253

طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

2

 

 

البيّنة

 

 

  1- معنى المدّعي والمنكر

  2- شرائط البيّنة

  3- هل تجري البيّنة واليمين على عكس القاعدة؟

  4- مدى نفوذ بيّنة المنكر

  5- تعارض البيّنتَين

 

 

255

البيّنة

الطريق الثاني: البيّنة.

قد اتّفقت كلمة الشريعة الإسلامية والفقهاء الوضعيين على أنّ القاعدة الأوليّة في باب القضاء هي مطالبة المدّعي بالبيّنة، ومطالبة المنكر باليمين، ففي الحديث بسند تام عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه»(1).

وقال أحمد نشأت في كتابه رسالة الإثبات المكتوب وفق القضاء الوضعي:

«وممّا تقدم يمكن وضع القاعدة الآتية: المكلّف بالإثبات هو من يدّعي خلاف الثابت أصلاً أو عرفاً، أو خلاف الظاهر، أو خلاف قرينة قانونيّة غير قاطعة، أو خلاف قرينة قضائيّة....

والقاعدة الرومانيّة: أنّ المدّعي هو المكلف بالإثبات، وأنّ المنكر لا يلزم بإثبات....

والقاعدة الإنجليزية: أنّ من يدّعي حقّاً أو يدفعه، أي يدّعي التخلّص منه عليه الإثبات.


(1) وسائل الشيعة، ج18، الباب 3 من كيفيّة الحكم، ح1

256

41_ أمّا القاعدة الفرنسية، فكما جاء في المادّة 1315 من القانون المدني الفرنسي (التي تقابل عندنا المادّة 289 من القانون المدني القائم، وهي: «على الدائن إثبات الالتزام، وعلى المدين إثبات التخلّص منه» وبمعناها المادّة 214 / 278 من القانون المدني السابق) هي: من يطالب بتنفيذ تعهّد وجب عليه إثباته، ومن ادّعى التخلّص وجب عليه إثبات الدفع الذي انقضى به ذلك التعهّد...»(1).

وعلى أيّ حالٍ، فالكلام في البيّنة يقع ضمن عدّة أبحاث:

1_ معنى المدّعي الذي عليه البيّنة في مقابل المنكر.

2_ شرائط البيّنة.

3_ هل يوجد مورد للاستثناء من القاعدة المعروفة، أي قاعدة «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»؟ وما هو ذلك المورد؟

4_ هل تقبل البيّنة من المنكر؟

5_ تعارض البيّنات.


(1) رسالة الإثبات، ج 1، ص70 _ 71، الفقرة 39 إلى41

257

البيّنة

1

 

 

معنى المدّعي والمنكر

 

 

  1- تعريف المدّعي

  2- العبرة بالمصبّ أو بالنتائج؟

  3- تعيين المنكر بخبر الثقة

  4- اجتماع الدعوى والإنكار

  5- مصبّ النزاع بين المدّعي والمنكر

 

 

259

البحث الأول _ معنى المدّعي والمنكر:

تعريف المدعي

وقد ذكرت كلمات كثيرة في تعريف المدّعي من قبيل:

1_ ما ذكره المحققّ في الشرائع من أنّه: «هو الذي يُترك لو ترك الخصومة».

قال في الجواهر: «وقيل: إنّه المشهور» أي هذا التفسير هو المشهور(1).

ويعطي نفس المعنى ما قد يقال: من أنّ المدّعي هو الذي يخلّى وسكوته(2).

2_ إنّ المدّعي هو الذي يكون قوله خلاف الظاهر، ونُسب ذلك إلى مشهور العامّة(3).

3_ إنّ المدعي هو الذي يكون قوله خلاف الأصل(4).

وقد ذكر في القواعد هذه التعاريف الثلاثة بقوله: «المدّعي هو الذي يُترك لو ترك


(1) راجع الجواهر، ج 40، ص 371.

(2) راجع نفس المصدر، ص 375.

(3) راجع نفس المصدر.

(4) راجع نفس المصدر، ص 372.

260

الخصومة، أو الذي يدّعي خلاف الظاهر، أو خلاف الأصل»(1).

4_ وقد يمزج بين التعريف الثاني والثالث فيقال: إنّ المدّعي هو الذي يدّعي خلاف الأصل أو أمراً خفيّاً(2).

ولعلّ المراد بهما شيء واحد؛ بأن يقصد بالأصل الظاهر.

والذي ينبغي أن يكون مقصوداً بالأصل _ بناءً على جعله في مقابل الظاهر؛ كي يتحقّق التغاير بين التعريفين الثاني والثالث _ هو ما يكون ثابتاً شرعاً بغضّ النظر عن المرافعة والقضاء؛ سواء كان ثابتاً بظهورٍ حجّة، أو بأصل شرعي، أو بأيّة قاعدةٍ شرعيّةٍ. والحاصل أنّ المقصود بالأصل ينبغي أن يكون هو الحجّة.

5_ واختار المحقّق الآشتياني (رحمه الله): أنّ المرجع هو العرف، فكلّ من أطلق عليه العرف المدّعي يحكم عليه بما هي وظيفته شرعاً سواء وافق قوله الأصل والظاهر، أو خالفهما، أو وافق أحدهما وخالف الآخر(3).

6_ واختار السيد الخوئي: أنّ المقياس في المدّعي هو من يرى العرف بشأنه أنّ عليه مؤونة الإثبات(4).

