171

إطلاق ذلك بعد ضرورة ‏تخصيصه بفرض رفع النزاع من قبل الشاكي إليه يشمل فرض ما إذا لم يكن القاضي مرْضيّاً من قبل الطرف الآخر قلنا: لازم ذلك _ على مبناه القائل بأنّ هذه الآيات دليل على قضاء التحكيم _ دلالة الآيات على أنّه في قاضي التحكيم أيضاً لا يشترط رضا الطرفين، وهذا ما لا يلتزم به. وعلى أيّ حال فقد عرفت عدم تماميّة إطلاق من هذا القبيل في هذه الآيات.

يبقى الكلام فيما فرضه من مسألة التداعي بعد أن نُؤوّل التداعي أيضاً بمعنى ما إذا احتاج كلّ منهما إلى الشكوى ورفع النزاع، حتى ولو كان أحدهما مدّعياً والآخر منكراً، كما لو فرضنا أنّ أحداً ادّعى على الآخر الدين وأنكره الآخر، ولكنّ المدّعي قد ضيّق على المنكر بتكرير المطالبة، وتكثير مخاصمته ليل نهار، فرأى المنكر أنّ علاج المشكل هو رفع الشكوى إلى حاكم يخصم النزاع فيستريح من مضايقات المدّعي، كما أنّ المدّعي أيضاً رأى أنّ طريق إنقاذه لحقّه عبارة عن رفع الشكوى إلى الحاكم، فاختلفا في اختيار القاضي ولا يمكن الجمع بينهما، فما هو طريق تعيين القاضي؟ وهنا يقول السيد الخوئي (رحمه الله): إنّ طريق تعيين القاضي هو القرعة التي جعلت لكلّ أمرٍ مشكل.

وقد يورد على هذا الكلام بإيرادين:

الإيراد الأول، أن يقال: إنّ مقتضی الروايات الماضية: مقبولة عمر بن حنظلة(1)، ورواية داود بن الحصين(2)، ورواية موسى بن أكيل(3)، هو الرجوع عند تعارض الحكمين إلى الترجيح بالأعدليّة والأفقهيّة، لا القرعة.

والجواب: أنّ هذه الروايات إنّما وردت بشأنّ ترجيح أحد الحكمين على الآخر بعد


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص75، الباب 9 من صفات القاضي،ح1.

(2) نفس المصدر، ص80، ح20.

(3) نفس المصدر، ص88، ح45.

172

صدورهما، ونحن الآن نتكلّم فيما قبل الحكم لتشخيص من له حقّ الحكم، لا فيما بعد صدور الحكمين برضا كلا الخصمين بهما كما هو مورد الروايات.

الإيراد الثاني، وهو تطوير للإيراد الأول بهدف التخلّص من الجواب الذي مضى أن يقال: لو اختلف الخصمان في رفع النزاع إلى القاضي، فرفع هذا النزاع إلى قاضٍ، ورفع الآخر إلى قاضٍ آخر، فتارةً نفترض أنّ أحد القاضيين يتقبّل النزاع، ويجلب الخصم الآخر، ويحقّق الموضوع، ويحكم، دون أن يقوم القاضي الآخر بعمل مماثل لذلك، وعندئذٍ لا ينبغي الكلام في نفوذ حكم ذاك الحاكم؛ لما مضى من أنّ المفهوم عرفاً من النصب للقضاء ليس مجرّد فصل النزاع عند ترافعهما معاً إليه، بل يشمل ذلك فرض ما إذا رفع الشاكي الشكوى إليه، فمن حقّه أن يجلب الخصم الآخر، ويحقّق، ويقضي، والرادّ عليه كالرادّ على اللّه.

