موقف الإمام الحسين(عليه السلام) تجاه تآمر معاوية
هذه هي مؤامرة معاوية بن أبي سفيان على مستوى النظريّة وعلى مستوى الاُمّة، وكان لابدّ للإمام الحسين (عليه السلام) أن يتّخذ موقفاً تجاه كلٍّ من هاتين المؤامرتين:
أ ـ الإمام الحسين(عليه السلام) على مستوى النظريّة:
أمّا الموقف الذي اتّخذه تجاه المؤامرة على النظريّة، فقد جمع الإمام الحسين (عليه السلام) ـ في أحرج اللحظات وأشدّ الظروف ـ الصحابةَ من المهاجرين والأنصار ـ من تبقّى من المهاجرين والأنصار ـ في سنة من سنين الحجّ في موقف عرفات، في ذلك الموقف الذي يتورّع فيه أيّ إنسان مسلم اعتياديٍّ عن أن يكذب على الله أو على رسوله، أو أن لا يؤدّي الأمانة كما هي.
جَمَع البقيّة الباقية من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم من حملة تراث محمّد (صلى الله عليه وآله) ووقف فيهم خطيباً، وقال ما مضمونه: إنّ تراث النبي (صلى الله عليه وآله)، وإنّ مفهوم الإمام علي (عليه السلام) يعيش الآن في خطر، وعليكم أن تنقذوا هذا التراث وهذا المفهوم من الخطر، وإنقاذ ذلك بأن
تشهدوا بكلّ ما سمعتم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا الخطّ، ولو تحمّلتم فيهذا السبيل كلّ ما تحمّلتم من وسائل الإخافة والتهديد والحرمان من قبل طاغوت هذا الزمان(1).
هؤلاء البقيّة الباقية من المهاجرين والأنصار الذين استجابوا لدعوة الإمام الحسين (عليه السلام) هزّهم الإمام الحسين، وهزّتهم هذه المظلوميّة التي يعيشها خطّ الإمام الحسين (عليه السلام)، وهزّهم موقفُ عرفات ويومُ عرفة، الزمانُ والمكانُ والشخصُ، فتبارى هؤلاء، انطلقت ألسنتهم في يوم الحجيج مع المسلمين، فكان يقف الواحد منهم تلو الآخر وينقل ما كان يستذكره وقتئذ من أحاديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله).
وكان كلّ حديث من هذه الأحاديث، كانت قيمته الواقعيّة النفسيّة وقيمته الموضوعيّة أكبر بكثير من مئات من الروايات التي تنقل في الحالة الاعتياديّة؛ لأنّ هذا حديث يتحدّث به إنسان وأمامه جبروت معاوية وسيف معاوية وظلم معاوية بن أبي سفيان.
بهذا استطاع الإمام الحسين (عليه السلام) أن يثبّت معالم النظريّة، وأن يرسّخ في أذهان الاُمّة الإسلاميّة أنّه لا يزال هناك بقيّة من حملة
(1) راجع: كتاب سليم بن قيس: 788 ـ 789 بحسب طبعة منشورات دار الهادي بقم، والاحتجاج 2:296 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.
تراث محمّد (صلى الله عليه وآله) يعبّرون عن الخطّ الصالح، ويتحدّون بذلك سيفالحاكم وجبروت هذا الحاكم.
هذا على مستوى النظريّة.