واختار صاحب الجواهر (رحمه الله) أنّ الأَولى هو الإرجاع في تمييز المدّعي من المنكر إلى العرف، وذكر: أنّ اختلافاتهم في التعاريف ليست اختلافات حقيقيّة في معنى المدّعي وإن رتّب بعضهم الأحكام عليها عند اختلاف مقتضاها. فهو (رحمه الله) يرى أنّ افتراض ثمرات علميّة تترتب على هذه التعاريف _ كما عن بعضهم _ غير صحيح،


(1) قواعد الأحكام ، ص 208.

(2) الجواهر ، ج 40 ، ص 372.

(3) كتاب القضاء للآشتياني ، طبع طهران، ص 336.

(4) مباني تكملة المنهاج ، ج 1 ، ص 42. وبحسب طبعة مؤسسة الإمام الخوئي، ج 41 ، ص 51.

261

وأنّ هذه التعاريف هي تعاريف ببعض الخواصّ اللازمة أو الغالبة لإرادة التمييز في الجملة(1).

7_ وورد في بعض عبائره (رحمه الله): «أنّ المراد به _ يعني المدّعي _ الذي قام به إنشاء الخصومة في حقّ له، أو خروج من حقّ عليه سواء وافق الظاهر والأصل بذلك أو خالفهما، وسواء تُرِك مع سكوته أو لم يُترَكْ، فإنّ المدّعي عرفاً لا يختلف باختلاف ذلك»(2).

أقول: لا ينبغي الإشكال في أنّ المرجع هو العرف بعد عدم ورود حقيقة شرعيّة أو متشرّعيّة لكلمتي المدّعي والمنكر، ولكنّ الكلام في أنّه هل يكون أحد التعاريف المتقدّمة مطابقاً لفهم العرف أو لا؟ وهل هناك ضابط فنّي لتحديد ما يقوله العرف في المقام أو لا؟

كما أنّ ما ذكره السيد الخوئي من أنّ المدّعي هو الذي يرى العرف أنّ عليه مؤونة الإثبات أيضاً لا كلام لنا فيه؛ لأنّ قاعدة «أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» هي شرعيّة وعرفيّة في نفس الوقت، فطبيعي أن يكون من عليه الإثبات عند الشرع هو من عليه الإثبات عند العرف وإن وقع بينهما خلاف أحياناً في ذلك بسبب الاختلاف في تشخيص المصداق، وإنّما الكلام في أنّه هل هناك ضابط فنّي لتحديد المدّعي، ولتحديد من عليه الإثبات أو لا؟

والواقع: أنّ المدّعي بمعناه اللغوي صادق على المنكر أيضاً، فإنّه يدّعي الإنكار، ودعوى النفي كدعوى الإثبات تكون دعوى لغةً لا محالة، والمفهوم عرفاً من كلمة


(1) الجواهر، ج 40، ص 371 و ص 374 - 375.

(2) نفس المصدر، ص 376.

262

المدّعي في مقابل المنكر هو من يدّعي شيئاً جديداً على المنكر، وإلا فكلاهما مدّعٍ كما قلنا، ومعنى كونه يدّعي شيئاً جديداً عليه هو أنّه يلزمه بأمر على خلاف ما هو ثابت لولا القضاء، فالمنكر سمّي منكراً لأنّه يدفع عن نفسه الشيء الجديد الذي هو على خلاف الطبع الأوّلي الثابت، والمدّعي سمّي مدّعياً لأنّه يلزمه بدعوى جديدة، وهذا يعني أنّ الصحيح من التعاريف السابقة هو تعريف المدّعي بأنّه هو الذي يكون قوله خلاف الأصل أو الحجّة، أو تعريفه بأنّه الذي لو تَرك تُرك على تفسير سيأتي من المحقّق العراقي (رحمه الله).

أمّا تعريفه بأنّه الذي يكون قوله خلاف الظاهر فبالإمكان تأييده بأنّ معنى المدّعي يجب أن نأخذه من العرف كما أسلفنا، والعرف يرجع إلى ما هو الظاهر لديه، فمن يدّعي خلافه يراه مدّعياً.

ولكنّ الواقع أنّ الظاهر الذي ليس حجّةً لدى العرف لا يبني عليه العرف، ولا يفترض من يخالفه مدّعياً لشيءٍ جديد، والظاهر الذي يكون حجّة لديه يفترض من يخالفه مدّعياً، لا لأنّ كلامه خلاف الظاهر، بل لأنّ كلامه خلاف الحجّة، والحجّة عند الشرع إن تطابقت مع الحجّة عند العرف اتّحد المدّعي لدى الشرع ولدى العرف، وإن اختلفت معها اختلف المدّعي لدى الشرع عن العرف، لا بمعنى الاختلاف في تفسير معنى المدّعي، بل بمعنى الاختلاف في التطبيق. فإن أراد من يفسّر المدّعي بمن خالف قوله الظاهر هذا المعنى فقد رجع ذلك إلى التفسير المختار.

وأمّا تعريف المدّعي بأنّه الذي لو تَرك تُرك، أو الذي يُخلّى وسكوته، فإن فُسِّر بمعنى من بيده _ عملاً _ رفع النزاع إلى الحاكم، ولو جلس في بيته لانتهى النزاع، فهذا واضح البطلان؛ إذ لا أتصوّر أحداً يقبل أن يقال: إنّ من يدّعي أداء الدين منكر ومن ينكره هو المدعي؛ إذ لو سكت هذا المنكر _ أي من ينكر أداء الدين _

263

وجلس في بيته لانتهى النزاع عملاً.

وإن فُسّر بما فسر به المحقّق العراقي (رحمه الله): من أنّ المدّعي هو الذي لو ترك إِلزام الآخر بخلاف الحجّة الفعليّة، وأبقى الوضع على طبعه الأَوّلي لتُرك، وانتهت الخصومة(1)، فهذا صحيح وراجع إلى التعريف الثالث من كون المدّعي من يخالف الأصل.