وأُخرى نفترض أنّ كلا القاضيين قد قاما بهذه العملية، واختلفا في الحكم، وحينئذٍ إمّا أن نقول: إنّ المورد دخل تحت مفاد الروايات الماضية الواردة في تعارض الحكمين، ونلتزم بالترجيح لا بالقرعة، وخصوصيّة مورد الروايات من تراضي الخصمين بهما ملغيّة عرفاً، فالمهمّ هو شرعيّة قضاء كلّ منهما في نفسه. أو نقول: إنّ أيّاً منهما كان متقدّماً في إصدار الحكم ينفذ حكمه، ويعتبر حكم الآخر نقضاً لحكم الحاكم، ولا يلتفت إليه، فإن صدر الحكمان في وقت واحد رجعنا إلى الترجيح الوارد في الروايات لا إلى القرعة.

أقول: تارةً نفترض أنّ القاضي هو ولي الأمر أيضاً، كالفقيه في زماننا، فهو بإمكانه _ بحكم ولاية الفقيه _ أن يجلب الخصم الآخر، ويفصل الخصومة إذا رأى المصلحة في ذلك، ولا يبقى مجال بعد ذلك لحكم حاكم آخر، وأُخرى نفترض أنّه ليس وليّاً للأمر كالفقيه بناءً على إنكار ولاية الفقيه، وكغير الفقيه المنصوب قاضياً من قبل

173

الفقيه بناءً على ولاية الفقيه، وهنا يجب أن نرجع إلى ما يفهم عرفاً من دليل النصب، فالمفهوم عرفاً من دليل النصب أمران:

الأول _ أنّ الخصمين إذا ترافعا لديه كان له حقّ التحقيق وفصل النزاع.

والثاني _ أنّ الشاكي منهما الذي يشكو من ظلم يقع عليه لو رفع الأمر إليه كان له حقّ جلب المتّهم والتحقيق، وبالتالي فصل النزاع.

أمّا لو كان كلاهما شاكيين، وشكى كلّ منهما إلى غير الذي شكى إليه الآخر، ولم يرضيا باشتراكهما معاً في فصل الخصومة كي يدخل الأمر تحت الصورة المفروضة في مورد الروايات الماضية، فشمول إطلاق دليل النصب لكلّ منهما بأن يعطيه حقّ المبادرة في القضاء لعلّه غير عرفي ولا نشك فقهيّاً في ثبوت مقتضي نفوذ القضاء في كلّ منهما لولا المعارض، فلا يبقى عدا تعيين أحدهما بالقرعة بناءً على شمول قاعدة القرعة لموارد عدم وجود تعيّن واقعي.

وقد يقال: لئن لم يشمل إطلاق دليل القضاء كلّاً منهما في المقام إذاً هما ليسا منصوبين للقضاء في خصوص المقام، فما معنى تعيين أحدهما بالقرعة؟!

وقد يجاب على ذلك بأنّ معنى حجّية القرعة في ذلك _ بناءً على شمول قاعدة القرعة لموارد عدم وجود تعيّن واقعي كما هو الحال في قصّة يونس (عليه السلام) _ هو أنّه ما دام مقتضي القضاء في كلّ منهما تامّاً، فالقرعة ترفع المانع عمّن وقعت باسمه بتعيين السقوط في الآخر.

هذا، ولكن مقتضى أدلّة القرعة _ وهذا ما سوف نبحثه بالتفصيل عند البحث حول الطريق الخامس من طرق الإثبات في القضاء _ أن ما ذكره السيد الخوئي في المتداعيين اللذين اختار كلّ واحد منهما قاضياً غير ما اختاره الآخر من لزوم الرجوع إلى القرعة لا يخلو من إشكال؛ لوجهين:

174

الأول _ أنّ حجّية القرعة إنّما هي حجّية قضائيّة، وتقع القرعة من قبل القاضي؛ إذاً لا تشمل أصل تعيين القاضي، ولا دليل على الحجّية الذاتية _ أي بقطع النظر عن القضاء _ للقرعة.

ولكن لولا الإشكال الثاني لتمّ عندئذٍ لدينا دليل على الحجّية الذاتيّة في المقام؛ لأنّ عموم الموضوع في قوله: «كلّ مجهول ففيه القرعة»(1)قد شمل مورد الكلام في حين أنّه في هذا المورد لا تتصوّر حجّية قضائيّة، فتثبت الحجّية الذاتيّة في خصوص هذا المورد.