ب ـ موقف الإمام الحسين(عليه السلام) على مستوى الاُمّة:
وأمّا على مستوى الاُمّة، فهذه الاُمّة التي شفيت من مرضها الأوّل الذي عاصره الإمام الحسن (عليه السلام) أو بدأت تشفى، مُنيت بمرض آخر، مرض الشكّ شفيت منه أو كادت أن تشفى منه، تكشّفت لهذه الاُمّة اُطروحة معاوية، واستطاع الإمام الحسن (عليه السلام) باعتزاله المعترك السياسي مؤقّتاً أن يعطيها فرصةً لتجد باُمّ عينها أبعاد المؤامرة وحدودها، وواقع معاوية وما يمثّله معاوية من أفكار ومفاهيم. استطاعت أن تعرف ذلك، فأصبحت الاُمّة الإسلاميّة تلعن معاوية، وأصبحت تعيش عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) كمثل أعلى، كأمل، كحلم، كرجل قد مرّ في تاريخها ثمّ وقعت بعده في أشدّ المصائب والنكبات والويلات، أصبحت تعيش هذه الأزمة تجاه واقعها، وهذه العاطفة تجاه ماضيها.
هذا شفيت منه، ولم يبق هناك إلّا الغبي من يفكّر في أنّ عليّ بن
أبي طالب (عليه السلام) كان يعمل لنفسه، كان يعمل لزعامته، كان يعمل لقبيلته، فأصبح واضحاً أنّ معركة عليٍّ مع معاوية كانت معركة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع الجاهليّة التي اضطرّت أن تلبس الإسلام ثوباً لها لكي تبرز من جديد على المعترك، على الصعيد السياسي والعسكري، هذا أصبح واضحاً بالتدريج.
إلّا أنّ الاُمّة منيت ـ نتيجةً لمؤامرة معاوية بن أبي سفيان، منيت بعد أن نجحت هذه المؤامرة، وبعد أن تنازلت الاُمّة عبر هذه المؤامرة عن وجودها وعن شخصيّتها، مُنيت ـ بمرض آخر أدهى وأمرّ. وهذا المرض الذي هو أدهى وأمرّ هو أنّها فقدت إرادتها، وفقدت بذلك أن تقول كلمتها، أصبحت تدرك لكنّها لا تستطيع أن تتحرّر، أصبحت تتألّم لكنّها لا تستطيع أن تنبثق؛ لأنّ هذه الاُمّة رخص عندها كلّ شيء إلّا حياتها المحدودة، إلّا هذه الأنفاس التي تعلو وتهبط في ذلٍّ وفي عبوديّة وفي حرمان، غاية همِّ أيِّ إنسان من هؤلاء أن يحافظ على هذه الأنفاس لكي يصل إلى نهاية الشهر ثمّ يقبض عطاءه عن يد وهو صاغر من عامل من عمّال بني اُميّة.
ماتت الهِمَّة، وماتت الإرادة، وماتت تلك الاُمّة الشامخة التي أعدّها الله لكي تمثّل خلافة الله في الأرض.
وهكذا قرّر الإمام الحسين أن يخرج لمواجهة هذه المؤامرة على شخصيّة الاُمّة، ولم يكن يحاول بذلك أن يقضي على السلطان السياسي لبني اُميّة؛ فإنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يحتمل أن يوفّق للقضاء على السلطان السياسي لبني اُميّة ـ على ما يبدو من الروايات ـ لمجرّد احتمال بدا لا أكثر، وإلّا كانت الأخبار العامّة توضح له بأنّه سوف يقتل، والظروف الموضوعيّة كانت كلّها توضح له أنّه سوف يقتل. وكيف يمكنه أن يتغلّب على السلطان السياسي لبني اُميّة وهو يعيش في اُمّة ميْتة؟!
سياسة الإمام الحسين(عليه السلام) في هزّ ضمير الاُمّة
1 ـ حتميّة القتل:
وقد حاول الإمام الحسين (عليه السلام) واستطاع أن يُشعر الاُمّة باستمرار أنّه يتحرّك وهو يعلم أنّه مقتول، يتحرّك وهو يعلم أنّه يستشهد: في المدينة قال للمحتجّين عليه بأنّه سوف يقتل(1). في مكّة وقف خطيباً يودّع بيت الله الحرام وقال بأنّه سوف يقتل(2)؛ لكي يجعل الاُمّة تعيش هذه الاُسطورة، اُسطورة أنّ شخصاً يتقدّم نحو الموت وهو ثابت الجأش، قويُّ القلب، واضح اليقين في أنّ هذا الطريق يريده الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).