أمّا ما جاء في بعض عبائر الجواهر من «أنّ المراد به الذي قام به إنشاء الخصومة في حقّ له، أو خروج من حقّ عليه»، فكان بالإمكان إرجاعه إلى التعريف الأول، أو التعريف الثالث لولا تكميل العبارة بقوله: «سواء وافق الظاهر والأصل بذلك أو خالفهما، وسواء ترك مع سكوته أو لم يترك...». أمّا بعد إضافة هذه التكملة فالعبارة مشوّشة.

هذا، ومن الغريب ما جاء في الجواهر كمناقشة لتعريف المدّعي بأنّه من خالف قوله الأصل _ لو لم يحمل على مجرد الإشارة إلى معنى عرفي _: من أنّه قد يناقش في هذا التعريف بأنّ فيه إجمالاً؛ لأنّه إن كان المراد مخالفة مقتضى كلّ أصل بالنسبة إلى تلك الدعوى فلا ريب في بطلانه؛ ضرورة أَعمّيّة المدّعي من المخالفة للأصل، فإنّ كثيراً من أفراده موافق لأصل العدم وغيره، ولكنّه مخالف لأصل الصحّة ونحوه، وإن أُريد مخالفة أصلٍ في الجملة فلا تمييز فيه عن المنكر الذي قد يخالف أصلاً من الأصول(2).

وفيه: أنّ المقياس هو الأصل الذي يكون حجّةً في المقام لولا النزاع، وهو حتماً


(1) كتاب القضاء، ص 104 _ 105.

(2) الجواهر، ج 40، ص 373.

264

بعض هذه الأصول المتضاربة لا كلّها.

وعلى أيّ حال، فخلاصة الكلام هي: أنّ عمدة التعاريف هي التعاريف الثلاثة الأُولى، والمختار منها هو الثالث إن فُسّر الأصل بمعنى الحجّة، أو الأول بالتفسير الذي استفدناه من كلام المحقّق العراقي (رحمه الله) والذي يرجع به إلى التفسير الثالث.

بقيت هنا أمور:

العبرة بالمصبّ أو بالنتائج؟

الأمر الأول _ هل العبرة في تشخيص المدّعي والمنكر بمصبّ الدعوى، أو النتائج التي يُلزم بها أحد الطرفين؟

ذكر صاحب الجواهر (رحمه الله) في مسألة الاختلاف في مقدار الأُجرة في إيجار العين: أنّ المشهور هو: أنّ القول قول المستأجر بيمينه، إلى أن قال: «قد يقال: إنّ المتّجه التحالف إذا فرض كون مصبّ الدعوى منهما في تشخيص العقد الذي سبَّب الشغل _ يعني هل هو العقد علی الخمسة، أو العقد على العشرة مثلاً _ ... نعم، لو كانت الدعوى بينهما في طلب الزائد وإنكاره وإن صرّحا بكون ذلك من ثمن الإجارة، كان الموجر حينئذٍ المدّعي والمستأجر المنكر، بخلاف الأول الذي لا يشخّص الأصل أحدهما؛ إذ كلّ منهما أَمر وجودي والأصل عدمه، والفرض أنّه شخص واحد لا شخصان»(1).

أقول: إنّ هذه العبارة صريحة في فرض أنّ العبرة في تشخيص المدّعي والمنكر بمصبّ الدعوى، كما أنّ ما عن المشهور من كون القول قول المستأجر بيمينه يعني أنّ العبرة بالنتيجة.


(1) الجواهر، ج40، ص 456 - 458

265

ولا يخفى أنّ هذا البحث لا مجال له بناءً على أنّ الضابط في تشخيص المدّعي والمنكر هو مخالفة الظاهر وموافقته، فإنّ مصبّ الدعوى والنتيجة متلازمان في الظهور وعدمه، فإنّ النتيجة هي ثمرة ذاك المصبّ، والمصبّ هو مُنتِج تلك النتيجة، وما يكون ظاهراً في أحدهما فهو ظاهر في ملازمه لا محالة.

كما لا مجال أيضاً لهذا البحث بناءً على أنّ الضابط في تشخيص المدّعي والمنكر هو أن يكون الذي إذا تَرك تُرك مدّعياً والآخر منكراً _ ما لم يرجع الى مسألة مخالفة الأصل وموافقته بالتوجيه الذي مضى من المحقق العراقي (رحمه الله)_؛ إذ من الواضح أنّ من يترك إلزام الآخر بالنتيجة وهي الخمسة الزائدة في المثال الماضي هو الذي لو تَرك الخصومة تُرك، ومصبّ الدعوى لا يلعب دوراً مغايراً لذلك.

وإنّما الذي يمكن أن يتصور بدواً _ من التعريفات الثلاثة المهمّة للمدّعي _ مورداً لفتح بحث من هذا القبيل _ وهو البحث عن أنّ المقياس هل هو مصبّ الدعوى أو النتيجة _ هو التعريف المختار، وهو أنّ المدّعي من خالف قوله الأصل، والمنكر من وافق قوله الأصل، أو أنّ المدّعي من إذا تَركَ تُرك بالتفسير الماضي عن المحقّق العراقي (رحمه الله)، فيقُال مثلاً في مسألة الاختلاف في مقدار الأُجرة _ إذا جَعَلا مصبّ النزاع نفس الإيجارين _: إنّه بناءً على كون المقياس هو مصبّ الدعوى فكلّ منهما مدّعٍ لعقد على خلاف الأصل ومنكر لعقد آخر، وبناءً على كون المقياس النتيجة فالموجر مدّعٍ والمستأجر منكر؛ لأنّ الموجر يدّعي مبلغاً إضافياً ينكره المستأجر.