الثاني _ أنّ حجّية القرعة إنّما هي لكلّ أمر مجهول لدينا متعيّن في الواقع؛ بينما في هذا المورد لا تعيّن في الواقع.

ولا يبعد القول بأنّ أيّاً منهما بادر إلی القضاء فقضاؤه نافذ بإطلاق دليل النصب، ولا يبقى مجال لحكم الآخر، ولو تعاصرا في الحكم دخل في مورد الروايات التي وردت في تعارض الحكمين، وحكمت بالترجيح لا بالقرعة.

أمّا لو لم نقبل بهذا البيان، إذاً فلو أرادا حقّاً حلّ المشكل عن طريق القضاء فعليهما أن يتوافقا على قاضٍ واحد، ولو عن طريق القرعة التي هي مشروعة بالتراضي والتشارط في المباحات ولو مع عدم تعيّن في الواقع _ على ما سوف يأتي إن شاء اللّه في محلّه _ بل التراضي بالقرعة يحلّ المشكل قهراً بلا حاجة إلى دليل لو بقي الرضا مستمرّاً بعد القرعة، وكذلك لو أراد أحدهما حلّ المشكل فعليه أن يرضى بقاضي الآخر. أمّا لو بقيا متشاكسين في تعيين القاضي فهذا حاله حال أن يتركا رفع المخاصمة إلى القاضي رأساً، والعيب فيهما وليس في قوانين القضاء.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص189، الباب 13 من كيفيّة الحكم ، ح 11.

175

هذا تمام الكلام في البحث عن شخصية القاضي. مع ما ألحقناه به من الحديث عمّن بيده تعيين القاضي.

177

الفصل الثالث

 

 

طرق الإثبات لدى القاضي

 

 

  1- طرق الإثبات في الفقه الوضعي

  2- طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

 

 

 

 

179

طرق الإثبات لدى القاضي

1

 

 

طرق الإثبات في الفقه الوضعي

 

 

  1- نصوص من الفقه الوضعي

  2- الطعن على الإسلام

 

 

 

 

181

نصوص من الفقه الوضعي

تعارف القول في الفقه الوضعي الحديث بأنّ طرق الإثبات ستة: أوّلها وأهمّها الكتابة، والثاني الشهادة أو البيّنة، والثالث القرائن، والرابع الإقرار، والخامس اليمين، والسادس المعاينة.

قال عبدالرزاق أحمد السنهوري:

«والكتابة من أقوى طرق الإثبات، ولها قوّة مطلقة يجوز أن تكون طريقاً لإثبات الوقائع القانونيّة والتصرفات القانونيّة دون تمييز، كما سنرى. ولم تكن لها هذه القوّة قديماً، بل كان المقام الأول للشهادة في وقت لم تكن فيه الكتابة منتشرة، بل كانت الغلبة للأُميّة فكان الاعتماد على الرواية دون القلم، هكذا كان الأمر في الفقه الإسلامي وفي سائر الشرايع، ثم أخذت الكتابة تنتشر، وساعد على ذلك اختراع الطباعة، فعلت الكتابة على الشهادة وصار لها المقام الأول. ومن مزايا الكتابة أنّه يمكن إعدادها مقدّماً للإثبات منذ نشوء الحقّ دون التربّص إلى وقت المخاصمة... ومن مزايا الكتابة أيضاً أنّها لا يتطرّق إليها من عوامل الضعف ما يتطرّق إلى الشهادة، فالشهود يجوز عليهم الكذب، وتعوزهم الدقّة على كلّ حال، وتتعرّض ذاكرتهم

182

للنسيان على أنّ الكتابة إذا خلت ممّا يلحق الشهادة من كذب، أو اضطراب، أو نسيان لا تخلو هي أيضاً من احتمال التزوير. وقد رسم قانون المرافعات اجراءات معيّنة للطعن في الكتابة بالإنكار، أو بالتزوير. (م 253 _ 291 مرافعات).

