الشبح الرهيب المزعوم الذي يكمن فيه عبيد الله بن زياد، لتمزّق هذاالشبح وتحطّم هذا (البُعبُع)». يقول: «هممت، ثمّ التفتّ إلى أنّ شرطي عبيد الله بن زياد(1) واقف إلى جنبي، فسكتّ». وأدّى الشهادة المطلوبة منه رسميّاً وحكوميّاً بأنّ هانئاً حيّ، ورجع عمرو بن الحجّاج، وقتل هانئ(2).
ب ـ مسلم بن عقيل (رضوان الله عليه) بنفسه يخرج مع أربعة آلاف شخص يطوّقون قصر الإمارة.
عبيد الله بن زياد ليس معه إلّا ثلاثون من الشرطة ـ على ما تقول الرواية(3) ـ وعشرون من أشراف الكوفة، ومسلم بن عقيل معه أربعة آلاف(4)، لكنْ أربعة آلاف ليس لهم قلوب، ليس لهم أيد، ليس لهم إرادة.
ولو قرأنا أسماء قادة مسلم بن عقيل في هذه المعركة لوجدنا أنَّ
(1) وهو: حميد بن بكير الأحمري.
(2) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:364 ـ 368 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
(3) المصدر السابق: 369.
(4) المصدر السابق: 350.
هؤلاء الأربعة آلاف فيهم جماعة من كبار يوم عاشوراء، لكنّهم انهزموا جميعاً، لم يبقَ مع مسلم واحدٌ أبداً(1). يعني: أنّ حركة الحسين (عليه السلام) هي بنفسها صنعت هؤلاء، وهي بنفسها صعّدت هؤلاء، فهؤلاء السبعون الذين استشهدوا مع الحسين (عليه السلام) كان عددٌ منهم نتاجَ محنة حركة سيّد الشهداء، وإلاّ: لماذا انهزموا عن مسلم بن عقيل؟ على الأقلّ يبقى معه شخصٌ يدلّهُ على الطريق، صلّى مسلم في المسجد، وتفرّق الناس من حوله(2).
يقول التاريخ: بأنّه كانت تأتي المرأة فتنتزع زوجها وأباها وأخاها وتقول: «ما لك وعمل السلاطين»(3).
(1) «تفرّق عنه الباقون حتّى بقي وحده يتلدّد في أزقّة الكوفة ليس معه أحد». أنساب الأشراف 2:81 بحسب الطبعة الاُولى لمؤسّسة الأعلمي للمطبوعات ببيروت.
(2) «فدخل مسلم بن عقيل المسجد الأعظم ليصلّي المغرب، وتفرّق عنه العشرة». الفتوح 5:50 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
(3) «إنّ المرأة كانت تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:371 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
هذا نهاية فقدان الإرادة عندما الرجل يذوب ويتميّع؛ لأنّ امرأةًواحدةً تأتي وتنتزعه انتزاعاً.
هذه المرأة هي نفسها تلك المرأة التي وقفت بعد الإمام الحسين (عليه السلام) تلك المواقف العظيمة على طول الخطّ.. هذه المرأة هي نفس تلك المرأة التي أحبطت مؤامرةَ إمارة عمر بن سعد حينما مات يزيد بن معاوية، وبويع من قبل الاُمويّين في الكوفة لعمر بن سعد مؤقّتاً، عمر بن سعد أصبح أميراً على الكوفة، من الذي أسقط إمارة عمر بن سعد؟
أسقطته تلك المرأة التي كانت تذهب إلى زوجها وأبيها وأخيها تنتزعهم انتزاعاً عن مساندة مسلم بن عقيل، وتقول لهم: «لا شغل لك مع السلاطين»، هذه المرأة بنفسها قامت بمظاهرة، وقفت أمام عمر بن سعد تندب الحسين (عليه السلام) وتصيح: «إنّ قاتل الحسين لا يمكن أن يكون أميراً في الكوفة»، حتّى سقط عمر بن سعد(1).