إذاً، فالموت ليس خطراً إذا كان هذا الموت هو طريق إنقاذ المسلمين، هو طريق تخليص الاُمّة من مؤامرة الجبابرة والطواغيت.
(1) اللهوف على قتلى الطفوف: 64 ـ 65 بحسب طبعة منشورات جهان بطهران.
(2) «خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي...». المصدر السابق: 60.
كان يُشيع في نفوس المسلمين أنّ الموت شيءٌ هيّنٌ في سبيل هذه الأهداف الكبيرة.. نعم، أنا سوف أموت.. نعم، أنا سوف اُقتل على أيّ حال، سوف اُقتل لأنّ هذا طريق واجب، لابدّ لي أن أسلك هذا الطريق لكي أستطيع بذلك أن اُؤدّي الأمانة. هذا من ناحية.
2 ـ عدم الظهور بمظهر من لا يملك تبريراً لحركته:
ومن ناحية أحكم كلَّ ظروف حركته بشكل لا يبعث في ذهن هذه الاُمّة المسلمة المائعة أيَّ نقد في أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) استعجل الظروف، أو أنّه استبق أوانه وتحرّك بحركة ابتدائيّة بدون مبرّر، حشد كلّ المبرّرات المنطقيّة والمعقولة لحركته، لم يكن هناك إنسان يمكنه أن يقول: إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد استعجل الموقف قبل أن يتأكّد من الظروف.
كيف يقال: إنّه استعجل الموقف قبل أن يتأكّد من الظروف وقد بقي في مكّة طويلاً والكتب تأتي ولا يجيب عليها، إلى أن اجتمعت عنده آلاف من الكتب(1)؟!
وبعد هذا أيضاً لا يجيب جواباً قاطعاً؛ يبعث ابن عمّه مسلم بن
(1) المصدر السابق: 35.
عقيل، لا يوصيه بقتال ولا بحرب، وإنّما يوصيه أن يذهب إلى الكوفة ليرى أنّ أهل الكوفة هل هم مزمعون حقيقةً على أن يبايعوا خطَّ الإمام علي (عليه السلام)، وعلى أن يضحّوا في سبيل خطّ الإمام (عليه السلام) ؟
يذهب مسلم بن عقيل إلى الكوفة، يبقى الإمام الحسين (عليه السلام) في مكّة حتّى يبعث إليه مسلمُ بنُ عقيل مؤكِّداً أنّ جميع أهل الكوفة وشيوخ أهل الكوفة قد اتّفقوا على زعامتك وإمامتك وقيادتك، وهم لك منتظرون(1).
كلّ هذه الظروف هيّأها الإمام الحسين (عليه السلام) ـ أو صبر حتّى تتهيّأ ـ لكي لا يبقى هناك نقدٌ لمنتقد، لكي لا يقول شخصٌ يريد أن يخلق المبرّرات بأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) استعجل. الحسين لم يستعجل.
3 ـ حشد المثيرات العاطفيّة:
من ناحية ثالثة: إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) حشد كلّ الظروف العاطفيّة في حركته أيضاً كي يستعين بهذه الظروف العاطفيّة في سبيل أن يهزّ ضمير الاُمّة.
(1) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:395 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
أ ـ لعلّ ذاك الشخص لم يفهم حينما قال له الإمام الحسين: «إنّي أعلم أنّي سوف اُقتل»، قال له: «يا سيّدي ما بال النسوة؟ فلماذا تأخذ معك حريم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟»، قال: «لأنّ الله أراد أن يراهنّ سبايا».
ولم تكن هذه الإرادة إرادةً تكوينيّة، وإنّما كانت إرادة تشريعيّة، يعني: أراد أن يصحب معه النسوة من حريم النبي (صلى الله عليه وآله) حتّى يشارِكْنَ في المحنة، ويشارِكْنَ في اعتداء طواغيت بني اُميّة؛ لكي يكون هذا عاملاً مساعداً في هزّ ضمير الاُمّة.