أمّا الشهادة أو البيّنة فقد كانت من أقوى الأدلّة في الماضي كما قدّمنا، ثم نزلت للأسباب التي بيّناها إلى مكان أدنى، فهي طريق لإثبات ذو قوّة محدودة؛ إذ لا يجوز إثبات التصرّفات القانونيّة بها إلا في حالات استثنائيّة، ولا تثبت بها إلا الوقائع القانونيّة؛ لأنّها أعمال ماديّة، فجاز إثباتها بالبيّنة لموقع الضرورة، وقد حاطها المشرّع بضمانات عدّة، فرسم اجراءات دقيقة لسماع الشهود (م 189 _ 224 مرافعات)، وفرض عقوبة على شهادة الزور، وترك للقاضي التقدير الأعلى في الأخذ بها إذا أقنعته، أو في طرحها إذا هو لم يقتنع...»(2).

وذكر في فصل البيّنة والقرائن ما حاصله:

أنّ البيّنة والقرائن لهما القوّة المطلقة في الوقائع القانونيّة الماديّة، وفي التصرّفات القانونيّة التجاريّة إلا ما استثني. ولهما القوّة المحدودة في ميدان التصرّفات القانونيّة المدنيّة، فلا يجوز أن تثبت بهما التصرّفات المدنيّة التي تزيد قيمتها على عشرة جنيهات، أو تكون غير محدّدة القيمة، بل وتلك التي لا تزيد قيمتها على هذا المقدار إذا كانت مكتوبةً، ويراد إثبات ما يخالف الكتابة أو يجاوزها. ومحدوديّة قوّتهما في ميدان التصرّفات القانونيّة المدنيّة أيضاً لها استثناءاتها، والسبب في الفرق بين التصرّفات القانونيّة المدنيّة من ناحية والوقائع المادية أو التصرّفات التجارية هو أنّ التصرف القانوني إرادة تتّجه إلى إحداث أثر قانوني لها مظهر خارجي هو التعبير،


(1) الوسيط، ج 2، ص90 _ 91، الفقرة رقم 58.

183

والقانون اقتضى أن لا يكون إثبات هذا التعبير كقاعدة عامّة إلا عن طريق الكتابة، وذلك لاعتبار سببين:

1_ لأنّ التعبير عن إرادةٍ تتّجه لإحداث أثر قانوني أمر دقيق قد يُغَمُّ على الشهود فلا يدركون معناه، ولا يؤدون الشهادة فيه بالدقة الواجبة.

2_ والتصرف القانوني فوق ذلك هو الذي تستطاع تهيئة الدليل الكتابي عليه وقت وقوعه، ومن ثم كان اشتراط الكتابة لإثباته أمراً ميسوراً.

أمّا الواقعة الماديّة فلا يقوم في شأنها أيّ من الاعتبارين المتقدّمين، وقد عمد المشرّع إلى الخطير من هذه الوقائع كالميلاد والموت فأوجب تسجيله بالكتابة على نحو خاص.

أمّا السبب في إباحة الإثبات بالبيّنة وبالقرائن في المسائل التجارية أيّاً كانت قيمة التصرف القانوني فهو ما يقتضيه التعامل التجاري من السرعة، وما يستلزمه من البساطة وما يستغرقه من وقت قصير في تنفيذه...(1).

وقد يبدو من عبارة السنهوري الماضية في أوّل البحث أنّ الإسلام أعطى المقام الأول في الإثبات إلى البيّنة لأجل غلبة الأُمّيّة وقتئذٍ، وهذا ما يكرّس شبهة أعداء الإسلام القائلين بأنّ الإسلام كان ديناً منسجماً مع زمانه وقد انتهى وقت تنفيذ نُظمه وقوانينه لتبدّل الزمان والأوضاع.

ولكنّه ذكر بعد ذلك ما يدل على أنّه يرى أنّ النقص لم يكن في الإسلام، وإنّما كان النقص في عصر التقليد في الفقه الإسلامي _ على حدّ تعبيره _، ولا بأس بذكر نصّ عبارته بهذا الصدد. قال في تعليق له في الهامش على الفقرة رقم 189، في


(1) راجع الوسيط ج 2، الفقرة رقم 181 و 182 و 185 و 188.