(1) «فلمّا همّوا بتأميره أقبل نساء من همدان وغيرهنّ من نساء كهلان والأنصار وربيعة والنخع حتّى دخلن المسجد الجامع صارخات باكيات معوّلات يندبن الحسين، ويقلن: أما رضي عمرو بن سعد بقتل الحسين حتّى أراد أن يكون أميراً علينا على الكوفة، فبكى الناس، وأعرضوا عن عمرو». مروج الذهب 3:85 بحسب الطبعة الثانية لدار الهجرة بقم.
المشهد الثامن: التناقض بين عمل الاُمّة وعواطفها:
وأعجب مظهر من مظاهر هذا الانهيار هو التناقض الذي كان يوجد بين قلب الاُمّة ـ بين عواطف الاُمّة ـ وعملها، هذا التناقض الذي عبّر عنه الفرزدق بقوله للإمام الحسين (عليه السلام): «إنّ قلوبهم معك وسيوفهم عليك»(1)، لا أنّ جماعةً قلوبهم معك وجماعة اُخرى سيوفهم عليك.
هؤلاء كانوا يبكون ويقتلون الإمام الحسين (عليه السلام) لأنّهم يشعرون بأنّهم بقتلهم للإمام الحسين يقتلون مجدهم، يقتلون آخر آمالهم، يقتلون البقيّة الباقية من تراث الإمام علي.. هذه البقيّة التي كان يعقد عليها كلّ الواعين من المسلمين الأملَ في إعادة حياة الإسلام، في إعادة الحياة إلى الإسلام، كانوا يشعرون بأنّهم يقتلون بهذا الأملَ الوحيدَ الباقي للتخلّص من الظلم القائم، ولكنّهم مع هذا الشعور لم يكونوا يستطيعون إلّا أن يقفوا هذا الموقف ويقتلوا الإمام الحسين، قتلوا الإمام الحسين (عليه السلام) وهم يبكون.
(1) المعروف أنّه قول الفرزدق، فراجع: الأخبار الطوال: 245 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم، ومقاتل الطالبيّين: 111 بحسب طبعة دار المعرفة ببيروت، وتاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:386 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
قاتل الحسين(عليه السلام) هو قاتل أهدافه، والبكاء عليه غير كاف:
أسأل الله أن لا يجعلنا نقتل الإمام الحسين (عليه السلام) ونحن نبكي، أن لا يجعلنا نقتل أهداف الحسين (عليه السلام) ونحن نبكي.
الإمام الحسين (عليه السلام) ليس إنساناً محدوداً عاش من سنة كذا ومات في سنة كذا.. الإمام الحسين (عليه السلام) هو الإسلام ككلّ، الإمام الحسين (عليه السلام) هو كلُّ هذه الأهداف التي ضحّى من أجلها هذا الإمام العظيم، هذه الأهداف هي الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لأنّها هي روحه، وهي فكره، وهي قلبه، وهي عواطفه، كلّ مضمون الإمام الحسين (عليه السلام) هو هذه الأهداف، هو هذه القيم المتمثّلة في الإسلام.
فكما أنّ أهل الكوفة كانوا يقتلون الحسين (عليه السلام) وهم يبكون، فهناك خطرٌ كبيرٌ في أن نُمنى نحن بنفس المحنة، أن نقتل الحسين (عليه السلام) ونحن نبكي، يجب أن نشعر بأنّنا يجب أن لا نكون على الأقلّ قتلةً للحسين (عليه السلام) ونحن باكون.
البكاء لا يعني أنّنا غير قاتلين للحسين (عليه السلام)؛ لأنّ البكاء لو كان وحده يعني أنّ الإنسان غير قاتل للحسين (عليه السلام) إذاً لما كان عمر بن سعد قاتلاً للحسين (عليه السلام)؛ لأنّ عمر بن سعد بنفسه بكى(1).
(1) «قالت زينب بنت علي لعمر بن سعد: يا عمر! أيقتل أبو عبدالله وأنت تنظر؟! فبكى (عمر) وانصرف بوجهه عنها». أنساب الأشراف 3:206 بحسب الطبعة الاُولى لدار التعارف للمطبوعات ببيروت.
