقعية أو الواصلة إلى الشيخ أو التي يرويها الشيخ _ بالسند الذي يذكره، وإنّما الشيء المعقول هو الاحتمال الثاني.

الثاني، أن يكون المقصود بـ «رواياته» رواياته لكُتب الآخرين وكتاباتهم ، أو لكتبه هو والآخرين دون رواياته(1) الشفهية، وهذا ممّا يمكن الإحاطة به، فكان من المتعارف وقتئذٍ إخبار شيخ الإجازة لمن يروي عنه بجميع ما يرويه من كتب مؤلّفة لنفسه أو لغيره قراءةً عليه أو سماعاً منه أو إجازةً.

وبناءً على هذا الاحتمال قد يبطل ما ذكرناه في إبطال الاحتمال الأول من الاحتمالات الخمسة من أنّ الشيخ لا يستطيع أن يحصر كلّ روايات هذا الثقة في علم اللّه فيما وصل إليه بهذا السند؛ إذ هذا الحصر بالنسبة للكتب والمؤلّفات المرويّة أمر معقول، إلا أنّ الصحيح مع ذلك أنّ التتبّع في فهرست الشيخ ورجال النجاشي يشرف المتتبّع على القطع ببطلان الاحتمال الأول؛ إذ كثيراً ما يذكر أحدهما راوياً ذا كتب كثيرة، ويعدّد منها ما هو أقلّ من عدد الكتب، ممّا يوحي أنّه لم يصل إليه بما


(1) أو يشمل طائفة من رواياته الشفهية، وهي التي أعطاها بالسند الفلاني الوارد في الفهرست، لا مطلق رواياته الشفهية.

58

لديه من أسانيد كلّ الكتب، ومع ذلك يقول: «أخبرنا بكتبه _ أو بجميع كتبه _ فلان عن فلان»، وتوجد أحياناً بعض القرائن الواضحة على عدم وصول كلّ الكتب إليه، كقول النجاشي في علي بن الحسن بن فضّال: «وقد صنّف كتباً كثيرة منها ما وقع إلينا: كتاب الوضوء، كتاب الحيض...»، وكقول الشيخ بشأن يونس بن عبدالرحمن: «له كتب كثيرة أكثر من ثلاثين كتاباً، وقيل: إنّها مثل كتب الحسين بن سعيد وزيادة» ثم يعدّد بعضها ثم يقول: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته...»، ومن الواضح أنّه لو كان وصل إليه كلّ الكتب لما قال: «قيل: إنّها مثل كتب الحسين بن سعيد وزيادة»، وكقول الشيخ بشأن علي بن الحسن بن فضّال: «قيل: إنّها _ يعني كتبه _ ثلاثون كتاباً: منها كتاب الطبّ، كتاب فضل الكوفة...».

وعلى أيّة حال، فبناءً على هذا الاحتمال _ وهو الذي نستظهره _ يتّضح الفصل بين ما لو كان ذاك الثقة _ الذي كان للشيخ إلى كتبه ورواياته سند تام _ واقعاً بين الشيخ والكتاب الذي روى الحديث عنه، أو بين الكتاب والإمام، ففي الأول يمكن تطبيق نظريّة التعويض وفي الثاني لا يمكن ذلك؛ إذ لم يثبت لنا أنّ هذا الحديث وارد في كتاب من الكتب التي يرويها هذا الثقة، فلعلّه كان رواية شفهية.

هذا. ولا أقلّ من الإجمال، وهو يكفينا لعدم تسرية قاعدة التعويض إلى ما إذا كان ذاك الثقة بين الكتاب والإمام، ولا إلى ما إذا كان الخبر بكلّ تسلسله شفهيّاً.

ومن هنا يظهر أنّ تطبيق هذه النظريّة على عهد الإمام إلى مالك الأشتر في ما لو فرضنا أو احتملنا أنّ الرواة الواقعين في سند الشيخ من ابن أبي جيد إلى الحميري إنّما تناقلوه شفةً عن شفة غير صحيح.

نعم، بناءً على دعوى الاطمئنان بأنّ العهد كان مكتوباً وموروثاً على شكل الكتاب وكان فيما نقله _ من الكتب والكتابات _ الحميري لابن الوليد، أو ابن الوليد

59

لابن أبي جيد، صحّ التعويض في المقام.

وقبل أن ننتقل إلى الشكل الثاني من أشكال التعويض ينبغي أن نذكر أمرين:

أحدهما، أنّ الشيخ (رحمه الله) عبّر بشأن بعض الرواة بقوله: أخبرني بكتبه ورواياته فلان عن فلان، وبشأن بعض الرواة بقوله: أخبرني برواياته فلان عن فلان، كما هو الحال فيما نحن فيه على بعض النسخ، حيث عبّر فيه بشأن ابن الوليد بالتعبير الثاني، وكذلك بشأن الحميري في نسخة القهبائي، وبشأن بعض الرواة بقوله: «أخبرني بكتبه» من دون عطف كلمة (رواياته)، ولا إشكال في صحّة تطبيق نظريّة التعويض في مورد التعبير الأول والثاني، ولكن قد يناقش في مورد التعبير الثالث، باحتمال كون المقصود من الإخبار بكتبه الإخبار بعناوين الكتب وأسمائها مثلاً، لا بواقعها.

نعم، لو كان قد عطف كلمة (رواياته) على كلمة (كتبه) لأمكن أن يقال بمقتضى وحدة السياق: إنّ الكتب بالمعنى الذي يعطف عليه الروايات، إنّما هو واقع الكتب لا عناوينها، ولكن المفروض عدم العطف؛ إلا أنّ مراجعة فهرست الشيخ وتتبّع موارد استعمال الشيخ (رحمه الله) لهذه الجملة لا تدع مجالاً للشكّ في أنّ مقصود الشيخ (رحمه الله) من الكتب هو واقع الكتب، وأنّ هدفه هو تقديم سند للكتب، لا مجرّد تثبيت الأسماء والعناوين.