وذكر المحقّق العراقي (رحمه الله): أنّ الصحيح هو أنّ المقياس قيام الحجّة على نفي الجهة الملزمة المترتبة على الدعوى، لا الحجّة على محطّ الدعوى محضاً؛ لأنّ المدّعي هو الذي لو ترك مخالفة الإلزام الثابت بالأصل والحجّة لتُرك، وهذا إنّما يصدق على من يطالب بالإلزام بالنتيجة التي يكون مقتضى الأصل والحجّة خلافها. أمّا مجرد كون

266

دعواه للإيجار على الخمسة مثلاً خلاف أصالة عدم هذا الإيجار، فلا يجعله بحيث لو ترك مخالفة ما عليه _ عملاً بمقتضى القواعد الأوّلية لولا النزاع _ لتُرك(1).

أقول: هذا البيان إنّما جاء بعد فرض إرجاع التعريف بمن إذا تَرك تُرِك إلى التعريف بمخالفة الأصل، مع الاحتفاظ بعنصر أنّ تركه يوجب الترك، أمّا لو قلنا بمجرّد أنّ المدّعي من خالف قوله الأصل فلم يظهر لحدّ الآن أنّ المقياس هو مصبّ الدعوى أو النتيجة.

وذكر أُستاذنا الشهيد (رحمه الله)(2) _ فيما لو اختلفا في نقل أحدهما للكتاب مثلاً إلى الآخر، هل كان بالبيع أو بهبة لازمة؟ والذي يترتب على ذلك أنّه على الأول له المطالبة بالثمن، ومع عدم تسليمه فله خيار الفسخ، وعلى الثاني ليس له هذا ولا ذاك _ أنّ في بحث القضاء كلاماً حول أنّ تشخيص المدّعي والمنكر هل يكون بنفس مصبّ الدعوى، أو بالإلزامات التي يدّعيها أحدهما على الآخر؟ والمختار هو الثاني، ولو فرضنا الأول وهو كون تشخيص المدّعي والمنكر بلحاظ مصبّ الدعوى، فقد يتوهّم أنّ المورد مورد التحالف. ولكنّ التحقيق أنّ من يدّعي البيع هو المدّعي، وأنّ الحلف يكون لمن يدّعي الهبة؛ لأنّ تحالفهما فرع أن تكون هناك خصومتان: خصومة حول البيع، وخصومة حول الهبة، وليس الأمر كذلك، فإنّه وإن كان هناك تكاذبان ولكن ليس كلّ تكاذبٍ تطبّق عليه قوانين الخصومة؛ مثلاً لو تكاذب شخصان في نزول المطر وعدمه من دون أن يكون ذلك مثمراً لثمرٍ إلزامي لأحدهما على الآخر، فهل هذا يعتبر خصومة ترفع إلى الحاكم؟! طبعاً لا. والهبة في ما نحن فيه من هذا


(1) كتاب القضاء للمحقق العراقي، ص 105.

(2) مأخوذ من تقريري لأصوله (رحمه الله) لآخر بحث القطع في الفرع الرابع من فروع فرضيّة ترخيص الشارع لمخالفة القطع. راجع مباحث الأصول، الجزء الأول من القسم الثاني، ص 248 و253.

267

القبيل؛ إذ لا يترتب على الهبة شيء عدا ملكيّة الكتاب التي هي مترتبة على البيع أيضاً، فكلاهما معترفان بها، فدعوى الهبة لم توجب خصومة بينهما، وإنّما التي أوجبت الخصومة هي دعوى البيع التي يترتب عليها إلزام المشتري بالثمن وثبوت الخيار على تقدير عدم تسليم الثمن....

أقول: هذا البيان في غاية المتانة؛ إلا أنّه لم يكن ينبغي الاعتراف بالإثنينيّة بين فرض كون المقياس لتشخيص المدعي والمنكر هو النتيجة الالزامية أو هو مصبّ الدعوى واختيار الأول وجعل هذا البيان دليلاً على أنّه حتى على الثاني يكون مدّعي البيع فى المقام هو المدّعي ومدّعي الهبة هو المنكر، بل كان ينبغي أن يجعل هذا البيان دليلاً على أنّ البحث عن كون المقياس في تشخيص المدّعي هو مصبّ الدعوى أو النتيجة الإلزامية لا مورد له حتى على مبنى كون المدّعي هو من يخالف قوله الأصل أو أنّه من إذا تَرك تُرِك بتفسير يشابه التفسير بمخالفة الأصل؛ وذلك لوضوح أنه إذا أخرجنا من الحساب الدعوى التى لا تؤثّر على النتيجة، فالأصل في الدعوى الأخرى التى تؤثّر على النتيجة مع الأصل فى النتيجة إمّا يتوافقان، أو يتقدّم أحدهما على الآخر بالحكومة فيكون أصلاً للمصبّ والنتيجة معاً.

هذا، واستدلّ المحقّق العراقي (رحمه الله)(1) أيضاً على كون المقياس هو الأصل في النتائج والإلزامات لا في مصبّ الدعوى بالحديث الوارد في الاختلاف حول دعوى الوديعة أو الرهن، وهو ما ورد بسند تام عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال في رجل رهن عند صاحبه رهناً، فقال الذي عنده الرهن: ارتهنته عندي بكذا وكذا، وقال الآخر: إنّما هو عندك وديعة، فقال: «البيّنة على الذي عنده الرهن أنّه بكذا


(1) كتاب القضاء، ص 105 _ 106

268

وكذا، فإن لم يكن له بيّنة فعلى الذي له الرهن اليمين»(1)؛ إذ لو كان المقياس هو الأصل في مصبّ الدعوى، لكان المورد مورداً للتداعي؛ لأنّ كلّاً من الوديعة والرهن أمر وجودي محكوم بأصالة العدم.