184

الجزء2: «فالفقه الإسلامي لا يعتدّ بالكتابة اعتداده بالشهادة، فالشهادة عنده هي البيّنة التي لها المقام الأول في الإثبات، أمّا الكتابة فيحذر منها كلّ الحذر؛ لأنّ الخطوط _ كما يقول الفقهاء _ قابلة للمشابهة والمحاكاة، والواقع من الأمر أنّ الكتابة لم تكن في العصور الأُولى التي ترعرع فيها الفقه الإسلامي منتشرةً بين الناس، ولم يكن فنّ الخط قد تقدّم تقدّمه في العصور التي تلت، فكان من الصعب الاعتماد على الكتابة في الإثبات... وقد أتى القرآن الكريم في آية المداينة بأرقى مبادى‏ء الإثبات في العصر الحديث، قال اللّه تعالى: ﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كٰاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمٰا عَلَّمَهُ اللّٰهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّٰهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً﴾(1). فالأولويّة في الإثبات إذاً للكتابه، ولكن لمّا كانت حضارة العصر تقصر دون ذلك، وتقف عن مجاراة هذا التقدّم لم يستطع الفقهاء إلا أن يسايروا حضارة عصرهم، فإذا بالفقه الإسلامي يرتفع بالشهادة إلى مقام تنزل عنه الكتابة نزولاً بيّناً. ومن العجيب أنّ عصر التقليد في الفقه الإسلامي لم يدرك العوامل التي كانت وراء تقدّم الشهادة على الكتابة، فظلّ يردّد ما قاله الفقهاء الأوّلون في تقديم الشهادة، وذلك بالرغم من أنّهم كانوا يستطيعون أن يقلّبوا الوضع، فيقدّموا الكتابة يؤازرهم في ذلك انتشار الكتابة وتُظاهرهم آيات القرآن الكريم».

إنتهى ما أردنا نقله من الوسيط.

وكتب أحمد نشأت في كتابه يقول:

«قد اتّبعت معظم الشرائع قاعدة في الإثبات الكتابة، وأمر بذلك القرآن الكريم:


(1) البقرة: 282.

185

﴿یا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كٰاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمٰا عَلَّمَهُ اللّٰهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّٰهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كٰانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَاِمْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا فَتُذَكِّرَ إِحْدٰاهُمَا الْأُخْرىٰ وَلاٰ يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا وَلاٰ تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلىٰ أَجَلِهِ ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّٰهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهٰادَةِ وَأَدْنىٰ أَلّا تَرْتٰابُوا إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً حٰاضِرَةً تُدِيرُونَهٰا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَلّا تَكْتُبُوهٰا﴾(1)».(2)

ولا يخفى أنّ هذه الآية الشريفة ليست دليلاً على أنّ الكتابة إحدى وسائل الإثبات في باب القضاء، إذ جعلت الآية المباركة الكتابة كوسيلة لتقويم الشهود من ناحية، ودفع الارتياب من نفس أطراف المعاملة من ناحية أُخرى؛ حيث قال: ﴿ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّٰهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهٰادَةِ وَأَدْنىٰ أَلّا تَرْتٰابُوا﴾. أمّا إذا وقع الارتياب وحصل النزاع، فهل من حقّ القاضي أن يقضي بمجرّد الكتابة؟ فهذا ما لم تدل عليه الآية الكريمة.

هذا، وطرق الإثبات في الفقه الإسلامي عبارة عن:

1_ العلم.

2_ البيّنة.

3_ اليمين.


(1) البقرة: 282.

(2) رسالة الإثبات، ج1، ص105، الفقرة رقم56، الطبعة السابعة.

186

4_ الإقرار.

5_ القرعة.