هذه الظروف العاطفيّة أيضاً حشدها باستمرار، وكان يحاول باستمرار أن يستثير كلَّ من يجده، حتّى عبدالله بن عمر، حتّى أعداءه وخصومه.
قال: «يا عبدالله بن عمر! لا تترك نصرتي»(1)؛ يعني: ليست نصرتي بأن تقبِّلني(2) وأن تكرّمني، وإنّما نصرتي بأن تمشي في خطّي،
(1) قال (عليه السلام): «اتّق الله أبا عبد الرحمن، ولا تَدَعَنَّ نصرتي». الفتوح 5:25 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
(2) «فلمّا رأى ابن عمر إباءه قال: يا أبا عبدالله! اكشف لي عن الموضع الذي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقبّله منك، فكشف الحسين (عليه السلام) عن سرّته، فقبّلها ابن عمر ثلاثاً وبكى». الأمالي (الصدوق): 153 بحسب الطبعة الرابعة لمنشورات المكتبة الإسلاميّة.
بأن تبذل دمك في الخطّ الذي أبذل فيه دمي. أمّا التقبيل، أمّا هذا النوع من التكريم الرخيص، هذا ليس له قيمة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله).
كان يحاول أن يهزّ ضمير الاُمّة، يهزّ ضمير كلِّ فرد من أفراد الاُمّة، لكنّ الاُمّة كانت في سبات، هذه الاُمّة التي ماتت إرادتها.
ب ـ عبيدالله بن الحرّ الجعفي الذي وصل إلى منزل من المنازل، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) في ذلك المنزل، واطّلع الإمام الحسين على أنّ عبيدالله بن الحرّ الجعفي وصل إلى ذلك المنزل، وعبيدالله بن الحرّ الجعفي له سوء سابقة في تاريخ جهاد الإمام علي (عليه السلام) (1)، لكنّ الإمام الحسين حاول أن يهزّ ضميره، بعث إليه برسول يطلب منه النصرة(2).
ذهب رسول الإمام الحسين إلى عبيدالله بن الحرّ الجعفي قال له: «جئتك بالكرامة، جئتك بكرامة لا يوجد فوقها كرامة؛ بأن تُستشهد بين يدي ابن رسول الله.. إنّ الحسين يدعوك لنصرته والاستشهاد بين يديه»، فظهر الغضب في وجه عبيدالله بن الحرّ الجعفي والضيق وقال:
(1) «لمّا قُتل عثمان وكان من أمر الجمل ما كان، خرج عبيدالله بن الحرّ إلى معاوية بالشام فالتجأ إليه، ولم يشاهد حرب الجمل». الفتوح 6:269 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
(2) هو الحجّاج بن مسروق الجعفي.
«إنّي خرجت من الكوفة خوفاً من أن يأتي الحسين، وأن تقوم المعركة ويتأزّم حينئذ موقفي.. خرجت فراراً من أن أعيش هذه اللحظة التي جعلتَني أعيشها الآن»، ثمّ اعتذر من الاستجابة للإمام الحسين (عليه السلام).
الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكتفِ بهذا، قام بنفسه وجاء إلى عبيدالله بن الحرّ الجعفي يستصرخه، يطلب منه، يحاول أن ينفذ إلى أعماقه، أن يحرّك ضميره ووجدانه، أن ينبّهه إلى الأخطار التي تكتنف الرسالة والإسلام.
يقول الناقل: «ما رقّ قلبي كما رقّ يومئذ والحسين (عليه السلام) حوله الصبية من أطفاله يطوفون به، ويمشي إلى عبيدالله بن الحرّ الجعفي يستصرخه ويناديه، فيعتذر عبيدالله بن الحرّ، يقول له: هذه فرسي خذها بدلاً عنّي»(1).