هذا، مضافاً إلى أنّ تحويل الشيخ في المشيختين على فهارس الأصحاب، وفي إحداهما على فهرسته هو _ على ما سيأتي _ دليل على أنّهم في الفهارس كانوا يقصدون ذكر السند دون عدّ الكتب فحسب، فحينئذٍ لا بأس بتطبيق نظرية التعويض في المورد.

نعم، لا يمكن عندئذٍ تطبيق النظرية إلا حينما يكون سند الشيخ في فهرسته إلى نفس الكتاب الذي روى عنه الرواية. أمّا لو كان سنده إلى ثقة آخر بين الضعيف

60

وصاحب الكتاب مثلاً فلا يمكن التعويض؛ لأنّ المفروض أنّ سند الشيخ في فهرسته إنّما هو سند إلى كتبه فقط، لا إلى كتبه ورواياته، والمفروض أنّ هذه الرواية غير مأخوذة من كتاب هذا الثقة.

الثاني، أنّ هذا الشكل من التعويض كما يمكن تطبيقه على القطعة الأُولى من السند من زمن الشيخ _ كما شرحناه _ يمكن تطبيقه على القطعة الثانية من السند، وذلك فيما لو وقع بعد ذاك الضعيف _ أي أقرب إلى الشيخ مثلاً _ ثقة، وفرض أنّ ذاك الثقة كان له كتاب فيه فهرست لمشايخه وإجازاته، ويكون له طريق إلى جميع كتب وروايات ثقة وقع بعد ذاك الضعيف، أو إلى الإمام رأساً؛ بأن يكون له طريق صحيح لجميع ما وصل إليه من الإمام مثلاً. وهذه فرضيّة ذكرها أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في المقام، وهي صحيحة في حدّ ذاتها وإن كان المظنون عدم العثور على مورد له معروفٍ لدينا.

الشكل الثاني للتعويض: هو عبارة عن تعويض سند الشيخ مثلاً إلى صاحب كتاب في رواية ينقلها عن ذاك الكتاب، بسند النجاشي مثلاً إلى ذاك الكتاب ضمن شروط ثلاثة. ونوضّح ذلك عبر مثال.

فنقول: إنّنا نفترض أنّ الشيخ روى حديثاً عن علي بن الحسن بن فضّال، وسند الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضّال فيه ضعف، وللنجاشي سند تام إلى علي بن الحسن بن فضّال، فنعوّض سند الشيخ بسند النجاشي ضمن شروط:

الشرط الأول، أن يكون الراوي المباشر للشيخ ثقةً.

والشرط الثاني، أن يكون النجاشي مالكاً أيضاً لنفس السند الذي ملكه الشيخ وهو السند الضعيف، ويمتلك إضافة إلى ذلك سنداً صحيحاً.

والشرط الثالث، أن يكون النجاشي والشيخ لم يكتفيا بالقول بنحو الإجمال: أخبرنا بجميع كتبه فلان عن فلان، بل صرّحا باسم الكتب، ورأينا أن الكتب التي سمّاها

61

الشيخ قد سمّاها النجاشي أيضاً. فعند استكمال هذه الشروط يصحّ الاستبدال، وذلك لأنّ ظاهر كلام النجاشي الذي ذكر طريقين إلى كتب علي بن الحسن بن فضّال أنّ تلك الكتب نقلت له بالطريقين بنقلين متماثلين في النسخة، وإنّما الفرق بينهما في السند لا في المتن، ولا يحتمل عقلائيّاً أنّ النسخة التي نقلت له بالطريق الضعيف تختلف عن النسخة التي وصلت إلى الشيخ بعين ذاك الطريق، فإنّ المفروض أنّ من وقع بعد الشيخ مباشرةً ثقة، فلا يحتمل أنّه أعطى نسخة إلى أحدهما وأعطى كذباً نسخة أُخرى إلى الآخر، كما لا يحتمل عقلائيّاً أنّ ذاك الثقة كانت لديه نسختان مختلفتان من ذلك الكتاب لا يدري أيّهما حقّ، وغفل ولم ينبّه الشيخ ولا النجاشي إلى اختلاف النسختين، أو لم ينتبه هو إلى ذلك رغم ما كان متعارفاً عندهم من التدقيق في متون الأخبار.

هذا، والشرط الثاني من الشروط الثلاثة قد يمكن التنازل عنه والاكتفاء بأن يكون للنجاشي إضافة إلى السند التامّ سند آخر يبتدئ بذلك الثقة المباشر للشيخ، أو أن يكون الشخص المباشر للنجاشي في سنده التامّ هو نفس الثقة المباشر للشيخ بلا حاجة أصلاً إلى أن يكون للنجاشي سندان، وذلك على أساس استبعاد عدم إشارة هذا الثقة _ على أيّ حال _ إلى وجود نسختين مختلفتين لو كانتا.

وهذا الفرض الأخير _ أعني وجود سند صحيح للنجاشي يبتدئ بالثقة المباشر للشيخ _ يرجع أيضاً إلى ما ذكرناه أخيراً في الشكل الأول للتعويض من تطبيقه على القطعة الثانية من السند.

ثم المثال الذي ذكرناه هو مثال واقعي إلى حدّ، وليس مثالاً خياليّاً بحتاً؛ فإنّ سند الشيخ (رحمه الله) إلى علي بن الحسن بن فضّال ضعيف بابن الزبير، فإنّ سنده إليه عبارة عن: «أحمد بن عبدون عن علي بن محمد بن الزبير عن علي بن الحسن ابن فضّال»،

62

وللنجاشي إليه إضافةً إلى هذا السند سند آخر وهو: «محمد بن جعفر في آخرين عن أحمد بن محمد بن سعيد عن علي بن الحسن». ومحمد بن جعفر وإن لم يكن ثابت التوثيق إلا بناءً على وثاقة كلّ مشايخ النجاشي ولا نقول به، ولكن لا يبعد أن يقال: إنّ كونه شيخاً للنجاشي منضمّاً إلى أنّه ليس الناقل الوحيد، بل نقل في آخرين _ على حدّ تعبير النجاشي _ يكفي في إيجاد الوثوق والاطمئنان، فإنّ الراوي في الحقيقة عبارة عن عدّة من مشايخ النجاشي، ولا نحتمل عادة كذبهم جميعاً.