أمّا قاعدة العدل والإنصاف فقد تخصم بها الدعوى، لكنّها ليست من طرق الإثبات، فهي طبعاً لا تعني أنّ كلا الطرفين على حقّ، وإنّما تعني التنصيف عند عدم معرفة المالك الحقيقي كي يحصل المالك الواقعي على نصف ماله على كلّ تقدير، ولا يحرم أيّ واحد منها حرماناً كاملاً ما دام يحتمل كونه هو المالك.

أمّا الكتابة فليست _ بما هي _ طريقاً للإثبات في الفقه الإسلامي.

الطعن على الإسلام

ومن هنا يأتي الطعن على الإسلام بأنّه لا ينسجم مع وضع اليوم؛ إذ من الواضح أنّ رفض الكتابة اليوم _ وهي أقوى بكثير من جهة كشفها الحقيقي من البيّنة _ أمر غير عقلائي، فالإسلام دين لظروف مضت ولزمان انصرم.

والجواب: أنّ الكتابة قد تورث العلم، وقد لا تورث العلم، فإن أورثت العلم فقد دخلت في الطريق الأول من طرق الإثبات في الفقه الإسلامي كما ذهب إليه مشهور أصحابنا _ قدّس اللّه أسرارهم _ وكان طريق الإثبات في الحقيقة هو العلم من أيّ سبب نشأ، لا الكتابة.

أمّا إذا لم تورث العلم فهي غالباً أضعف من المدرك الذي أوجب للبيّنة العلم، والقاضي وإن كان تعامله ليس مباشرةً مع مدرك علم البيّنة، وإنّما تعامله معه بواسطة علم البيّنة، بينما الكتابة هي المدرك المباشر لحصول الظنّ عند القاضي، فقد يفضِّل الاتكاء على هذا المدرك المباشر على الاتكاء على ذاك المدرك غير المباشر، ولكن المشرّع ليس هو القاضي، وإنّما هو شخص ثالث نسبته إلى القاضي والبيّنة

187

على حدّ سواء، ومن حقّه أن يفضّل المدرك الذي أوجب العلم للبيّنة على المدرك الذي أوجب الظن للقاضي.

وبعد هذا نشرع في البحث عن الطرق التي اعتمد عليها فقهنا الإسلامي للإثبات في القضاء.

189

طرق الإثبات لدى القاضي

2

 

 

طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

 

 

  1- علم القاضي

  2- البيّنة

  3- اليمين

  4- الإقرار

  5- القرعة

 

 

 

 

191

طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

1

 

 

علم القاضي

 

 

  1- مع الفقه الوضعي

  2- مع الفقه الإسلامي

 

 

 

 

193

الطريق الأول: علم القاضي.

مع الفقه الوضعي

وقبل الشروع في البحث عن ذلك من وجهة نظر فقهنا الإسلامي نشير إلى وجهة نظر الفقه الوضعي الحديث في مسألة علم القاضي، والمتبنّى عادةً في ذاك الفقه هو عدم حجّية علم القاضي.

وذكر عبدالرزاق السنهوري أنّ هذا ناتج عن مبدأ حقّ الخصم في الإثبات لا عن مبدأ حياد القاضي(1).

ولتوضيح المقصود نتكلّم باختصار عن كلّ من المبْدَءَين من وجهة نظرهم:

قال السنهوري في الوسيط ما ملخّصه:

إنّ الحقيقة القضائية قد تبتعد عن الحقيقة الواقعية، بل قد تتعارض معها؛ لأنها لا تثبت إلا عن طريق قضائي رسمه القانون، وقد يكون القاضي من أشدّ الموقنين


(1) راجع الوسيط، ص 33_ 34، الفقرة رقم 27.

194

بالحقيقة الواقعية ومخالفتها للحقيقة القضائية.

والقانون في تمسّكه بالحقيقة القضائية دون الواقعية يوازن بين اعتبارين: اعتبار العدالة في ذاتها، ويدفعه إلى تلمّس الحقيقة الواقعية بكلّ السبل ومن جميع الوجوه حتى تتّفق معها الحقيقة القضائية، واعتبار استقرار التعامل، ويدفعه إلى تقييد القاضي في الأدلّة التي يأخذ بها، فيحدّد له طرق الإثبات وقيمة كلّ طريق منها كي يأمن من جوره، ويحدّ من تحكّمه، ولا يختلف القضاة في ما يقبلونه من دليل، وفي تقدير قيم الأدلّة في الأقضية المتماثلة.