يقول (عليه السلام): «إنّي لست بحاجة إلى فرسك، إن كنت قد بخلت بدمك
(1) «دخل عليَّ الحسين (رضي الله عنه) ولحيته كأنّها جناحُ غراب، وما رأيت أحداً قطُّ أحسن ولا أملأ للعين من الحسين، ولا رققت على أحد قطُّ رقّتي عليه حين رأيته يمشي والصبيان حوله»، والناقل هو عبيدالله بن الحرّ نفسه؛ حيث قصّ قصّته مع الإمام الحسين (عليه السلام) على يزيد بن مرّة، فراجع: خزانة الأدب 2:139 بحسب الطبعة الاُولى لدار الكتب العلميّة ببيروت.
على الإسلام وعليَّ فلا حاجة في فرسك، لكن عندي وصيّة»، قال: «وما الوصيّة؟» قال: «إن قدرت على أن لا تسمَعَ واعيتنا فافعل؛ لأنّه ما سمع واعيتنا شخصٌ ثمّ لم ينصرنا إلّا أكبّه الله على وجهه يوم القيامة في جهنّم»(1).
وهذه الواعية ـ واعية الإمام الحسين ـ واعية الإسلام؛ لأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) استشهد في سبيل الإسلام، ولم يكن يعيش تلك اللحظة إلّا للإسلام؛ فواعية الإمام الحسين (عليه السلام) هي واعية الإسلام، والأخطار التي كان من أجلها يضحّي الإمام الحسين وقتئذ هي الأخطار التي تعيشها الاُمّة الإسلاميّة عبر كلّ هذه القرون إلى يومنا هذا.
قتل الإمام الحسين (عليه السلام) واستشهد في سبيل الحيلولة دون الأخطار التي عاشها المسلمون ويعيشونها إلى يومنا هذا.
امتداد واعية الحسين(عليه السلام) على مرّ العصور:
إنّ واعية الحسين (عليه السلام) لم تنقطع يوم عاشوراء.. إنّ واعية الحسين
(1) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:407 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت، والفتوح 5:73 ـ 74 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
حيث إنّها واعية رساليّة وليست واعيةَ شيخِ عشيرة أو قبيلة، فواعية الرسالة لا تنقطع مادامت الأخطار تكتنف هذه الرسالة، وقد قال هذا الإمام الشهيد الصادق: إنّه «ما سمع واعيتَنا شخصٌ ولم ينصرنا إلّا أكبّه الله على وجهه يوم القيامة»(1).
نحن يجب علينا أن نعرف أنّ هذه الواعية نواجهها اليوم كما واجهها عبيدالله بن الحرّ الجعفي. إن لم نواجهها من فم الحسين (عليه السلام) فنواجهها من دم الحسين، ومن تاريخ الحسين، ومن بطولة الحسين يوم عاشوراء ومواقفه المتعدّدة، نواجه هذه الواعية من كلّ الأخطار التي تكتنف الرسالة، وتكتنف الإسلام، وتكتنف الاُمّة الإسلاميّة من كلّ صوب وحدب.
كلّ هذا الضياع في القيم والأخلاق، في المبادئ والمثل، كلّ هذا التميّع، كلّ هذا هو واعية الإسلام.
نحن نواجه هذه الواعية في كلّ مكان، في كلّ زمان، من كلّ صوب وحدب.
إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) حينما ثار وحينما بدأ يبذل دمه في سبيل
(1) «فوالله! لا يسمع واعيتنا أحدٌ ثمّ لا ينصرنا إلّا هلك». الفتوح 5:74 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
الإسلام كان يواجه بداية خطٍّ من الانحراف، هذا الخطّ نحن الآن نعيش قمّته، نعيش أزمته، نعيش كلّ تصوّراته، كلّ أبعاده. إذاً، فواعية الإسلام اليوم أوسع وأكبر.