إلا أنّه يوجد في مقابل هذا الحديث ما دلّ على أنّ البيّنة على مدّعي الوديعة واليمين على مدّعي الرهن، فقد يُقال: إنّ هذا يدل على أنّ المقياس في تشخيص المدّعي هو المصبّ لا النتيجة، فإنّ الرهن والوديعة مصبّان للدعوى، فيفترض أنّ يده على هذه العين دليل على صدق دعواه للرهن، ولو كان المقياس هو النتيجة لجرت أصالة عدم الدين.

وحتى لو لم يدل على أنّ المقياس هو المصبّ، بل دلّ على أنّ المقياس هو النتيجة كما هو الحال في الحديث الأول، فبعد تعارض الحديثين في أنّ المدّعي هل هو من يدّعي الرهن أو هو من يدّعي الوديعة وتساقطهما، لا يبقى لنا دليل روائي على كون المقياس هو النتيجة.

إلا أنّ الصحيح عدم وجود تعارض بين الحديثين كما يظهر بالتدقيق في متن الحديث الأول، وقد مضى، وفي متن الحديث الثاني وهو ما ورد بسند تام عن عباد ابن صهيب، قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن متاعٍ في يد رجلين، أحدهما يقول: استودعتكه، والآخر يقول: هو رهن. قال: فقال: القول قول الذي يقول هو أنّه رهن، إلا أن يأتي الذي ادّعى أنّه أودعه بشهود»(2).

فبالتدقيق في الحديثين يظهر أنّ موضوع الحديث الأول هو الاختلاف في الرهن


(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص136، الباب 16 من أحكام الرهن، ح1.

(2) نفس المصدر، ص137، ح3.

269

والدَين؛ إذ يقول: «فقال الذي عنده الرهن: ارتهنته عندي بكذا وكذا»، ويقول: «البيّنة على الذي عنده الرهن أنّه بكذا وكذا»، وهذا ظاهره أنّ من يدّعي الوديعة ينكر الدَين المفروض كون هذا رهناً له، وفي هذا الفرض يكون الأصل مع مدّعي الوديعة؛ لأنّ الدَين خلاف الأصل، ويده على العين ليست عرفاً أمارة على صدقه في دعوى الرهن في مقابل مالك العين الذي اقتضى الأصل براءة ذمّته عن الدَين، أي أنّ أماريّة هذه اليد على الدَين غير عرفيّة، وأماريّتها على الرهنيّة حتى مع نفي الدَين بالأصل أيضاً غير عقلائيّة.

أمّا في الحديث الثاني فلم يأتِ أيّ ذكر عن الدَين، وإنّما فُرض فيه الاختلاف في الرهن والوديعة، وهذا ينسجم حتى مع افتراض كون الدَين متّفقاً عليه في ما بينهما، وإنّما الخلاف في الرهن على ذاك الدين وعدمه، فإذا فرض النزاع في عنوان الرهن والوديعة فحسب ولم يفرض أيّ نزاعٍ آخر، قيل: إنّ الأصل مع مدّعي الرهن؛ لأنّه ذو اليد وأمين فيُقبل كلامه. ولو سلّم إطلاق الحديث لفرض امتداد النزاع إلى الدَين قيّد بالحديث الأول.

ويشهد لهذا الجمع ما ورد من حديث يُفصِّل بين ما إذا كان النزاع في زيادة الدَين فالأصل مع منكر الزيادة، وما إذا كان النزاع في الرهن مع تسليم الدَين فالأصل مع مدّعي الرهن، وهو ما ورد بسند تام عن الحسن بن محمد بن سماعة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا اختلفا في الرهن: فقال أحدهما: رهنتُه بألف، وقال الآخر: بمائة درهم، فقال: يسأل صاحب الألف البيّنة، فإن لم يكن بيّنة حلف صاحب المائة، فإن كان الرهن أقلّ ممّا رهن به أو أكثر واختلفا، فقال أحدهما: هو رهن، وقال الآخر: هو وديعة، قال:

270

على صاحب الوديعة البيّنة، فإن لم يكن بيّنة حلف صاحب الرهن»(1).

فقوله: «إن كان الرهن أقلّ ممّا رهن به أو أكثر» ظاهر في أنّ أصل الدَين مفروغ عنه.

هذا، وصدر الحديث _ الدالّ على أنّ مدّعي الزيادة هو الذي عليه البيّنة، ومنكر الزيادة هو الذي يحلف _ مطابق لرواياتٍ أُخرى أيضاً(2)، ما عدا رواية واحدة دلّت على أنّ للمرتهن حقّ حبس العين إلى أن يُعطى ما يدّعيه، وهي ما عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام) في رهن اختلف فيه الراهن والمرتهن، فقال الراهن: هو بكذا وكذا، وقال المرتهن: هو بأكثر. قال علي (عليه السلام): «يصدّق المرتهن حتى يحيط بالثمن؛ لأنّه أمين»(3). وسند الحديث غير تام.