ويمكن في الموازنة بين الاعتبارين أن نتصوّر قيام مذاهب ثلاثة في الإثبات:

1_ المذهب الحرّ أو المطلق: وهو الذي يميل إلى استقرار العدالة ولو بالتضحية باستقرار التعامل.

2_ والمذهب القانوني أو المقيّد: وهو الذي يقيّد قوانين الإثبات أشدّ التقييد حتى يستقرّ التعامل.

3_ والمذهب المختلط: وهو مذهب بين بين يوازن ما بين الاعتبارين، فيعتدّ بكلّ منها، ولا يضحّي بأحدهما لحساب الآخر، وهذا هو خير المذاهب، فهو يجمع بين ثبات التعامل بما احتوى عليه من قيود وبين اقتراب الحقيقة الواقعية من الحقيقة القضائية بما أفسح فيه للقاضي من حرّيّة التقدير وأشدّ ما يكون إطلاقاً في المسائل الجنائيّة، ففيها يكون الإثبات حرّاً بتلمّس القاضي وسائل الإقناع فيه من أيّ دليل يقدّم إليه، شهادةً كانت، أو قرينةً، أو كتابةً، أو أي دليل آخر، ثم يتقيّد الإثبات بعض التقيّد في المسائل التجارية.

ويتّصل بما تقدّم مبدأ حياد القاضي، فالقاضي في المذهب الحرّ لا يكون محايداً، بل موقفه إيجابي ينشط القاضي فيه إلى توجيه الخصوم واستكمال ما نقص في الأدلّة

195

واستيضاح ما أبهم منها، بينما في المذهب القانوني سلبي محض لا يعدو القاضي فيه أن يتلقّى أدلّة الإثبات كما يقدّمها الخصوم دون أيّ تدخّل من جانبه، ثم يقدّر هذه الأدلّة طبقاً للقيم التي حدّدها القانون، فإذا رأى الدليل ناقصاً أو مبهماً فليس له أن يطلب إكماله أو توضيحه، بل يقدّره كما هو.

وفي المذهب المختلط ينبغي أن يكون موقفاً وسطاً بين الإيجابية والسلبية، بل أقرب إلى الإيجابية منه إلى السلبية.

والقوانين اللّاتينية والقانون المصري معها قد اتّخذت الموقف المختلط في الإثبات، وهي مع ذلك لا توسّع على القاضي في حرّيّة توجيهه للدعوى واستخلاص الحقائق من أدلّتها القانونية إلا إلى مدىً محدود...(1).

وهذا المعنى من الحياد كما ترى لا يترتّب عليه عدم حجّية علم القاضي.

وأمّا مبدأ حقّ الخصم في الإثبات:

فقد ذكروا أنّ على الخصم أن يثبت ما يدّعيه أمام القضاء بالطرق التي بيّنها القانون، وهذا ليس واجباً عليه فحسب، بل هو أيضاً حقّ له، وكلّ دليل يتقدّم به الخصم لإثبات دعواه يكون للخصم الآخر الحقّ في نقضه وإثبات ما يدّعيه الخصم، وكلّ دليل يقدَّم في الدعوى يجب أن يعرض على الخصوم جميعاً لمناقشته، ويدلي كلّ برأيه فيه ويفنّده أو يؤيّده، والدليل الذي لا يعرض على الخصوم لا يجوز الأخذ به.

ويترتّب على حقّ الخصوم في مناقشة الأدلّة التي تقدّم في الدعوى أنّه لا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه، ذلك أنّ علم القاضي هنا يكون دليلاً في القضيّة، ولما كان للخصوم حقّ مناقشة هذا الدليل اقتضى الأمر أن ينزل القاضي منزلة الخصوم فيكون


(1) راجع الوسيط، ج2، الفقرة رقم 20 _ 24.