نعم، قد توجد عدّة نقاط ضعف في هذا المثال:

الأُولى، تخلّف الشرط الثالث في كتاب واحد، فإنّ الكتب التي ذكرها الشيخ (رحمه الله) ذكرها جميعاً النجاشي ولو بفرقٍ ما نادراً في الاسم، كتعبير الشيخ باسم «كتاب أخبار بني إسرائيل»، وتعبير النجاشي باسم «كتاب عجايب بني إسرائيل» ما عدا كتاب واحد وهو: «كتاب صفات النبي (صلى الله عليه و آله)»، حيث لم يأتِ هذا الاسم في الكتب التي عدّها النجاشي، ولكن النجاشي عدّ كتباً عديدة ممّا لم يعدّه الشيخ (رحمه الله)، ومنها: «كتاب وفاة النبي (صلى الله عليه و آله)»، فيأتي احتمال أنّ هذا هو عين «كتاب صفات النبي (صلى الله عليه و آله)»، وإنّما وقع خطأ عند أحدهما، فبدّلت كلمة الوفاة بكلمة الصفات، أو بالعكس، واحتمال أنّ ذاك الكتاب مشتمل على صفات النبي (صلى الله عليه و آله) ووفاته معاً فسمّي هنا باسم وفاة النبي (صلى الله عليه و آله)، وهناك باسم صفات النبي (صلى الله عليه و آله). وعلى أيّ حال فيمكن التغاضي عن هذه النقطة من الضعف في المقام؛ لأنّ الشرط لم يتخلّف إلا في كتاب واحد من كتب كثيرة، والتخلّف أيضاً احتمالي، وليس جزميّاً كما عرفت، وعندئذٍ يصبح احتمال كون الحديث الذي نريد تصحيح سنده قد أخذه الشيخ من كتاب غير مشمول لسند النجاشي ضعيفاً إلى حدّ يطمأنّ بعدمه، خاصّة حينما لا تكون الرواية واردة بشأن صفات النبي (صلى الله عليه و آله).

63

الثانية، أنّ النجاشي ذكر سنديه إلى كتب علي بن الحسن بن فضّال بهذا التعبير:

«قرأ أحمد بن الحسين كتاب الصلاة، والزكاة، ومناسك الحجّ، والصيام، والطلاق، والنكاح، والزهد، والجنائز، والمواعظ، والوصايا، والفرائض، والمتعة، والرجال على أحمد بن عبدالواحد في مدّة سمعتها معه، وقرأت أنا كتاب الصيام عليه في مشهد العقيقة عن ابن الزبير، عن علي بن الحسن.

وأخبرنا بسائر كتب ابن فضّال بهذا الطريق.

وأخبرنا محمد بن جعفر في آخرين، عن أحمد بن محمد بن سعيد، عن علي ابن الحسن بكتبه».

ويحتمل في قوله: «أخبرنا بسائر كتب ابن فضّال...» احتمالان:

أحدهما، كون هذا إجازةً في النقل، وذلك في مقابل عدد من الكتب التي ينقلها قراءة على الشيخ، أو سماعاً لقراءة أحمد بن الحسين على الشيخ.

والثاني، كون هذا بمعنى الإخبار بمجرّد أسماء الكتب في مقابل عدد من الكتب التي لم يكن وصولها إليه بمعنى مجرّد وصول الأسماء. وقد يدّعي مدّعٍ على أثر التتبّع في كتاب النجاشي أنّ هدفه من مثل هذه العبارة إعطاء السند لا مجرّد سرد أسماء الكتب، كما ادعينا ذلك بالنسبة لفهرست الشيخ، إلا أنّ هذه الدعوى بالنسبة لفهرست الشيخ أوضح صحّةً منها بالنسبة لرجال النجاشي كما يظهر للمتتبّع فيها. وعلى أيّ حال فما أشرنا إليه من إرجاع الشيخ في المشيختين إلى فهارس الأصحاب يؤيّد أيضاً كون مقصود النجاشي ذكر السند، لا مجرّد سرد أسماء الكتب؛ فإنّ كتاب النجاشي داخل في عنوان الفهرست، بل ذكر الشيخ اليوسفي في ما كتبه كمقدمة لنسخة من رجال النجاشي _ طبعت أخيراً _ ما مفاده: أنّ النجاشي سمّى كتابه في ظهر النسخة بالفهرست حيث كتب على ظهر النسخة: (الجزء الأول من

64

كتاب فهرست أسماء مصنّفي الشيعة وما أدركنا من مصنّفاتهم...)، وكذلك كتب على ظهر الجزء الثاني أيضاً.

الثالثة، أنّ النجاشي ذكر فيما ذكر في المقام قوله: «ورأيت جماعة يذكرون الكتاب المنسوب إلى علي بن الحسن بن فضّال المعروف بأصفياء أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويقولون: إنّه موضوع عليه، لا أصل له، واللّه أعلم، قالوا: وهذا الكتاب ألصق روايةً إلى أبي العباس ابن عقدة وابن الزبير، ولم نر أحداً ممّن روى عن هذين الرجلين يقول قرأته على الشيخ غير أنّه يضاف إلى كلّ رجل منهما بالإجازة حسب».

فإذا كان جماعة من الأصحاب يشهدون بوضع كتاب الأصفياء أفلا تسقط هذه الشهادة خبر المخبر بهذا الكتاب على أساس التعارض؟! وإذا سقط ذلك أفلا نحتمل بنحو الإجمال في أيّة رواية يرويها الشيخ عن علي بن الحسن بن فضّال أن تكون مأخوذة من هذا الكتاب، واسم هذا الكتاب موجود في القائمة التي عدّدها الشيخ (رحمه الله) إلا أن يُدعى في الرواية التي نراها في التهذيب أو الاستبصار _ وهي واردة في الأحكام لا في شأن أصفياء أمير المؤمنين (عليه السلام) _ الاطمئنان بأنّها ليست مأخوذة من كتاب أصفياء أمير المؤمنين (عليه السلام).