حينما جاءت زينب (عليها الصلاة والسلام) ومرّت في موكب السبايا، في الضحايا، حينما التفتت إلى أخيها، حينما اتّجهت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) تستنجده، أو تستصرخه، أو تخبره عن جثّة الإمام الحسين (عليه السلام) وهي بالعراء، عن السبايا وهنّ مشتّتات، عن الأطفال وهم مقيّدون، حينما أخبرت جدّها (صلى الله عليه وآله) بكلّ ذلك ضجّ القتلة كلّهم بالبكاء، بكى السفّاكون، بكى هؤلاء الذين أوقعوا هذه المجازر، بكوا بأنفسهم(1).
إذاً، فالبكاء وحده ليس ضماناً، العاطفة وحدها ليست ضماناً لإثبات أنّ هذا ـ صاحب العاطفة ـ لا يقف موقفاً يقتل فيه الإمام الحسين (عليه السلام)، أو يقتل فيه أهداف الإمام الحسين (عليه السلام).
لابدّ من امتحان، ولابدّ من تأمّل، لابدّ من تدبّر، لابدّ من تعقّل؛
(1) «فَلَطَمْنَ النسوة وصِحْنَ حين مررن بالحسين، وجعلت زينب بنت علي تقول: يا محمّداه! صلّى عليك مليك السماء، هذا حسين بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، يا محمّداه! وبناتك سبايا وذرّيّتك مقتّلة تسفي عليها الصبا! فأبكت كلّ عدوّ وولي». المصدر السابق، وتاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:456 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
لكي نتأكّد من أنّنا لسنا قتلةً للإمام الحسين (عليه السلام).
مجرّد أنّنا نحبّ الإمام الحسين (عليه السلام)، مجرّد أنّنا نزور الإمام الحسين (عليه السلام)، مجرّد أنّنا نبكي على الإمام الحسين (عليه السلام)، مجرّد أنّنا نمشي إلى زيارة الحسين (عليه السلام)، كلّ هذا شيء عظيم، شيء جيّد، شيء ممتاز، شيء راجح، لكنّ هذا الشيء الراجح لا يكفي ضماناً ودليلاً لكي يثبت أنّنا لا نساهم في قتل الإمام الحسين (عليه السلام)، لأنّ بالإمكان لإنسان أن يقوم بكلّ هذا عاطفيّاً وفي نفس الوقت يساهم في قتل الإمام الحسين (عليه السلام).
يجب أن نحاسب أنفسنا، يجب أن نتأمّل في سلوكنا، يجب أن نعيش موقفنا بدرجة أكبر من التدبّر والعمق والإحاطة والانفتاح على كلّ المضاعفات والملابسات؛ لكي نتأكّد من أنّنا لا نمارس ـ من قريب أو بعيد، بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر ـ قتلَ الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام).
6النهضة الحسينيّة
التحوّل من أخلاقيّة الهزيمة
إلى أخلاقيّة الإرادة
° الإمام الحسين (عليه السلام) بين أخلاقيّة الهزيمة وأخلاقيّة الإرادة.
° هزُّ ضمير الاُمّة دون استفزاز أخلاقيّة الهزيمة.
° تخطيط الإمام الحسين (عليه السلام) لعمليّة التحويل.
° شعارات الإمام الحسين (عليه السلام) في تبرير مخطّطه.
° أساليب تحويل أخلاقيّة الهزيمة إلى أخلاقيّة الإرادة دون استفزازها.
° الدرس الذي نستفيده من التخطيط الحسيني.
حينما(1) تنهزم الاُمّة وتُنتزع منها شخصيّتها وتموت إرادتها تنسج بالتدريج ـ كما قلنا(2) ـ أخلاقيّةً معيّنةً تنسجم مع الهزيمة النفسيّة التي تعيشها بوصفها اُمّة بدون إرادة، اُمّة لا تشعر بكرامتها وشخصيّتها.