ونحن، وأيّ فرد من المسلمين، لا يزال اليوم مدعوّاً ـ كما كان عبيدالله بن الحرّ الجعفي مدعوّاً ـ أن يغضّ النظر عن مصالحه، عن وجوده، عن كيانه، عن شهواته، عن رغباته الشخصيّة؛ في سبيل أن يساهم في إنقاذ الإسلام، في إنقاذ المسلمين، في إعادة الإسلام إلى الحياة، في رفع هذا الوهن عن وجوه المسلمين، وعن كرامات المسلمين.
إنّ كلّ مسلم قادرٌ على أن يساهم في هذه العمليّة بقليل أو كثير، في حدود إمكانيّاته وقابليّاته.
المساهمة ليس شكلها الوحيد حمل السيف، وحمل السيف لا يمكن أن يكون إلّا بعد مساهمات طويلة الأمد.. إذاً، فهناك نوعٌ من المساهمة قبل حمل السيف.
ولو أنّ كلّ واحد منّا يقول بأ نّي لا أستطيع أن أحمل السيف ـ إذاً فأنا لا تكليف عليَّ ولا مسؤوليّة عليّ ـ فمعنى هذا أنّه سوف لن يمكن حمل السيف في يوم من الأيّام.
إنّ حمل السيف هو شكلٌ من أشكال المساهمة، وهو شكل أعلى
من أشكال المساهمة، ولا يمكن أن يوجد هذا الشكل فجأة. لابدّ لكلّ واحد مسلم أو مسلمة أن يساهم بقدر إمكانه وظروفه الفكريّة والعلميّة والاجتماعيّة في جواب هذه الواعية، في الردّ على هذه الواعية، في إنقاذ هذا الجريح الذي يُضرَب في كلّ يوم، ويُستَهزَأ منه في كلّ يوم، وتُتَحدّى أحكامُه في كلّ يوم، وتُضْرَبُ تشريعاتُه عرضَ الحائط في كلّ يوم.
اللّهمّ اجعلنا من شيعة الإمام الحسين، والسائرين في خطّه والمجيبين لواعيته.
3النهضة الحسينيّة
الإمام الحسين(عليه السلام)
ومبرّرات رفض البيعة
° شرائح الاُمّة التي شكّلت مجال عمل الإمام الحسين (عليه السلام) .
° مبرّرات الإمام الحسين (عليه السلام) في اختيار رفض المبايعة وهزّ ضمير الاُمّة بحيثيّات الخروج.
كان(1) أمام الإمام الحسين (عليه السلام) عدّة مواقف عمليّة، وكان بإمكانه أن يتّخذ أيَّ واحد منها بعد أن هلك معاوية وبويع يزيد وطُلب منه أن يبايع يزيد بن معاوية:
الموقف الأوّل: هو أن يبايع يزيدَ بنَ معاوية.
الموقف الثاني: أن يرفض بيعة يزيد بن معاوية، لكن يبقى في مكّة أو في المدينة، في أحد الحرمين: في حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ يعني: في بيته وبلدته ـ أو في حرم الله، فينتقل إلى مكّة، ويبقى هناك مستجيراً بحرم الله تعالى حتّى يقضي الله بما هو قاض.
(1) راجع: كتاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، المحاضرة السابعة عشرة: 465 بحسب الطبعة الثالثة والمحقّقة من قِبل اللجنة التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر (قدس سره).
الموقف الثالث: هو أن يلجأ إلى أحد أطراف العالم الإسلامي، يلجأ إلى بلد من بلاد العالم الإسلامي كما اقترح عليه أخوهمحمّد بن الحنفيّة، حيثُ قال له: «اذهب إلى اليمن، أو إلى أيّثغر آخر من ثغور المسلمين»(1). فيذهب إلى اليمن مثلاً ـ أو إلىثغر آخر من ثغور المسلمين ـ ويكوّن هناك جماعةً له ومجتمعاً، وينفصل عن المجتمع الأكبر الذي يضمّ سائر بلاد المسلمين، حتّى إذا استطاع أن يُحكِمَ أمره حاول أن يتقدّم ويضمّ بقيّة البلادإلى بلده.