الرابعة، أنّ الشرط الأول منتفٍ في المقام؛ لأنّ الراوي المباشر للشيخ هو أحمد بن عبدون ولم يرد توثيق بشأنه.

وهذا الإشكال يمكن تذليله على مبنى السيّد الخوئي القائل بوثاقة مشايخ النجاشي، ولكنّنا لا نقول بهذا المبنى.

الشكل الثالث للتعويض: وهو أوسع مشرباً من الوجوه الماضية، وحاصله: أنّنا إذا وجدنا طريقاً ضعيفاً للشيخ إلى أحمد بن محمد بن عيسى مثلاً، ولكن كان طريق الصدوق (رحمه الله) إليه في مشيخة الفقيه صحيحاً، حكمنا بصحّة ذاك الحديث، سواء

65

كان الصدوق داخلاً في طريق الشيخ أو لا، وذلك باعتبار أنّ طريق الشيخ إلى الصدوق صحيح، فيتلفّق من طريق الشيخ إلى الصدوق والصدوق إلى أحمد بن محمد بن عيسى، طريق صحيح.

ويرد بدواً إلى الذهن الإشكال بأنّ المفروض أنّ هذه الرواية غير موجودة في الفقيه، وإلا لتمسّكنابها ابتداءً، ومشيخة الفقيه طريق للروايات التي أوردها في الفقيه، فكيف نصحّح بذلك رواية واردة في التهذيب أو الاستبصار؟!

ويمكن الجواب على هذا الإشكال بالتمسّك بما ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) من الحوالة في آخر المشيختين على فهارس الشيوخ، فقد قال في آخر مشيخته في التهذيب: «قد أوردت جملاً من الطرق إلى هذه المصنّفات والأصول، ولتفصيل ذلك شرح يطول، وهو مذكور في الفهارس المصنّفة في هذاالباب للشيوخ (رحهم الله)، من أراده أخذه من هناك إن شاء اللّه تعالی،وقد ذكرنا نحن مستوفىً في كتاب فهرست الشيعة».

وقال في آخر مشيخته في الاستبصار: «قد أوردت جملاً من الطرق إلى هذه المصنفات والأصول، ولتفصيل ذلك شرح يطول، هو مذكور في الفهارس للشيوخ، فمن أراده وقف عليه من هناك إن شاء اللّه تعالى».

والاستدلال بهذا التعبير الوارد عن الشيخ في المشيختين يتوقّف على افتراض أنّ مقصود الشيخ ليس هو الحوالة على خصوص فهارس الشيوخ، التي يذكر فيها طرقهم إلى أصحاب الكتب والأصول، بل هو إشارة بنحو القضيّة الخارجيّة إلى ما يكون من أجلى مصاديقه مشيخة الصدوق، وإن كانت بحسب مدلولها اللفظي مشيخة لخصوص الروايات المذكورة في الفقيه، فإطلاق كلام الشيخ شامل لذلك.

وتقريب ذلك: أنّه لم تكن لدى الأصحاب فهارس موسّعة كي يكون كلام الشيخ

66

إشارة إليها فحسب، ويشهد لذلك أنّ الشيخ أشار في أوّل فهرسته في مقام بيان ما دعاه إلى وضع فهرسته إلى: «عدم سعة فهارس الأصحاب عدا فهرستين لابن الغضائري الحسين بن عبيداللّه: أحدهما فهرست للمصنفات، والآخر فهرست للأصول، ولكنّهما تعرّضا للتلف».

وأمّا (رجال النجاشي) الذي هو فهرست من فهارس الأصحاب فهو متأخّر في التأليف عن التهذيب والاستبصار بدليل أنّه ذكرهما في كتابه عند ترجمة الشيخ؛ إذاً في ظرف من هذا القبيل تعتبر مشيخة الصدوق المفصّلة نسبياً من أجلى مصاديق ما يمكن أن تشير إليه إحالة الشيخ في المشيختين إلى فهارس الأصحاب رغم أنّ مشيخة الصدوق ليست فهرستاً بالمعنى المصطلح، فإن لم نجزم بظهور من هذا القبيل لم يتمّ هذا الوجه. والإنصاف أنّ الجزم بهذا الظهور في غير محلّه.

وقد يقال: إنّ هذا الإطلاق حتى لو تمّ فهو معارض بقوله: «وقد ذكرنا نحن مستوفىً في كتاب فهرست الشيعة»، فإنّ ظاهر هذا التعبير أنّه ذكر جميع طرقه في فهرسته، فالحديث الضعيف في مشيخته إن وجدنا سنداً صحيحاً له في فهرسته فلا حاجة إلى مراجعة مشيخة الصدوق، وإلا فمقتضى إخباره باستيفاء طرقه في الفهرست أنّه لا يملك طريقاً صحيحاً إليه.

قلت: أوّلاً، إنّ هذا الظهور لكلمة «مستوفىً» غير معلوم، ولعلّه يعني بذلك: أنّنا ذكرنا ذلك مفصّلاً في الفهرست من دون أن يعطي معنى الاستيعاب الكامل.

وثانياً، لو فرض تعارض من هذا القبيل في داخل كلامه في مشيخة التهذيب، فهذا يوجب إجمال العبارة في تلك المشيخة، ونرجع إلى عبارته في مشيخة الاستبصار، لأنّها غير مشتملة على مقطع من هذا القبيل، فلا إجمال فيها.

وثالثاً، إنّ الشيخ ذكر في فهرسته طريقه إلى الصدوق، وهذا كافٍ لرفع التهافت

67

بين الظهورين؛ فإنّ ذلك ذكر إجمالي لجميع طرق الصدوق الموجودة في مشيخته بعد حملها _ بقرينة تحويل الشيخ إليها بالإطلاق _ على أنّها طرق إلى جميع كتب الرواة المذكورين في الفقيه، وإن كان كلامه في مشيخته لا يدل _ من باب ضيق التعبير _ على أزيد من كونها طرقاً إلى خصوص الروايات المذكورة في الفقيه.