بالرغم من وضوح الطريق وجلاء الأهداف وقدرتها على التمييز المنطقي بين الحقّ والباطل، وبالرغم من أنّ اُطروحة معاوية كانت قد تكشّف كاُطروحة جاهليّة في ثوب الإسلام، وأنّ اُطروحة عليّ (عليه السلام) كان
(1) راجع: كتاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، المحاضرة العشرون: 519 بحسب الطبعة الثالثة والمحقّقة من قِبل اللجنة التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر (قدس سره).
(2) تقدّم ذلك في بحث المشهد الثالث من مشاهد موت الإرادة في المجتمع الحسيني تحت عنوان: كيف تبرّر الاُمّة المهزومة هزيمتها؟
قد اتّضح أنّها التعبير الأصيل عن الإسلام في معركة ثانية مع الجاهليّة، بالرغم من وضوح كلّ ذلك بعد الهدنة التي أعلنها الإمام الحسن (عليه السلام)،بدأت الاُمّة ـ نتيجةً لفقدان إرادتها ـ تنسج أخلاقيّةً معيّنةً تنسجم مع هزيمتها النفسيّة والروحيّة والأخلاقيّة.
الإمام الحسين(عليه السلام) بين أخلاقيّة الهزيمة وأخلاقيّة الإرادة
وبهذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) بين أخلاقيّتين: بين أخلاقيّة الهزيمة التي تعيشها الاُمّة الإسلاميّة قبل أن تُهزم فعليّاً يوم عاشوراء، وبين الأخلاقيّة الاُخرى التي كان يريد أن يبثّها وأن ينشرها في الاُمّة الإسلاميّة، أخلاقيّة الإرادة والتضحية والعزيمة والكرامة.
كان الإمام الحسين (عليه السلام) يواجه تلك الأخلاقيّة التي ترسّخت، ورَسّخت من المفاهيم ما يشلُّ طاقات التحرّك، وكان يريد أن يغيّر تلك الأخلاقيّة دون أن يستفزّها:
أ ـ كان يواجه الأخلاقيّة التي تمثّلت في كلام للأحنف بن قيس ـ كما تقدّم(1) ـ حينما وصف المتحرّكين في ركاب الإمام الحسين (عليه السلام) بأنّهم اُولئك «الذين لا يوقنون»، وبأنّهم اُولئك الأشخاص الذين يتسرّعون قبل أن يتثبّتوا من وضوح الطريق.
هذا المفهوم من الأحنف بن قيس كان يعبّر عن موقف أخلاقيّة الهزيمة من التضحية، وهو أنّ التضحية والإقدام على طريق قد يؤدّي
(1) تقدّم تحت عنوان: المشهد الثالث: موقف زعماء البصرة.
إلى الموت هو نوعٌ من التسرّع وقلّة الأناة، والخروجِ عن العرفالمنطقي للسلوك.
هذا المفهوم هو معطى أخلاقيّة الهزيمة، هذا المفهوم الذي تبدّل بعد حركة الحسين (عليه السلام) وحلَّ بديله، أي مفهومُ التضحية، الذي على أساسه قامت حركة التوّابين، حركةُ أربعةِ آلاف لا يرون لهم هدفاً في طريقهم إلّا التضحية؛ لكي يكفّروا بذلك عن سيّئاتهم وموقفهم السلبي تجاه الإمام الحسين (عليه السلام) (1).
ب ـ أخلاقيّة الهزيمة هي هذه الأخلاقيّة التي انعكست في كلام لأخي الحسين عمر الأطرف(2)، حينما قال للإمام الحسين (عليه السلام): «أنْ تبايع يزيد خيرٌ لك من أن تقتل»(3)، من أن تموت.
أخلاقيّة الهزيمة هذه هي التي تبدّلت بعد هذا خلال خطّ حركة الحسين (عليه السلام)، وانعكست في مفهوم لعليِّ بن الحسين (عليه السلام) حينما قال
(1) «كان منهم بالكوفة زهاء عشرين ألف رجل». الأخبار الطوال: 288 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.
(2) هو عمر بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
(3) اللهوف على قتلى الطفوف: 26 ـ 27 بحسب طبعة منشورات جهان بطهران.