هذا، والجمع الذي ذكرناه بين الحديث الأول الدالّ على أنّ مدّعي الرهن هو المدّعي والحديث الثاني الدالّ على العكس خير من جمع الشيخ الطوسي (رحمه الله) من حمل الحديث الأول على البيّنة في مقدار ما على الرهن(4)، فإنّ هذا خلاف الظاهر جداً؛ إذ لم يفرض في الحديث أيّ اختلاف في مقدار ما على الرهن.

وعلى أيّ حال، فبعد ما وضّحناه من أنّه لا فرق بين أصل المصبّ وأصل النتيجة لسقوط الدعوى التي لا تؤثّر على النتيجة عن الحساب، لا يبقى مورد للاستدلال بالحديث الأول على أنّ المقياس هو النتيجة دون المصبّ.


(1) وسائل الشيعة، ج13، صدر الحديث في الباب 17 من أحكام الرهن، ح2، وذيله في الباب 16 من أحكام الرهن، ح2.

(2) راجع نفس المصدر، ج13، الباب 17 من أحكام الرهن.

(3) نفس المصدر، ص138، ح4.

(4) التهذيب، ج2، ص165.

271

تعيين المنكر بخبر الثقة

الأمر الثاني _ هل ينقلب المدّعي منكراً بسبب إخبار ثقة واحد بصحّة مدّعاه _ بناءً على تفسير المدّعي بمن خالف قوله الأصل _ أو لا؟ قد يخطر بالبال انقلابه منكراً بذلك؛ باعتبار أنّ خبر الثّقة حجّة وأصل يرجع إليه في ذاته وبقطع النظر عن باب القضاء، فمن طابق قوله مفاد خبر الثقة، فقد أصبح قوله مطابقاً للحجّة والأصل، وهذا هو المنكر.

وقد يؤيّد ذلك بالروايات الواردة في قبول قول المدّعي بشاهد واحد ويمينه(1) فهذا يعني أن الشاهد الواحد جعله منكراً، فيكتفى عندئذٍ بيمينه.

والواقع أنّنى لا أظنّ أحداً يلتزم بهذه النتيجة، أعني: انقلاب المدّعي منكراً بواسطة قيام خبر الثقة على وفق مدّعاه. والروايات الواردة في قبول قول المدّعي بشاهد واحد ويمينه أجنبيّة عن المقصود....

فإنّ المقصود منها قيام اليمين مقام الشاهد الآخر لا انقلابه منكراً، ولذا لا يطالَب صاحبُه بالبيّنة بعد إقامته شاهداً واحداً، وأيضاً لا تكفي منه اليمين لو كان شاهده فاسقاً ثقةً حتى على القول بأنّ حجّية خبر الواحد غير مشروطة بالعدالة وتكفي فيها الوثاقة.

وأمّا شبهة انقلاب المدّعي منكراً بقيام خبر الثقة وفق مدّعاه فهي متوقفة على الإيمان بحجّية خبر الثقة في الموضوعات مطلقاً لا في خصوص الموضوعات التي يتوقّف عليها إثبات الحكم الكلّي، كوثاقة المخبر أو خبر المخبر. أمّا لو أنكرنا حجّية خبر الثقة في الموضوعات إمّا مطلقاً، أو في غير ما يتوقف عليه إثبات الحكم الكلّي، فلا موضوع لهذه الشبهة.


(1) راجع وسائل الشيعة، ج 18، ص193_ 198، الباب 14 و 15 من كيفية الحكم

272

خبر الثقة في الموضوعات

وتوضيح الكلام في ذلك: أنّه قد يقال بعدم حجّية خبر الثقة في الموضوعات مطلقاً؛ لعدم شمول مفاد السنّة القطعيّة الدالّة على حجيّة خبر الثقة لها؛ لأنّها واردة في باب الأحكام، وعدم ثبوت السيرة أيضاً، وهما عمدة أدلة حجّية خبر الثقة. وبهذا تنهار حجّية جميع ما بأيدينا من الأخبار غير القطعيّة؛ لأنّها تتوقّف على إثبات إخبار المخبر؛ إذ هي واصلة إلينا بالوسائط، وأحياناً تتوقّف على إثبات وثاقة المخبر بخبر ثقة واحد.

ولأستاذنا الشهيد (رحمه الله) بيان ذكره في ذيل آية النبأ في بحث مشكلة الأخبار مع الواسطة لإرجاع الأخبار مع الواسطة إلى الخبر بلا واسطة، وقد ذكر ذلك لحل المشكلة الثبوتية في الأخبار مع الواسطة، فلو قبل ذلك في حل المشكلة الإثباتيّة أيضاً، أي في تمامية الإطلاق عرفاً لمثل «ما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي» بدعوى أنّ هذا أيضاً أداء عن الإمام بلا واسطة انحلّت لنا مشكلة الإخبار بالإخبار لكن بقيت مشكلة إثبات الوثاقة بخبر الواحد.

وأيضاً قد يحلّ الإشكال بدعوى أن سيرة المتشرعة كانت قائمةً بالعمل بالأخبار حتى التى كانت مع الوسائط، وأنّ قوله في التوقيع الشريف الذي هو شبه قطعي كما أشرنا إليه في كتاب أساس الحكومة الإسلامية: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا»(1) إن لم يشمل الرجوع فيه الرجوع إلى الرواة لأخذ الروايات، فلا أقلّ من دلالته على أنّ الروايات التي وصلت إلى من نرجع إليه تكون حجّة له، وإلا فكيف نرجع إليه؟! وتلك الروايات غالبها روايات مع الوسائط، خاصّةً وأنّ التوقيع


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص101، الباب 11 من صفات القاضي، ح9

273

الشريف باعتبار صدوره من الإمام الغائب (عليه السلام) ناظر إلى الزمان الطويل إلى ظهوره (عليه السلام) على الأقلّ، فهي تدل على أنّ وجود الواسطة لا يضرّ بحجّية الرواية، وهذا يعني ثبوت خبر المخبر الذي هو موضوع لاستنباط الحكم بخبر الواحد.