وعلى أيّ حال فالإنصاف أنّ هذا الشكل الأخير من التعويض غير صحيح؛ لما قلنا من أنّ مشيخة الفقيه ليست فهرستاً، ولا معنى لفرض شمول إطلاق إرجاع الشيخ إلى الفهارس لها.

هذا تمام الكلام في نظريّة التعويض.

الوجه الثاني، من وجوه الإشكال في سند عهد الإمام (عليه السلام) إلى مالك الأشتر:

هو وقوع الحسين بن علوان الكلبي في هذا السند، ولا دليل على وثاقته عدا ما ورد عن النجاشي من قوله: «الحسين بن علوان الكلبي مولاهم كوفي عامّي، وأخوه الحسن يكنّى أبا محمد ثقة رويا عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، وليس للحسن كتاب، والحسن أخص بنا وأولى...».

فبناءً على ما قد يتبادر إلى الذهن بدواً من أنّ قوله: «ثقة» يرجع إلى الحسن لا يبقى لدينا دليل على وثاقة الحسين. أمّا لو استظهرنا رجوع هذه الكلمة إلى الحسين، إمّا بقرينة ورود العبارة في ترجمة الحسين، أو بقرينة أنّه بيّن حال الحسن بعد ذلك بقوله: «أخصّ بنا وأولى» ارتفع الإشكال، وإلا فلا.

الوجه الثالث، سعد بن طريف أو سعد بن ظريف: حيث اختلف تقييم الشيخ له عن تقييم النجاشي، فذكر الشيخ عنه أنّه صحيح الحديث، وذكر النجاشي عنه أنّه يُعرف وينكر. ومع التعارض لا يبقى دليل على وثاقته، إلا إذا تبنّينا تفسير السيد الخوئي لعبارة النجاشي من أنّ المقصود أنّ حديثه أحياناً يأتي حديثاً معروفاً، وأُخرى

68

يأتي حديثاً غريباً، أي لا تقبله العقول العادية المتعارفة، وهذا لا ينافي الوثاقة، إلا أنّ هذا التفسير قابل للتأمّل، وبالإمكان أيضاً أن يفسّر ذلك بتفسير آخر، وهو أنّ هذا الإنسان يعرفه البعض بالوثاقة ومجهول عند البعض الآخر.

وعلى أيّ حال فلو فرض إجمال في كلام النجاشي أو شكّ في معناه بقيت شهادة الشيخ بصحّة حديثه حجّةً.

الوجه الرابع، كون الراوي للعهد هو الأصبغ بن نباتة: حيث لم يرد التصريح بوثاقته، ووروده في كامل الزيارات يفيد على مبنى السيد الخوئي، وليس على مبنانا، ورواية الشيخ الحر في الفائدة السابعة من خاتمة الوسائل (ص 89) توثيقه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) لا تفيد، لعدم تمامية سند الرواية. نعم الظاهر أنّ قولهم: إنّ الأصبغ من خاصّة أمير المؤمنين (عليه السلام) كافٍ لوثاقته.

الوجه الخامس، أنّ الشيخ لم ينقل لنا متن عهد الإمام إلى مالك الأشتر، فلا يفيدنا ما ذكره من السند، فإنّ هذا السند سوف لن يثبت لمتن أخذناه من نهج البلاغة _ مثلاً _ إلا أن يقال: إنّ قول الشيخ: «أخبرنا بالعهد فلان عن فلان...» إشارة إلى نفس هذا العهد الذي لم يعرف إلا بالنسخ المألوفة، فيثبت ما اتفقت عليه النسخ.

دلالة عهد الأشتر

وأمّا من حيث الدلالة: فكلمة (أفضل) لا تعطي معنى (أعلم) كي يثبت المقصود، بل تعطي الترجيح من حيث مجموع الجهات، ويشهد بذلك نفس متن العهد أيضاً حيث قال (عليه السلام): «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلّة، ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في

69

الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلّهم تبرّماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشّف الأمور، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم ممّن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل...».

على أنّه لم يعلم كون هذا حكماً شرعيّاً، أو حكماً ولائيّاً نافذ المفعول إلى الآن؛ إذاً الموقف يناسب أيضاً كونه من تعاليمه (عليه السلام) بما هو رئيس الحكومة لمالك الأشتر بما هو منصوب من قبله على مصر.

هذا تمام الكلام في اشتراط العلم.

شرط البلوغ

الشرط الثاني: البلوغ. وقد يتمسّك لإثبات ذلك بما مضى من رواية أبي خديجة حيث؛ جاء فيها: «اُنظروا إلى رجل منكم» فإن فرضنا أنّها ناظرة إلى قاضي التحكيم ثبت شرط البلوغ في القاضي المنصوب بطريق أولى، وإن فرضنا أنّها ناظرة إلى القاضي المنصوب ثبت شرط البلوغ في المنصوب بحيث يقيّد بها إطلاق غيرها لو كان، وذلك لاستظهار كون العبارة في مقام تحديد من سمح بالرجوع إليه، فينفى السماح بالرجوع إلى غير من ذكره.

وقد يستشهد لإثبات اشتراط البلوغ بما دلّ على كون غير البالغ مولّىً عليه، ومحجوراً في التصرفات ولو في الجملة، فمن يكون محجوراً عن التصرف في ماله كيف لا يكون محجوراً عن القضاء، فيتعدّى إذاً إلى باب القضاء إمّا بالأولويّة العرفيّة، أو ببيان أنّ جوّاً تشريعياً قام على أساس محجورية الصغير فلا يتمّ فيه الإطلاق لدليل القضاء.

70

شرط العقل والرشد والإسلام

الشرط الثالث والرابع والخامس: العقل والرشد والإسلام. ولا حاجة للبحث عنها.