لأبيه: «أوَلسنا على الحقّ؟»، قال: «بلى»، قال: «إذاً لا نبالي، أوَقعناعلى الموت أو وقع الموت علينا»(1).
ج ـ أخلاقيّة الهزيمة التي كان يواجهها الإمام الحسين (عليه السلام) هي الأخلاقيّة التي انعكست في كلام لمحمّد بن الحنفيّة حينما كان ينصح الإمام الحسين (عليه السلام) ويقول له: «إنّ أخشى ما أخشى أن تدخل إلى مصر وبلد من بلاد المسلمين فيختلف عليك المسلمون، فبعضٌ يقفون معك وبعضٌ يقفون ضدّك، ويقع القتال بين أنصارك وأعدائك، فتكون أضيع الناس دماً، الأفضل من ذلك أن تقف بعيداً عن المعترك، ثمّ تبثّ رسُلك وعيونك في الناس، فإن استجابوا فهو، وإلّا كنت في أمن من عقلك ودينك وفضلك ورجاحتك»(2).
هذه هي أخلاقيّة الهزيمة التي تحوّلت في ما بعد.. حينما أصبح دمُ الحسين (عليه السلام) ـ هذا الدم الذي كان يتصوّره محمّد بن الحنفيّة أنّه سوف يكون أضيع دم ـ مفتاحَ تحريك الاُمّة حينما قال المختار في سجن عبيد الله
(1) «ألسنا على الحقّ؟ قال: بلى والذي إليه مرجع العباد. قال: يا أبت، إذاً لا نبالي، نموت محقّين». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:408 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
(2) المصدر السابق: 341 ـ 342.
بن زياد: «إنّي أعرف كلمةً أستطيع بها أن أملك العرب»؛ هذا الدم الذي كان يتصوّره أنّه أضيع دم أصبح هو مفتاح السلطان والسيطرة على المنطقة كلّها.
د ـ أخلاقيّة الهزيمة هي الأخلاقيّة التي عبّر عنها الأمير الاُموي يزيد بن معاوية في رسالة له إلى أحدهم يقول له في الرسالة: «إنّ آل أبي طالب أسرع ما يكونون إلى سفك الدماء».
هذا التعبير في الواقع هو ظاهرة من ظواهر أخلاقيّة الهزيمة، حينما تبرز أخلاقيّة الهزيمة وتترسّخ وتتعمّق، تتحوّل كلُّ محاولة جدّيّة لمقابلة الظلم والظالمين إلى نوع من السفك والقتل في نظر المثبَّطين والمجمَّدين.
هذه الأخلاقيّة هي التي يريد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يحوّلها إلى أخلاقيّة التضحية والإرادة، إلى الأخلاقيّة الإسلاميّة الصحيحة التي تمكّن الإنسان المسلم من أن يقف موقفه الإيجابي والسلبي وفقاً لما تقرّره الشريعة الإسلاميّة إيجاباً وسلباً.
هزُّ ضمير الاُمّة دون استفزاز أخلاقيّة الهزيمة
وفي عمليّة التحويل هذه كان الإمام الحسين (عليه السلام) يواجه أدقّ مراحل عمله؛ وذلك لأنّه في نفس الوقت الذي يريد أن يبثّ في جسم الاُمّة وفي ضميرها ووجدانها أخلاقيّةً جديدة، كان يحرص في نفس الوقت على أن لا يخرج خروجاً واضحاً عن الأخلاقيّة التقليديّة التي عاشتها الاُمّة نتيجةً لهزيمتها الروحيّة، كان يحرص على أن لا يخرج بشكل واضح ومثير عن تلك الأخلاقيّة المحنّطة التي عاشتها الاُمّة؛ وذلك لأنّه كان يريد أن يخلق وينشئ الأخلاقيّة الجديدة عن طريق هزّ ضمير الاُمّة الإسلاميّة، ولم يكن بإمكانه أن يهزّ ضمير الاُمّة الإسلاميّة إلّا إذا قام بعمل مشروع في نظر هذه الاُمّة الإسلاميّة التي ماتت إرادتها وتغيّرت أخلاقيّتها، والتي أصبحت تعيش هذه المفاهيم التي انعكست في كلمات هؤلاء الذين تحدّثنا عنهم.