الموقف الرابع: هو أن يرفض البيعة، وأن يتحرّك، وأن يذهب إلى الكوفة مستجيباً للرسائل التي وردته من أهل الكوفة، ثمّ يُقتل ويستشهد بالطريقة التي وقعت.
هذه هي المواقف العمليّة الأربعة التي كان بالإمكان للإمام الحسين (عليه السلام) أن يختار أيَّ واحد منها وقد اختار (عليه السلام) الرابع منها.
(1) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:342 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت، والفتوح 5:20 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
شرائح الاُمّة التي شكّلت مجال عمل الإمام الحسين(عليه السلام)
وكان اختياره للموقف الرابع من هذه المواقف الأربعة قائماً على أساس إدراكه لطبيعة الظرف الذي يعيشه؛ فقد كانت هناك عدّة نقاط دخلت في تكوين موقفه، أي: إنّه كان عليه أن يقف موقفاً يعالج به عدّة أقسام من أفراد الاُمّة الإسلاميّة:
القسم الأوّل: الذين وهبوا قلوبَهم وشهروا سيوفَهم:
هذا القسم كان يشكّل جزءاً كبيراً من الاُمّة؛ فإنّ جزءاً كبيراً من الاُمّة كان قد فقد خلال عهد معاوية بن أبي سفيان إرادته وقدرته على مواجهة الوضع القائم وقتئذ، وكان قد استشعر الذلّ والاستكانة والتبعيّة في نفس الوقت الذي هو يشعر بأنّ خسارةً كبيرةً ـ هي خسارة تحويل الخلافة إلى كسرويّة وهرقليّة ـ تحيق بالاُمّة الإسلاميّة، في نفس هذا الوقت لم يكن يقدر على أن يتحرّك؛ لأنّ يده ولسانه كانا ملك شهواته، ولم يكونا ملك عقله وقلبه وعقيدته.
هذا القسم هو الذي عبّر عنه الفرزدق في كلامه مع الإمام الحسين (عليه السلام) حينما قال: «سيوفهم عليك وقلوبهم معك»(1)؛ فهم يؤمنون بأنّ الإسلام يُنتهك على أيدي بني اُميّة، ولكنّهم لا يستطيعون أن يتحرّكوا، فيتحرّكون إلى جانب بني اُميّة، ويحملون السيوف ضدّ الإمام الحسين (عليه السلام).
القسم الثاني: الذين عزّت عليهم نفوسهم وهان عليهم الإسلام:
هذا القسم(2) ـ والذي كان يمكن أن يشمل عدداً كبيراً أيضاً ممّن شملهم القسم الأوّل ـ هو ذاك القسم الذي هان عليه الإسلام نفسُه، لا
(1) المعروف أنّه قول الفرزدق، راجع: تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:386 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت، والأخبار الطوال: 245 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم، ومقاتل الطالبيّين: 111 بحسب طبعة دار المعرفة ببيروت.
(2) ذكر السيّد الشهيد الصدر (قدس سره): أنّه حينما يقسّم لا يقصد من ذلك: التقسيم الحدّي، بحيث لا ينطبق قسمان منهما على فرد واحد، فهناك عناوين أربعة، ويمكن أن يتصادق عنوانان من هذه العناوين على فرد أو أفراد في الاُمّة الإسلاميّة.
هانت عليه نفسه، بل هان عليه نفس الإسلام والرسالة؛ فلم يعد يهتمّبالرسالة بقدر اهتمامه بمصالحه الشخصيّة، تضاءلت أمامه الرسالة، وكبر أمامه وجوده ومصلحته واعتباراته ودراهمه.