شرط الذكورة

الشرط السادس: الذكورة، ويستدلّ لها بحديث أبي خديجة؛ فإن حملناه على قاضي التحكيم ثبت في المنصوب بطريق أولى، وإن حملناه على القاضي المنصوب ثبت في المنصوب، وقيّدنا به إطلاق المطلق لو كان.

وقد يستدلّ أيضاً لاشتراط الرجولة في القضاء بما دلّ على عدم صلاحيّة المرأة لإمامة الجماعة مطلقاً أو للرجال، وما دلّ على عدم كون قيمة شهادتها كشهادة الرجل: إمّا بدعوى أنّ هذا يدل بالأولوية على اشتراط الرجولة في القضاء، أو بدعوى أنّ جوّاً تشريعيّاً من هذا القبيل يمنع عن انعقاد الإطلاق في دليل القضاء للمرأة.

وقد يستدلّ أيضاً بالآيات الدالّة على نقصان مستوى المرأة، كآيات ذمّ من افترض أنّ اللّه تعالى اصطفى لنفسه البنات على البنين، وبالأخصّ قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾(1) إمّا بدعوى دلالتها رأساً على عدم كون المرأة بمستوى إعطاء منصب القضاء، أو بدعوى أنّ جوّاً تشريعيّاً من هذا القبيل يمنع عن انعقاد الإطلاق في دليل القضاء.

وتوجد أيضاً رواية دالّة على عدم تولّي المرأة للقضاء(2) إلا أنّها ضعيفة سنداً.


(1) الزخرف: 18.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص6، الباب 2 من صفات القاضي.

71

حقوق المرأة في الإسلام

وبهذه المناسبة لا بأس ببحث الشبهة التي قد تورد على الإسلام من أنّه دين متخلّف عن الحضارة المترقّية اليوم، ويناسب مستوى فهم العصور القديمة المتخلّفة، ممّا يشهد لعدم كونه ديناً سماويّاً حقّاً؛ وذلك لأنّه قد ظلم المرأة في القضايا الاجتماعيّة، ولم يعطها حقّها، وحرمها من كثير من الأمور من قبيل منصب القضاء.

والمقدار المناسب من البحث للمقام وإن كان هو قسم القضاء، إلا أنّه لا بأس بشيء من التوسّع كي يكون البحث متكاملاً شيئاً ما.

فنقول: قد يقال من قبل أعداء الإسلام: إنّ الإسلام قد ظلم المرأة في حقوقها الاجتماعية في عدّة حقول:

1_ أنّه حرمها من بعض المناصب، وجعل تلك المناصب من امتيازات الرجال، من قبيل منصب القضاء، والإمرة، ومدى قيمة شهادتها.

2_ أنّه ظلمها في الحقل الاقتصادي، كما يظهر في باب الإرث.

3_ أنّه لم ينصفها في حقل الوداد والوفاء؛ حيث سمح للزوج بتعديد الزوجات، ولم يسمح لها بتعديد الأزواج، فلو فرض كون ذلك خلاف مراسيم الوداد والحبّ والوفاء فلماذا تحرم المرأة من هذه المراسيم، ويسمح للزوج بتعديد الزوجات، وإلا فلماذا تمنع المرأة من تعديد الأزواج؟!

4_ وظلمها أيضاً في مجال الحرّيّة الشخصية؛حيث قيّدها بالحجاب من ناحية، وجعل الرجال قوّامين على النساء من ناحية أُخرى.

5_ وقد يكون أشدّ من كلّ هذا أنّ الإسلام لم يعتبرها في حقّ الحياة والسلامة بمستوى الرجل؛ بدليل أنّه جعل ديتها حينما تصل إلى مستوىً معيّن نصف دية الرجل.

72

وقبل أن ندخل في تفصيل الجواب عن كلّ واحد من هذه الإشكالات تباعاً نذكر مقدّمةً ما يجعل موقفنا كمسلمين موقف الهجوم أيضاً على مدرسة الغرب، وليس موقف الدفاع محضاً.

فنقول: إنّ النظرة الأساسية إلى المرأة التي يجب أن تتفرّع عليها كلّ هذه الفروع وأمثالها هي إحدى نظرات ثلاث:

الأُولى _ نظرة الجاهليّة الأُولى إليها، التي كانت متعارفة في البيئة التي كان منها رسول اللّه (صلى الله عليه و آله)، وهي أن تعدّ بمستوى الحيوانات أو أتعس، ولا تعدّ في صفوف الإنسان، وقد نطق بحكاية ذلك القرآن الكريم كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذا بُشِّـرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾(2).

الثانية _ نظرة الجاهلية اليوم، التي تدّعي أنّها ترى المرأة إنساناً كالرجل، فهي من ناحية تفترض أنّها ترى المرأة في عرض الرجل ومثله في الإنسانية، ومن ناحية أُخرى تغفل أو تتغافل عن الفوارق الفسلجية والسيكولوجية الثابتة فيما بينهما.

الثالثة _ نظرة الإسلام، فالإسلام يرى من ناحية أنّ المرأة في عرض الرجل ومثله في الإنسانية، ومن ناحية أُخرى لا يُغفِل الفوارق الفسلجية والسيكولوجية الثابتة _ بحسب طبيعة الخلقة _ فيما بينهما، كغلبة الجانب العقلي على الجانب العاطفي في الرجل، وغلبة الجانب العاطفي على الجانب العقلي في المرأة، وقوّة الرجل بنيةً وقدرةً


(1) النحل: 58 _ 59.

(2) التكوير: 8 _ 9.

73

على الصمود في خضمّ مشاكل الحياة، وضعف المرأة في ذلك، وكون المرأة مثاراً للشهوة أكثر من الرجل وغير ذلك.

ولئن فرضنا صدق صاحب النظرة الثانية في دعواه للإيمان بالمساواة بينهما في الإنسانية وحقوقها _ وهذا تماماً هو ما يؤمن به الإسلام _ فغفلته عن أمر واقع _ وهو الفوارق الفسلجية والسيكولوجية الثابتة بينهما بحسب الخلقة _ أو تغافله عن ذلك أوجبت أن يصل في النتائج الخارجية إلى العكس ممّا كان يفترض تقصّده من إسعاد المرأة، وإعطائها الحقوق الطبيعية لها في عرض الرجل، فقد أدّت هذه النظرة إلى دمار وضع المرأة، وتردّي الحالة النفسيّة والأخلاقيّة بشكل عام.