كان لابدّ أن يراعي الإمام الحسين (عليه السلام) في سيره وتخطيطه هذه الأخلاقيّة وأن لا يستفزّها؛ لكي يبقى محتفظاً لعمله بطابع المشروعيّة في نظر المسلمين، الذين ماتت أخلاقيّتهم الحقيقيّة وتبدّلت مفاهيمهم عن العمل والسلب والإيجاب.
تخطيط الإمام الحسين(عليه السلام) لعمليّة التحويل
كان الإمام الحسين (عليه السلام) في الواقع قد اتّخذ منذ البدء موقفاً إيجابيّاً واضحاً صريحاً بينه وبين ربّه، كان قد صمّم منذ اللحظة الاُولى على أن يخوض المعركة مهما كلّفه الأمر على جميع الأحوال والتقادير، وأن يخوضها إلى آخر الشوط وإلى أن يضحّي بآخر قطرة من دمه، كان يفكّر تفكيراً إيجابيّاً مستقلاًّ في ذلك، لم يكن يتحرّك نتيجةً لردود فعل من الاُمّة، بل كان هو يحاول أن يخلق ردود الفعل المناسبة لكي يتحرّك، ومن أدلّة ذلك:
أ ـ أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) بدأ بنفسه الكتابة إلى زعماء قواعده الشعبيّة في البصرة(1).
نعم، لم يروِ لنا التاريخ أنّه كتب ابتداءً بشكل مكشوف واضح إلى زعماء قواعده الشعبيّة في الكوفة(2)، ولكنّ التاريخ حدّث بأنّه كتب
(1) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:357 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت. وقد تقدّم الحديث عن رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى زعماء البصرة، فراجع: المشهد الثالث من مشاهد موت الإرادة في المجتمع الحسيني.
(2) حيث كتب إلى أهالي الكوفة بعد أن وردته كتبهم، فراجع: الأخبار الطوال: 229 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.
وابتدأ بالحديث والتحريك لقواعده الشعبيّة في البصرة، وأعلن في رسالته لهم أنّه قد قرّر الخروج على سلطان بني اُميّة، قال لهم بأنّ هذا الحقّ هو حقُّ هذا الخطّ الذي يمثّله هو ويمثّله أخوه وأبوه (عليهم السلام)، إلّا أنّه سكت وسكت أبوه وأخوه حينما كان الكتاب والسنّة تراعى حرمتهما.
أمّا حينما انتهكت حرمة الكتاب وحرمة السنّة، حينما اُميتت السنّة، حينما اُحييت البدع، حينما انتشر الظلم، لابدّ لي أن أتحرّك، ولابدّ لي أن اُغيّر، ولابدّ لكم أن تحقّقوا في هذا الموقف درجة تفاعلكم مع رسالتكم. قال ذلك بوضوح، وطلب منهم بشكل ابتدائيٍّ الالتفافَ حول حركته.
وهذا يعني أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن في موقفه يعبّر عن مجرّد استجابة لردود فعل عاطفيّة أو منطقيّة في الاُمّة، بل كان هو قد بدأ منذ اللحظة الاُولى في تحريك الاُمّة نحو خطّته وخطّ عمله.
ب ـ موقفه من والي المدينة(1) أيضاً واضحٌ في ذلك، حينما استُدعي من قبل والي المدينة وعرض عليه الوالي في نصف الليل أن يبايع يزيد بن معاوية.
وحينما تكشّف لوالي المدينة أنّ امتناع الحسين (عليه السلام) عن البيعة هو
(1) هو الوليد بن عتبة.
بحسب الحقيقة لون من ألوان الرفض، صرّح بعد هذا الإمامُ الحسينُ بكلّ وضوح عن إيمانه بحقّه في الخلافة، وقال: «نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة»(1). وكان هذا واضحاً في إعلانه العزمَ والتصميمَ على حركة مسلّحة ضدّ السلطان القائم وقتئذ.