نعم، هذا لا يدل على ثبوت وثاقة المخبر بخبر الواحد بناءً على دعوى احتمال اختصاص الحجّية بالروايات التي ثبتت وثاقة رواتها بالقطع أو بالبيّنة؛ لأنّ التوقيع لم يكن ابتداءً بصدد بيان مدى حجّية الروايات كي نتمسك فيه بالإطلاق ومقدمات الحكمة مع دعوى احتمال الفرق عرفاً بين الإخبار بالإخبار والإخبار عن الوثاقة بحجّية الأول دون الثاني؛ ولو بالنكتة التي بيّنها استاذنا الشهيد لإرجاع الإخبار بالإخبار إلى الإخبار بلا واسطة. فحتى الآن بقيت مشكلة إخبار الثقة الواحد بالوثاقة بلا حلّ.

وعلاج ذلك يكون بأحد وجوه:

الأول _ دعوى أنّ سيرة المتشرعة المعاصرة كما قامت على حجّية خبر الواحد ولو مع الواسطة، كذلك قامت على اثبات وثاقة المخبر بخبر الواحد؛ لأنّه من البعيد جدّاً أنّ الأخبار مع الواسطة التي كانت وقتئذٍ وثاقة رواتها محرزةً للكل خاصّة في زمن الأئمّة المتأخرين، والابتلاء بتلك الأخبار كان شائعاً، فإن لم تكن السيرة على العمل بها ولم تكن حجّةً لكثر السؤال عنها والإجابة بالنفي من قبل الإمام، ولكان يصل إلينا ذلك.

الثاني _ أن يقال: إنّنا نثبت بالتوقيع الشريف حجّية كلّ خبر مع الواسطة الذي تكون كلّ وسائطه ثابتة الوثاقة باليقين أو البيّنة، ومنها ما رواه الكشّي في كتابه عن محمد بن قولويه عن سعد بن عبداللّه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عبداللّه ابن محمد الحجّال، عن يونس بن يعقوب _ وهؤلاء كلّهم مسلّموا الوثاقة عند

274

الأصحاب _ قال: «كنّا عند أبي عبداللّه (عليه السلام) فقال: أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟! ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النضري؟!»(1).

وهذا الحديث يفهم منه جواز الاستراحة والفزع إلى ما يعطيه الحارث من أخبار معالم الدين، والتي يكون كثير منها بواسطة من يشهد هو بوثاقته.

الثالث _ أن يقال: إنّ العرف لا يحتمل الفرق بين نقل كلام الإمام الذي هو نقل للحكم الشرعي عن الإمام ونقل الموضوع الذي يترتّب عليه استنباط الحكم الشرعي الكلّي للإمام، فكلّ حديثٍ دلّ على حجّية خبر الثقة في الأول دلّ عليها في الثاني، خاصّة وأنّ نقل الحكم الشرعي من الإمام يرجع غالباً بالدقّة إلى نقل الموضوع؛ إذ هو ينقل غالباً ظهور كلام الإمام الذي هو موضوع لكبرى حجّية الظهور.

الرابع _ أن يقال بالرجوع في توثيق الرواة إلى أضراب الشيخ الطوسي والنجاشي لكونهم من أهل الخبرة، ولا أقصد بذلك التقليد لهم والأخذ بحدسيّاتهم في الوثاقة، فإنّ الوثاقة من الأمور القريبة من الحسّ، ولا يقبل فيها الحدس، ولكن أقصد بذلك الرجوع إليهم من سنخ الرجوع إلى حسّيات اللغويّين الذي يدخل في كبرى الرجوع إلى أهل الخبرة، بالبيان الذي بيّنه أستاذنا الشهيد (رحمه الله) في مبحث حجّية قول اللغوي.

هذا، وقد يتعدّى من الإخبار عن وثاقة الراوي إلى الإخبار عن اجتهاد الشخص، كما عن السيد الحكيم (قدس سره) في المستمسك من الاستدلال على حجّية إخبار الثقة عن مثل اجتهاد الشخص أو وثاقة الراوي: بأنّ المراد من عموم ما دلّ على حجّية الخبر عن الأحكام الكلّية ما يؤدّي إلى الحكم الكلّي سواءً كان بمدلوله المطابقي أم


(1) وسائل الشيعة ، ج 18، ص105، الباب 11 من صفات القاضي، ح24، وفي وسائل الشيعة، ج 27 بحسب طبعة مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، ص145 ورد: الحارث بن المغيرة النصري، وهو الصحيح، ولم يرد النضري في كتب الرجال

275

الالتزامي(1).

وأستاذنا الشهيد (رحمه الله) قد نقل ذلك في كتابه، وأورد عليه(2) بأنّ دليل حجّية الخبر في الشبهة الحكميّة لم يدل على حجّية الخبر عن الحكم الكلّي بهذا العنوان ليبذل الجهد في إرجاع بعض الأخبار في الموضوعات إلى الخبر عن الحكم الكلّي بالالتزام، وإنّما دلّ الدليل _ المتحصّل من السنّة المتواترة إجمالاً _ على مضمون مثل قوله: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطع، فإنّهما الثقتان المأمونان»، فموضوع الحجّية هو الخبر الذي يعتبر أداءً عن الإمام، وهذا ينطبق على خبر زرارة، دون خبر العادل عن الاجتهاد.