وتوضيح ذلك: أنّ الإسلام يرى أنّ المجتمع السعيد _ بلحاظ الحياة الدنيا وبغضّ النظر عن مسألة الآخرة _ هو المجتمع المبني من وحدات صغيرة عائليّة متماسكة، وذلك بنكتتين:

الأُولى _ أنّ النظام العائلي هو النظام الأنجح في تأمين ما يحتاج إليه الإنسان من استقرار الحياة ونظمها بأحسن وجه.

والثانية _ أنّ النفس البشريّة بحاجة إلى مسألة الحبّ والوداد والعطف والرحمة، كما هي بحاجة إلى الخبز والماء؛ فإنّ من أهمّ حاجات الإنسان الروحيّة الفطريّة أن يتبادل الحب، وأن يقيم علاقة الودّ والتعاطف مع آخرين، والطفل بطبيعته الروحيّة يحتاج إلى من ينظر إليه بعين الرأفة، ويلاطفه بعين المحبّة، ويداعبه بيد العطف والرحمة؛ والمرأة تحسّ بالحاجة الروحيّة الماسّة إلى جذب عواطف الرجل وامتلاك قلبه، والرجل بحاجة روحيّاً إلى ريحانة يحبّها وينشئ معها علاقة الودّ والرعاية إلى جنب العلاقة الجنسيّة، ومجرّد العلاقة الجنسيّة لا يشبع إلا حاجته الجسميّة، ويبقى جانبه الروحي غير مرتوٍ، ولذا تراهم يريدون أن يشبعوا هذه الحاجة _ بعد فقدهم

74

للنظام العائلي بشكله الصحيح الإسلامي _ عن طريق تبادل العشق، قال اللّه تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(1).

وبما أنّ نظام الغرب أغفل الفوارق الطبيعية الموجودة في خلقة الجنسين أدّى ذلك إلى تمييع النظام العائلي، وتفسيخ أواصر المحبّة في أفراد العائلة، كما هو مشاهد في المجتمع الغربي، وذلك بنكتتين:

1_ حاجة الوحدة العائليّة إلى قيّم يشرف عليها، وينظّم أمرها بنوع من الولاية، بينما قد فرض الرجل والمرأة على حدّ سواء، وهذا يُفقد الوضع العائلي حالة التماسك التي تحدث ضمن تنظيم الأمر عن طريق الولي المشرف.

2_ رفع الحجاب عن المرأة التي هي مثار للشهوة بحجّة الحرّيّة الشخصية ممّا أوجب تفسّخ الوضع العائلي بشكل كامل.

وبكلّ هذا قد فقد المجتمع الغربي نعمة الحب والوداد الحقيقي فيما بين الأفراد، وحلّ محلّ ذلك التفسّخ الأخلاقي والنظرة الحيوانيّة البحتة في الحياة.

بينما الإسلام لاحظ من ناحيةٍ أنّ المرأة كالرجل سواء بسواء في الإنسانية، فجعل يخاطبهما بنسق واحد، قال اللّه تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْـثى﴾(2)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ


(1) الروم: 21.

(2) آل عمران: 195.

75

وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾(1). وقال تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَة سُئلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾(2).

ولاحظ من ناحيةٍ أُخرى أنّها تختلف عن الرجل في الخلقة في مدى القوّة والضعف، ومدى غلبة الجانب العقلي أو العاطفي على الجانب الآخر، وغير ذلك. قال اللّه تعالى: ﴿أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصٰامِ غَيْـرُ مُبِينٍ﴾(3)، وقال تعالى: ﴿اَلرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى الْنِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ وَبِمٰا أَنْفَقُوا﴾(4). وفي وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده محمد بن الحنفيّة بسند غير تام: «لا تملك المرأة من الأمر ما يجاوز نفسها، فإنّ ذلك أنعم لحالها وأرخى لبالها وأدوم لجمالها، فإنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فدارِها على كلّ حال، وأحسن الصحبة لها ليصفو عيشك»(5).

وقد أسّس الإسلام كلّ تشريعاته بالنسبة للمرأة على أساس التفاته إلى هاتين النكتتين، أعني كون المرأة مساوية للرجل في الإنسانية، وحقوق الإنسانية من ناحية، وكونها مختلفة عنه في الخلقة سيكولوجياً وفيسيولوجياً من ناحية أُخرى.

والآن نبدأ بالجواب على الاعتراضات الماضية تباعاً:

أمّا الاعتراض الأول، وهو حرمانها من بعض المناصب كالقضاء، فالإسلام ينطلق


(1) الاحزاب: 35.

(2) التكوير: 8 _ 9.

(3) الزخرف: 18.

(4) النساء: 34.

(5) وسائل الشيعة، ج 14، ص120، الباب 87 من أبواب مقدمات النكاح، ح 3.

76

من منطلق الإيمان بالفرق الموجود بين الجنسين في الخلقة وضعفها عن مقاومة الضغوط والمشاكل من ناحية، وغلبة الجانب العاطفي على الجانب العقلي فيها من ناحية أُخرى. ومن هذا المنطلق حرمها من بعض المناصب كالقضاء، وأعفاها أيضاً بالمقابل _ منطلقاً من نفس النكتة _ عن بعض المسؤوليات والأعباء كالجهاد. بل في رؤية الإسلام يرجع كلّ هذا إلى الإعفاء عن المسؤوليّات والأعباء؛ لأنّ من يتربّى بتربية الإسلام لا ينظر إلى منصب القضاء ونحوه كمغنم، وليست أمثال هذه الأمور في منطق الإسلام مغانم، بل ينظر إليها كمسؤوليّة وأمانة.