هذا التهديد، وتلك الرسالة الابتدائيّة لزعماء قواعده الشعبيّة في البصرة، إلى غير هذا وذاك من القرائن والدلائل.. تعبّر عن أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يخطّط تخطيطاً ابتدائيّاً لتحريك الاُمّة، وكان قد صمّم على أن يتحرّك مهما كانت الظروف والأحوال.
هذا واقع التخطيط.
(1) الفتوح 5:14 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
شعارات الإمام الحسين(عليه السلام) في تبرير مخطّطه
لكنّ الإمام الحسين (عليه السلام) حينما كان يُلقي شعارات هذا التخطيط على هذه الاُمّة الإسلاميّة المهزومة أخلاقيّاً، المهزوزة روحيّاً، المتميّعة نفسيّاً، الفاقدة لإرادتها، حينما كان يلقي شعارات هذا التحرّك على هذه الاُمّة لم يكن في كلّ إلقاءاته صريحاً واضحاً محدّداً؛ وذلك لأنّه كان يجامل تلك الأخلاقيّةَ التي عاشتها الاُمّة الإسلاميّة، أخلاقيّةَ الهزيمة.
وكانت هذه المجاملة جزءاً ضروريّاً من إنجاح الحسين (عليه السلام) في هدفه؛ لأنّه إذا خرج عن هذه الأخلاقيّة فَقَدْ فَقَدَ بذلك عملُه طابعَ المشروعيّة في نظر اُولئك المسلمين، وبذلك يصبح هذا العمل غير قادر على أن يهزّ ضمير إنسان الاُمّة الإسلاميّة كما كان من المفروض أن يهزّه.
الشعار الأوّل: حتميّة القتل:
كان الإمام الحسين (عليه السلام) يُعترض عليه ويقال: «لِمَ تخرج؟».. يعترض عليه عبدالله بن الزبير وغيره، فيقول له: بأ نّي «أنا اُقتل على كلّ حال، سواءٌ خرجت أم لم أخرج. إنّ بني اُميّة لا يتركونني، ولو كنت في هامة
من هذه الهوام لأخرجوني وقتلوني، إنّ بني اُميّة يتعقّبوني أينما كنت، فأنا ميّت على أيّ حال، سواءٌ بقيت في مكّة أو خرجت من مكّة، ومن الأفضل أن لا اُقتل في مكّة؛ لكي لا تنتهك بذلك حرمة هذا الحرم الشريف»(1)، فتراه طرح هذا الشعار.
وهذا الشعار ـ بالرغم من واقعيّته ـ منسجمٌ مع أخلاقيّة الاُمّة المعاشة أيضاً؛ فأخلاقيّة الهزيمة التي تعيشها الاُمّة الإسلاميّة لا تجد منطقاً تنفذ منه للتعبير عن نقد مثل هذا التحرّك من الإمام الحسين (عليه السلام)؛ فهو (عليه السلام) يقول: «أنا مقتول على كلّ حال»، والظواهر كلّها تشهد بذلك: الدلائل والأمارات والملابسات تشهد بأنّ بني اُميّة
(1) قال (عليه السلام): «والله لأن اُقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليَّ من أن اُقتل داخلاً منها بشبر، وأيمُ الله لو كنت في حجر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم، ووالله ليعتدنَّ عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت». ويؤكّده قوله (عليه السلام) للفرزدق: «لو لم أعجل لاُخذت»، وقوله (عليه السلام): «والله! لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:385، 386، 394 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت. وراجع: الفتوح 5:67 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت، والكامل في التاريخ 4:38 بحسب طبعة دار صادر ببيروت.
قد صمّموا على قتل الإمام الحسين (عليه السلام)، ولو عن طريق الاغتيال(1)،ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة.
إذاً، فطرح مثل هذا الشعار لأجل تفسير هذا الموقف كان مناسباً جدّاً مع إقناع أخلاقيّة الهزيمة، مع كونه شعاراً واقعيّاً في نفس الوقت.