أقول: والإخبار عن الوثاقة رغم أنّه ليس أداءً عن الإمام قد آمنّا بحجّيته، لكن الوجوه التي عرفتها لذلك لا تثبت حجّية الإخبار عن الاجتهاد، ولا يعتبر ذلك بالنسبة للعامي من كلام أهل الخبرة؛ لأنّ تشخيص الاجتهاد كثيراً ما يتمّ للعامي بالقطع واليقين عن طريق الشهرة ونحوها، فليس هو ممّا يتوقّف فهمه في العادة على التعبّد برأي أهل الخبرة.

وعلى أيّ حال فحجّية إخبار الثقة عن الموضوع الذي يترتب عليه ثبوت الحكم الكلّي إن تمّت مطلقاً أو في الجملة لا تبرّر انقلاب المدّعي منكراً في ما نحن فيه بسبب قيام خبر الثقة وفق مدّعاه، وإنّما الذي قد يوجب ورود شبهة انقلاب المدّعي منكراً فيما نحن فيه بفرض إخبار ثقة وفق ما يدّعيه المدّعي هو دعوى حجّية خبر الثقة في الموضوعات مطلقاً، كما ذهب اليه أستاذنا الشهيد (رحمه الله) في البحوث، ودليله على


(1) مستمسك العروة الوثقى، ج 1، ص 38 - 39.

(2) بحوث في شرح العروة الوثقى، ج2، ص 84 _ 85.

276

ذلك أمران:

أحدهما _ دعوى السيرة العقلائيّة على العمل بخبر الثقة في الموضوعات، وعدم اختصاص السيرة بخصوص باب الأحكام.

وثانيهما _ مثل قوله: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان»، فهذا التعبير يُفهم منه تعليل حجّية أدائه عن الإمام (عليه السلام) بالوثاقة، والتعليل إشارة إلى كبرى كلّية قد تتردّد سعةً وضيقاً بين عدة كبريات، فالمفروض الاقتصار على أضيق كبرى تشمل المورد ما لم تكن هناك كبرى معهودة عرفاً، ومن المركوز مناسبتها للصغرى المصرّح بها، وإلا فهذا الارتكاز بنفسه قرينة على مل‏ء الفراغ بتقدير تلك الكبرى المعهودة، ولو كانت أوسع من مقدار الحاجة إلى اقتناص النتيجة الواردة في مورد النص. ومقامنا من هذا القبيل، فإنّ الحاجة إلى اقتناص النتيجة بحسب المورد يكفي فيها تقدير حجّية خبر الثقة في الأحكام كبرىً في القياس، ولكن حيث إنّ كبرى حجّية الثقة بنحو أوسع مركوزة، فينصرف مل‏ء الفراغ إليها حفظاً لمناسبات الصغرى والكبرى المركوزة في الذهن العرفي، ومعه يتم الاستدلال على المطلوب(3).

أقول: لا يتوهّم أنّ هذا رجوع إلى الاستدلال بالسيرة، فإنّ السيرة العقلائيّة بحدّ ذاتها غير حجّة، وإنّما الحجّية لموافقة الشارع، وموافقته تارةً تكشف بعدم الردع، وهذا هو الوجه الأول، وأُخرى تكشف بدلالة لفظيّة وإن كانت نفس السيرة دخيلة في تكوّنها. ويظهر الأثر العملي فيما لو احتملنا الردع من دون أن يثبت بدليل خاص؛ كي يكون رادعاً عن السيرة وفي نفس الوقت مقيِّداً لعموم التعليل، فإذا احتملنا الردع، ولم يكن هناك ما ينفيه ولا ما يثبّته، فهذا يضرّ بالدليل الأول وهو التمسّك


(1) بحوث في شرح العروة الوثقى، ج 2، ص 90 _ 91

277

بالسيرة، ولكن لا يضرّ بالدليل الثاني وهو التمسّك بعموم التعليل.

هذا، ولا يمكن دعوى اختصاص السيرة بالشبهات الحكمية فيما بين العقلاء، أي في تفهيم وتفهّم أغراضهم فيما بينهم، وعدم جريانها بالنسبة للشبهات الموضوعيّة، وهي محل الكلام فعلاً، وذلك لأنّ التفصيل بين الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية بالحجّية في إحداهما دون الأُخرى لا يكون إلا أمراً تعبّدياً بحتاً، وهذا بعيد عن مذاق العقلاء.

وعلى أيّ حال فقد يدّعى ورود الردع عن السيرة المدّعاة في المقام لو تمّت في نفسها في موارد الشبهات الموضوعية، وذلك إمّا بحديث عام، أو بأحاديث خاصّة في موارد متفرقة يقتنص العرف منها الردع عن كبرى السيرة.

أمّا الحديث العام، فهو عبارة عن حديث مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: كلّ شيءٍ هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة»(1).

وأورد أُستاذنا الشهيد (رحمه الله)(2) على رادعيّة هذا الحديث بوجهين(3):

أحدهما _ أنّ رواية واحدة لا تكفي لإثبات الردع؛ لأنّ مستوى الردع يجب أن يتناسب مع درجة قوّة السيرة وترسّخها، ومثل هذه السيرة على العمل بخبر الثقة لو كان الشارع قاصداً ردعها لأصدر بيانات كثيرة، ولوصلتنا منها نصوص عديدة، كما


(1) وسائل الشيعة، ج 12، ص60، الباب 4 من ما يكتسب به، ح4.

(2) بحوث في شرح العروة الوثقى، ج2، ص 86 _ 87.

(3) الوجوه المذكورة في البحوث خمسة، لكن الذي وافق عليه أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) اثنان.