هذا القسم فرقُه عن القسم الأوّل: أنّ القسم الأوّل كان يشعر بالمصيبة، لكن لم يكن يستطيع الحلّ، من قبيل المدخّن الذي يشعر بأنّ الدخان ضرر عليه لكنّه لا يستطيع أن يتركه. وأمّا القسم الثاني فمن قبيل المدخّن الذي لا يعرف أنّ الدخان يضرّه.
القسم الثالث: البسطاء الذين تنطلي عليهم المخطّطات الاُمويّة:
هذا القسم هو قسمٌ من الاُمّة من الأفراد المغفّلين الذين كان بالإمكان أن تنطلي عليهم حيلة بني اُميّة لو سكت صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأجمعوا على السكوت عن تحويل الخلافة إلى كسرويّة وقيصريّة.
في عهد معاوية بن أبي سفيان طرأ على نفس مفهوم الخلافة ـ بقطع النظر عن الشخص الذي يتقمّص هذا الثوب، وأنّه محقّ أو معتد ـ تغيّر أساسي، ولم تعد الخلافة حكماً للاُمّة، وإنّما هي كسرويّة وقيصريّة
بلغة صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله) حينما كانوا يقولون: إنّ معاوية حوّل الخلافة إلى حكم كسرى وقيصر(1).
هذا التحويل ـ أي: التحويل في المفهوم بهذه الدرجة الخطيرة، والذي كان يمارسه معاوية، وكان يحاول أن يلبسه الثوب الشرعي ـ لو أنّه تمّ دون مجابهة من قبل الصحابة ومع سكوت من قبلهم، لأمكن أن تنطلي حيلة معاوية على كثير من السذّج والبسطاء وأنصاف البسطاء، الذين يقولون بأنّ هذا التحويل شرعي بدليل إمضاء الصحابة لذلك.
القسم الرابع: البعيدون عن حيثيّات الأحداث في قلب الدولة الإسلاميّة:
هناك قسمٌ رابع ـ أو بالإمكان أن نفترض قسماً رابعاً ـ يرتبط بمسألة تنازل الإمام الحسن (عليه السلام)؛ فإنّ تنازل الإمام الحسن (عليه السلام) عن
(1) قالها ـ مع تفاوت ـ عبدالله بن عمر في حياة معاوية. الإمامة والسياسة 1:196 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت. وقالها عبد الرحمن بن أبي بكر لمروان عند إرادة أخذ البيعة ليزيد. المنتظم في تاريخ الاُمم والملوك 5: 299 بحسب الطبعة الاُولى لدار الكتب العلميّة ببيروت.
المعركة مع معاوية وإعلانه الهدنة مع معاوية(1) لم يكن ـ في أكبر الظنّ ـ مكشوفاً بالدرجة الكافية الواضحة إلّا داخل دائرة الجماهير الكبرى في العالم الإسلامي التي كانت تعيش المأساة عن قرب، من قبيل الكوفة، ومن قبيل العراق بشكل عامّ، والتي كانت بيدها خيوط الحكم في العالم الإسلامي.
وأمّا ذاك الإنسان الواقع في آخر حدود العالم الإسلامي ـ في أقاصي خراسان مثلاً ـ ولم يكن يعيش المحنة يوماً بعد يوم، ولم يكن يكتوي بالنار التي اكتوى بها الإمام الحسن (عليه السلام) في الكوفة من قواعده وشيعته وطائفته وأعدائه، وإنّما تجيئه الأخبار عبر المسافة ما بين الكوفة وأطراف خراسان مثلاً، ذاك الإنسان لم يعرف بشكل واضح شيئاً محدّداً عن هذا التنازل: أَ هو اعترافٌ بشرعيّة الاُطروحة الاُمويّة؟ أم هو تصرّف اقتضته الضرورة والظروف الموضوعيّة التي كان يعيشها الإمام الحسن (عليه السلام) ؟
(1) راجع: كتاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، المحاضرة الرابعة عشرة: 381، والمحاضرة الخامسة عشرة: 407.