الشعار الثاني: غيبيّة قرار التحرّك:
يأتي أشخاص آخرون إليه، يعترضون عليه، يقولون: «لِمَ تتحرّك؟». يأتي محمّد بن الحنفيّة ينصحه في أوّل الليل بنصائح عديدة، فيقول له: «أنظر، اُفكّر في ما تقول»، فيذهب محمّد بن الحنفيّة، وفي آخر الليل يسمع بأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد تحرّك، يسرع إليه ويأتي، يأخذ براحلته ويقول له: «يا أخي قد وعدتني أن تفكّر»، قال: «نعم، ولكنّي بُتُّ في هذه الليلة فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: إنّك مقتول»(2).
(1) في رسالة ابن عبّاس إلى يزيد: «فلست بناس إطرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب». تاريخ اليعقوبي 2:249 بحسب طبعة دار صادر ببيروت.
(2) اللهوف على قتلى الطفوف: 64 ـ 65 بحسب طبعة منشورات جهان بطهران.
فتراه (عليه السلام) يجيب بهذا الجواب، يجيب بقرار غيبي من أعلى، وهذا القرار الغيبي الصادر من أعلى لا يمكن لأخلاقيّة الهزيمة أن تنكره مادام صاحب هذه الأخلاقيّة مؤمناً بالحسين، ومؤمناً برؤيا الحسين (عليه السلام).
طبعاً، هو لم يحدّث بهذه الرؤيا عبدالله بن الزبير الذي لم يكن مؤمناً برؤيا الحسين (عليه السلام)، بل حدّث بذلك محمّد بن الحنفيّة وأمثالمحمّد بن الحنفيّة(1).
فهذا شعار آخر كان يطرحه: شعار «حتميّة الموت من أعلى»، أنّ هناك قراراً من أعلى يفرض عليه أن يموت، أن يضحّي، أن يقدم على هذه السفرة التي قد تؤدّي إلى القتل، وهذا الشعار أيضاً كان ينسجم مع أخلاقيّة الهزيمة، وهو في نفس الوقت شعارٌ واقعي.
الشعار الثالث: ضرورة إجابة دعوات أهل الكوفة:
وكان في مرّة ثالثة يطرح شعاراً ثالثاً: كان يقول للأشخاص الذين يمرّ بهم في طريقه من مكّة إلى العراق، في منازله المتعدّدة حينما كانوا ينصحونه بعدم التوجّه إلى العراق، كان يقول لهم: «إنّي قد تلقّيت من
(1) حيث «قصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطّلب»، راجع: الفتوح 5:19 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
أهالي الكوفة دعوةً للذهاب إليهم، وقد تهيّأت الظروف الموضوعيّة في الكوفة لكي أذهب، ولكي اُقيم حقّاً واُزيل باطلاً»(1).
فكان يعكس ويفسّر سفرته على أساس أنّها استجابة وأنّها ردّ فعل، وأنّها تعبير عن إجابةِ طلب، عن أنّ الاُمّة تحرّكت وأرادت،وأنّه قد تمّت الحجّة عليه، ولابدّ له أن يتحرّك.
الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن في واقعه يقتصر في مرحلته الجهاديّة هذه على أن تطلب منه الاُمّة فيتحرّك، وإلّا لما راسل ابتداءً زعماء قواعده الشعبيّة بالبصرة ويطلب منهم التحرّك، ولكنّه في نفس الوقت كان يعكس هذا الجانب أكثر ممّا يعكس ذلك الجانب؛ لأنّ هذا الجانب أقرب انسجاماً مع أخلاقيّة الهزيمة.
ماذا تقول أخلاقيّة الهزيمة أمام شخص يقول لها: «إنّي قد تلقّيت دعوة، وإنّ ظروف هذه الدعوة ملائمة للجواب والتحرّك نحو الداعي»؟!
وبطبيعة الحال هناك فرقٌ كبيرٌ بين إنسان يتحرّك تحرّكاً ابتدائيّاً وبين إنسان آخر يتحرّك إجابةً لجماهير آمنت به وبقيادته وزعامته:
(1) من قبيل قوله (عليه السلام) للطرماح بن عدي الطائي: «إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الانصراف». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:406 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.