وأمّا الاعتراض الثاني، وهو ظلمها من الناحية الاقتصادية في مسألة الإرث، فازدياد حصّة الذكر في الغالب على الأُنثى في منطق الإسلام يوازي كون الرجل هو الذي يتحمّل عب‏ء العائلة الاقتصادي دون المرأة.

وأمّا الاعتراض الثالث، وهو السماح بتعدّد الزوجات للرجل وعدم السماح بتعدّد الأزواج للمرأة، فالواقع أنّ ملاك رفض التعدّد المشترك بين الجانبين يمكن أن يكون أحد أمور ثلاثة:

1_ الغيرة.

2_ الحسد.

3_ أنّ اللّه لم يجعل لرجل في جوفه من قلبين، فاتّخاذ زوجة أُخرى يوزّع قلب الرجل ومودّته بين الزوجتين، وهذا خلاف الوفاء بشأن الزوجة الأُولى.

أمّا الغيرة، فالواقع أنّها ليست شيئاً أصيلاً في طبيعة الإنسان وثابتاً قبل القوانين والعادات؛ كي يترقّب تأثيرها على كيفيّة تشريع القوانين، بل هي وليدة للنظم والقوانين والعادات، وقد شاء نظام الإسلام أن يحرّم الغيرة على النساء، ويوجبها على الرجال للنكتة الآتية.

77

وأمّا الحسد، فهو محارب من أساسه من قبل الإسلام باعتبار قبحه العقلي من ناحية، ومفاسده الاجتماعية من ناحية أُخرى، فلا معنى لترتيب أثر على ذلك في المقام.

وأمّا الأمر الثالث، وهو أنّ القلب لا يمتلكه اثنان، وأنّه إذا وزّع الودّ على شخصين قلّت حصّة كلٍّ منهما عمّا لو اختصّ القلب بأحدهما، فما أروع النقض الذي أورده المرحوم الشهيد الشيخ المطهري (رحمه الله)، وهو النقض بما هو محسوس ومجرّب من أنّ الإنسان المحبّ لولده والغارق في حبّه حينما يحصل على ولد آخر يشعر بحبّه كالأوّل من دون أن ينقص من الأول شيء.

والواقع أنّ النكتة التي أوجبت حرمة تعدّد الأزواج للمرأة، وجواز تعدّد الزوجات للرجل، وأوجبت الغيرة على الرجل وحرّمتها على النساء هي أنّه بعد أن رأى الإسلام أنّ حياة المجتمع ترتبط بمدى استحكام وتماسك بنية الوحدة العائلية، ورأى أنّ هذا التماسك في بنيتها يتوقّف على قوّاميّة الرجل _ كما سيأتي إن شاء اللّه _ رأى أنّ تعدّد القيّم بتعدّد الزوج يفسد وحدة البنية العائلية وتماسكها، بينما لو اتّحد القيّم فتعدّد العائلة لا يوجب مفسدة من هذا القبيل، بل هذا القيّم الواحد يبني وحدتين عائليّتين من هذا القبيل، وكلّ منهما بحدّ ذاته وحدة متماسكة، على أنّ اختلاط النسل في موارد ثبوت النسل أيضاً يضرّ بتماسك بنية الوحدة العائليّة ضرراً كبيراً كما هو واضح.

وأمّا الاعتراض الرابع، وهو سلب حرّيّة المرأة في مسألة الحجاب، وفي قوّاميّة الرجال على النساء، فالجواب عن مسألة الحجاب واضح ممّا تقدّم، فإنّ الحجاب مبتنٍ على الفرق الفسلجي الموجود بين الجنسين من كون المرأة مثاراً للشهوة؛ إذ على أساس ذلك يكون رفع الحجاب موجباً لارتباط الزوج برفيقات، وارتباط الزوجة

78

برفاق ممّا يُنهي تماسك الحياة العائليّة الذي قلنا: إنّه هو أساس سعادة المجتمع في نظر الإسلام.

كما أنّ الجواب عن القوّاميّة أيضاً واضح ممّا تقدّم، وبيانه هو: أنّ القوّاميّه ليست ثابتة في الإسلام لجنس الذكر على جنس الأُنثى ولذا لا قوّاميّة للأخ على الأُخت مثلاً، وإنّما هي ثابتة في خصوص الحياة العائليّة للزوج على الزوجة، ومنشأ ذلك مجموع أمرين:

الأول _ أنّ تماسك الوحدة العائليّة الذي هو أساس سعادة المجتمع في نظر الإسلام يتوقّف على وجود قيّم واحد عليها.

والثاني _ أنّ الرجل هو الأولى بالقيمومة لما له من امتياز فسلجي وسيكولوجي في القوّة والصمود في خضمّ المشاكل، وفي غلبة جانب العقل والحنكة فيه على جانب العاطفة بخلاف المرأة.

وأمّا الاعتراض الخامس، وهو أنّ الإسلام افترضها أقلّ شأناً من الرجل في حقّ الحياة والسلامة بدليل نقصان ديتها من دية الرجل، فالجواب على ذلك هو أنّ الحكم بنقصان ديتها من دية الرجل لا ينشأ من كون حقّ الحياة والسلامة لها أخفّ من حقّ الرجل ودون حقّ الرجل، بل ينشأ من نظرة اقتصادية للإسلام إلى الرجل والمرأة؛ حيث إنّ الرجل كمنتج اقتصادي أقوى من المرأة بلحاظ الفوارق الفسلجية والسيكولوجية بينهما. والذي يدلّنا على ذلك أنّ الإسلام أعطى للمرأة حقّ القصاص كاملاً من الرجل مع دفعها لنصف الدية، ولم يحرمها من القصاص بأن يفرض عليها التنزّل منه إلى نصف الديّة، وهذا يعني أنّ النكتة في باب الدية لم تكن تكمن في حقّ الحياة والسلامة، بل كانت تكمن في الجانب الاقتصادي، فالرجل اقتصاديّاً يقوّم بأكثر ممّا تقوّم المرأة به للفوارق الفسلجية والسيكولوجية بينهما، أمّا